كاتب الموضوع :
هناء الوكيلي
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
العواء الثالث
-حسنا الآن هل اذهب للنوم؟؟
ابتسم صلاح بخبث لأخته وهو يقول:
-اذهبي وحسابي معك في الآخر
ارتبكت وهي تتساءل:
-لم؟؟ يا صلاح ماذا فعلت؟؟
ضحك وهو يسألها:
-من أين تعلمت كل هذا، ها اخبرني
وبدا يفتش ملابسها بينما هي كانت تضحك فقد شعرت
بدغدغة وهي تترنح وتقول:
-كفى يا صلاح..عم تبحث؟
-أين تخبئينه اعترفي
لم تستطع أن تهدأ من موجة الضحك التي اعترتها وأخوها يفتش عن شيء لم تعرفه إلا
حينما قال بعدما فشل في إيجاده:
-اعترفي أين تخفين هاتفك
علت ضحكاتها أكثر وهي تجيب:
-لا لقد جننت
-أنا جننت؟؟ أم أنت التي فاجأتني بكل هذا من أين تعلمت ذلك "وأضاف بخبث"هل تكلمين
أحدا ما؟؟
شعرت بحمرة الخجل تطفو على وجهها وهي تقول مدعية غضبها:
-حسنا يا صلاح أنا الملامة لأني وافقت على مساعدتك أنت وهذا الأحمق
قطب خالد حاجبيه ليقول:
-وماذا فعلت لك يا سليطة اللسان؟ ألا تحترمين الضيوف؟
ضحكت بسخرية وهي تلوح لهما قائلة:
-سأذهب لأنام و لا تتكلا علي غدا بحول الله إنها آخر مساعدة لكما مني..
وتركتهما يفكران فيما سيفعلانه..
-ألم أقل لك أن الفتاة كانت تتعاطى للمخدر؟؟
ضاقت عيون صلاح وهو يفكر في أمر ما قائلا:
-لا اعتقد ذلك يا خالد لقد سمعت كلام المدعو بكر، والذي كما يبدو أنها كانت غاضبة منه
لتعاطيه للمخدرات.."صمت طويلا ثم قال"لدي إحساس أن موت الفتاة له علاقة بموت
" أبو سكة ".
نظر خالد لساعته وهو يقترح:
-إنها الثالثة صباحا، سأنزل للمقهى قليلا، واعرف إن كان هناك من جديد في القضية..
ونلتقي في الدفن..
-حسنا تصبح على خير
ابتسم له خالد وهو يخرج..
أما صلاح فلم يستطع النوم، أبدا فقد كانت صورة الفتاة وهي تتخبط فوق اللوح، تمنعه من
ذلك، ماذا لو كان لها أهل يبحثون عنها الآن؟؟ لكن لم يتصل أحد بها عدا بكر هذا؟؟ هل حقا
تتعاطى للمخدر؟؟
كل هذه الأسئلة كانت تضج في عقله، وتمنعه من الإسترخاء..لذلك نهض من مكانه متجها
نحو غرفة أخته، فتح الباب بهدوء..
بدت له ملامحها الهادئة بفضل ضوء القمر الذي يسطع من نافذتها الصغيرة، لقد كان هو
المنظر الوحيد الذي يجعل من الغرفة جميلة، والتي للأسف كانت تطل على أرض خربة يتوافد
إليها كل المتسكعين ليلا وكذا اللصوص للإختباء من الشرطة بين خرد السيارات وصناديق
البنزين الكثيرة والفارغة التي يحتاجها عادة أولاد الحي في فترة عيد الأضحى لتشتعل
نيرانها ويشوى عليها رؤوس الأكباش، والتي يتقاضى الشاب على كل رأس عشرة
دراهم.
سحب بخفة الهاتف النقال من تحت رأسها، وخرج من الغرفة على رؤوس أصابعه..
