العواء السابع
تأملت وجهها بالمرآة الطويلة، والابتسامة تزين شفتيها المصبوغة، بلون زهري،ثم أبعدت
خصلة من شعرها الأشقر وهي توسع عينيها لتعدل من الماسكرا قليلا، في حين تأملتها
المصففة وهي تقول:
-تبدين آية في الجمال يا ليلى، سبحان من صورك
ابتسمت بخجل، فهي تحتاج لمثل هذه الكلمات التي ترفع من معنوياتها، ثم تساءلت في عدم
اقتناع:
-ألا تجدين أن لون القفطان لا يتناسب مع بشرتي؟؟
ضحكت المصففة وهي تقول:
-لم أر في حياتي عروسا مثلك يا ليلى هيا كفي عن تصرفاتك ولا تجنيني كما فعلت ليلة
خطوبتك..
ضحكت وهي تقول:
-من حقي أن أتشرط كما أرغب فأنا العروس..
وقبل أن تجيبها سمعت بوق السيارة يرتفع معلنا عن وصول خالد الذي تعهد بإيصالها
لقاعة الأفراح..
تسمرت ليلى في مكانها فقد أحست أنها لم تعد تستطيع المشي بقدميها، وقلبها يكاد يخترق
حنجرتها اليوم سيعقد قرانها على صلاح..
يا إلهي حلم سيتحقق بعد أقل من ساعتين..
ابتسمت المصففة لسمرا التي كانت قد قدمت مع خالد وبكر الذي رأته اليوم لأول مرة،
وهي تزغرد وتصلي على النبي، صلى الله عليه وسلم والتي حينما رأت صديقتها وهي تكاد
يغمى عليها من شدة الخوف قالت :
-يا إلهي أراهن أن أخي سيخطفك قبل أن يتم العرس من شدة هذا الجمال اللهم صلي وبارك
على المصطفى خير الأنام..
-هل ...هل...هل؟؟
علت ضحكات سمرا وهي تنقذ صديقتها من تلك الهلهلة التي أربطت لسانها وهي تقول:
-تبدين كالأميرات إن لم تكوني أجمل..لا تقلقي..
تنهدت بارتياح نوعا ما وهي ترمش بعينيها وتأخذ نفسا عميقا قبل أن تخطو أولى
خطواتها..
طوال الطريق وليلى تضغط بيديها على سمرا، والتي كانت عيناها معلقة بالمرآة ليس لترى
وجهها كيف يبدو، ولكن لأن المرآة كانت في صفها ونقلت لها بعضا من ملامح بكر..
-لا عجب في أن عفاف أحبته، تبدو أوسم من الممثل يا سين أحجام..
أسرت لنفسها بهذا، قبل أن يرمقها خالد بنظراته الغاضبة، فأحنت رأسها حياء، يا إلهي أي
جنون هذا يا سمرا، اخفضي بصرك وإلا سيقتلع خالد عينيك، وما شأنه خالد بي، ليس لا
أخي ولا أبي فلم أخشاه؟؟
وحتى بعدما حاولت أن تشجع نفسها إلا أنها لم تستطع أن تختلس المزيد من النظرات،
فمنت نفسها بأنها هي من لا يرغب بذلك..
منذ أن رأته وهي تشعر أنه يسحب الأوكسجين من كل مكان يتواجد فيه، حتى يتركها
كسمكة أخرجت من بحرها..
-ها قد وصلنا أيتها الجميلات.."والتفت إلي العروس وهو يقول"ألف مبروك آنسة ليلى..
احمرت ليلى خجلا وقد ارتعشت شفتيها وهي تقول:
-ش ك ر ا لك
ابتسم لسمرا و عاد يركن سيارته أمام قاعة الأفراح...
كان مدخل القاعة رائعا، تفرش أرضه ببساط أحمر طويل، وعلى حوافه اصطفت بنات
ترتدي اليوني فرم الخاص بممولي الحفلات وكل واحدة منهن تحمل صينية بها التمر
والحليب، تستقبل به الضيوف..
