ليس مهما أن أرحب بكم .. وليس ضروريا أن تستقبلوني بترحاب .. دعونا نتفق على ما سيحدث .. أنا هنا لأكتب .. وأنتم هنا للقراءة .. ليس من الضروري أن يعجبكم ما سأقول .. وليس علي أن أصدع رأسي بتحملكم .. لذا لنبتعد عن المجاملات .. أنا شيخ مسن من النوع الذي لا يروق لأحد .. وأنتم مجموعة شباب فضوليين من النوع الذي لا يروق لي .. هكذا نكون قد ابتعدنا عن الرسميات البغيضة التي يصر البشر على استخدامها فيما بينهم .. اسمي ليس مهما .. يمكنكم مناداتي باسم زورك .. ولا أود سماع كلمة واحدة عن معنى هذا الاسم .
أعرف أن الكثير أتى يستمع إلي للبحث عن متعة الرعب .. أنا هنا لأخبرهم أن القبور تكتظ بأمثالهم من الذين ظنوا أن الرعب متعة جميلة .. ثم ماتوا وفي أعينهم نظرة ملتاعة عندما عرفوا الحقيقة ..
لا رعب في حكاية خيالية ألفها شخص ما أثناء فترة تأمل ... الرعب هو ما تسمعه على لسان صديق ملتاع يحكي لك بعيون متسة ما حدث معه يوما .
سأتيح لكم الفرصة لمعرفة أكثر .. ليس مني لأنني مصاب بداء الملل السريع .. ستسمعون كل شيء منهم .. بألسنتهم .. هم يعرفون كل شيء .. لأنهم رأوه رأي العين .. لا تسألوني من أنا .. تذكروا أنكم هنا لتسمعوا .. لا لتسألوا ... وإن لم يعجبكم ما سمعتموه فاذهبوا وفجروا رؤوسكم .. لن يحدث فارقا عندي .. تماما كما أنه لو انتزعت روحي مني في أحد نوبات الصرع الذي ابتليت به فلن يحدث فارقا لديكم ... هكذا اتفقنا
اليوم تذكرت قصة مفزعة .. مفزعة إلى درجة أنني أراها في كل مرة أنظر فيها إلى بطني ... ما علاقة بطني بالأمر ؟ ... أعتقد أنه من حقكم أن تعرفوا
جنود الرعب
" نشعر بالفخر أمام مقابر الشهداء من جنود الحرب .. فقط لأنهم يحاربون لأجلنا ... فماذا لو انقلبت الآية ؟"
" ...... عزيزي أحمد .. اشتقت إليك كثيرا .. ربما تذكرني وربما لا ... فقد جلسنا معا يوما واحدا .. لكنني شعرت أنني أعرفك منذ ملايين السنين .... شعرت أننا كنا جنبا إلى جنب ذات يوم نحاول الإمساك بالماموث الصوفي أيام العصر الحجري وعلى كل منا مجموعة من الأصواف التي من المفترض أن تحمينا من البرد .... أنا معتز ... الذي قضيت معه يوما كاملا في السنة الماضية في غرفته ... أنا الشاب ذو القدم المشلولة ... هل تذكرتني الآن ؟ ... عرفت أنك أتيت في هذه الإجازة إلى مصر ... ويجب أن أراك مرة أخرى ... قأنا أشعر بفراغ كبير يقتلني قتلا ... حفظت كل الكتب التي لدي و رأيت كل الأفلام ... أنت تعرف أنني لا يمكنني الحركة خارج سريري .... شعور قاتل أن تعرف أنه من المسموح لك الحركة لعدة سنتيمترات يمينا وشمالا .... سريرك هو مملكتك الدائمة .... جزء من هذا السرير تتدثر فيه بالألحفة عند النوم .... جزء آخر ترفع قدمك فوقه وتسند ظهرك للقراءة ليلا ..... حفظت جميع الحفر والبقع الموجودة في السقف ....لن أطيل عليك الكلام ... لكنني أرجو أن تأتي إلي ذات يوم في هذه الإجازة ... وأتمنى أن يكون هذا اليوم قريبا جدا .............. صديقك ... معتز "
" صديقي معتز .... من حسن حظك أنني ذاهب إلى المنصورة بعد يومين بالضبط لزيارة خالتي هناك ..... ربما يكون هذا هو أول خطاب أبعثه بالبريد في حياتي كلها ... لا أستخدم البريد عادة وأفضل الهاتف .... لازلت أذكر ذلك اليوم الذي قضيته معك كاملا نتحدث في كل شيء .... أنا عادة لا أحب الثرثرة ... لكنني أحببتها معك ..... صدقني أنت يجب أن تكون كاتبا أو مفكرا في يوم من الأيام ... أحيانا أشعر أنك تعرف كل شي وقرأت كل الكتب التي كتبها أي إنسان .... في طريقي إليك قريبا .... أحمد "
