ورافقته بأبتسامة قائلة:
" أجل , تعرف أنني خيالية".
قال بأعتداد وبلهجته الخاصة:
" هذا شأن الأنكليز".
وبعد دقائق أضاءت البطارية بابا خشبيا , يفتح على سلم حجري , وقال بول محذرا:
" من فضلك, كون حذرة, السلالم متآكلة بفعل السنين , والآن أحترسي".
وأمسك بها عندما أوشكت أن تفقد توازنها ,ولمدة لحظة , في الضوء الخافت , ألتصقت به وأحتبست أنفاسها وأعتقدت أنه سيعانقها , لكنه أخلى سبيلها , وتابعت صعود السلم , محاولة ألا تبدو متعجلة , وتبعها في صمت حتى وصلا الى الخارج , حيث يوجد ممر يخترق حديقة تعلوها شرفات فسيحة ,وكانت أشجار السرو تملأ المكان بألوانها الخضراء والذهبية ,وأشجار الفلفل مليئة بالعصافير المغردة , وقال بول وهو ينحني ليجمع باقة من الياسمين ذي الرائحة العطرة ويضعها في شعر دومني:
" في الجانب الآخر من البيت غابة صنوبر".
منتديات ليلاس
وتدلى الياسمين من شعر دومني وأحاط بوجهها , وملأ برائحته أنفها , لكن ما معنى أن يتوجها بورود الحب في تلك الحديقة التي بدت معلقة فوق البحر , كأنه يريد أن يقول لها بدون كلمات , أنها في تلك الليلة ستكون لأول مرة وحدها معه في بيته.
كان البيت فوق قمة الصخرة , معزولا عن العالم , وكان يبدو غامضا في عيني الفتاة التي جاءت اليه عروسا , كانت جدرانه ذهبية , مع وجود سلالم تقود الى شرفة واسعة رصت حولها المقاعد والأرائك والموائد ,
وعدد هائل من الأواني تنبت فيها أنواع مختلفة من النباتات , ومن فوق السور لم تر دومني سوى هوة سحيقة عميقة يليها البحر والصخور , وتراجعت لاهثة بعض الشيء , ثم أستدارت لتواجه بول وهو يقول وقد مد يده السمراء اليها:
" تعالي.... دعيني أريك البيت".
وذهبت معه , وما زالت متوترة من منظر الهوة , ودخلت البيت ويدها في يده من خلال باب زجاج , وقال وهو يشير في أتجاه الغرفة الكبيرة بمقاعدها الوثيرة , ومراياها الأثرية القديمة قال:
" هذه هي غرفة الأستقبال".
ثم أستدار ناحية المدفأة الحجرية وسألها:
" هل أعجبتك؟ الليل هنا بارد والأنكليز يحبون النار في المدفأة أليس كذلك؟
ورمته بنظرة طويلة , فجأة بدا لها أكثر غرابة من أي وقت مضى وأومأت برأسها بسرعة ردا على سؤاله , ثم أدارت بصرها بعيدا عنه , الى الجانب الآخر , حيث رأت سلما خشبيا نصف دائري يقود الى منصة يرتكز فوقها بيانو , كان سواده لامعا , وكان يبدو رائعا , ورقت نظرات دومني ,كان البيانو من وسائلها الترفيهية المفضلة , ورغم أنها لم تدرس العزف,ألا أنها كانت ذات أذن موسيقية , وكان عمها يحب أن تعزف له على البيانو القديم في فردان.
وهمس بول:
" هل أعجبك يا دومني؟".
وأومأت بالأيجاب , ورغبت في الجلوس أمامه , وأن ترفع عنه الغطاء اللامع الذي يحجب عالما كانت تستطيع دائما أن تنسى فيه نفسها .
وقال بول:
" أنه لك".
وأستدارت تنظر اليه بعينين مرتابتين وهي تقول:
" لي أنا؟".
