العواء الثالث عشر
كانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، حينما عاد خالد للحي، وكالعادة وجد المقهى تعج
بأنصاف الرجال، الذين يتركون بيوتهم ليسكنوا المقاهي بحثا عما يعدل مزاجهم، ورغم
ذلك الزحام كان خالد يجد كرسيه فارغا في انتظاره، فلا أحد يجرؤ على الجلوس بمكانه،
نادى على سعد الذي أسرع إليه، وهو يقول بذات الصوت المرح الذي عهده خالد:
ـمرحبا أيها الذئب أنرت المكان
أشار خالد إليه ليقترب منه فامتثل له هذا الأخير، وهو يفتح عينيه، ويصغي باهتمام لما
سيقوله له:
-أحتاج لشخص موثوق فيه ويعمل في المصنع الذي كان يشتغل فيه صلاح,,
اعتدل سعد في وقفته وعينه أخذت تضيق شيئا فشيئا، وهو يفكر في مطلب الذئب، ليقول
بعد صمت قليل:
-طلبك موجود,,
ابتسم له خالد وهو يربت على كتفيه بفخر:
-كنت أعرف ذلك، دعني أقابله غدا,,
ونهض وهو يتثاقل ليذهب لبيته، حيث كانت سمرا قد غفت على الأريكة التي بالبهو وهي
تنتظر عودته، وقف يتاملها وهي نائمة كما الأطفال تضم إحدى الوسائد الصغيرة لصدرها،
وقد نزلت بعض خصلات شعرها فغطت نصف وجهها، ليبدو له النصف الآخر، نائما
بصمت، كما هذا الليل . بعدها حملها بين ذراعيه ليضعها برفق على السرير ويخلد للنوم
هو أيضا..
في الصباح استيقظت ليلى قبل صلاح وخرجت لتتمشى قليلا، وتنعم بذلك الهدوء وتلك
الجبال التي تقطر ندى وتسقي أعشاب الأرض اليابسة، وتعانق مياه النهر فتزيده خريرا،
أحست بيد تلف رقبتها فانتفضت بفزع، قبل أن يهدئها قائلا بحب وهو يضمها إليه:
-آسف حبيبتي لم أقصد إخافتك..
سارعت تخفي وجهها الصغير، بين صدره، وهو يربت على ظهرها بحب، حتى هدأت
ساعدها على الجلوس بعدما فرش سترته الصوفية على العشب المبتل بمطر الليل، وضمها
إليه، كان يشعر بدقات قلبها وهي تهدأ شيئا فشيئا،ليحل بينهما صمت طويل لم يشأ صلاح
أن يقاطعها إياه، إلى أن قالت وكأنها كانت تتحدث مع نفسها,,,
-كان ذلك حينما دخلت للسجن، وكنت وقتها قد أصبت بصدمة قوية، لم يتحملها قلبي
الضعيف، فجلب لي طبيبا من المصنع، أعطاني مهدئا وأخبره أني سأنام للصباح، لكن
المهدئ لم يجلب لي النوم أبدا، كنت كما المجنونة، أريد أن أنام، أريد أن أنسى كل شيء،
قد حصل ، وحينما انتصف الليل وقد كان النصف الآخر يبدو لي كمائة عام، تنميت لو أني
أنعم بنوم أهل الكهف، أردت أن أوقف هذا عن التفكير –وأشارت لرأسها- لكن لاشيء كان
يفيد، فخرجت بحثا عن "البابونج" عله يساعدني على النوم، حينما سمعت صوت والدي
يتحدث مع رجل ضخم الجثة، وأصلع يشبه رجال العصابات في الأفلام العربية القديمة –
تبادر إلى ذهن صلاح ذلك الرجل الذي كان قد سبق وأن رآه مع العم البشير، والذي أخبره
الحارس أنه المدعو ماركو..- لم يكن من الأدب أن أقاطعهما، أو حتى أن يراني السيد
بملابس النوم الخفيفة، ولم أستطع العودة لغرفتي ريثما يذهب، فقدماي كانتا متعبتين،
فارتأيت الانتظار قليلا لعلها زيارة سريعة، وحينها سمعته يخبره أنه لديه عينة من
البضاعة الجديدة، وقد وصفها الرجل بأنها تجعل الشخص يرتفع عن عقله، وينسى العالم،
