7- يملأ عالمها
تأملت جاكلين الصورة بدقة , ثم وضعتها على الخزانة الصغيرة , محاولة أن تجد ما تقول , كان ماتيو مضطجعا على سريره يراقبها , ناداها ضاحكا:
" تعالي الى هنا يا جاكي, لا تقفي هكذا".
لم تستطع تحريك قدميها , ولم تستطع أن تنظر اليه , بدا كشخص غريب الآن , تملكها شعور غريب لم تستطع أدراكه , ترى هل هو الغضب ؟ أم الأسف؟ أم الزن؟ لم تكن متأكدة من ذلك , لاحظ ماتيو ترددها , فربت بيده على الفراش وقال:
" تعالي أجلسي هنا... لا تخشي شيئا".
جلست على حافة السرير ترتجف بردا , جاء صوت ماتيو قاطعا حبل الصمت:
" كانت دايانا عارضة أزياء , هل علمت هذا؟".
أجابته بصوت هامس وكأنها لا تريد التحدث عنها ,ولا الأستماع الى رأيه فيها:
" نعم".
" كانت جميلة , وناجحة جدا , تعرفت عليها في كينيا , هل زرتها؟".
"لا".
تمنت أن ينهي الحديث عنها ,أرادت أن تنهض , وتمضي لشأنها ,ولكن شيئا ما كان يشدها الى غرفته وكأنها لاصقة بالسرير.
" ذهبت دايانا الى كينيا في رحلة عمل , حيث كانت تقوم بعرض نماذج من ملابس الصيف الجديدة , أرادوا أن يصوروها في بلاد مشرقة حيث تتجول الفيلة والأسود في خلفيات المشهد".
لم تتفوه جاكلين بكلمة , ولم يكن لديها ما تقول , بل كانت تحس بعصبية قماش غطاء السرير الملون المفتول باليد , وعيناها مأخوذتان بألوانه الزاهية , البرتقالي والأزرق والأخضر , جذبها صوت ماتيو يقول:
" طبعا لم أدرك أن أفكاري تختلف عن أفكارها في ذلك الوقت , كنت أحب ذاك الشعر الأحمر ولم أر سواها ( ضحك بمرارة وتابع) أما هي فقد وقعت في غرام سيارتي اللاندروفر , كانت لديها أفكار جنونية تتعلق بنمط معيشتي , ظنا منها أنني أحد الصيادين المتألقين البيض".
همست جاكلين في سرها ألا يدرك وبسهولة أنه يبدو كأحد الصيادين البيض بجسمه القوي المحروق بأشعة الشمس , وبوجهه المربع الصارم وعينيه السوداوين اللتين تعكسان مسحة من الغرور والتعالي , لم يبق ألا أن يرتدي ثياب الصيادين , ويركب سيارته اللاندروفر حتى يغدو المشهد عندئذ حقيقة , لكن جاكلين متأكدة أن عمله في كينيا تطلّب منه كل أوقاته بمزيد من الجهد والعناء فأنى له الفرصة المناسبة ليمارس هواية الصيد ألم تدرك دايانا هذا يا ترى؟
وفجأة تابع ماتيو:
" لم يكن الأمر سيئا في البداية فنيروبي مدينة زاخرة بكل متطلبات الحياة ,أستطاعت دايانا أن تقوم بأشياء كثيرة دون ملل , ثم أتت الى هنا , هل تستطيعين تخيل فتاة مثلها في هذا المكان؟ تصوري أنها لم تجد أحمر الشفاه المناسب , فكرهت المدينة وكرهتني لأنني لم أحقق لها آمالها ,كانت تنتمي الى مجتمع نيويورك بكامل تدفقه الحضاري , حرك رأسه ,ولم ينظر الى جاكلين , وكأنه قد نسي وجودها على الأطلاق , أما هنا فلا شيء ينتمي اليها , ( وفجأة ضحك ببرود وتابع بصوت ينم عن أحتقاره لنفسه ) أردت أن أتزوجها ... فتاة بتلك الأوصاف , كم كنت مغفلا , قالت أنها لا تؤمن بالزواج وخاصة الزواج التقليدي المرتبك بالجذور القديمة من عقد وتسجيل وغير ذلك , ثم قالت أنني رجل تقليدي وأنظر هكذا للحياة , وكالمغفلين أقنعت نفسي أنها ستبدل رأيها وتعود الي, ( حملق بجاكلين وسألها) ترى هل تقبلين أنت الزواج مني؟".
خفق قلبها بشدة وقالت:
" ماتيو... أنا... أنا..".
فقاطعها قائلا:
" أن أشياء كثيرة تلائمك هنا أكثر من دايانا , أنت تحبين هذا المكان ولا تخافين من الزواحف , تأكلين الطعام , ولا تصرخين مزمجرة لعدم توفر بعض الأشياء , ولا تتذمرين من نقص الخدم , ولا تشكين الملل ,( ضحك بطرف فمه) ولديك كتاب السحر يعلمك كيف تصنعين سائلا للجلي وتهتمين بعملك ( حملق بالسقف وأضاف) لم تهتم دايانا يوما بعملي , بل كانت تسخر مني وتطلق علي أسم : ماتيو منقذ العالم".
كانت عينا جاكلين متعلقتين بثنايا وجهه الى جانب فمه , وبشفتيه المعبرتين عن يأس مريع , فأعتراها حزن عميق مؤلم ,ونظرت في أرجاء الغرفة تتفحصها ,ولكنها بالحقيقة لم تر شيئا ,ألتزم ماتيو الصمت , وعندما نظرت اليه ثانية كان مطبق الأجفان , فظنت أنه نائم ,وعندما حاولت أن تنهض , أمسك بيدها وسحبها الى جانبه , أحاطها بذراعيه , وتلعثمت كلماته وهو نصف نائم وقال:
" لا تذهبي يا جاكي رجاء أبقي معي".
منتديات ليلاس
كان رأسها يدور , والدماء تغلي في عروقها حتى سمعتها بأذنيها , وغدا صوتها أعلى من نقيق الضفادع في الخارج , كانت تخشى ضخامته , وفجأة أعترتها رغبة جامحة في أن تلصق وجهها بوجهه , وأن تبقى معه حتى الصباح , أخافها هذا الشعور , فأدارت وجهها الى الجانب الآخر.
