كاتب الموضوع :
هناء الوكيلي
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
هذا الصباح وكعادة كل بداية أسبوع تكون المحكمة مكتظة، فكل من له قضية يأتي
للاستفسار عليها صباح الاثنين وكأن لا أحد يتواجد في بقية الأسبوع..
ومع حرارة الصيف، يزيد لباس منى وثوبها الأسود، الذي لطالما حلمت وهي صغيرة أن
تلبسه من عرقها..
تعلم جيدا أن خبرتها في مجال المحاماة لا تزال حديثة العهد، ولا تقارن بغريمها السيد
شوقي السوري الأصل والذي يطلق عليه أصحابه قلب القانون..
اسم تجده منى مثيرا جدا..
"قلب القانون"
سمي بهذا الاسم لأنه يعلم كيف يجعل القانون يتزعزع
فيثير الشك في فصوله وبنوده، لم يخسر أي قضية خاضها أبدا..
بدأ الخوف يتسلل قلبها، فاستجمعت قوتها وارتشفت من قهوتها السوداء رشفة أحرقت
لسانها، نهضت وهي تضغط على فمها بيديها، ثم بعد ذلك حملت محفظتها وتوجهت إلى
سجن القنيطرة..
أخذ مشوارها حوالي ساعة ونصف مع أنه عادة لا يأخذ إلا ساعة إلا ربع، لكن وطبعا لأنه
يوم الاثنين فالطرقات تمتلئ على رأسها..
ضغطت على بوق سيارتها الصغيرة، وأطلقت شتيمة للسيارة التي كانت تصر على وقوفها،
أخرجت رأسها من النافذة، وهي تصرخ:
-أنت أيها الحيوان تقدم
لم تكن هذه هي طبيعة منى عادة نحو الأمور، لكنها اليوم تشعر بالحر، وأعصابها
مضغوطة بشكل كبير..
نزل أخيرا ذلك الشاب الذي يتباهى بقرطه الذي، يقبح منظره وكأنه ثور، لا طالما استغربت
من هؤلاء الشبان الذي يثقبون أنوفهم، ويزينوها بقرط كما النساء..
أتساءل كيف يستطيعون النظر لأنفسهم بالمرآة وهم بهذا الشكل؟؟
لا أستطيع تخيل نفسي كذلك ولو في أحد كوابيسي..
عدلت نظارتها الطبية وهي تقول:
-اسمع أنا آسفة لأني شتمتك..لكني شعرت أني فقدت سيطرتي..
قال بصوت ملؤه السخرية:
-هل أستطيع استعمال هاتفك؟؟ فهاتفي انتهى شحنه، وسيارتي كما يبدو لا تريد التحرك..
نظرت إليه نظرات متشككة قبل أن تنظر لساعتها، وتقول:
-حسنا خذ لكن بسرعة فلدي موعد..
ابتسم لها وهو يأخذ الهاتف منها..
بعدها أجرى مكالمة، أحست منى أنها ستكلفها كثيرا، وهذا الشاب وعلى ما يبدو متعود
على الحديث الفارغ أخيرا سمعته يقول:
-حسنا شكرا لا عليك سأتدبر أمري..
هز كتفيه وهو يرجع لها هاتفها:
-آسف لقد أزعجتك
بصوت مقتضب:
-لا عليك هل ستكون بخير؟؟
سؤالها أشعرها وكأنها ستتركه في غابة، وليس وسط المدينة
ضحك وهو يعقد ساعديه أمامه قائلا:
-أتمنى ذلك
ابتسمت وهي تقول من باب الاتكيت لا غير
-هل تحتاج لشيء؟؟
تنهد وهو يقول:
-بما أني مفلس فما علي إلا انتظار صديقي للقدوم بعد انتهاء عرضه إلي..
هزت رأسها متفهمة وقد كانت ستدير محركها، لكن احد شياطينها الذين يتملكون عقلها
رفض وقد باغتها بعرض لم تتوقعه:
-هل تحب أن أوصلك بطريقي؟؟
نظرتها أظهرت أنها لم تتوقع أن تقول مثل هذا العرض، لكنها على أي حال قد عرضت
مساعدتها..لشاب لا يمت لها بصلة؟؟
أي جنون هذا يا ربي؟؟
تمنت أن يرفض لكنه قال بمرح:
-أووه سأكون ممتنا لك كثيرا، انتظريني سأحضر آلتي معي..
دفنت رأسها في مقود السيارة، وهي تقول برعب:
-يا ويلي حتما سيقطعني إربا..ذهب لجلب ساطوره يا ويلي سأموت قبل أن أثبت نفسي...
تقدم ناحيتها وهو يحمل قيتارا كبيرا أسودا، بين يديه وضعه في خلف السيارة، بخفة ثم
ركب بنفس الخفة بجانبها، نظرت إليه نظرة جانبية وابتسمت ابتسامة مرتعشة..
طال الصمت بينهما، أشعلت الراديو، عادة لا تحب أن تسمع لشيء حينما يكون لها جلسة
مع أحد موكليها، لكنها اليوم تتمنى وبشكل كبير أن تقطع هذا الصمت الذي يجعلها تفكر في
الأسوأ دائما.