بعدها مر على غرفة والدته التي كانت تئن وهي نائمة، وقبل جبينها ليتمنى لها الشفاء
العاجل، أما غرفة أنور فهي مغلقة بالمفتاح كعادته لم يبت ليلته هنا، دخل لغرفة
الجلوس ورمى نفسه على أريكة جلدها أسود، مريحا قدميه على طاولة صغيرة أمامه
توجه لقائمة المتصلين واستغرب، حيث لم يكن هناك إلا ثلاث أشخاص "بكر" و
"جميلة"و"نوفل"لم تمنحه تلك القائمة أي معلومة عنها اللهم إلا أنه لا يوجد لها
أشخاص كثيرين في حياتها، فضغط على الرسائل بصندوق الوارد، كانت سبع رسائل فقط
هي الأخرى..
قرأ الرسالة الأولى وكانت من جميلة والتي تقول جوابا على رسالة عفاف:
-اسمعيني جيدا كم مرة علي أن أخبرك أنه لم يتناول شيئا، لقد أقسم نوفل على ذلك عدة
مرات لي، عفاف انتبهي جيدا لتصرفاتك..
استغرب ماذا تقصد بانتبهي جيدا لتصرفاتك؟؟
انتقل للرسائل في صندوق الصادرات وهكذا سيقرأ أولا ما كتبته عفاف، ويقرأ الرد
حتى يتسنى له معرفة إحدى خيوط هذه القضية..
نظر أولا للساعة إنها الرابعة والنصف ولم يغمض له جفن أبدا..
-جميلة كيف حالك؟؟ اسمعيني لقد تشاجرت مع بكر، ليلة أمس وأقسم هذه المرة لن أعود
إليه ولو اضطررت لقتلت نفسي حتى امنعها من العودة إليه..آه لقد آلمني الأمر
كثيرا، اكتشفت أنه لم يكتفي بشرب الخمر، بل زاد عليه الكوك..
-كيف عرفت ذلك؟؟ هل أنت متأكدة أم ربما هي إشاعة؟؟
-أنا متأكدة جدا، لقد وقع أمس في المباراة مغشيا عليه وحينما حمل للتطبيب وجودوا أنه
تحت تأثير جرعة زائدة من المخدر ولولا أن تم إنقاذه لكان قد مات وحينما واجهته بالأمر
نفى ذلك وأقسم انه لا يعرف كيف وصل المخدر لدمه؟؟أرجوك اسألي نوفل عن الموضوع
-حسنا لقد أرسلت رسالة لنوفل ولم يرد علي للآن، اسمعي حبيبتي أعتقد أنه صادق رغم
أن الأمر غريب لكن أنت تعرفين طبيعة بكر لا يمكنه أن يكذب عليك..
لم تجبها عفاف فقرأ رسالة جميلة إليها والتي كانت تقول فيها:
-صباح الخير، كيف حالك؟؟ لقد أرسل لي نوفل رسالة وقد أقسم هو أيضا أن بكر صادق
ولم يكذب عليك والأمر كما شرحه لك أجيبيني أرجوك..
لم تحصل على رد أيضا منها فكتبت ثلاث رسائل تحثها كلها على الإجابة قائلة:
-أرجوك عفاف لا تقلقيني عليك أجيبيني..
هذه المرة كتبت عفاف تقول:
-لقد أخذت قراري ولن أرجع عنه وداعا يا جميلة..
ردت عليها جميلة بتلك الرسالة التي كان قد قرأها في البداية، وعاد يقرأها مرة أخرى:
- اسمعيني جيدا كم مرة علي أن أخبرك أنه لم يتناول شيئا، لقد أقسم نوفل على ذلك عدة
مرات لي، عفاف انتبهي جيدا لتصرفاتك..
لم تزده تلك الرسائل إلا حيرة على أخرى، هل انتحرت؟؟
لم يشعر بنفسه إلا وسمرا توقظه في السادسة صباحا بلطف كعادتها:
-أخي انهض ستتأخر
تثاءب وهو يمدد عنقه، وذراعيه التي تقلصت عضلاتها، ثم قال بصوت متقطع:
-صباح الخير
ابتسمت له وهي ترتب المكان من حوله:
-صباح النور
-هل جهزت الغذاء يا سمرا؟؟
-اجل إنه في المطبخ،لقد حضرت لصديقك فقط
-شكرا لك فأنا سأطلب الإذن اليوم..
-حسنا لكن اسمع عليك أن تحضر معك بعضا من التوابل لقد انتهت، وقد وضعت
الورقة لك في سلة الأكل..