لم يمنع خالد نفسه من الوقوف لارتشاف الحليب المنسم بالزهر واكل التمرة المحشوة
باللوز في حين تبعت سمرا بكر وتركت ليلى التي احتارت ماذا تفعل فوقفت تنظر للجميع
والذين كأنهم ارتاحوا لإيصالها لباب القاعة..
سارعت إليها عائشة وهي تزغرد وتحاول أن تظهر وكأن شيئا لم يكن، وهي تحث النسوة
على التقدم وإدخال العروس..
في تلك اللحظة أحست ليلى بحاجتها لوالدتها، وقد تألمت من تصرف سمرا، وقد لاحظت
افتتانها بذاك الشاب..لكن ذلك لا يمنحها عذرا لتصرفها..
وتساءلت بخفوت:
-أين صلاح؟؟
همست عائشة وهي تشير بسبابتها نحو شاب فارع الطول، يقف بجانب والدها أمام الباب
ينتظران تقدمها:
-إنه هناك يا صغيرتي ينتظرك وابتسمت لها بود..
علت دقات قلب ليلى وهي تنظر لصلاح يتفحصها، كان يشعر بمدى ارتباكها وكعادتها مدت
يديها لخصلات شعرها تضعها وراء أذنيها، واقترب منها ليمسك يديها ويدخلا معا للقاعة..
وعلى إيقاع عيساوة دخلا العروسان، والزغاريد تملأ الأرجاء والصلاة والسلام على النبي،
وأوراق الزهور ترش عليهما من قبل البنات ، حتى جلسا على كرسييهما اللذان خصصا
لهذه المناسبة..أحس صلاح بارتعاش يديها فأمسكها يطمئنها، وكم راقته تلك النقوش التي
بيديها، وكم تمنى لو أنه حضر ليلة أمس للحناء، لكنها تكون مختصة للبنات فقط ولا يسمح
للرجال حتى العريس بالاقتراب من المكان..
وحينما تقدم العدول للقاعة وهو يصلي ويسلم على النبي، ويبارك للعروسين ارتعشت ليلى
وهي تنظر لوالدها، الذي بدا قلقا، فغياب أنور طوال تلك المدة إنه لشيء يقلق، رمشت
بعينيها، أمام المصور الذي كان يلتقط لهما صورا ستظل ذكرى، للعروسين والعائلة،
وبيدين مرتجفة وقعت على العقد وكذلك فعل، صلاح الذي همس لها بحب:
-الآن لم يعد يستطيع أي شخص تفرقتنا..أليس كذلك؟؟
تسمرت عيناها، وأحست بدقات قلبها قد توقفت، فجأة حينما بدا أنور وهو يدخل للقاعة..
وقف خالد وتقدم بخطوات سريعة نحو أنور، وعانقه وهو يهمس محذرا إياه:
-إذا ما تصرفت بتهور، ستكون أولى جرائمي بالقتل...
تراجع أنور وقد بدا حزينا بتلك اللحية التي نمت بطريقة عشوائية، وجنزه الباهت الذي لا
يليق أبدا لتلك المناسبة، كان قد غاب عن الحي طوال تلك المدة منذ أن علم بأن أخاه خطب
ليلى وأن ليلى أصبحت محرمة عليه، طوال حياة أخيه..بعدما عقد قرانهما..
ربتت يد ضعيفة أضعفها الزمن، وأنهكها المرض فاستدار أنور و الدموع تملأ مقلتيه
كم اشتاقها، ذاك الوجه المجعد الذي قهرته السنين، وارتعاشة الشفتين، ودموع لطالما
نزلت بسخاء ولطالما كان احد أسباب دموعها..وهاهو اليوم أيضا سيدمر فرحتها، وقد
يقتلها إذا ما علمت بما ينوي فعله...