" ... عزيزي أحمد تصل الرسائل عادة بعد إرسالها بيومين حسب سرعة البريد الخيالية التي نملكها في بلدنا الحبيب ... هذا يعني أنك اليوم في المنصورة ..... يجب أراك .. فأنا كما تعلم بدون أصدقاء ... لا يزورني في غرفتي هنا غير أمي المريضة التي تخدمني بعينيها رغم ألم مفاصلها الذي يجعلها تحتاج لمن يخدمها ... بانتظارك ... معتز "
" عزيزي أحمد .... أسبوع كامل مضى على خطابك الذي أرسلته لي قائلا أنك ستأتي بعد يومين .... لقد عرفت أنك الآن في المنصورة .... فلم لم تأت لزيارتي ياصديقي ؟ .... ربما صدقت نفسي حينما جلست معي يوما واحدا و اعتقدت أن هذا سبب كاف لجعلك صديقي ... يبدو أنني سأموت في مكاني ولن يسمع عني أحد ... أتمنى أن تكون سعيدا في المنصورة ..... صديقك معتز "
- ألا تفهمون ؟ .. لا يمكنكم الحجز في هذا الفندق بدون بطاقة شخصية أو جواز سفر على الأقل ... أنتم أربعة أطفال مجهولي الهوية لا أعرف عنهم شيئا ..
- ألا ترى ياسيدي أننا في منتصف الليل وأنك إن لم تدخلنا عندك فلن نجد مكانا لآخر يؤينا ؟
- هذا لا يخصني يا فتي .... النظام هو النظام ... احضر لي شخصا كبيرا أو اتصل به على الأقل ... أنا لن أتحمل مسؤوليتكم ....
كنا أربعة أطفال حقا ... أنا وأختي وابن وابنة خالتي ... أحمد وسارة وهشام ونورهان على الترتيب ... ماذا وضعنا في هذا الموقف ونحن نعتبر نوعا ما من أبناء الذوات الذين يجب أن يتناولوا العشاء ويغسلون أسنانهم دائما قبل النوم ؟ ... هذه قصة طويلة عائلية لا دخل لكم فيها ... لكننا الآن هنا ... وسنبيت في هذا الفندق الآن ... حتى بوجود هذا المزعج الذي يحب النظام .... تصنعت الذلة والنكسار ونظرت إلى الأرض قائلا :
- فليكن ... هيا بنا ... يبدو أننا سنقضي الليلة على الرصيف ...
واستدرت واستدار الجميع معي متجهين إلى الباب .... وفجأة سمعنا الصوت الذي كنت أتوقعه يقول :
- فليكن ..... ليلة واحدة فقط .... واحدة فقط ... وتنصرفون غدا صباحا .... وهذا آخر كلام عندي ...
ابتسمت ابتسامة خبيثة لم يلحظها قائلا :
- فليكن .. غدا صباحا سننصرف ... وهذا وعد مني بذلك ....
غرفة سيئة جدا ... جدران بحالة تجعلك تشفق عليها .... ولا داعي لذكر الحمام لأنه يستحيل أن يوصف بالكلمات ...... فكرت في فتح الشرفة علني أجد شيئا يهون علي كل هذا .... ها قد فتحنا الشرفة بعد عناء أنا وهشام .... نظرنا إلى المنظر أمامنا ..... هذا مستحيل .... هذا لا يمكن أن يكون فندقا ........... هذه الشرفة تطل على ...... تطل على مقبرة كاملة .
يبدو أن حظي السيء بدأ يتذكرني مرة أخرى .... هنا سمعت شقيقتي سارة تقول :
- هل نغير الغرفة ؟
- لا بد من هذا ... لن أنام بجوار الأموات ... ألا تذكرون الفيلم ؟ ... لقد حدثت لتلك العائلة التعيسة قصتنا هذه بحذافيرها .... واكتشفوا في النهاية أن الفندق نفسه بني على مقبرة ملعونة .
ذهبنا معا مرة أخرى إلى الاستقبال في الأسفل ..... تناقشنا مع الرجل الثقيل الظل إياه طويلا ... فهمنا أنه ليس هناك غرف شاغرة سوى في الجهة التي تطل على المقبرة ... الجهة الأخرى محجوزة بالكامل لأنها تطل على النيل .... هذا ما فهمناه .... لكنه قال ليطمئننا :
- هذه مقابر الجنود الذين استشهدوا في الحرب .... أبطال المنصورة الذين يشهد لهم التاريخ ... الأبطال الذين ضحوا بعمرهم من أجل أن نعيش نحن ...