أجابها بتأفف:
-أصبحنا ولله الحمد
ضحكت وقد فهمت المعنى الذي يرمي إليه..
غسل وجهه ولم يهتم لتغيير ملابسه التي نام بها، واخذ بعضا من الخبز الحاف وكوب من
الشاي الساخن وبعدما فطر حمل سلة الأكل وودع أخته ووالدته التي كانت قد صحت
لتوها..وخرج.
نزل إلى الحي، يبدو أن أحدا لم ينم ليلته، فموت أبو سكة أثار تخوف الجميع، وبدأت
الإشاعات في التكاثر كالطفيليات في جسم الحيوان الميت..
وأصبح كل متفلسف يتفلسف حسب مزاجه، كانت قد جهزت الكراسي المخصصة للجنائز
ونصبت الخيمة الكبيرة وفرشت الزرابي، ورصت الموائد ووضعت عليها، صحون صغيرة
من الزيتون الأسود المملح، وقطع الزبدة، والعسل والخبز وصواني القهوة وكان كل من
يمر، للتعزية يدخل للخيمة لتناول الفطور..إنها عادات كل الناس هنا..في الجنائز لا ترفع
أبدا صحون الزيتون والعسل والزبدة من فوق الموائد طوال اليوم..والتي يتم تجهيزها من
قبل الجيران، هنا في الأحياء الفقيرة، والذين يتضامنون في السراء والضراء.
كان خالد واقفا كعادته طوله الفاره، وجسمه القوي يجعله مميزا أمام الجميع، اتجه نحوه
صلاح ليهمس في أذنه قائلا:
-هل دفن؟؟
-لا لا تزال الجثة في المستشفى بالعاصمة وبعد الظهر سنأخذها إلى الصويرة مدينته
الأصلية..
هز رأسه متفهما ثم سأله:
-من اهتم بالجنازة؟؟
التفت إليه خالد وقد كانت دموعه متحجرة في عيونه:
-رجال الذئب لا يتكفل بهم إلا الذئب يا صاحبي..
عانقه صلاح بقوة وبصمت..
تقدمت عائشة نحوهما، وهي ترتدي جلبابها وتحجب شعرها بطرحة لتتساءل في خفوت:
-ألم يذهب أحد من الرجال للسوق؟؟
تنهد خالد وهو يجيب:
-لقد ذهب ابن الحاج أحمد وأيضا مصطفى "ونظر لساعته وتابع يقول"لا تقلقي سيعودون
بعد قليل..
ابتسمت في خفوت وهي تقول:
-حسنا أخبرهم أن يجلبوا الخضر إلى بيت فاطمة العرجاء..
-حسنا..
بعدما ذهبت التفت صلاح قائلا :
-اسمع سأذهب بالغذاء لصديقي كريم فأنت تعلم ليس هناك من يعتني به، وسأطلب من
رئيس العمل إجازة ليومين..
استغرب خالد وهو يقول:
-ستجلس يومين؟؟
ربت على كتفه وهو يقول:
-أجل يا صديقي وربما أكثر..
توجه إلى عمله مشيا ذلك الصباح، كعادته طبعا، لكن الآن الساعة السابعة مما يعني أنه
سيصل في الثامنة إلا ربع كأقل تقدير..
ابتسم لذلك الرجل الذي يدعي انه أعمى ويتجول في الطرقات يتسول ويستعطف قلوب
الموظفين والتجار وحتى الطلبة، والذين على رأيه لا يتكرمون عليه بالدراهم إلا في أوقات
الامتحانات، رد الرجل ابتسامته وهو يلقي عليه التحية قائلا:
-كيف حال المهندس؟؟
-بخير..وأنت أيها الأعمى؟
أبان عن أسنانه المسوسة وهو يجيب:
-الحمد لله على كل حال
ضحك منه وتابع سيره، غريبة هي الحياة، مثلا هذا الرجل الذي سمعتموني أتحدث إليه،
إنه من أبناء حيي كان في الجيش قبل أن يتقاعد قضى هناك أزيد من خمسة وعشرون سنة
وأثناء الخدمة العسكرية كان يتقاضى حوالي ألفين وخمس مائة درهم أي بما يعادل مائتي
وخمسين أورو، متزوج وله سبع أبناء أكبرهم الآن يبلغ الثلاثين من عمره وهو ياسين
هاجر لاسبانيا منذ أزيد من خمس سنوات ولم نسمع عنه شيئا..وبعدما انتهت مدة خدمته
وأحيل على المعاش، تركت له الدولة مبلغا يقدر بنصف راتبه الذي كان يتقاضاه..