لم تسمح له بالمزيد من الحديث النفسي الذي يخوضه، وهي تضمه إليه بقوة وكأنها تريد
أن تخبيه بين أضلعها...
ابتسم لها بتردد قائلا
- آسف يا أماه...
وبينما هي تتصارع مع صوتها كي يظهر، شهقت شهقة وهي تسمع صوت سيارة الشرطة
لتقول متسائلة برعب:
-ماذا فعلت يا أنور؟؟
بدا وكأنه لم يفهم السؤال، وهو يلتفت في دهشة إلى ثلاث رجال من الشرطة اقتحموا
القاعة وتجاوزوا بخطاهم الواسعة تلك الحشود التي وقفت كما وقفت تلك الموسيقى،
وأخرست الزغاريد..فجأة..
نهض صلاح أما ليلى فقد شعرت أن قدميها لم تعد تقوى على الوقوف، فجحظت بعينيها،
وقد جف حلقها..
أخيرا تقدم نحوه ضابط، في حين وقفا الشرطيين الثانيين، ضاقت عيون خالد وبدأ أنفه
يتسع غضبا، وهو يراقب ذلك الضابط، لا بد وأنه أخطأ المكان..
-نرجو أن تأتي معنا سيد صلاح..
اهتزت شفة صلاح السفلى رعبا وهو يرمق ليلى التي بدت شاحبة، ونظراتها معلقة عليه..
جلس بجانبها وهو يمسك أناملها ليقبلها، ماسحا على شعرها الأشقر:
-لا تقلقي حبيبتي، لا بد أنه خطأ ما..
ابتسامة الشرطي لم تكن تنم عن خير، لكنه مع ذلك حاول أن يبدو هادئا وهو يسأله:
-هلي أن أعرف السبب سيدي؟؟
بدا وكأنه تعمد أن يكون صوته مرتفعا، حتى يسمع كل من في القاعة:
-سيد صلاح لدي مذكرة بتوقيفك، فأنت متهم بالمتاجرة بالحشيش..
هل أحس أنه سيغمى عليه؟؟
أجل لقد شعر بذلك...
قال خالد بصوت غليظ يميزه دائما:
-لا بد أن هناك خطآ ما..
-التفت إليه وقال وكأنه سيراه لأول مرة:
-أوووه الذئب هنا...'وبنبرة محذرة تابع' ستكون التالي بإذن الله..
وأشار للشرطيين باعتقال صلاح..
ومع وضع الحديد على يديه، تبعهما دون أن ينطق بكلمة..
تعالت صرخات الوالدة قبل أن يغمى عليها، وتبعته سمرا وهي تبكي بحرقة، متمسكة ببذلته
الأنيقة:
-أخي قل شيئا....إلى أين تأخذونه..قل لهم إن هذا كذبا..
أحنى رأسه ولم يجبها..
وقبل أن يدخل لسيارتهم ألقى نظرته على ليلى التي كانت لا تزال جالسة على كرسيها
بقفطانها، شاردة في نقطة ما...
لحق بكر وخالد بسيارة الشرطة:
-هل صلاح..؟
قاطعه خالد وهو يقول:
-هل أثر فيك المشروب؟؟ لابد أنه سوء تفاهم، ولن أعتق الشرطي من العقاب أبدا، لأنه
أفسد ليلة الذئب..
عدل بكر من المرآة، حتى يبدو له وجه خالد الأسمر، وضوء القمر ينعكس على ملامحه
الرجولية متسائلا:
-لم تناديه بالذئب؟؟
ابتسم خالد وهو يجيبه بسؤال:
-ومتى ناديته بالذئب؟؟
رد سريعا:
-الآن قلت أفسد ليلة الذئب..
ضغط على حروفه قائلا:
-قصدت ليلتي اليوم فقد كنت سعيدا، قصدتني أنا
هز بكر رأسه وهو يوقف السيارة أمام مركز الشرطة، وكان قد وصل صلاح ويديه مكبلة
بالحديد..بدا جزعا لم يسبق له وأن عاش مثل هذا الإحساس حتى في كوابيسه..