" لا شك أنني مجنونة.... لا شك أنني فقدت عقلي ".
وعندما نام نوما عميقا مسترخيا ... ترك يدها , فأنسحبت في هدوء , وعادت الى غرفتها.
كان الصباح براقا ومنعشا وحارا كثيرا , أتى ماتيو لتناول الأفطار كعادته واثقا من نفسه وأردف:
" يجب أن أعتذر عما بدر مني بالأمس يا جاكلين , فلم يكن من عادتي أن أفقد توازني لأي سبب".
أجابته بهدوء:
" أعلم هذا".
تأملها لبرهة بعينين باردتين وأردف:
" أنني واثق أنك تعلمين ذلك".
لم يكتف بهذا القدر من الأعتذار اللطيف بل تابع حديثه :
" آسف كنت مزعجا أمس".
ردت جاكلين :
" لم تكن غير متزن, ولم تكن مزعجا ,ولكن طرأ عليك تغيير بسيط".
" لست واثقا بما حدثتك أمس ,ولكنني مستعد أن أسرد لك الحقائق الآن".
عضت جاكلين شفتها ونظرت الى طبقها وقالت:
" لا أرجوك , لا تفعل , لست مضطرا أن تشرح أي شيء ... أنس ما حدث".
شعر ماتيو بأضطرابها ... ولاح شبح أبتسامة على فمه وهو ينظر اليها ثم أردف:
" هل كان ما قلته سيئا للغاية؟".
" لا على الأطلاق ... ولكن...".
" أذن... ما الأمر؟".
فكرت لحظة كيف تترجم شعورها الى كلمات؟ قد تكون الصراحة المطلقة أسهل وأفضل طريقة للتعبير فقالت:
" طلبت مني أن أبقى بغرفتك , وحدثتني عن أشياء لا تخصني , كنت مسترسلا في سرد الأخبار , فلم أوفق في أن أجعلك تلتزم الصمت".
" حسنا( شرب قهوته وقال) لنبسط الأمور أذن لقد أخبرتك أنني أجتمعت بديانا في كينيا قبل قدومي الى هنا بوقت قصير , وأردت أن أتزوجها , كان لديها أتجاه آخر , عاشت معي لفترة , ولكنها لم تحتمل العيش هنا , لهذا سافرت , لقد أستلمت منها رسالة بالأمس , تخبرني أنها لن تعود , وأن علاقتنا قد أنتهت , لقد أنتقدت في معرض رسالتها طريقة معيشتي وأفكاري , لا بل لم تنتقد فقط بل شرحت ما عندها مما أفقدني توازني , لا أعلم لماذا أستأت هكذا مع أن الأمر متوقع , وأنه لمن الغباء أن أور بهذا الشكل فهي لا تستحق ذلك , وها أنذا أعتذر منك".
أتى صوته باردا وهادئا وكأنه يروي قصة لا تمت اليه بصلة , نظرت جاكلين اليه , بعينين حائرتين , أذ كانت الأفكار تتلاطم في رأسها , بينما شرب ماتيو آخر نقطة من قهوته ونهض قائلا:
" لنذهب الى المكتب".
أنصرم الأسبوع الذي تلا هذا الحديث كما أقبل , بدون أن يجلب معه ألا الأمطار والرطوبة.
لم يعد ماتيو يشير الى تلك الليلة التي تكلم فيها عن دايانا , وأفضى عندئذ بما يجول في نفسه, لكن جاكلين لم تستطع أن تطرد من مخيلتها الجملة التي كانت دايانا تنعته بها : ماتيو منقذ العالم.
وجدت جاكلين هذه الكلمات قاسية جدا , لأنها لمست من خلال أحتكاكها المتواصل بماتيو أنها لا تنطبق عليه , فهو لا يعمل من أجل الشهرة ,ولا لجمع المال ولا يعتقد أنه مسخر لخدمة البشرية في أفريقيا , أن مثاليته لا تتعارض مع المنطق السليم , أو حقيقة العالم المادي , كان مقتنعا في أعماقه بمبدأ المساواة , وأن تتاح جميع الفرص المتكافئة لتحقيق كيان محترم , لقد سخرت دايانا من مبادئه , وأخطأت في فهمه , لذا نعتته بتلك الصفات , ما الذي دفعها الى ذلك؟ رغبتها في أيلامه؟ أم غيرتها؟ لم تفهمه جيدا , لأنها لم تمتشف أهمية العمل بالنسبة اليه , ولم تستطع أن تشاركه هذا الشعور بل سخرت منه , فحياتها كعارضة أزياء تؤهلها أن تفهم ماتيو ,في أحدى الأمسيات , تناولت جاكلين كتابا تقرأه , لكنها لم تستطع فهم ما قرأت فقد كان السؤال نفسه يجول في خاطرها :
هل يحب ماتيو دايانا فعلا؟ طبعا أنه يحبها , كانت ترفض بأصرار أحيانا هذا الواقع مصفوعة بغيرة عنيفة , هل ما زال يحب دايانا مع كل هذه الأختلافات بينهما؟ لم تشأ أن تسأل نفسها هذا السؤال , ولكنه كان جاثما بين طيات دماغها منذ زمن طويل , وأذا كان لا يحبها ؟ فلماذا أستاء من رسالتها الأخيرة؟ وأختفى ساعات ليعود مصعوقا ومهتزا وحائرا , لقد تكلم عنها تلك الليلة , لكنه لم يسرد صفاتها ,ولم يتغزل بها.
أقترب عيد ميلاد جاكلين الواقع في الواحد من شهر آب , وأصبح قاب قوسين أو أدنى , فبدأت تشعر بالأشياء , لأنها تريد تناول العشاء في مكان ما خارج المنزل , لكنها لا تستطيع أخبار ديفيد بذلك اليوم أذ ستضطره أن يشتري لها هدية وهذا ما لا تريده , أضطربت جاكلين وبدأت تقنع نفسها بأن عليها أن تتصرف بحكمة , وليس كطفلة صغيرة في الرابعة من عمرها يرضيها قالب كاتو وبعض الشموع , أتى يوم عيدها ,ولم يحصل معها شيء يذكر , شعرت بالوحدة والألم لأنها منبوذة ومنسية , حتى أنها لم تستلم تهنئة من والديها ... قد تأتي غدا , كانت تعد نفسها بيوم غد , سيطر عليها حزن عميق , ولم تستطع أن تفهم ضحكات ستيفن ولا طرائفه المتعلقة بالنعاج الشاردة , لا شيء أستطاع أن يخلصها من رثاء ذاتها .