ومرض السكري الذي أصابه، وأربع بنات لم يبلغن سن الزواج بعد، أما الذكور فالكبير
بعدما تغير الوضع وأصبح والده متقاعدا، ولم يعد الراتب الضئيل يسد حاجياتهم ارتأى أن
يهاجر للديار الاسبانية واعدا أباه أنه سيعود يوما ما..
أما الابن معاد والذي يصغر ياسين بعام واحد فقد اشتغل مؤخرا نشالا في الحافلات،
واختص في محافظ الموظفين والعمال بالمصانع و لا يبدأ عمله إلا في فترات الأجور أي
منذ اليوم السادس والعشرون من كل شهر فرنسي حتى اليوم الخامس أو السادس من
الشهر الذي يليه..وهو مكلف بأربع خطوط في العاصمة والتي لا يمكنه تغييرها أبدا..
نظرا لأن كل الخطوط تكون مشغولة، ولها ناسها وتفاديا للمشاكل فهم يحاولون أن يعملوا
في نظام محدد وقانون مسير الغريبة أنهم يحترمون ذلك القانون وبشكل كبير ربما لعلمهم
أنهم إن لم يحافظوا عليه فسيحكمون على نفسهم بالموت، لست أدري من يسن ذلك
القانون لكنه على الأقل يفرض احترامه من قبل الجميع..
أما الابن الثالث فلم يكن مهتما بشيء اللهم سوى جلسات القيتارة مع أصحابه بجانب البحر
وسراويل الجنز المقطعة والتي تهبط دائما على مؤخرته شأنه شأن بعض الشباب التافهين
الذين لم يفلحوا في دراستهم أبدا، ليلفوا سجائر الحشيش، وتناول المعجون "وهو مزيج
من بذور الكيف واللوز وزيت الزيتون والعسل "يتناوله المراهقون عادة ليجعلهم ينسون
في نظرهم تلك المشاكل المحيطة بهم، وهو يعتبر أقل من الحشيش حتى أن بعض البنات
هن أيضا يأكلنه..ويضيفون إليه كؤوس الشاي، حتى يصلن لقمة النشوة..
ألقى عليه الحارس تحيته الصباحية وكذلك فعل صلاح، ليدخل وتوجه أولا إلى صديقه الذي
كان يعمل كعادته:
-صباح الخير يا كريم
كريم بلهفة:
-حمدا لله على سلامتك أقلقتني عليك
ابتسم له صديقه وهو يهدئ خوفه:
-أنا الحمد لله يا أخي لكن لقد توفى ابن الجيران وأنت تعلم علي أن أكون حاضرا معهم
-عظم الله أجركم جميعا، " وربت على كتفه وهو يتابع"عليك أن تأخذ الإذن من المسئول
-نحن و إياكم، اسمع خذ سلة الأكل لقد جهزتها لك سمرا وستجد بعض البرتقال تناوله
أيضا..
فتش محتويات السلة في فضول وهو يقول:
-بلغها سلامي ودعائي لها بتيسير كل صعب لها، "وتابع بمرح"أما البرتقال يا صاحبي
خذه وكله فأنا لا أحبه..
غمزه صلاح وهو يتابع سيره نحو إدارة المعمل حيث يتواجد والد ليلى:
-أنت أيضا مثلي لذلك نحن ناقصان فيتامينات
ضحك كريم وهو يقول:
.
-أو ربما ذلك هو سبب قوتنا ..اسمع سأوزعه على الرفاق
هز صلاح رأسه وهو يقول:
-فلتفعل به ما تشاء..
تأمل ذلك المكتب الصغير الذي بالمخزن، حيث يضع صلاح ورفاقه الصناديق كل في
جهته الخاصة، حتى يعلم المسئول من وضع تلك المجموعة من الصناديق، احتمالا لأي
تكسير أو إتلاف لتك المواد التي بداخله..فإن حصل لا قدر الله شيئا سيخصم من راتبه لكن
الحمد لله لحد الساعة لم تسجل لأي أحد فيهم أي شكاية في الموضوع،
رغم تلك القوة التي يضعون بها تلك الصناديق الخشبية القوية، والتي خشبها وحدها يزن
نصف وزن الصندوق.