فقلت لنفسي إنه العلاج الذي أبحث عنه والذي سينسيني كل هذا العذاب، خصوصا حينما
وضعه أبي في درج مكتبه الصغير بدون اهتمام وهو يقول:
-حسنا سأجربه من الأفضل أن يكون جيدا، وإلا قطعت رأسهم,,
وقتها لم أهتم لتلك النبرة الشريرة بصوت والدي فما كنت أريده هو ذلك العلاج، الذي
سيخفف ألمي، لم أفكر في ماهيته، أو مدى ضرره بقدر ما فكرت بحديث الرجل عنه، وهو
يتشدق في وصفه المريح لكل الآلام النفسية والجسدية,,,
انتظرت حتى خلد والدي للنوم، وأخذت تلك العينة التي جلبها له، الرجل وكانت الصدمة
الأولى التي صدمت فيها بوالدي، لقد كانت هروينا، كان الألم الذي أشعر به في رأسي
فظيعا جدا، يمنعني من التفكير بأي شيء،فتعاطيت لأول مرة للكوكايين، قلت أن الادمان لا
يأتي من مرة واحدة، وقد كان مسكنا رائعا، لم أعد أفكر في شيء ، لم أتذكر يومها ما قمت
به لكن ما أتذكره هو أن أبي لم يعرف بالأمر أبدا ولم يشعر بشيء، كعادته هو آخر من يعلم
بما يحصل لي-قالتها وصوتها يختنق دموعا، تجاهد في حبسها-أصبحت عادة لي كل
مساء، حتى أستطيع النوم دون أن أفكر في شيء.
-وهكذا صرت مدمنة؟
هزت رأسها إيجابا، والدموع تغشي عينيها، فتمنعها من الرؤية، ضمها إليه حتى يهدئ من
روعها، ويكفر عن ذنب يدرك تماما أنه لم يرتكبه,,
رن هاتف صلاح ليجيب بصوت مرحب، رغم ذلك الكم من الغضب الذي كان يملأ قلبه من
جهة البشير، فكيف يسمح لنفسه بأن تصل ابنته إلى هذه الدرجة,,
قال بضع كلمات لصديقه خالد، واتفقا على موعد اللقاء، لكنه أصر على أن يكون اللقاء
هنا، فهو لا يستطيع أن يترك ليلى وحدها، كما أوصاه أن يأخذ حذره فلربما يكون مراقبا
من طرف العم البشير، لكن خالد كان قد جهز نفسه لمثل هذا الظرف.
بعد الغذاء التقى خالد بصلاح، وقد كان معه الرجل الذي حدثه عنه سعد، والذي سيتكلف
بدخول المخزن، ومن هناك يفتح الباب الخلفي له، حتى يتمكن خالد وصلاح من الدخول
ليلا دون أن يشك أحد فيهما، فعادة لا تكون أية حراسة هناك، بما أن الباب لا يفتح إلا من
الداخل، وإذا ما حاول أحدهم فتحه من الخارج، فإن زر الخطر يكون لهم بالمرصاد،
وسيفضح أمرهم,,,
لم يكن صلاح خائفا على أحد سوى ليلى فكيف سيتركها وحدها في ذلك الخلاء، وكيف
ستتصرف إذا ما عاودتها النوبة مرة أخرى، أحس خالد بقلقه فسأله قائلا:
-مابك يارفيقي... ستكون الأمور بخير لا تقلق لن يشعر بنا..
-لست قلقا من هذه الناحية، لكن كل القلق على ليلى، كيف سأتركها هنا...
صمت خالد لبرهة ثم اقترح عليه:
-لم لا نتصل ببكر ويأتي هو وسليطة اللسان التي تدعى رباب، أعتقد أنهما سيفيان
بالغرض ما رأيك؟؟
هز صلاح رأسه في استخفاف وهو يجيبه:
-سليطة اللسان؟؟ إلى متى ستظل هكذا؟؟
حك رقبته وهو يضحك ليقول:
-وما أدراني إنه طبع يا أخي أكره النساء القويات..
ضحك منه صلاح وهو يرفع حاجبيه لتتسع عينيه، دون أن يعلق..
اقتربت الساعة من العاشرة، لابد أن العم البشير الآن في مكان آخر سوى المصنع،
خصوصا وأن عقله الآن منشغل بالبحث عن ابنته، ارتدى صلاح سترة خالد الجلدية
السوداء، والتي ارتدى مثلها خالد، ثم قبل جبين زوجته، ليربث بعدها على كتف بكر وهو
يوصيه:
-أرجوكما اعتنيا بها..