كانت الساعة تشير الى الخامسة عندما أحضرت بيشنس مذكرة من ماتيو كتب على المذكرة: هل من مشاريع الليلة؟
حملقت جاكلين بالأحرف المنتشرة على الورقة ,هل عرف ماتيو أن اليوم هو عيدها , لماذا لم يذكره لها , ولم يشر اليه من قبل , رفعت كتفيها , لا أنه لا يعلم ,والأرجح أنه يستفسر أذا كان بأمكانها أن تعمل ساعات أضافية في المكتب , أو أنهما سيدرسان مشروعا مفيدا هذه الليلة معا في المنزل , كالمرتين الماضيتين , لا بأس.... لن يؤثر هذا في شيء حتى ولو عملت ليلة عيد ميلادها ,لاحظت أن بيشنس ما زالت تقف أمام مكتبها وبسرعة دونت( لا....ليس لدي أي أرتباط)ثم أعطت بيشنس الورقة قائلة:
" أعطي هذه للسيد سيمونز من فضلك".
أبتعدت بيشنس وسمعت جاكلين صوت حذائها عبر غرفة الأستقبال , رتبت جاكلين مكتبها , وتأبطت حقيبة كتفها , يجب أن تذهب الى المنزل أولا كي تأكل شيئا , كان ماتية يقف في الرواق ,بأتجاه غرفتها بخطى طويلة ووثيدة , أنها تستمتع بالنظر اليه والى تحركاته , رافعا رأسه ومبتسم , لم يكن أنيقا ,ولكن شخصيته الصارمة جذبتها اليه , أنها دوما تخشى من هذا الأنجذاب , قال وهو يدعوها للعشاء:
" حسنا , أذا لم يكن لديك ما تعملينه الليلة , فما رأيك أن تنتاول العشاء خارجا , ونبتعد هذه الأمسية عن طعام كويسي الرائع؟".
أجابت بهدوء:
" أتمنى ذلك".
قطب جبينه وسألها:
" أين ديفيد ؟ ل هو خارج المدينة؟".
" لا , أن ديفيد في أكرا كما أعتقد".
زاد من تقطيب جبينه :
" أخبريني , أين تريدين أن نذهب؟".
" أي مكان تريد عدا مطعم كودي كودي حيث يتناول به معظم الموظفين الغانيين طعامهم لقربه من المكتب".
ضحك وقال:
" لم أكن أفكر بمثل هذا المكان , أنني أفكر بمكان متطرف ".
" أذن أنني أفضل كومودور , كم أتمنى أن أتناول بعض المأكولات اللبنانية كالتبولة والكبة والحمص".
" حسنا , سنذهب اليه أذن".
لم يشر الى عيد ميلادها , وما زالت جاكلين مرتبكة , لماذا يدعوها للعشاء؟ قال ماتيو:
"ليتك تتركين شعرك منسدلا فهو جميل".
كان شعرها طويلا ومتموجا ومنسابا حتى خصرها , لن يضايقها , ولن تشعر بالحر بسببه ما دام المطعم مكيفا , وشعرت وكأنها فتاة مراهقة تلبي أول دعوة من صديقها للمرة الأولى , لم تدرك لماذا كانت تشعر بالخجل وبالسرور معا عندما أخذ ماتيو يطري شعرها.
طلب ماتيو عشاء فاخرا مع بعض المرطبات الباهظة الثمن , وعندما أحتجت جاكلين ضحك ماتيو وقال:
" هل يحتفل أحد بعيد ميلاده بلا مرطبات فاخرة؟".
سألته ضاحكة:
" كيف علمت أن اليوم عيد ميلادي؟".
ضحك بدوره وقال:
" من الملف الخاص بك, فعندما عهدت اليك بعملك الجديد في الشهر الماضي , كان علي أن أعود الى ملفك من أجل الترقية التي حصلت عليها , عندها لاحظت تاريخ ولادتك".
وضع يده في جيبه وأخرج منها علبة صغيرة دفعها اليها عبر المائدة قائلا:
" وهذه هي هدية العيد لأفضل مساعدة أدارية في أفريقيا الغربية ".
سكتت وكأنها مصعوقة ثم نظرت الى العلبة دون أن تلمسها , أبتسم لها وقال:
"ألا تريدين أن تري ما بداخلها؟".
أعترضت قائلة:
" لا ... لا أستطيع أن أقبلها".
أجاب بسخرية ممزوجة برعب:
" لا تخبريني أنك تريدين أن نتشاجر هنا وأمام الناس؟ ماذا سيظنون ؟".
وعندما لم تجبه ألتقط العلبة ,وفتحها ثم وضعها بالقرب من طبقها .
" هذه هدية مني لك , أرجو أن تقبليها".
أخفضت جاكلين عينيها , ونظرت الى العلبة , أقراط صغيرة ناعمة من الذهب الصافي الذي صنع في غانا , وبحذر رفعتهما ووضعتهما على راحة يدها وهمست:
" أوه يا ماتيو , ولم هذه الهدية الباهظة الثمن؟".
" ألم تعجبك؟".
" أوه رائعة... ... أنها جميلة ".
" ولكنني أحب أن أراها تتمايل في أذنيك , أخذ منها الأقراط وقال :
" أحب أن أضعهما لك بنفسي".
أخجلتها الذكريات فتضرجت وجنتاها أحمرارا:
" لا تحرجني يا ماتيو... أن المكان مظلم ,ولن تشاهد بشكل جيد ".
" هل تراهنين ؟".
دار حول المنضدة , وجلس على كرسي بالقرب منها :
" ألتفتي الي".
كانت عيناه تعانق نظراتها , فقررت أن تتابع هذه اللعبة معه , رفعت يدها ونزعت القرط الذي كان في أذنها ,فرفع لها شعرها عن وجهها , شعرت ببرودة يديه عندما لمس وجنتيها الدافئتين , وقرب وجهه كثيرا منها وهو منهمك بعمله , أقلقها أقترابه منها , كما كان يحدث دائما ,وبدأ قلبها ينبض بجنون.