أوقفه الحارس هناك بنبرة ساخطة:
-هيه أنت عد لعملك
رمقه صلاح بنظرة غاضبة وهو يقول:
-اسمي صلاح وأريد مقابلة السيد البشير
ضحك وهو ينفث سيجارته "العذراء"لفظ يطلق على السجائر الخالية من الحشيش
-اسمع السيد البشير في المخزن تحت، مع السيد ماركو لذلك فهو لن يستطيع التحدث إليك
عد في وقت لا حق أيها الفتى..
دفعه صلاح بقوة وهو يقول بنبرة محذرا إياه:
-اسمع لا تتحدث معي بهذه الطريقة وإلا قطعت لسانك أيها الغبي
دفعه الحارس مرة أخرى في حين بدأت كلابه تزمجر وتحاول التخلص من بين تلك
السلاسل القوية التي أحكم الحارس لفها جيدا على يديه وهو يأمرها بالصمت، لكنها لم
تمتثل لأوامره وإن خفت حركتها لكن صوتها لا زال يصطك بأسنانها..ونظراتها غاضبة
تتجه نحو صلاح الذي لم تعد تشعره مثل تلك النظرات بالخوف منذ زمن طويل..
في هذه الأثناء خرج السيد البشير وهو يتحدث إلى رجل ضخم البنية، وأصلع الرأس
فكر صلاح أن شكله لا يوحي برئيس المصنع، هو لم يسبق له وأن رأى السيد ماركو هذا
لكنه خيل إليه الآن وهو يراه يتحدث مع السيد البشير وكأنه احد رجال العصابات في الأفلام
العربية القديمة، واليد اليمنى لرئيس العصابة..
إنها الصورة الأقرب لهذا الضخم والذي بالكاد يستطيع المشي، لم يشعر صلاح بنفسه وهو
يراقبهما إلا حينما رمقه الضخم بنظرات حانقة خيل لصلاح انه سيقضي عليه فو انتهائه
من حديثه مع والد ليلى..
أخيرا ابتسم ببطء وهو يصافح العجوز، الذي يبدو أنه كان يطمئنه على العمل هنا
ليلتفت بجسمه كله، وتوجه نحو سيارة كانت على يمين المخزن، لم ينتبه لها صلاح إلا
الآن وهذا الكم من اللحم يركبها..
حينما توارت السيارة عن الأنظار، أشار البشير لصلاح بيده أن اتبعني ففعل ذلك..
تسلمت النسوة صناديق الخضر التي اشتراها خالد، من ماله لجنازة احد رجاله الأقوياء
فعدت عائشة بعينيها الصناديق وهي تضع يديها على خاصرتها:
-صندوق الجزر، وآخر للفت ، الكرمب، القرع الأحمر، والقرع الأخضر، البصل.... ثم
سألت الشاب الذي كان يقف بجانبها وهو يضع كيسا كبيرا أمام قديمها ويمسح العرق الذي
تصبب على جبهته:
-ما شاء الله إن هذا كثير..
لم يجبها فقد كان يشرب الماء ويروي عطشه، فتابعت تسأله وهي تفتح ذلك الكيس:
-كم هنا يا مصطفى من اللحم؟
-لقد جلبنا سبعين كيلو من اللحم لهذا اليوم وغدا إن شاء الله سنجلب كمية أخرى
رفع سبابته محذرا إياها بما أنها التي ستتكلف بإعداد الطعام هي و فاطمة:
-اسمعي لقد أوصى الذئب ألا ينام بيت في الحي بدون أكل اليوم ولا المساجد أيضا..
هزت يديها وشمرت على ساعديها وهي تقول:
-اخبره أني سأتكفل بتوزيع صحون الكسكس على البيوت بنفسي..لكن على بعض أولاد
الحي أن يأتوا لمساعدتي بعد صلاة العشاء..
-حسنا يا خالة وقبل أن يخرج اعلمها أن كل ما تحتاجه من التوابل وأيضا فرن الأكل
وأكياس الكسكس ستكون في حوزتها بعد أقل من ربع ساعة..