عدنا لغرفتنا محملين بالأفكار السوداء حينا والبيضاء حينا آخر ..... المتشائمة حينا و المتفائلة حينا آخر .......لكن هذه الليلة التي قضيناها بجوار هؤلاء الشهداء كانت قاسية نوعا ما ... خاصة على أطفال في سننا ....
والآن هانحن أغلقنا الغرفة علينا وأصبحنا بداخلها نتأملها ... نظرة لا إرادية إلى النافذة ....نصغي لكل همسة ... لو وقع من أحدنا الآن أي شيء لأصابنا جميعا بالصرع لبقية حياتنا .. قلت في لهجة أحاول أن أجعلها حازمة :
- لا أريد كلمات من طراز ( هل سمعتم هذا الصوت ؟ ) ... أو ( لن أنام بجانب النافذة ) أو أي تعابير سخيفة أخرى ..
نظرات صامتة قابلت كلامي جعلتني أنظر إلى النافذة لا شعوريا ... اقتربت من النافذة لأفتحها .. نظرت إلى المقبرة التي تطل عليها .. أرض لا تتحرك فيها ذبابة .. كل شيء فيها ساكن وكأنها لوحة مرسومة .. لمحت هشام يحاول فتح التلفزيون .. كان كل ما يحصل عليه هشام هو مجرد وش طويل لا ينتهي ولا ينذر بقرب ظهور أي صورة ما .. وبينما كنت أنظر إلى اللوحة الساكنة رأيت سيارة تقترب من المقبرة بببطء وصوت الأغاني من المسجل بداخلها يصل إلى هنا . سمعت بداخلها العديد من الضحكات الشابة ... توقفت السيارة أمام المقبرة ونزل منها شابين .. أخذا يتضاحكان كالمخابيل ثم انحنى أحدهما على باب السيارة الخلفي وأخذ يضرب عليه بيده .. فتح الباب الخلفي وخرجت منه فتاتين جميلتين .. نظرة لا شعورية أخرى إلى الساعة في يدي .. إنها قرب الثانية بعد منتصف الليل .. تعالت الضحكات الماجنة مرة أخرى .. أغلق أحدهم المسجل فأصبحت أسمعهم بوضوح تام وكأنني معهم .. لا أعتقد أنهم توقفوا هنا ليقضي أحدهم حاجته .. وإلا كان وبالا عليهم وعلينا وعلى جميع أعداء مصر .. هنا انفصل أحدهم عن المجموعة متجها إلى المقبرة .. و بدأت يداه تحاول فتح أزرار سرواله .. يبدو أن ما توقعته سيحدث .. لمحت هشام ينظر معي إلى نفس المنظر .. أتت سارة ونورهان من الداخل لمشاركتنا النظر .. ابتعد الفتى الذي سيقضي حاجته عن أنظارنا قليلا حتى أصبح مجرد ظل تميزه بصعوبة من حشد الظلال من حوله .. بقية المجموعة يتضاحكون في مجون .. وهنا حدث شيء جعل أعيننا تتسع عن آخرها .. وجعل الضحكات الماجنة تتوقف ... شيء مخيف .
ليس من الممتع مراقبة ما يحدث لمعتوه يقضي حاجته في مقبرة .. كان ما سمعناه مفزعا .. سمعنا صراخ الشاب من بعيد . تبعه صوت طلقات مسدس سريعة ..وسرعان ما انتقلت الصرخات لباقي أعضاء المجموعة و لنا نحن من قبلهم .. ركبوا السيارة جميعا كيفما اتفق و أصدروا ذلك الصرير المميز للعجلات التي تحتج دائما على الانطلاقات المماثلة .. لكن الأمور لم تمض على خير لسوء حظهم .. فجأة انفجر الإطاران الخلفيان للسيارة بعد انطلاقها فتوقفت مرغمة محدثة صريرا مزعجا .. وكان يبدو أنها النهاية .