أبتسم قائلا:
" جيء به من أثينا منذ ثلاثة أسابيع , أما هذه المنصة فكانت لأستعمال جدي الخاص , حيث كان يوجد مكتبه المهيب , وفي الواقع فأن هذه الغرفة كانت مكتبا , وهذه القطع من الأثاث جمعتها من أركان غريبة في البيت وأمرت بتنظيفها ونظفت حتى أستعادت لمعانها , وهذه الأبسطة من جلود الدببة كانت في غرفة المختلفات أيام زوجة أبي.... آه ... ولكنك لا تهتمين بهذا كله!".
ولمست معصمه بحياء , حيث الشعر الذي يحيط بالساعة , وقالت:
" بالعكس يا بول , هذه الغرفة رائعة , ولكن أخبرني , ما هذه الكلمات المحفورة على حجر المدفأة؟".
وسار نحو المدفأة ,وتبعته ,ولاحظته وهو يمر على الحروف اليونانية بأصبعه قائلا بصوت خافت خال من التعبير :
" هذه الكلمات تقول: تحدوا قوى الظلام مثل أبوللو".
همست وهي تفكر في عجز بول عن مواجهة الضوء القوي , أو أشعة شمس اليونان التي يحبها:
" أبوللو كان رمز الضوء".
وتذكرت أنهما أستمتعا مرات عديدة بحمامات الشمس على شاطىء يبعد عدة أميال عن أثينا ,حيث يدفن وجهه في الرمال , ويترك بقية جسده للشمس التي توجه الطعنات لعينيه ما لم يحمها خلف النظاراتين , وأحست دومني أن لذلك علاقة بالضوء الذي تعرض له , والذي نتجت عنه تلك الندبة المخيفة فوق عينه اليمنى , وسألته:
" متى سأرى أختك غير الشقيقة؟".
وكانت قد فهمت من أحاديثه أنه يحب هذه الأخت كثيرا , لكنه لم يكن على وفاق مع أمها , وكانت أمه قد ماتت وهو في الرابعة من عمره , وأخوه ما زال طفلا , وتزوج والده بعد ذلك بسنوات , وكانت كارا ثمرة هذا الزواج غير السعيد , وقد مات والد بول فجأة أثر أزمة قلبية , بينما كان يقود يخته في البحر الأبوني , وكانت زوجته معه فغرقت عندما فقد اليخت توازنه وهو تحت قيادة رجل فارق الحياة.
وكانت كارا تعيش مع عمة بول , لأن مسؤوليات العمل كانت تبعده كثيرا عن أنديلوس , وخططت دومني أن تستضيف الفتاة خلال عطلات نهاية الأسبوع , لقد أحست غريزيا بأنهما ستكونان صديقتين.
وقال بول:
" سنذهب غدا لنرى كارا والعمة صوفيولا , والآن لنكمل جولتنا في بيتك الجديد يا سيدة ستيفانوس".
بيتها الجديد! كان مليئا بالممرات والأبواب غير المتوقعة , والأثاث الداكن , والأبسطة اليونانية المصنوعة يدويا ,وأخيرا الغرفة التي ستنام فيها , الغرفة المجاورة مباشرة كانت غرفة بول, وقد أستقرت حقائب كل منهما في حجرته , وذهب هو ليأخذ حقييبته الصغيرة الخاصة وظهر من جديد قائلا أنه سيهبط الى الطابق السفلي ليعمل ساعة أو ساعتين , ووقفت تختبر بأصابعها المشاغل الأيطالية الجميلة الموضوعة على مائدة زينتها , ثم قالت:
" شكرا يا بول على البيانو".
وعكست لها المرآة صورته , كان طويلا فارعا , وكان رأسها بمحاذاة قلبه , وجذبها نحوه وهو يطوق خصرها , وهمس في طيات شعرها الناعم حيث كانت باقة الياسمين ما زالت معلقة وقد أنتشر شذاها :
" الآن يا دومني تبدأ حياتنا معا بالفعل".
وألتقت نظراتهما في المرآة , ودب الأضطراب القديم في أعماق دومني عندما لمحت نظرة الرغبة في عينيه النحاسيتين.
ثم دار في غرفتها وسألها:
" هل أعجبك مخدعك؟".
قالت وهي ترتعش:
" أنه جميل جدا".