حولت بصرها للنسوة اللواتي كن يساعدنها وكذلك ليلى وسمرا اللتان سيتكفلان بغسل
الأواني وتحضير موائد الأكل،وصواني القهوة كلما فرغت الأباريق منها ..ليضعها الشبان
في الخيمة..
همست ليلى وهي تأخذ أحد الكؤوس من يد صديقتها لتمسحها بينما انهمكت باقي النسوة
في تقطيع الخضر وتجهيز طعام العشاء..
-وصلاح ألن يأتي؟؟
هزت كتفيها وهي تقول:
-لست أدري لكنه أخبرني أن أجهز طعام الأكل لصديقه فقط، اعتقد أنه سيظهر بعد..
وقبل أن تنهي جملتها سمعت صوته يتحدث إلى خالد وهما يتقدمان إلى ساحة المنزل
الواسع والتي فرغت من كل شيء لكي يتم تجهيز طعام العشاء فيها..
هز صلاح بصره إلى ليلى التي كانت تعطيه بظهرها، لكنه شعر بارتباكها، ثم قال :
-صباح الخير جميعا
أخيرا التفت إليه وردت مع الجميع:
-صباح النور
وحول بصره للخالة عائشة وهو يقول:
-خالتي هل تحتاجون لشيء آخر؟
ربتت على كتفهما معا وهي تقول:
-بارك الله فيكما نحن لا نحتاج لشيء..
أضاف خالد بصوت حازم:
-اسمعي لا تترددي أبدا في طلب المال، أو أي شيء ومد يده إلى جيبه ليخرج بعضا من
المال لم يستطع صلاح معرفة كم بالضبط لكنها سعدت به وهي تقول:
-لا تقلق سيكون كل شيء على أكمل وجه..
أشار صلاح لأخته، فتبعته وهي ترفع حواجبها لليلى التي ابتسمت لها:
لف يده حول عنقها وتوجه بها إلى جانب الباب الرئيسي وهو يقول:
-سمرا ماذا لدينا في خزين الكوارث المفاجئة؟
قطبت حواجبها لتقول:
-لا يوجد إلا خمس مائة درهم"ورفعت سبابتها وهي تقول"ولا تقل لي أنك ستصرفهم
هز حواجبه وكتفيه وهو يقول:
-لقد حان وقت استعمالهم
أحنت رأسها في تخاذل وهي تقول:
-حسنا سأجلبها لك
وأقرنت القول بالفعل لكنه أوقفها قائلا:
-انتظري لن احتاج منها الآن إلا مائة درهم،والباقي "رفع سبابته هو أيضا يحذرها قائلا"
-أرجوك تقشفي عليه..
-حسنا ..سأذهب لأجلب لك المائة درهم..
حينها خرج خالد وهو يضرب كتف صديقه ليذهبا، وأثناء مشيهما التقيا بسمرا أمام بيتهما
وهي تحمل الهاتف الذي يرن قالت برعب:
-إنه بكر..ماذا اخبره؟؟
أمسك كتفها ليثبتها وهو يقول:
-اسمعي أخبريه أن تلتقيا الآن بمقهى الفن السابع
وكذلك فعلت وبعدما أنهت المكالمة قالت بحماس:
-علي أن أغير ملابسي
سال ببلاهة:
-ولم؟؟
قالت بتشكك:
-ألن نذهب إلى بكر؟
ضحك في استخفاف شأنه شأن خالد واخذ منها الهاتف والمائة درهم وهو يقول:
-اذهبي لمساعدة النسوة في عملهن ولا تخبري أيا كان عن القضية
قطبت حاجبيها وهي تقول:
-من تقصد؟؟
أجاب خالد:
-أي شخص "وتابع في سخرية"حتى السنيورة هذا إن لم تكوني يا صاحبة اللسان الطويل
قد أخبرتها بالفعل..
ضربه صلاح على رقبته وهو يقول:
-كم مرة علي أن أخبرك ألا تتحدث عن أختي؟
استنكر خالد وهو يقول:
-لقد قلت السنيورة فقط والآن أضفت أختك ؟؟ ثم ماذا قلت أنا لكل هذا؟؟
هز صلاح رأسه وهو يقول:
-هيا لنذهب فأمامنا نهار طويل.."وضربه ضربة أخرى وهو يقول"ستكون السنيورة هي
سبب فراقنا يا خالد..