هز كل من بكر ورباب رأسيهما في تفهم وهما يعدانه أنها ستكون بخير.
وتوجها نحو المصنع،وقد أخذت منهما المسافة أربع ساعات، لم يتوقفا خلالها أبدا، ليصلا
في الثانية بعد منتصف الليل، توقيت جيد، إذا ما أسرعا ووجدا ما يبحثان عنه بسرعة، قبل
أن يضبطهما أحد.
دخلا بسهولة إلى المخزن حيث اصطفت الصناديق، في الظلام، أشعل خالد مصباحه اليدوي
الصغير، بعدما أنزل ستائر النوافذ، ليذهب مباشرة إلى الصناديق، أما صلاح فقد توجه إلى
المكتب حيث يعمل العم البشير، ومن ثم إلى الخزنة الصغيرة، والتي قد زودهما
" فتاح" الذي سمي بهذا الاسم خصيصا لأنه لديه كل أنواع المفاتيح الخاصة بكل أنواع
الخزنات القديمة، وخزنة العم البشير قديمة لدرجة أن فتاح قد عرف نوعها بسرعة حينما
وصفها له صلاح، حتى أنه لم يحتج لأي صورة لها، او أن يأتي معهما، منحه مفتاحا
واحدا، ليخبره أن الرجل العجوز إما رجل غبي، لأنه لايزال يحتفظ بخزنة من هذا النوع، أو
ان الخزنة ليس فيها ما يهمه,,
لكن صلاح حينما فتحها، ووجد تلك الأوراق، قال في سخرية:
-أعتقد أن الاجابة الأولى صحيحة يا صديقي..إنه رجل غبي..
انتهيا بتوقيت واحد، ليصبحا في الخارج بعد دقائق، ويتوجها نحو الجبل مرة أخرى،
تنفس صلاح الصعداء، وهو يتفقد ما وجده من أوراق قائلا في دهشة:
-يا إلهي إنهم مجرمون حقا، لقد كانو يستخرجون مادة مخدرة من الكيف، ويمزجوها مع
الكوكايين، ويضيفونها إلى العصائر التي تنتجها شركة "أورانج ماروك"
-يا إلهي أنهم أناس مجرمون حقا،تبا لهم...
لم تتمالك رباب نفسها وهي تقرأ تلك الأوراق وتكتشف أن شركة "اورانج ماروك" كانت
طوال هذه السنوات، تدمر دماء المواطنين، من أجل الربح,, الذي تحظى به من استهلاك
لمنتوجها,,,
مررت يدا مرتعشة على وجهها، وهي تتساءل:
-والآن مالذي سنفعله؟؟
نظر كل من بكر وخالد إلى صلاح، الذي كان لا يزال يحاول أن يستسيغ هذه الصدمة، وهو
يسأل نفسه، كيف تورط العم البشير بكل هذا,,
-فلننتظر قليلا علينا أن نحاول معرفة المزيد..
اعترض بكر قائلا:
-لم يعد لنا ما نعرفه، يكفينا هذا الدليل، والباقي هو من مسوؤولية الشرطة.
أجاب صلاح من بين أسنانه، وقد بدا الغضب يسيطر على ملامحه الهادئة دائما:
-قلت ليس الآن,
وأشار لرباب أن تعطيه تلك الأوراق وهو يحذرها مرة أخرى"إياك أن تنشري كلمة أو
تلمحي عن الموضوع غدا في الصحيفة"هزت رأسها موافقة وهي تستأذنهم في
الذهاب,,ليستأذن بكر أيضا معها، وهو ينصح صلاح بإعادة التفكير وتبليغ الشرطة الآن.
اقترب صلاح من ليلى والتي كانت تجلس بهدوء تام، تعبث بخصلات شعرها الأشقر، تردد
قبل أن يعلن عن قراره، فابتسمت له وقد قرأت أفكاره، لتقول:
-لاعليك يا صلاح، فلتقم بما تراه مناسبا..
هز رأسه موافقا إياها لتلمع عينيه، نصرا، فأخيرا لديه ما يدين به المجرم الحقيقي، سواء
كان ماركو بذات نفسه، أو البشير فما يهمه هو أن تتحقق العدالة..