وضع ماتيو الأقراط بسرعة , ولم يواجه صعوبة في ذلك , وعندما أنتهى لم يتحرك بل نظر اليها :
" أنك جميلة , خاصة عندما تحمر وجنتاك هكذا".
" أشكرك".
" عيد سعيد يا جاكي".
كانت مسرورة وسعادتها تفوق الوصف , ضحكت في وجه ماتيو وقالت:
"ولماذا أخترت هذه الهدية؟".
" هدية السلام , لأنني كنت غبيا بشكل لا يغتفر له عندما وصلت الى هنا , ولأشكرك على لطفك لأنك أستمعت الي وأنا أفضي اليك بأسراري , كنت في حاجة ماسة الى البوح لأي شخص بما يقلقني ويقض مضجعي".
" أشكرك يا ماتيو , أنني مسرورة جدا".
لكنها شعرت بالذنب أيضا , فلم تكن بريئة هي الأخرى لأنها تركته في حيرة من أمرها ,ولم تخبره عن حقيقتها , وعن عملها السابق حتى وصل الملف الخاص بحياتها فأكتشف ذلك بنفسه.
" أنني مسرور ".
أمسك شوكته وبدأ طعامه.
وضعت جاكلين قليلا من التبولة على ورقة خس , ثم وضعتها في صحنها وقالت:
" ماتيو".
نظر اليها نظرة ضاحكة أسرت عينيها:
" نعم".
" أريد أن أعتذر لك بدوري ".
" تعتذرين ولماذا؟".
" لم أكن أنا أيضا صريحة ,كان علي أن أحدك عن خبرتي في العمل ,تركتك تعتقد أشياء خاطئة , فقد كنت حمقاء".
" أعلم ".
منتديات ليلاس
بدا في عينيه لمعان داكن وعميق , دعينا ننسى الآن , أنني أعرفك جيدا الآن".
توقف قلب جاكلين للحظة:
" ماذا تعرف؟".
" أعرف أنك تحبين عملك , وتقومين به بأخلاص , يا جاكي لا أريد أن أفقدك ولو كلفني ذلك العالم بأجمعه".
هذا ما تتمنى فعلا أن تسمعه منذ أن عملت معه , فأن باح لها بشيء , فقد قال لها ما تريد , أعتراها قلق غامض لشيء تجهله ولم تدرك كنهه , فشعرت بالأنزعاج , ماذا كانت تتوقع أذن , أخذت تتساءل.
" دعينا ننسى البداية السيئة ..... أنني أجد أن الأمور غدت أفضل في الآونة الأخيرة".
" نعم".
وتابعت طعامها.
لم يكن المطعم مزدحما , وقد أضفت الشموع عليه جوا وديا وعاطفيا , مما جعل جاكلين تتأثر بهذا العشاء الفاخر , وتستمع بأهتمام الى ماتيو وهو يروي لها قصصا مختلفة عن طفولته : منها المضحك ومنها الحزين.
وصلا الى المنزل في وقت متأخر من الليل , ففتح لها ماتيو الباب الواصل الى غرفتها ,تأملته ,كان طويلا جدا , سيطر على حواسها , فشعرت برغبة جامحة لعناقه , شعور لم تستطع أن تفهمه قالت:
" لقد أمضيت أمسية سعيدة يا ماتيو أشكرك".
بدت نظراته دافئة وباسمة:
" حسنا , لقد أستمتعت بصحبتك يا جاكي , أنك صديقة لطيفة ".
لم يتحرك أحد منهما ,شعرت جاكلين بعودة الشرارة وبالأهتزاز في أعماقها.
أخفضت عينيها , ونظرت الى سترته الحريرية المطبعة بمشتقات اللون الأخضر , أرادت أن تخفي وجهها في صدره وأن تشعر بيديه حولها .
رفع رأسها برقة ,فأزداد أختلاج قلبها , ألتقت عيونهما ... وأمتلأت نظرته بالحنان وبشيء آخر لم تفهمه , وفجأة تغيرت عيناه ... أصبحت نظرته داكنة , ومبهمة , أنزل يده عن وجهها بقل وقال:
" تصبحين على خير يا جاكي".
" أشكرك من أجل الأقراط".
ضحك ضحكة خفيفة وقال:
" أنه من دواعي سروري يا جاكي أن أشتري لك أقراطا".
لم يبق ألا أن تغلق الباب , أتكأت عليه ... داهمها شعور بالحزن , مشت ببطء الى الحمام ونظرت في المرآة , بدا وجهها حزينا , لكن الأقراط أضفت عليه لمعانا خفيفا تحت أنعكاس الضوء , وللحظة تأملت نفسها في المرآة , ثم ما لبثت أن غطت وجهها بيديها , همست :
"لا ... آه...لا..."
لقد وقعت في حب ماتيو , لن تستطيع أنكار هذا أكثر من ذلك , لقد نمت مشاعرها في أعماقها تدريجيا , ولكنها للآن لا تريد البوح بذلك , شعور عميق خاص ... لا يقاوم , أنه الحب.
لم تكن لمساته تلك التي جعلتها تشعر بهذا الدفء , كانت تحب كل ما حوله , عمله , ومشاعره ومعتقداته , وشخصيته , وقوته , وكبرياءه الذي سمح له أن يعتذر منها , لتصرفاته الخاطئة , وعلاوة على ذلك أنها تحب لحظات ضعفه وعناده وأنفعاله.
وعندما أضطجعت في سريرها , أخذت تفكر لماذا تخيفها حقيقة مشاعرها الى هذه الدرجة , يقولون أن الحب أحساس ممتع ورائع يحيي القلوب والأوصال , ولكن هل هي حلاوة لا تدوم , لاح أمامها الشعار الذي حملته الشاحنة : لا ليس الحب لذيذا دوما.
تتالت الأيام على ما هي عليه , ألى أن فاجأها ماتيو يوما قائلا:
" أريد أن أقضي أجازتي في الولايات المتحدة , هل لك أن تتدبري أمر البطاقة والحجز؟".
أجابت كالأغبياء:
" أتسافر الى الوطن؟".