عدل ملابسه وهو يقول:
-حسنا أيها المهندس لكنك لم تخبرني ماذا سنفعل؟؟
تأمل الهاتف الصغير ثم قال سنلتقي ببكر.
تابع كريم عمله ذلك الصباح وقد ساعده في نقل الصناديق زميل له من المجموعة الثانية
لكنه لم يشاركه الحديث إلا نادرا، كانت الساعة الحادية عشر صباحا، حينما دخل بصندوق
آخر إلى المخزن، وقد كان وحده، التفت بسرعة نحو الحارس الذي كان بالمطبخ الصغير
الذي تتوسطه نافذة كبيرة يستطيع أن يرى من خلالها المخزن كله حتى لو كان في المطبخ،
لكنه بدا منشغلا بتحضير الشاي، تنفس بعمق وهو يراقب ذلك الصندوق الموضوع مند
أسبوع هناك وكلما سنحت له الفرصة، يحاول أن يوسع الثقب الذي كان قد صنعه أول مرة
نظر مرة أخرى نظرة جانبية إلى الحارس الذي كان يضع البراد فوق النار وهو يغني، ويبدو
أنه لم ينتبه لكريم فسحب مسمارا كبيرا، وادعى أنه يعدل الصناديق ووضعه بين خشبة
وأخرى، ثم رفع المسمار بقوة لينقلع طرف آخر من الخشب، ثم خبأ الصندوق جيدا،وفي
المساء سيستطيع أن يعرف ما في الصندوق..
اقترب حل اللغز، الذي شغل فكره منذ وقت طويل
-هيه أنت أرى أنك أصبحت تتلكأ في عملك مؤخرا
حك رأسه وهو يجيب:
-لا لقد تعبت قليلا
قال بصوت حازم وإن كان يبدو ساخرا:
-إن تعبت يا فتاة فيمكنك الذهاب لمنزلك
بلع تلك الاهانة وهو يدعي مرحه قائلا:
-لا على كثرة الخطاب العمل أحسن
تمتم بضيق:
-جيد إذن فلتتابع عملك وإلا أخبرت السيد البشير ولن يعجبه الأمر أبدا..
*****************
-ألو بكر كيف حالك؟؟
أجاب بكر في اقتضاب:
-لست بخير يا نوفل لا زلت اشعر بتوعك
بدا صوت نوفل قلقا وهو يتساءل:
-بكر هل كنت تقول الحقيقة؟؟
تأفف من كثرة ما طرح عليه هذا السؤال من الجميع:
- لا يا نوفل لا تبدأ سأقابل عفاف بعد قليل وأنت تعلم لن تسامحني أبدا قبل أن تسمعني
محاضرتها الطويلة..
ضحك صديقه وهو يقول:
-أعانك الله
هز بكر رأسه وحينما بدت له والدته تقف عند باب غرفته استأذن من صديقه وأقفل الخط
قال بنبرة متأففة:
-ماذا هناك يا أمي؟؟
أحكمت قبضتها على دفة الباب وبدت متوترة وهي تقول:
-اسمع يا بكر مند مدة لم أعد أتدخل في حياتك، لكن صدقني إن علمت أنك تضحك على
عفاف فأقسم أني سأرميك خارجا
نهض وقد بدا عليه القلق وهو يقول بصوت هادئ:
-لم تقولين ذلك يا أمي؟؟
مسحت إحدى دمعاتها التي فرت من عينيها وهي تقول:
-لقد سمعت أنك تركت عفاف وتشاجرت معها ليلة المباراة
ضرب يدا في الهواء وهو يخرج من بين أسنانه سبة،
-تبا لهم كم يعشقون إثارة الإشاعات الزائفة، اسمعي أنا وعفاف تناقشنا لا أنكر ذلك، لكن
لم يصل الأمر لنترك بعض ثم لا تقلقي الزواج لا يزال قائما "وتابع بمرح"وانظري إلي في
نظرك لم كل هذه الأناقة إن لم تكن لعفاف؟
ابتسمت له والدته وهي تقول:
-ما شاء الله عليك يا بني "وربتت على وجهه قائلة"الفتاة يا ابني يتيمة وليس لها في
الدنيا سوانا بعد الله عز وجل..فلا تنهرها يا بني
-أمي إن قلت لك أني أحب عفاف فسأكون كاذبا
قطبت حاجبيها في قلق في حين ابتسم وهو يتجاوزها قائلا:
-إني أعشقها يا والدتي
كان قلبها سيقع..