توقف أمام خالد متوسطا رجلين من الشرطة، وهو يقول لخالد بنبرة متوسلة:
-أرجوك لا تؤذه..يا خالد..
وقبل أن يجيبه خالد دفعه الرجلان ليتقدم في سيره..ودلفا به إلى مكتب المدعي العام..
وقف أمام الرجل الأربعيني، والذي كان يتأمل بعض الأوراق التي كانت أمامه، وهو يقول:
-ماذا أيها المهندس؟؟
كان صلاح يدعك معصميه بيديه، بعدما أزاحوا عنه تلك الأصفاد، وهو يقول بنبرة هادئة،
لا تتناسب مع الوضع:
-هلي أن أعرف تهمتي؟؟
-حيازتك للمخدرات، ومائة حزام للعقاقير النفسية، مع عدد لا بأس
به من المحاضر المسجلة عليك..
لم يستغرب إلا من المحاضر المسجلة عليه..
-لست أفهم شيئا مما تقوله سيدي، لا بد أن هناك خطآ ما..
اقترب منه الضابط وهو يقول بصوت هادئ:
-لقد تم التبليغ عنك ولدي هنا –ألقى نظرة على أوراق أمامه- عدد لا بأس به من
المحاضر، كما أن الشرطة التي فتشت غرفتك وجدت فيها نسبة كبيرة من المخدرات ما
تجعلك تاجرا لها وليس مجرد مستهلك.
-سيدي أنا لا أتعاط لأي نوع من المخدرات
زفر الضابط بنفاذ صبر وهو يقول:
-أنصحك أن توكل محاميا..
والتفت لمحرر المحضر وهو يقول:
-وقد قررنا نحن الضابطة القضائية، محمد بنكيران، إقفال المحضر في يومه وساعته،
والتحفظ بالمتهم صلاح بنزينة إلى حين عرضه غدا صباحا على النيابة العامة
قفل المحضر...
-يرى الضابط وجوب توكيل محام..
نفث خالد سيجارته، وهو يقول من بين أسنانه:
-والتهمة..؟؟
بدا صلاح عاجزا وهو يلوح بيدين مرتعشتين:
-لست أدري يقول انه قد سجل علي عدة محاضر، و حيازة لكمية من المخدرات
-اسمع لا تقلق يبدو أنها تهمة ملفقة لك، يا صديقي..
مسح على رأسه وهو يقول:
-لست أدري كيف استطاع أن يفعلها أنور بي..
أجاب خالد من بين أسنانه:
-تبا له لن أفوتها له..
أجابه بتوسل:
-لا أرجوك خالد لا تؤذه..
أمسك قبضته بعنف وقبل أن يعترض سمع صوت سمرا وهي تسرع بخطاها لتعانقه بقوة
ودموعها تنزل على خدها..
مسح على شعرها الأسود وهو يقول في حنانه المعتاد:
-لا تبك يا غالية تعلمين أني لا أطيق صبرا لدموعك..
كانت تحاول جاهدة أن تسيطر على تلك الدموع، التي منعتها من رؤية ما حولها وهي
تجيب بصوت مخنوق:
-ما ذا وقع لكل هذا يا صلاح أخبرني؟؟
-سوء تفاهم ليس إلا يا حبيبتي..
ودفعه الضابطان ليتقدم في سيره، لم يمنحه الوقت للسؤال عن ليلى، أو والدته بل حتى
عمه البشير لم يأت ليدخل للزنزانة الموجودة بالمركز بالمدينة، وسط عدد لا بأس به من
المجرمين..
أهنا سيقضي ليلته بدل فندق هيلتون؟؟ حاملا معه كل هذه التساؤلات ؟؟
كيف تجرؤ يا أنور على فعل ذلك؟؟
وسط تلك الدموع القوية، التي اختلطت بكحلها حتى شكلت خطا أسودا شاهدا على معاناتها
صرخت بوجهه صرخة أدمت قلبه..