لم ينتظر أحدهم لحظة أخرى .. شعرت أن أبواب السيارة الأربعة فتحت مرة واحدة ومجموعة من المخابيل يركضون بعيدا عنها وكأن شياطين الأرض تركض وراءهم .. وما أدرانا .. ربما تكون شياطين الأرض حقا تطاردهم الآن .. ظللنا نراقبهم وهم يركضون حتى اختفوا عن ناظرينا تماما .. وسكن كل شيء فجأة وكأن شيئا لم يكن .. أبواب السيارة لازالت تتحرك ببطء شديد ربما بفعل الهواء .. وقد أضيفت سيارة مذعورة إلى اللوحة الساكنة لتضيف عليها نكهة جديدة .. نكهة مرعبة .
- يجب أن نذهب من هنا الآن .
- ليست فكرة جيدة .. هل تعرفين كم الساعة الآن .
- لا تهمني الساعة .. أريد أن أذهب من هنا الآن .. وحتى لو لم يأت أحد معي
كانت هذه هي نورهان .. تؤدي دورها الهيستيري في هذه المسرحية .. إن لم تفعل هذا لشككت أنها فتاة أصلا ... أخذت سارة تهديء قليلا من روعها .. فقد كانت سارة أحكم منها نوعا ما ..
نظر هشام إلى النافذة قائلا :
- لا أظن أن أحدنا سينام في هذه الليلة .
قلت مفكرا :
- نحن لازلنا في بداية الليلة .. الساعة الثانية بعد منتصف الليل .. لازال أمامنا ثلاث ساعات كاملة حتى الصباح .
قالت نورهان في هيستيريا :
- ستكون كافية جدا لنموت كلنا بأيدي هؤلاء الشياطين .
قلت لها في تحد :
- أي شياطين أيتها الذكية .. هذه الطلقات التي سمعناها هي حتما من بندقية حارس المقبرة .. لابد لكل مقبرة من حارس على حد علمي .. خاصة لو كانت مقبرة مهمة كهذه .
قال هشام :
- يبدو أنك مخطيء .. لو كان هذا حارسا لاكتفى بالطلقات الأولية التي أخافتهم وجعلتهم يهربون بالسيارة .. لكن ما تفسيرك للطلقات الثانية التي فجرت الإطارات ؟
- ما أدراك أن هناك طلقات فجرت الإطارات .. أنا أرجح أن هناك شيئا ما على الأرض .
اتجهت نورهان إلى الباب عازمة على الخروج من هذا كله .. وهنا تدخل هشام أخوها قائلا في غلظة :
- لن تذهبي لأي مكان .. هيا تعالي وكفي عن هذه الحركات البلهاء .
قلت له في بساطة :
- اتركها يا عزيزي تذهب .. اتركها من أجلي .
نظرت لي شذرا .. كانت تعرف أنني أعرف أنها لن تستطيع أن تخطو خطوة واحدة لوحدها خارج هذه الغرفة ... كان جوا متوترا ... مليئا بالصرخات و الشياطين و النقاشات التي لانهاية لها ... و أخيرا سمعنا شيئا وضح حدا لكل هذا الإزعاج وجعلنا ننظر لا شعوريا إلى النافذة .. صوت أبواب سيارة تغلق بقوة .
نظرة من النافذة وفهمنا كل شيء .. كان الرجل الذي قابلناه في الاستقبال - ثقيل الظل إياه – ومعه رجل آخر يتفحصون السيارة ويتحدثون أحاديثا أعرف أن أغلبها أسئلة عن السيارة و ما الذي أتى بها هنا .
قلت موجها كلامي للجميع :
- أرى أن ننزل لنجلس في ساحة استقبال الفندق .. هناك مقاعد مريحة هناك وسنجد أنسا مع طاقم الاستقبال .. وسجد إجابة عن أسئلتنا ( المقبرية ) كلها .
وافقتني أعين الكل .. وهنا اتجهنا للأسفل معا وأغلقنا الغرفة المشئومة وراءنا ... كان رجل الاستقبال الثقيل الظل بالخارج .. و كان هناك واحد آخر يبدو شابا يجلس في مكانه . سألنا بسرعة :
- ما الذي أتى بكم .. هل هناك مشكلة في الغرفة ؟
- لا مشكلة هناك .. لكن لم نستطع النوم .
- هل تقصدون أصوات الطلقات .. ستعتادون الأمر .. لقد كان الأمر يزعجنا في البداية .. لكنه الآن أصبح أمرا طبيعيا .. أنت بجانب مقبرة للجنود .. ماذا تتوقع أن تسمع غير صوت طلقات ومدافع .. لا أدري لماذا يعقد الجميع الأمور بهذا الشكل .