كان في طريقه إلى المركز، بعدما اتصل ببكر، وخالد، واتفق ان تكون رباب موجودة حتى
تحصل على سبق صحفي مميز، في هذه القضية، حينما اتصل به البشير، من رقم غير
معرف، بعدما حصل على رقم هاتفه، بصعوبة بما ان الشريحة ليست باسمه، بل باسم
عفاف..
-ألو..أجل معك صلاح الهاشمي، من أنت؟؟
نبرة صوته الرزينة، جعلته يعرف من يكون قبل أن يعرف عن نفسه قائلا في حنان، أصبح
صلاح يشك الآن في مصداقيته:
-أنا عمك البشير يا بني..
انفجر صلاح غاضبا في وجهه وهو يقول:
-اسمع أيها العجوز ليلى هي زوجتي الآن، ولن تر شعرة منها بعد الآن..
انفلتت منه ضحكة صغيرة، قبل أن يجيبه:
-ابنتي وسأعرف كيف أعيدها إلي.. لكني الآن أبحث عن شيء لا يخصك أخذته مني أمس،
وأعتقد انه سيدفعك الثمن غاليا,,غاليا جدا يابني,,
-ليس لديك شيء وتأكد أنه ستتعفن في السجن أنت والسيد ماركو لسنوات طويلة، لن
تستطيع أبدا أن تعدها..
بدأ صوت البشير يحتد شيئا فشيئا وهو يجيبه:
-اسمع يا صلاح إن الأمر أكبر منك، ومن تلك الصحفية، التي قد تم اسكاتها هذا الصباح,,
قاطعه صلاح صارخا، حتى ان يديه كانت ستفلت من مقود السيارة، من شدة الصدمة،
ليقول في دهشة:
-تم اسكاتها؟؟؟
اجابه في هدوء:
-أجل يا بني,, الصحفيون عادة ما يسوقون بسرعة كبيرة، ودون تركيز خصوصا إن كان
لديهم سبق صحفي كهذا..
وأتبع تعليقه بضحكة، ليجيب صلاح من بين أسنانه:
-تبا لكم..ستدفعون الثمن..
-فلتكن عاقلا يا بني، ولتجلب تلك الأوراق..ولا تثر المشاكل فبالأول والأخير لا أريد ان
تنتهي حياتك بهذه السرعة..
وأغلق الخط..
لم يكن لتهديد البشير أي تأثير على صلاح، لكنه أصبح واثقا أن ذلك سيكلفه غاليا، كانت
تلك اللمحة الحزينة بعيني بكر، توحي بأنه قد علم بالأمر، عانقه صلاح بصمت، وهو يقول:
-دمها ودم كل من سبقها لن يذهب هدرا، أعدك بذلك,,
كانت غصة تستقر بحنجرته، وتمنحه من الحديث، من البكاء، من الصراخ، وهو يجد نفسه
عاجزا عن فعل شيء..
دخلوا إلى المركز، الذي كان يعج بعدد كبير من الناس، لكن الضابط عبد الكريم الحياني،
والذي تحدثت إليه رباب هذا الصباح، وأخبرته أنه لديها اوراق تدين شركة كبيرة، وتسعى
لمساعدته في القبض على المسؤولين، لم تمنحه التفاصيل، لكن ما قالته جعلته ينتظر
الموعد بفارغ الصبر,,
تقدم صلاح نحوه، بوجه واجم، بينما ظل كل من بكر وخالد بالخارج,, ليضع بين يديه تلك
الأوراق، طلب الضابط عدم ازعاجه، وهو يطلب من الحارس أن يغلق وراءه الباب، حتى
يتسنى له قراءة تلك الوثائق، بروية..
استمر في تقليبها والبحث فيها لمدة أربع ساعات، كان خلالها صلاح، يضغط على أصابعه
بنفاد صبر، فبعد تلك النبرة التي تحدث معه فيها البشير، وإخباره بكل وقاحة انه تخلص
بسهولة من رباب، والتي ليس لها أي ذنب سوى انها أحبت عملها، وجاهدت حتى تظهر
الحقيقة,,أصبح يدرك أنه قادر على فعل أي شيء..