" ألا تظنين أنني بحاجة لزيارة الوطن".
" نعم... نعم.... طبعا".
وسرحت وهي تفكر أن ماتيو سيعود الى الوطن , سيسافر مدة شهر , ليته فكر في الذهاب قبل الآن , أما الآن فأن مجرد التفكير بسفره لا يطاق ثم تابع وهو يضحك:
" ألا تريدينني أن أذهب؟".
" أنما كنا أفكر ماذا سنفعل خلال غيابك؟".
" أنني متأكد أنك والزملاء تستطيعون أن تتدبروا الأمر بشكل لائق".
" ومتى ستذهب؟".
" من منتصف أيلول وحتى منتصف تشرين الأول".
أعطاها بعض التفصيلات ,وعاد الى مكتبه ,وفي أحد الأيام أتى مينيلا الى المكتب مع كوني الممرضة , فحصلت بعض التغييرات , أتي مينيلا الى أكرا لأنهاء عمل له وقد نزل عند بعض أقربائه , تحدث مع ماتيو وقدم له أعتذاره , لأنه لم يكلمه فور وصوله , طلب ماتيو من كوني أن تنام في غرفة الضيوف , تركت جاكلين عملها لتصحبها الى المنزل , مكثت كوني أسبوعا عندهما , أستغرق حصولها على الأدوات الطبية يومين , حتى أستلمتها من الميناء مما أثار غضبها , كان ماتيو وجاكلين خلال مدة مكوثها معهما يستمعتن الى التفاصيل الدقيقة جدا عن ضروب المحنة التي ألمت بها , وعلى الرغم من أن جاكلين سرت بزيارة كوني , ألا أنها تنفست الصعداء عندما غادرتهما أخيرا , كما أن ماتيو رفع عينيه نحو السماء بأرتياح , ضحكت جاكلين وقالت:
" ولكنها في الحقيقة لطيفة يا ماتيو".
" صحيح ,كادت ثرثرتها أن تصيبني بالجنون".
غادر ديفيد بعد أسبوع متجها الى كينيا , حيث سيعمل ستة أو سبعة أشهر , كانت الأسابيع الأخيرة فوضوية وغريبة , حتى أن جاكلين شعرت أنها تكافح بذهول هذه الأيام , وتشعر بعدم توازن , عملت جاكلين جاهدة , ولساعة متأخرة من الليل , كي تنهي أكبر قدر من الأعمال في الأسابيع التي سبقت سفر ماتيو , فأنجاز العمل أثناء وجوده سيخفف من أعباء العمل , أرادت أن تشغل نفسها كيلا تفكر بأمورها الخاصة , وفي المساء كانت تقرأ كي تنام , وصلها بعد عيد ميلادها بيومين عدة كتب من والديها كهدية , أيقن والداها أن الكتب ملكية ثمينة في بلاد لا يتوفر فيها الكثير من مجالات التسلية , حان سفر ماتيو فقادته جاكلين في الصباح الباكر الى المطار , أخذت تراقب الناس بينما وقف ينتظر دوره لتفتيش حقائبه , أجتمع جمهور متنوع من المسافرين في بهو المطار من أفريقيين , وأمريكيين , مرتدين ثيابا رائعة , بما فيهم جماعة من اللاعبين الرياضيين ونساء من نيجريا بجدائلهن المتقنة, تلألأت أقراط وسلاسل الذهب في أذانهن وعلى صدورهن , كانت أمتعتهن محزومة في سلال وعلب مربوطة بالخيوط , أنها لا تمل أبدا مراقبة الناس.
أعلن وقت أقلاع الطائرة , فحمل ماتيو حقيبة يده وقال:
" لا تنتظري يا جاكي... لأننا سنبقى في قاعة الترانزيت مدة من الزمن".
قالت بصوت طبيعي لم تخالطه ثورة أعماقها:
" حسنا , تمتع بعطلتك".
ضحك في وجهها , وربت على كتفيها قائلا:
" حظا سعيدا يا جاكي , سأراك الشهر المقبل".
راقبته حتى غاب عن أنظارها ,م أدارت وجهها تحاول أن تبتلع لعابها على الرغم من تقلص حنجرتها ,وببطء ذهبت الى الشرفة , دفعت الى الفتاة التي تقف عند الباب خمس قطع نقدية صغيرة , بدت الطائرة ضخمة ... حدقت بها جاكلين لمدة , بدأ الركاب يصعدون متن الطائرة , , وهي ما زالت على الشرفة , راقبت ماتيو وهو يتقدم بخطى ويدة يصعد الدرج ثم يختفي داخل الطائرة , شعور بالوحدة سيطر عليها , وأمتلأت عيناها بالدموع :
" أنك غبية".
همست في أعماقها , مجنونة وحمقاء غبية , دارت وخرجت من المطار وكل شيء يهتز من حولها , والألوان تضطرب أمامها , لم تكن قد أبتعدت كيرا عندما سمعت صوت الطائرة يشق عنان السماء , هطلت دموعها بدون توقف , لم تستطع جالين أن تواجه المنزل الموحش أو المكتب , وعند مفترق ساحة داكاه أنعطفت نحو اليسار بأتجاه بيت ليزا.
حيّت المشرف على منزل ليزا وقالت عندما دخلت المطبخ:
" صباح الخير يا غوردسون هل السيدة تورنر موجودة؟".
" أنها في غرفة الجلوس يا سيدتي".
كانت ليزا جالسة على الأريكة تنظر الى مجلاتها المكدسة , نظرت الى الأعلى وما أن رأت جاكلين حتى بدت دهشتها واضحة , ألصقت نظارتها بوجهها وهي تحييها:
" أهلا جاكلين , ماذا تفعلين هنا في منتصف أيام الأسبوع ؟ وخلال ساعات العمل هل طردك رئيسك؟".
أجابتها جاكلين :
" لا".
دفعت ليزا بالمجلات جانبا ثم سألت جاكلين:
"تشربين القهوة معي أليس كذلك؟".
" أجل بكل سرور".
ذهبت ليزا لتعطي تعليماتها لغوردسون , وعندما عادت نظرت الى جاكلين وعلى وجهها تعبير قاس , وقالت لها:
" حسنا , أليس اليوم موعد أنطلاق الرئيس الى وطنه؟".