-هل أنت طالبة؟؟
استنشقت بعضا من هواء المكيف البارد، وهي تجيب باختصار:
-لا
صحيح أنها تتمنى لو ينقطع هذا الصمت لكن ليس معناه أن تتجاذب الحديث مع هذا
الشخص الغريب، والذي تشك أنه سينقض لخنقها في أي لحظة..
دس يديه في جيبه، فشهقت منى بأعلى صوتها..حتى أنها أرعبت ضيفها..
وحينما بدا لها محرما من الثوب المطرز يمسح به عرقه، تنفست الصعداء
ابتسم وهو يتساءل بهدوء:
-هل أنت خائفة مني؟؟
هزت رأسها إيجابا
فأرخى جسده على المقعد الرمادي الجديد، للسيارة، وهو يقول:
-أنا عضو بالفرقة الموسيقية القادمة من المكسيك..
"نظرت إليه في دهشة فتابع يقول"والدي مغربي وأمي مكسيكية الأصل، وقد قدمت كثيرا
في حفلات عدة للمغرب، آخرها السنة الماضية في مهرجان موازين..
لا اعتقد أنه يبدو علي أني كأحد المجرمين
-أكبر المجرمين الذين سجلهم التاريخ لم يكن يبد عليهم ذلك..
اعتدل في جلسته وهو يراقبها جيدا، ثم سألها:
-ماذا تعملين؟؟
أحكمت قبضتها على المقود وهي تجيب:
-محامية
بدت التسلية عليه وهو يقول:
-لذلك أنت خائفة، فقد رأيت الكثير من المجرمين..
هزت رأسها إيجابا فسألها:
-هل لديك مرافعة الآن؟؟
تناولت قنينة من الماء، وارتشفت منها ثم أجابت:
-لا لدي جلسة مع احد السجناء
بدا الفضول عليه وهو يقول:
-وما تهمته..؟
قالت بلا مبالاة:
-القتل العمد..
همهم مطولا وكأنه يستنتج شيئا ثم أخيرا قال:
-سيحكم عليه بالمؤبد
بدت أكثر جدية وهي تقول:
-بل حكم عليه بالإعدام..
أخيرا وصلت للمدينة، فنزل الشاب وهو يشكرها، بعدما مد إليها بطاقة دعوة لدخول
للمسرح بالعاصمة، لشخصين وهو يقول:
-سأنتظر قدومك لأشكرك على ما فعلته
ابتسمت له وهي تهز رأسها...
بعدها وضعت البطاقة بين أوراقها، وما هي إلا دقائق حتى كانت توقف سيارتها الصغيرة
أمام السجن هناك..
قطعت ذلك الممر الطويل، مع أحد حراس السجن، ثم توقفت لحظة حتى فتح لها باب كبير
واسع اعتادت دخوله، يتوسطه مكتب بني كبير، وكرسيين..
ورأته..
فجأة دون سابق إنذار، ربما كانت وقتها شاردة في شيء ما، حتى لم تشعر بدخوله للغرفة
يتوسط حارسين، مكبل القدمين والرجلين، لكنه أطول مما توقعت، وأقوى أيضا..
منحته ابتسامة ودودة، رغم تلك الرهبة التي شعرت بها..
حتى جلسته على الكرسي كانت تختلف كثيرا، وتوحي بقوته..
وضع كلتا يديه على حافة المكتب وتأملها بابتسامة راضية..
مالت بجسدها ناحيته وهي تحاول بشتى الطرق التي تعلمتها من تجربتها السابقة
والمتواضعة أن تكبت خوفها:
-الذئب..هذا هو الاسم الذي عرفت به، دائما والذي زرع الخوف لسنوات في المدينة
لطالما تمنيت أن أحظى بشرف الجلوس معك..
ابتسم بسخرية وهو يقول:
-ها قد تحقق حلمك، يسرني أني حققت حلم شخص قبل أن أموت..
عدلت نظارتها وهي تقول:
-لم أنا بالضبط،؟ رغم أن العديد من المحاميين عرضوا مرافعتهم لك وبالمجان..
تراجع قليلا حتى خيل لها أنه سيقع:
-طوال حياتي لم آخذ شيئا لم أدفع ثمنه..ببساطة لأني أومن أنه لا شيء مجاني في حياة
الذئاب..
-لكن خبرتي لا تزال ضئيلة
ابتسم وهو يقول:
-لذلك السبب ستسعين لتثبتي جدارتك بين عالم الأفاعي الذي ترعرعت فيه..
"وتابع بلا مبالاة"وتأكدي ستحصلين على شهرة كبيرة سواء أعدمت أو نزل
الحكم للمؤبد وهكذا أكون قد دفعت لك...
اعترفت بحزن:
-لكني لا أخفيك سرا أنا خائفة
ابتسم وهو يقول:
-لطالما كنت خائفا طوال حياتي..
بعدما تأكدت أنه سيسره أن تترافع كمحاولة أخيرة عنه،
نثرت أوراقها أمامها قبل أن تقول:
-أخبرني كيف وصلت لهذا؟؟
ابتسم وهو يشير إليها بالتقرب إليه، وحينما اقتربت همس لها:
-حسنا سأخبرك كيف أوصلوني إلى هذا..
بدأنا...
لأني أومن أن الكاتب كالهواء يدخل من كل ثقب
سمحت لنفسي أن أكتب روايتي
حينما تعوي الذئاب...
ترقبوني..
كل اثنين بإذن الله
هناء الوكيلي
|