اخيرا رفع رأسه ليتساءل:
-إن المعلومات التي لدي هنا، تدين السيد ماركو لسنوات طويلة جدا,,
اقترب منه صلاح وهو يجيب:
-للأسف السيد ماركو قد توفي منذ سنوات طويلة، ومن اشترى منه الشركة والمصنع
وأيضا الأراضي هو رجل مغربي، لكن للأسف أيضا لا أعرف اسمه,,
تساءل الضابط في دهشة:
-لكن الأوراق هنا وأيضا الملكية باسم السيد ماركو أغيراس، وآخر توقيع له كان قبل
أسبوع، لااعتقد أنه سيتم التزوير في مسائل كهذه وبهذه الطريقة الغبية؟؟
لوى صلاح شفتيه لينهض من مكانه وهو يمد يده مصافحا الضابط قبل أن يقول:
-لقد وضعت بين يديك كل ما يدينهم، اتمنى فقط أن تقوموا بما يجب:
هز عبد الكريم رأسه وهو يجيبه:
-سنفعل بالتاكيد، أشكرك كثيرا..
هم بالخروج حينما أوقفه الضابط ليسأل:
-رباب لم أرها أين هي؟؟
ازدرد صلاح لعابا وهميا، وهو يطأطء رأسه مجيبا:
-لقد رحلت..
لم يفهم في البداية عبد الكريم مالذي يقصده صلاح بهذه الكلمة، رحلت أين، ولم .؟؟؟
وعندما انتصف النهار،عرف أن الصحفية الشابة قد لقيت حتفها أثر جروح بليغة، أصيبت
بها، حينما اصطدمت بشاحنة، كبيرة كانت قادمة من الجهة المعاكسة، والتي لقي السائق
حتفه أيضا، في تلك الحادثة..
حادثة صغيرة تحدث كل يوم، قامت الجريدة بتقديم أحر التعازي للأسرة الصغيرة، للفقيدة،
كما تحدثت نشرة الأخبار عنه في دقيقة، قبل أن تعد المشاهد بالتفاصيل عن الخبر في
نشرة المساء.
عاد صلاح ليلا، وحينما دخل للكوخ لم يجد ليلى، فخرج مسرعا يبحث عنها، بجانب النهر
لعلها ذهبت للمشي، انقطعت أنفاسه بحثا عنها لكن دون جدوى,,
وحينما عاد مرة أخرى وجد هاتفه يرن، اجاب دون أن يلقي نظرة على الرقم
-ألو من؟؟
-صلاح اين كنت؟؟ اتصلت بك أكثر من مرة؟
-خالد لقد كنت أبحث عن ليلى؟؟
انصدم خالد وهو يعيد ما قاله صلاح:
-تبحث عن ليلى؟؟ يا إلهي..
-ماذا هناك ياخالد؟
جاءه رد خالد خاليا من الحياة:
-لم أجد سمرا يا صلاح..
توقف قلب صلاح عن النبض لمدة طويلة، حتى خيل له أنه لن يعاود النبض مرة اخرى،
وقد اصفرت ملامح وهو يجيب بريبة:
-ماذا تقصد بأنك لم تجد سمرا؟؟
صمت خالد وقد اختنقت حباله الصوتية، فأدرك صلاح أنه يبكي,,لأول مرة يذرف الذئب
دمعا وهو يجيب:
-أخشى ان يكون ماركو...
قاطعه صلاح قائلا:
-انتظرني سأكون بعد قليل بالمقهى..
وأقفل الخط.
إن الطريق بين الجبل والمدينة، طريق طويلة، و صلاح كان يعلم أنه لن ستطيع أن يكون
قبل أربع ساعات على الأقل..
أربع ساعات قد يقع فيها الكثير، فربما هو لا يسمح بأن تؤذى ابنته، لكن سمرا..
ضغط على بوق السيارة حتى تتنحى له شاحنة كبيرة أمامه، وهو يسب ويلعن بصوت عال،
كان كما المجنون، أما خالد فقد كان كمن سلبت منه الحياة..لا يعي ما يجري حوله، فقط
ينتظر مجيء صلاح..
وصل صلاح إليه وهو يسأله:
-ألم تعرف شيئا؟
هز رأسه نفيا ثم أجاب بصوت خاو:
-أخشى أن يكون قد أصابها مكروه..
أسكته صلاح باشارة منه، وهو يتمتم من شدة التوتر:
-فلتسكت أرجوك لا أريد أن أسمع مثل هذا الكلام..
وأخذ يدور بعينيه حول المكان، وكأنه يسأل جدران الحي الذي لطالما ضمه، عن أخته..
وبينما هما كذلك، تقدمت إحدى الجارات نحو خالد وهي تسأله:
-هل تبحث عن المفاتيح، آسفة لقد تركتهم لك زوجتك عندي، لكني خرجت للسوق
وتاخرت..