جاء صوت جاكلين هزيلا يفتقر الى الحماس وأجابت:
"نعم , لقد عدت لتوي من المطار , لم أرغب أن أعود فورا الى المكتب , سأحتفل معك بأرتداد حريتي المفقودة ونشرب فنجانا من القهوة".
علقت ليزا ضاحكة:
" شيء معقول فعلا".
دخل غوردسون الغرفة وهو يحمل صينية القهوة , نهضت ليزا وأخذتها منه:
" شكرا يا غوردسون".
وضعت الصينية على المنضدة ونظرت الى جاكلين:
" تشربين قهوتك بلا سكر أو حليب".
" نعم , قهوة فقط من فضلك".
تناولت الفنجان من ليزا وقالت:
" يبدو أن المكان هادىء ... أين طفلتك؟".
" أخذتها كريس في نزهة , فهي تدرجها في عربتها كل يوم بعد تناول فطورها قبل أن يشتد الحر".
جلست ليزا ورشفت رشفة من فنجانها , وهي تتفحص جاكلين وقالت:
أذن ما هي المشكلة يا جاكلين؟".
تنهدت جاكلين وقالت لنفسها لن تستطيعي أخفاء الأمر عن ليزا ولن تخدعيها , وأردفت قائلة:
"نظرا لكل الحقائق والوثائق المثبتة لديك يا ليزا ألا تظنين أنني سأشعر بالسرور لأن ماتيو سيغيب عن وجهي شهرا كاملا ؟".
ردت ليزا ببرود:
" من المحتمل".
" واذا تعني من المحتمل؟".
تابعت ليزا :
" منذ مدة مضت كنت أجزم أنك ستقفزين فرحا أذا غاب عنك ,ولكنني لست متأكدة الآن , ( توقفت قليلا) والأرجح أنك حزينة وأعتقد أنك كنت تبكين لتةك".
لم تتفوه جاكلين بكلمة , حدقت في النوافذ العريضة حيث بدت من خلالها أزهار البوغنفليه الزهرية والبرتقالية , وكأنها سحابة من غيوم أمام الزجاج ,ترى متى وليزا تشعر أن أحاسيس جاكلين تغيرت أتجاه ماتيو , ثم تابعت ضاحكة:
" جاكي , هل تريدين أن تسمعي تحليلي؟".
ضحكت جاكلين قليلا في وجه ليزا وقالت:
" نعم أحب أن أسمع رأيا آخر".
" أليك رأيي أذن , أنك تعانين من أزمة قلبية يسمونها الحب ... مستعصية ولا تعالج , ( ضحكت ليزا متابعة) شعرت بأصابتك منذ مدة بسيطة".
أعترت جاكلين موجة ساحقة من اليأس وضحكت بمرارة في وجه صديقتها وقالت:
" أي شيء سيء هذا الذي أصابني ؟ كم يصبح الأنسان أحمق أحيانا ".
ضحكت ليزا وقالت:
" أي أحمق هذا , أنا لا أرى أية حماقة في هذا الموضوع , في الحقيقة أرك ذكية تماما".
" آه".
" لست حمقاء لأنك تجاهلت علائم الحب التي أعترتك , متظاهرة أنك لا تحبينه , في حين بدأت تشعرين بهذه العاطفة وتحاولين تجاهلها , لقد أعترفت بالحقائق لنفسك , وتستطيعين الآن أن تدرسيها".
ردت جاكلين:
" رجاء! أخبريني كيف؟".
" لنتحدث عن الأشياء الأولى أولا , ماذا عن دايانا؟ لم تعد على ما أظن , أما زالت صورتها ماثلة أمامه؟".
هزت جاكلين رأسها:
" لقد أنتهى كل شيء بينهما".
" أذن أنه أنسان حر الآن".
: نعم".
" أذن فما هي المشكلة الآن؟".
كانت جاكلين معجبة بتصرفات ليزا الواضحة والمباشرة , أما الآن فقد شعرت جاكلين بالأرتباك حيالها , أنتزع تحليل ليزا مشاعر جاكلين أذ شعرت أنها تنتقدها , وأنها تطرح مشكلتها كأي عملية حسابية 1+1= 2 ولكن الحب ليس هكذا , على الأقل ليس في هذه الحالة الخاصة , كررت ليزا:
" أذن ما هي المشكلة؟".
" أوه يا ليزا لا أعلم , أتمنى لو أعلم ".
أحنت رأسها ووضعت وجهها بين يديها وأردفت :
" أريده أن يبادلني هذا الحب , ولكنه لا يفعل , وبكل بساطة لا يفعل".
قالت ليزا بصوت ناعم:
" أنني أعلم ما الذي حدث بين ماتيو ودايانا , ولكن مهما حدث فأنه مؤلم حتما , لقد آلمته .... أمنحيه فرصة كي يعود لنفسه".
" وهل تظنين أنه سيحبني مع الزمن؟".
ضحكت ليزا وهي تلصق نظاراتها في وجهها مرددة شعارا قرأته على أحدى الشاحنات:
" لا تفقدي الأمل يا جاكي , أعطه فرصة كي يجمع أشلاء نفسه ,أذا كنت تحبينه فعلا , فقليل من الأنتظار لن يؤذيك".
همست في سرها :
" قليل من الأنتظار لا يؤذيني كيف؟ وأنا أشعر أن غيابه عدة أسابيع قد طال , كان المكتب موحشا ومملا أثناء غيابه , لقد أفتقد الجميع غيابه , كأنه وحده سبب كل نشاط وفاعلية".
حاولت في البداية أن تحيي الجو ألا أن كل الموظفين عبروا عن أستيائهم وتناقص حماسهم , ولهذا أوقفت جاكلين محاولتها.
ذهبت الى السرير في وقت مبكر حيث قرأت لمدة أطول مما أعتادت , تناولت الطعام مع ليزا وزوجها مرتين وكان هذا أمتدادا لحياتها الأجتماعية , لو كان ديفيد هنا ... أخذت تفكر ولكنه ما زال في نيروبي , كل يتمتع بأوقاته ألا هي.