-أنت السبب أيها الحقير..أنت من فعل كل هذا بأخي..
تبادل نظرات رعب مع بكر الذي كان يقف مشدوها دون حراك فتقدم إليها محاولا تهدئتها:
-أرجوك اهدئي يا سمرا سيكون كل شيء..
دفعته بقوة لم تكن تعلم أنها تمتلكها، وهي تصرخ بهستيرية:
-كان يجب أن تكون أنت مكانه، وليس أخي كيف استطعت أن تفعل هذا به
كان يحاول وضع يديه على كتفها لتهدئتها لكنها كانت تدفعه كنمرة ألقوا بها داخل قفص
-لا تلمسني أيها الحقير عديم المروءة...أكرهك
أحس بألم في معدته، وبرغبة قوية بصفعها لكنه بدل ذلك سحبها من معصمها وهو يقول
ببرود:
-هيا يكفينا فضائح
تنصلت منه وهي تتلوى كأفعى لتبعد خصلات شعرها الأسود بتمرد:
-قلت ابتعد عني والفضيحة هي ما سأفعله إن لمستني مرة أخرى..
مرر يديه على شعره بعصبية، ثم نزع الكرافات التي كانت تشعره بالاختناق ليقول بحنق:
-فلتفعل شيئا يا بكر لا تقف هكذا كما الجماد..
أخيرا انتبه إليهما وكأنه كان في عالم آخر بعيد عنهما..
ليلتفت لسمرا التي كانت تبكي وجسدها يرتعد بقوة:
-سمرا تأكدي أنه مجرد سوء تفاهم وغدا سيتم الإفراج عنه صدقيني..
لم تجبه سمرا فقد سارعت لتضم عمها البشير الذي كان يتقدم ببطء ووجهه الشاحب يدل
على أنه سيقع في أي لحظة..
-أوووه عمي سيدخل صلاح للسجن
ربت على كتفها بحنان وهو يقول:
-لا تقلقي لقد اتصلت بصديقي وهو محام، سيأتي في أي لحظة..
قاطعه خالد بعنف وهو يقول:
-لقد وكلت له محام وهو..
لم تشعر سمرا بنفسها إلا وهي توجه له ضربات على صدره القوي، والتي لم تحركه أبدا
ولا حتى حاول أن يوقف ضرباتها إليه..
-فلتغرب عن وجهي أيها الحقير لم تجلب صحبتك إلا السوء لأخي..
-كفي عن ذلك يا سمرا تمالكي..
والتفت لخالد وهو يقول في تفهم:
-لا تغضب يا خالد أنت تعلم حب سمرا لصلاح، إنها في حالة نفسية صعبة الآن..
لم يبد على خالد الاهتمام بكلام العم البشير وهو يشعل سيجارته بعصبية لينفث دخانها في
الهواء وهو يتابع ذلك الدخان الذي اكتسح مساحة من فضائهما..
كم هي غريبة هذه الحياة، لم أكن أتصور أن يزج يوم بصلاح في السجن، والسبب
المخدرات..؟؟
إنها مهزلة كبرى..
وسمرا لكم تثيرين جنوني، وهذياني ليتك تتقبليني يوما، لكنت أرضى موتي تحت قدميك..
ليتك تعلمين كم يحترق صدري عشقا وحبا لك..ليتك تعلمين أن ما احمله لك من نار تسعر
بداخلي تستطيع ان تحرق الدنيا بكل ما تحمله من بحار وأنهار..
لكم تمنيت الموت ياغالية ألف مرة، على ان أرى دمعة من عينيك، تذرف..
لكم تمنيت ألف رصاصة تخترق صدري بكل وحشية، على ان أرى غضبك علي..
ليتك تعلمين ...ليتك تعلمين..ليتك تعلمين..
حينما وصل ذلك المساء، للمقهى كان الجميع يتأهب لعواء الذئب..