أمسكهم خالد دون وعي منه، وأخذ يقلب فيهم ثم فتح عينيه ذهولا وهو يتبعها:
-هيه سيدتي
توقفت المرأة وهي تفكر أنه ربما اخيرا فكر أن يشكرها..
-ماذا قلت أرجوك؟
قلبت عينيها بنفاد صبر لتقول:
-عفا الله عنك، أخبرتك أن زوجتك تركت عندي مفاتيح المنزل..
فور سماعه لكلامها نادى على صلاح الذي سارع إليه بقلب متلهف:
-ماذا هناك؟؟
أجابه خالد بحماس:
-تقول أن زوجتي تركت لديها مفاتيح المنزل..
التفت إلى المرأة الواقفة، والتي بدأ الخوف يتسلل إلى قلبها، تقدم منها ببطء، وهو يسألها:
-متى حصل هذا؟؟
ارتعش صوتها وهي تجيبه:
-حوالي الثالتة بعد الظهر، كانت مع فتاة شقراء..
قاطعها في دهشة:
-فتاة شقراء؟؟؟
-اجل واخبرتني أنها ستخرج مع صديقتها قليلا، ثم....
سكتت المرأة حينما سمعت صراخ أهل الحي، وأخذت تتطلع بعيون فضولية، قبل أن يسرع
الجميع نحو منزل خالد، الذي سقط أمام جثة امرأة رآها الناس تقف على حافة السطح
وتلقي بنفسها..
كان شعرها الأسود يغطي وجهها، الملطخ بالدماء، تكسرت عظامها كلها، وحسب تقرير
الطبيب ان قلبها لم يتوقف إلا حينما ارتطمت بالأرض، وذلك لتأثير الهروين عليها، حتى
لم تعد تعي ما تفعله..
******
مدت منى محرما ورقيا له، حتى يمسح دموعه وعرقه الذي أمطر من جبيبنه، أحست أن
شعرات جسدها الدقيقة قد توقفت، ورقبتها قد تشنجت حينما تخيلت تلك الفتاة السمراء،
الهادئة وهي تنزل من قمة منزل يتكون من أربعة طوابق.. عالية..
كان جسده يرتعش وهو يتابع بصوت مبحوح:
-ماتت سمرا، دون أي سبب يدعو لقتلها، لم تكن مسؤولة عن شيء..وقتها لم أعد أفكر في
شيء وما زاد الطين بله، أن الشرطة كالعادة، أقفلت ملفها فليست هي الأولى او الأخيرة
التي تنتحر،
بسط كلتا يديه وهو يتساءل بصوت عال:
-هل هذا هو العدل؟؟ ان تموت سمرا بهذه الطريقة؟؟
لم تجبه منى، ولم ينتظر جوابها بل تابع في ألم اعتصر قلبها..
-كنت اعلم جيدا هنا –أشار إلى قلبه- كان يحدثني، أن البشير له يد في كل شيء، بل هو
المنفد لكل العمليات، لكني صدمت حينما أخبرنا الضابط انه تم إلقاء القبض على ماركو
أغيراس الاسباني صاحب الجنسية المغربية، فيما لا يزال البحث عن الدكتور الذي كان
مسؤولا عن تحليل مواد بالكيف ومزجها مع الكوكايين ومن تم اضافتها للعصير الذي
تنتجه شركة "أورانج ماروك" والذي كان يدر مبالغ طائلة من الربح..قبل أن يرتكب هذا
الأخير خطآ كان سيكلف الشركة خسائر مادية كبيرة، فقد ضاعف النسبة كثيرا، لتصبح
جرعة قاتلة، تستطيع أن تقتل في ثوان قليلة، إن شرب الشخص علبة كاملة منه..
ولأن الجشع هو من طبيعة النفس البشرية المريضة، فقد ارتأى ماركو، عدم خسارته بل
بيع تلك العصائر بشكل عشوائي في معظم نواحي المدن الفقيرة، وبثمن رخيص، معللا ذلك
أن مدة صلاحيته قد اقتربت من الانتهاء..
كنت أسمع الضابط وهو يشرح ويعلل ويقدم لنا تلك الأدلة التي حصل عليها من بحثه
المضني، ليشكرنا، بعدها على جهودنا..