كم أن هذا الولد شقي يوما ما سيسبب لها جلطة..
أوصى خالد بقية رجاله بالاهتمام جيدا بالناس، وأيضا مراقبة المكان..
بعدها ركبا سيار واتجها إلى العاصمة، نحو المقهى الذي اتفقت سمرا عليه مع بكر
-والآن اخبرني ماذا سنفعل يا صاحبي؟؟
أجابه باستفهام آخر:
-لم شعرت أن أبو سكة قتل؟؟
ضاقت عيون خالد وهو يقول:
-لأني أعرفه جيدا قضى عمره كله مع المخدرات، والحشيش، والكيف لن يتوه عن الكمية
التي سيحتاجها أبدا..
-لكن لم تسأل يا صديقي؟
تنهد بعنف حتى يسمح للهواء بالخروج ساخنا من رئتيه، وهو يراقب المارة، من حوله
حرارة الصيف تزيد من توتر الجميع، وبائعو الماء يرتزقون في مثل هذا الفصل جيدا، فهم
يعترضون طريقك بلباسهم الخاص وقبعاتهم المزركشة والتي تتدلى منها أهداب بشتى
الألوان، يحملون حول جنبهم قربة من جلد الماعز وهي التي تحافظ على برودة الماء،
تتدلى من فمها سقاية بلون الذهب يتحكم في إغلاقها وفتحها، ليتعلق حول خاصرتهم حزام
يتدلى منه مجموعة من الكؤوس ، المصبوغة بالقطران، يتواجدون بكثرة في المدن
القديمة بالمملكة..
أخيرا بعدما انتهى من جولته البصرية كعادته، يشرد في كل شيء أجاب:
-لا شيء لكن علي أن أتأكد إن كانت عفاف هي أيضا تتعاطى للمخدر أولا..
أشار خالد نحو المقهى وهو يقول:
-هيا لقد وصلنا..
كانت المقهى شبه فارغة، في ركن منها يجلس شابان يحمل أحدهما حاسوبا نقالا بينما
الآخر كان يضع أمامه مجموعة من الأوراق وقد بدا كل منهما منهمكا في عمله..
بينما في الطاولة التي كانت يمين الباب، جلس شاب لوحده وهو يتطلع لساعته في ضيق
وأمامهما شاب أخر يطقطق بأصابعه فوق الطاولة،
تملكتهما الحيرة، خصوصا بعدما دخل شاب آخر للمقهى وجلس في ركن آخر لوحده، تمتم
صلاح بضيق:
-يبدو أن هذه المقهى لا يحضرها إلا الشباب
كتم خالد ضحكته وهو يتساءل:
-كيف سنعرف المدعو بكر هذا؟؟
هز صلاح كتفيه دلالة جهله وهو يقول:
-لست أدري يا خالد، دعني أفكر
لكن خالد لم يترك له مجالا للتفكير بل صاح بصوته الغليظ:
-بكر..من اسمه هنا بكر؟؟
التفت إليه الجميع، بعدما أثارهم صوته، ثم تبادلوا نظرات فيما بينهم ليتابع كل عمله
تبادلا خالد وصلاح نظرات غريبة، قبل أن يقطع النادل صمتهما قائلا:
-هاهو بكر الذي تبحثون عنه
وأشار لشاب وسيم جدا كان يدخل للمقهى لتوه..
توقف مباشرة أمامهما ليقول بنبرة محترمة جدا:
-كيف أساعدكما؟؟
ربت خالد على كتفيه وهو يقول:
-علينا أن نتحدث قليلا معك..
"وأشار له لمكان بعيد عن البقية وهو يقول"هيا معنا أرجوك..
كانت الحيرة تتملك بكر لكنه تبعهما بصمت...
|