وكي تزداد الأمور تعقيدا لم تسر الأمور على ما يرام أثناء غياب ماتيو , فقد مرضت بيشنس وتوقفت عن آداء عملها ,كما توقفت الثلاجة عن العمل , والثلاجة الكبيرة كانت ممتلئة بالسمك , ودجاج الحبش , والأرانب , فأخذت جاكلين تسعى من هنا الى هناك طوال صباح يوم الأثنين علها تجد متسعا في أحدى الثلاجات , أودعت قسما من الأطعمة لدى ليزا , ثم أودعت البقية في ثلاجة ديفيد , بعد أن أمضت ثلاث ساعات تبحث عن مفاتيح شقته , وأخيرا وبعد عدة مكالمات , أتى الميكانيكي , وسحب الثلاجة فوق سيارة شاحنة صغيرة.
ومضى أسبوع لم تتلق جاكلين أي مكالمة من شركة التبريد التي تتدعي أنها ذات خدمات سريعة , مما أضطرها أن تذهب الى الورشة لتتأكد بنفسها.
فأجابها السيد آزو :
" أننا نبحث عن القطعة الناقصة ".
مؤكدا أن نصف موظفيه قد قلبوا المدينة بحا عنها ليلا نهارا دون جدوى.
فسألته:
" هل أستطيع أن أدون مواصفات القطعة الناقصة ,ورقم موديل الثلاجة ... الرقم المتسلسل ألخ.".
أحضر لها القطعة وأخذ يملي عليها ما تريد , أخرجت جاكلين دفترها وقلمها وسجلت ما تريد من معلومات بشأن القطعة , وعندما عادت الى مكتبها , أرسلت برقية الى نيويورك , تطلب منهم شراء القطعة وأرسالها مع ماتيو ,ومن حسن حظه فأن القطعة صغيرة.
لم يكن بقاؤها بلا ثلاجة أمرا مستحيلا فقد تكيفت مع ظروف أصعب من هذه
تنهدت وهي تنظر الى كدسة الأوراق التي على مكتبها , فقد تأخرت بدراسة الملف المالي , حاولت جاهدة أن تضبط أمور الملف المالي ولكن دون جدوى , وعندما عادت ظهر أحد الأيام لتناول طعام الغداء , أخبرها كويسي أن المكواة قد أحترقت , فشعرت بحاجة الى الصراخ , قالت بسرعة وهي تبتلع طعامها:
"سأتدبر أمرها فيما بعد".
وفي المكتب عادت لدراسة الملف المالي وتابعت عملها , ولمل أشارت الساعة الى الرابعة بعد الظهر , وجدت أنها لم تستطع أنهاء عملها , أذ كان الخطأ في الحسابات ما زال كما هو , خرجت من المكتب غاضبة , ولم تعد ترى أي رقم آخر بعد ذلك , وفي المنزل أمسكت بالمكواة وهي في حيرة من أمرها , ماذا ستفعل بها , تذكرت أنها شاهدت محل كهربائي في نهاية الشارع لا يبعد كثيرا عنها , أخذتها اليه وأصلحتها وأعادتها الى البيت .
أنهكها التقرير المالي , فأحضرته معها الى المنزل , علها نهيه في تلك الأمسية , جلست الى مائدة الطعام الكبيرة التي تغطت بأوراقها الكثيرة , وعادت لتتفحص كل رقم لديها مرة ثانية , يجب أن يكون هناك غلطة حمقاء في مكان ما .
وأخيرا وجدت الغلط في تقرير النفقات الصادر عن ماتيو: تراقصت الأرقام أمام عينيها ,وهمست لنفسها وهي تشعر بخيبة مريرة ,آه منك يا ماتيو , ألا تستطيع أن تتركني وشأني حتى وأنت بعيد... دفعت بالأوراق جانبا ووضعت رأسها بين يديها.
عاد ديفيد من كينيا الى غانا قبل أسبوع من قدوم ماتيو , حاملا معه لجاكلين الكثير من الهدايا كالقهوة , والجبن , وقطعة قماش وسجادة من جلد الدب لم تستطع جاكلين عندما رأتها أن تكتم دهشتها , فقالت بنفس متقطع:
" أوه ديفيد ما هذا ؟ لماذا جلبت كل هذا؟".
أشرق وجهه بالأبتسام :
" بكل سرور , أن قطعة القماش رشوة كي تصنعي لنا فطيرا بالجبن مع بعض القهوة المنشطة م لدعوتي لتناول العشاء في وقت آخر طبعا".
أمسكت جاكلين بالقماش كي ترى ألوانه الباهرة وأردفت:
" أنه رائع يا ديفيد.... لن أعثر عل ما يماثله في الأسواق هنا".
فأجابها وهو يحاول أن يستفزها:
" يفصل بين غانا وكينيا قارة بأكملها".
حاولت جاهدة أن تلتزم الصمت فلم تفلح فأجابته:
" أعلم هذا ولكنني أردت أن أبدي ملاحظة فقط".
ثم طوت قطعة القماش ووضعتها جانبا وسألته:
"هل أعد لك طعاما , ليس لدي الكثير لأن ثلاجتي لا تعمل هذه الأيام".
" لا , أشكرك , أتيت كي أصطحبك الى العشاء , وأحدثك عن رحلتي , لقد أصطدت ثلاثة أسود فطاردتها قبل ثم أبتلعتها الأحصنة".
أجابته وهي تستوعب تماما هذه الطرفة:
" ولكنك نسيت الأفاعي , والقردة ( هزت رأسها وتابعت) آسفة يا ديفيد ستجد هذه القصص المثيرة أهتماما أكبر في الوطن حيث يتوفر لديك جمهور ساذج هناك".
" كم تفسدين متعتي".
" هل كينيا جميلة كما يقال؟".
" أنها عظيمة وساحرة , نعم أنها جميلة ,حسّني من مظهرك قليلا لنخرج".
تأخرت طائرة ماتيو , أنتظرتها جاكلين بعصبية لم تشعر بها في أي وقت مضى , كان المطار مكتظا وصاخبا وفوضويا , والطقس حار رطبا , حتى عندما وقفت خارجا على شرفة المطار كي تشاهد الطائرة عن كثب بم تشعر بأي نسيم عليل.