تبادلنا نظرات متشككة فييما بيننا لأسأله:
-والسيد البشير..؟
استغرب الضابط وهو يرد بسؤال آخر:
-مابه؟؟
ترددت قبل أن أعاود سؤاله:
-ألن تلقوا القبض عليه؟؟
ضحك ملئ الفم وهو يجيبني:
-إن ألقينا القبض على البشير، فسيكون علينا القبض على كل العمال،لقد علمنا من
مصادرنا أن العمال، لم يكن لهم معرفة مسبقة بما يجري بمختبر المصنع، بل لم يكونوا
على علم أبدا بأن هناك مختبرا سريا..
إن العقود الموقعة بين الشركة والعمال، تقضي بحمل صناديق أواني قادمة من الصين..
وهز كتفيه في تخاذل حينما لمح تلك النظرة في عيني-للأسف ليس لدينا دليل..ضده..
ولتنشغل وسائل الاعلام بعدها بالتهليل والزغاريد للشرطة التي فككت شبكة اجرامية،
يسيرها بارونات من كلومبيا واسبانيا..
حيث تم الاعلان على عملية تفكيك الشبكة الدولية الخطيرة المتخصصة في الاتجار
بالكوكايين والشيرا، جعلتهم يلقون القبض على 40 عنصرا من بينهم أجانب يعد أحدهم
العقل المدبر لهذه الشبكة داخل المغرب، والذي كان يستخدم هذه السموم أيضا بمنتوج
العصير المدرج تحت اسم أورانج ماروك للنفس الشركة التي تحمل نفس اسم المنتوج،
"اورانج ماروك"..
في تلك الأثناء ولدت بداخلي رغبة كبيرة في القتل، خرجت رفقة صديقي، وانا أنظر بعيني
بكر وأسأله:
-هل حققت ما تريده يا بكر..؟
أحنى رأسه ليجيب:
-لقد خسرت الكثير لا أعتقد أنه لا يزال هناك ما أخسره..
كانت تلك هي أولى خطواتنا..لنصنع المجد، ونثير الخوف في المدينة الصغيرة، تلك المدينة
التي لم تنصفنا أسوارها العالية، ولا أزقتها الضيقة، ولا مساجدها العتيقة، بل ولا حتى
سواقيها القديمة، لطالما أحببنا تلك المدينة، لازلت أذكر حينما كنا نجتمع على كؤوس
الشاي، ودندنة العود، وكنا نغني الطرب الأندلسي، كان لبكر صوت شجي يطربنا دوما...
كنا نحزن كل ليلة، ونبكي بصمت، كنا نخجل من نبكي أمام بعضنا..لم يكن البكاء يناسبنا
أبدا....
إلى أن اشتد عودنا، وعرفنا في كل المدينة، عصابة خطيرة يترأسها الذئب،
و جاء اليوم الذي انتظرناه، وانتظرته أنا مطولا..
اتصل بنا السيد ابراهيم ليخبرنا، أن البشير سيقيم حفلة عشاء، بمزرعته الجديدة،
وسيحضر فيها كبار البارونات،وسيوقع صفقة جديدة، هناك قررت أن أقتله..لكن القتل كان
شيئا هينا، فما كنت أرغب فيه هو أن يتمنى الموت، ولا يجده.
كان عدد المدعوين بحراسهم وخدمهم، ثلاثون شخصا، ونحن كنا سبعة أشخاص، أنا
وصديقي وبكر، وأربعة من رجال السيد ابراهيم، والذين تكلفوا بتنظيف المكان من
الحراس، حتى نستطيع الدخول، -ابتسم لتلك الذكرى، وكأنه عاشق يتذكر حبيبته- كان
المكان رائعا، حديقة واسعة ومسبح كبير، صفت على جوانبه، طاولات جلس عليها
أصحاب البطون الكبيرة، ينفثون أغلى دخان من أفواههم الرخيصة، لم تكن عملية إرهابية
كما تشدقت وسائل الاعلام عنا، لم تكن مجزرة، لم نكن صهاينة بل كنا رجالا لم تنصف،
كنا دماءا لم ترد أن تهدر ، كنا صوتا يصرخ..
كانت أول من أطلقت عليها النار، كانت ترغب بذلك بشدة، عيناها أخبرتني بذلك، أقتلني،
أقتلني، أقتلني...رددتها عيناها بقوة..
لم ترمش تلك العينان الواسعة، لم تخف .