كان الجميع على اتم استعداد للهرب لمخبئه ريثما تمر هذه الزوبعة
التي ستحرق اليابس والاخضر..
بصوته الغليظ الذي بدات تخاف منه حتى قطط الحي..صرخ وهو يدفع باب المقهى
الخشبي..
-أنــــــــــــــور..
اتجهت كل العيون إلى ذلك الشاب الملتحي، الذي يفترش الأرض في ركن من أركان المقهى
بصمت تلك الأيام التي قضاها بعيدا عنهم، بصمت ذلك الحب الذي اتقد بقلبه اتجاه حبيبة
أخيه، بصمت تلك الجروح التي تئن بداخله، وذلك السر يأكله كما تأكل النار الحطب..
بصمت الجوع، وبصمت الفقر وبصمت الآه في قعر الصدر..
كان يضم ركبتيه لصدره، كما ضم ألمه وحزنه وحبه لمن لا تدرك بوجوده بين المتعلقين
على مشجب النسيان..
وقبل أن يسمح له خالد برفع بصره الدامع إليه، ركله كما تركل الكلاب الجربة، ليتأوه ألما
لم يستطع احد التدخل فخالد حينما يغضب يكون كالرياح العاتية، تقتلع كل ما يعترض
طريقها..
اكتفوا بالصمت وذلك الشاب تتطاير دماءه لتلوث ثيابه الباهيتة، كان يتلقى ضربات خالد
بعجز، ربما لأنه يعلم جيدا أن دفاعاته ستهزم، اور بما لان الألم الذي يشعر به هو أكبر
وأعمق من تلك الضربات..
كان يركله على بطنه بقوة حاجزا إياه في ركن، بالمقهى وأنور يحاول إخفاء وجهه عبثا..
وخالد يصرخ بقوة، وغضب في وجهه:
-لم أيها الحقير، لم تدبر له مثل هذه المكيدة..تبا لك..
انهار أنور وسط دموعه كما تنهار المرأة لفقد ولدها، الوحيد..لكن ذلك لم يشفع لخالد
ولولا أنه يحترم وعده لصلاح لكان قد قتله الليلة..
أشعلت نيران الغضب في قلبه، وهو يجد نفسه عاجزا لأول مرة على الوفاء بعهوده
فلم يجد مايشفي فيه غليله سوى تلك الكراسي والطاولات الهشة التي يتخذها كل العاطلون
وانصاف الرجال ممن يسعدون بقتل الوقت في المقاهي، والترزق من أكتاف زوجاتهن
اللواتي يعملن في البيوت، لتباهون في كل نهاية أسبوع بقنينة خمر رخيصة وقطعة
حشيش يعدلون مزاجهم بها..
كسر كل شيء أمامه وبعدها ركع أرضا، فقد أتعبه العجز، وهو يفكر بصلاح كيف ستكون
ليلته...
ليتني مكانك يا أخي...
كان صلاح يقف بلباسه الرسمي بعدما نزع حزامه، وكذا ساعته، وخيوط حذائه،
والكرافات السوداء، وهو يتأمل تلك الغرفة التي تنبعث منها رائحة البول والبراز..
يا إلهي أي مكان هذا الذي سأقضي فيه ليلي..
وبينما هو كذلك انضمت إليهم مجموعة من المتهمين، لتصبح تلك الغرفة أضيقا،
وتلك الرائحة النتنة التي اجتمعت برائحة العرق أكثر اكتساحا للهواء..
نقل بصره بالمكان، حتى استقر أخيرا على ركن صغير يجلس فيه، فافترش الجاكيت
السوداء ليريح ظهره ويغفوا..
ولم يفق إلا حينما امتدت يد إليه توقظه،
فرك عينيه بصعوبة والنعاس يغالبه، لقد نام كثيرا، واهتزت رموشه للشخص الذي
أيقظه من نومه...
لابد أنه يحلم..أجل لا بد أنه يحلم..