حطت الطائرة أخيرا , حملقت جاكلين جاهدة في جميع المسافرين وهم يهبطون سلم الطائرة ,ومشت الى نهاية الممر , لم تر ماتيو , ترى أين هو أذن؟
أنتظرت حتى خرج آخر مسافر من قاعة الجمارك , أستسلمت للأمر عندما وجدت أن المطار غدا مهجورا , لم يأت , لم يكن على متن الطائرة , زمجر الأستياء في داخلها , فعادت أدراجها الى سيارتها , تشعر بالهزيمة وهي حزينة , لن تأتي أية طائرة من نيويورك قبل الأسبوع المقبل .
مضت ليلتان وبينما كانت جاكلين تنعم بنوم هادىء , سمعت قرعا خفيفا على مكيف هواء غرفتها وصوتا يهمس:
" جاكي ... أفتحي لي ... أنا ماتيو".
وبسرعة بحثت عن عباءتها فلم تجدها ... في الغسيل لا بأس , ركضت الى الباب وقلبها يقفز بين ضلوعها.
" أنني آسف أضطررت أن أوقظك , ولكن مفتاحي ليس معي , ولم أجد كويسي في المنزل".
تخطاها الى غرفة الجلوس , قالت وهي تتوق أن تعانقه:
" لا تهتم لذلك".
لكنه تابع سيره دون أن يتوقف , مشى الى الباب الواصل الى غرفة الجلوس الرئيسية , ووضع حقيبته على أرض الغرفة بدون أن ينظر اليها مرة أخرى ,تبعته الى الغرفة:
" من أين أتيت يا ماتيو؟".
" من لندن".
"لندن!".
" أجل كان لدي مقابلة مع بعض رجال المصارف من أجل برنامج الأعتماد المالي , تقرر الأجتماع في آخر لحظة , ولم يكن لدي وقت لأعلمك بذلك , آسف لأنك ذهبت الى المطار يوم الثلاثاء بدون جدوى".
" لا يهم".
فرك عنقه وقال:
" يا ألهي ما هذه السفرة؟ كان المفروض أن أصل الى هنا قبل ساعات , ما أن حان وقت هبوط الطائرة حتى أنقطعت الكهرباء , فأضطررنا للعودة الى أبيدجان , حي مكثنا في مطارها ما يفوق الساعة الى أن أصلح التيار الكهربائي ".
بدا مرهقا.
" هل أحضر لك شيئا تأكله أو عصيرا تشربه؟".
قال وهي متأكدة أنه لا يشعر بوجودها:
ط لا أشكرك , أنني بحاجة الى النوم فقط , ما الأخبار هنا؟".
" حسنة ,لم نواجه الكير من المتاعب".
منتديات ليلاس
" سأستحم وأذهب الى الفراش , وسنتكلم في الغد".
أدار وجهه وذهب الى غرفته , جلست جاكلين على الأريكة ر تستطيع الحراك , لم ينظر اليها , كم تمنت أن تنكر ما أصابها من خيبة مريرة , ماذا كانت تتوقع أذن؟ حتما لم تتوقع أن يعانقها ويضمها بعاطفة قوية , لم تشعر كم مضى من الوقت عندما عاد الى غرفة الجلوس مرتديا قميصا أبيض وسيرا جلديا.
" هل ما زلت هنا ؟ ظننت أنك عدت الى سريرك".
" ليس لدي رغبة في النوم".
خفق قلبها بشدة عندما جلس الى جانبها.
" وأنا كذلك , أنعشني الحمام , شعرت بالحيوية الآن".
خلل أصابعه بين شعره وضحك:
" كنت في طريقي للمطبخ لأحضر كأسا من الشراب , هل تريدين كأسا منه؟".
" لا شكرا , لا يوجد لدينا شيء بارد".
" حسنا , سأشرب قهوة , لقد أحضرت قطعة الثلاجة معي".
أحضر القهوة وقال:
" لم تحص أية مأساة في غيالي أذن؟".
" لا , مرضت بيشنس وغابت عن العمل لمدة أسبوع , تعطلت الثلاجة , وتوقفت المكواة عن العمل , وأستغرق تنظيم التقرير المالي ثلاثة أيام".
ولم تضف أن السبب بعود الى خطأ أرتكبه هو.
" هل هذا كل شيء , أنني متأكد أنك لم تنسي شيئا".
ضحك , فلم تستطع جاكلين النظر في عينيه ,وبيد مرتجفة أمسكت فنجان قهوتها.
" هل أنت بخير يا جاكي , أرى أنك ترتجفين".
أخذ الفنجان من يدها وأمسك بوجهها , ونظر اليها قائلا:
"أخبريني هل هناك شيء؟ هل حدث مكروه؟".
" لا ..... لا".
أجلبته وقلبها يخفق بشدة حتى أنها كانت واثقة من أنه يسمعه , أنها مشتاقة اليه , الى نظراته ولمساته , لم تستطع كبح جماح عواطفها فأغلقت عينيها.
وقالت:
" عانقني يا ماتيو".
أتى صوتها هامسا .... لم تستطع مقاومة عاطفتها أتجاهه , أنها بحاجة اليه... عانقته بذراعيها , وعانقها بدوره بحب وشوق يعجز الخيال عن وصفهما , أنه بحاجة مماثلة اليها , لم تفكر بشيء سوى بموجات الحب والأشتياق الجامحة التي غدت كموجات الألم , دام أنسجامهما لدقائق, وشعرت بيده تعانقها بحب , وفجأة وبعنف وقسوة ومرارة أبعدها عنه...
"ماذا تظنين أنك اعلة؟".
أتت كلماته كالصاعقة فوق رأسها , ودار العالم من حولها ... شعرت أن الألم يسحقها.... تجمدت أوصالها .... خافت من عاطفتها التي لا تقاوم ,حملقت في وجهه فرأته قاسيا , وتلاشى الحب من نظراته لتصبح باردة وداكنة ,كانت ترتعد , وتشعر بالأشمئزاز من نفسها خجلا , غصت الكلمات في حلقها , أنها لا تستطيع أن تصلح الأمر الآن , أرادت أن تهرب .... أن تموت .... أن تدفن في التراب , وقف ينظر اليها من برجه العالي قائلا:
" أشكرك لهذا العرض.... أشكرك لما قدمته لي ... لكن لا.... ليس لي ألا أن أشكرك".
وغادر الغرفة.