واستمتعت بصراخ البشير، لطالما تمنيت أن أراه وهو مكبل يزحف ليقبل حذائي المتسخ
ويغسله بدموعه، لطالما تمنيت أن أنتقم لأبو سكة،عفاف، انور الذي زهقت روحه ظلما،
والسيدة زهرة، التي لم يمنحها حق طلب المغفرة لذنبها..ولرباب..وسمرا..
توقفت الكلمات بحنجرته،فالتفتت منى للخلف، تاركة له مساحة ليبكي كل من أحب..
بصمت رجولي، قبل أن يتابع:
-لست بطلا يا آنسة،ولست شريرا، لكن لكل منا جانبه المظلم..
جملة سمعتها ذات يوم من صديق، لكل منا جانبه المظلم...
تنحنحت منى قليلا وهي تزيح بعضا من خصلات شعرها، حتى تخفي تلك الرعشة التي
سرت بعظامها:
-هل كنت تعلم أنه والدك؟؟
هز رأسه بصمت، وهو يجيب :
-أجل علمت قبل ليلة قتلي له، لكن ذلك لم ينحني عن أي شيء، فالغل الذي كنت أحمله له
أكبر من أن أسامحه..لم يكن يستحق أن يكون أبا..
لازلت أتذكر كيف وقفت تنظر إلي بصمت، وأنا أشهر مسدسا كان مزودا بكاتم الصوت، إلى
مابين عينيها، وصراخ البشير يتزايد شيئا فشيئا، طالبا أن أخلص تأري منه، وأنه لا ذنب
لابنته في ذلك.
لم أجبه، لم اخبره أنه لم يكن لكل الذين ماتو ذنبا في جشعه، لكني ابتسمت في وجهه، وأنا
أزرع رصاصة باردة بجبهتها، لتسقط أمامي، بلا حياة..
أغمضت منى عينيها، غير مصدقة بأن كل هذا الشر، كان موجودا بقلبه،
-بعدها لم تستطع أن تتوقف عن القتل؟؟
هز رأسه موافقا:
-أجل أصبحت كما المجنون، كل من وقف بطريقي أقتله، أصبت الدكتور بثلات طلقات حتى
يتعذب قبل موته، ويتذكر العذاب الذي سببه لكل الذين ماتو، قبل أن أرغمه على أن يشم
كمية كبيرة من الهروين ذلك السم الذي كان يقتل به كل من يقف بطريقه، والذي قتل به
كريم، ذلك الشاب الذي لم يكن له من ذنب سوى أنه اكتشفهم، وكان ينوي إخبار الشرطة،
لكنهم أنهو حياته بتلك البشاعة..
صرخت بوجهه فقط ليمنحني سببا واحدا لفعلته القذرة:
أجاب:
كنت ساخسر الكثير من المال،لم أكن أتصور أن الأمر سيطالكم أيضا، وستتأذو بتلك
الطريقة، آسف لموت سمرا، كثيرا، كنت أرغب باخافتك فقط لكنها هربت منا وسقطت
صدمت لذلك كثيرا، فقد كانت كابنتي..حرصت كثيرا على أن يوزع العصير بالأحياء الفقيرة
فقط، لم يكنوا اناسا صالحين على أية حال، لقد تابعت من ماتوا إما متسكع أو لص أو تاجر
صغير بالحشيش، أو معترض طريق..
لم يكنوا يستحقون الحياة بأي حال..
أجبته من بين أسناني:
-إجابة جيدة، لانك أيضا لا تستحق الحياة بأي حال..
واستمتعت بزرع رصاصاتي بكل مكان من جسده، وسماع صراخه قبل أن يهدأ بصمت..
-هل ارتحت بعدما قتلت أزيد من اربعة عشر شخصا..
ابتسم وهو يجيب:
-كانو ستة عشر شخصا، وتمنيت لو أني قتلت البشير أكثر من مرة..
لست نادما أيتها المحامية، لقد قتلتهم جميعا، لأنهم يستحقون ذلك..ولان القانون لم
ينصفني..
-وهل نحن نعيش بغابة، أيها الذئب، كل من لم ينصفه القانون يقوم بازهاق الارواح، كما
لو كانت حشرات؟؟
تراجع للوراء، وكأنه يستمتع بغضبها:
-لقد قلتها أيها الذئب..
جمعت أوراقها وهي تحاول أن تجمع مشاعرها المبعثرة، بعد هذه الجلسة، حاولت أن
تجعل صوتها حياديا وهي تقول:
-حسنا أيها الذئب نلتقي في المحكمة غدا باذن الله..
انتهى الجزء..