كان يبدو الرجل ثرثارا جدا .. وقد وجد فرصة لإشباع جميع رغباته الثرثارية ... لكن هذا كان مفيدا في حالتنا .. كنا نريد معرفة كل المعلومات الممكنة عن كل شيء هنا .. وهنا سألته :
- ماذا تقصد أننا سنعتاد الأمر .. ألم يكن هذا الرصاص بفعل حارس المقبرة بعد الزيارة التطفلية لهؤلاء الشباب ..
- هذه المقبرة ليس عليها حراس .. كيف تضع حارسا على مجموعة من الجنود المدججين بالسلاح ؟
قال له هشام وقد بدأ هذا الغباء يضايقه :
- هؤلاء الجنود ماتوا منذ زمن طويل .. وهم شهداء عند ربهم يرزقون الآن .. لا حاجة بهم لإطلاق المزيد من الطلقات كل ليلة .
- أعرف ما تقصد أيها الصبي اللطيف .. ربما أخطأت أنا التعبير فقط ..كلنا نعلم أن الأموات ليس لديهم الوقت في مقابرهم لإصدار أصوات سخيفة لتخويف الناس .. ما قصدته هو أن هناك جن يسكن هذه المقبرة .. ربما هو القرين .. هل تعرف القرين يا فتى ؟
سألته وقد بدا لي يدافع عن شيء ما :
- هل تقصد أن قرناء هؤلاء الجنود يمرحون بإطلاق النار في كل ليلة ؟
- لا يا عزيزي .. القصة أن هؤلاء القرناء غاضبين لأن هؤلاء الجنود ماتوا دفاعا عن الأهالي هنا .. لكن الأهالي لم يهتموا بهم أو بمقبرتهم .. بل إن هناك رجلا ثريا من المنصورة كان سيبني على هذه الأرض التي فيها المقبرة ... ولولا أن عرف بالموضوع ..لكان بنى فوقها برجا سكنيا طويلا .
- لكنها الآن مبنية وعليها شواهد لكل قبر .. لقد رأيناها من النافذة بوضوح .
- معك حق .. وهذا هو السبب الذي جعل الأصوات تخف جدا الآن .. في السابق كان الناس يسمعون أصوات المدافع والدبابات وصرخات الجنود . ولم يكن أحد يرتاد الفندق أبدا .. لذا تبرع مدير فندقنا المتواضع ببناء هذه الشواهد وهذا السور الذي رأيتموه من النافذة .
هذا الرجل إما يلعب بعقولنا نحن الصغار .. أو أن كلامه صحيح .. و في الحالتين أجد هذا الفندق ليس مريحا جدا.
و هانحن قد اجتمعنا مرة أخرى في تلك الغرفة الكئيبة نناقش احتمالات خروجنا من هنا أو بقائنا لبضع ساعات أخرى .. طوال حياتي أكره الجبن و الجبناء .. و ما يضايقني أن جميع البنات جبناء بالفطرة .. لم أجد حتى الآن فتاة شجاعة في حياتي .. وإن وجدت لكان هناك تغير ما في هرموناتها الأنثوية الطبيعية .. و أعرف أيضا أنني أعشق الرعب .. لذا كان الأمر رغم كآبته يمثل لي متعة خاصة .. وفجأة قلت :
- من منكم يذهب معي لزيارة مقبرة الشهداء ؟
أن تشاهد فيلم رعب في السينما لهو مر ممتع جدا .. لكن الأكثر متعة هو أن تعيش أجواء فيلم الرعب هذا بنفسك .. أن تمشي بين شواهد مقبرة تعلم مسبقا أنها ملعونة .. أن تسمع أصواتا غريبة من آن لآخر هنا أو هناك .. ما هو أقصى ما يمكن أن يحدث ؟ أن تتفتق الأرض عن مجموعة من الزومبي النصف ميتين ؟ أم أن يحوم الجن حولك عازما على جعلك تفقد كل ذرة عقل كنت تمتلكها ؟ في حالتنا هذه أعرف أنني سأسمع الكثير من طلقات الرصاص و المدافع وربما القنابل أيضا .. وماذا أيضا ؟ .. لا شيء يستحق الخوف منه .. بالعكس .. إنها تجربة ممتعة تستحق أن نخوضها ... و النون في كلمة نخوضها مهمة جدا ... لأن الجماعة دائما تبدد الخوف ..ناقشنا الأمر فيما بيننا طويلا محاولا إقناعهم بوجهة نظري المجنونة و التي ربما لا يؤمن بها في هذا العالم غيري ... لم تقتنع القتاتان بشيء ... لكن هشام كان سهل الإقناع .. فهو مثلي .. يحب المغامرة ... خاصة لو خضناها معا جنبا إلى جنب ... في النهاية تم الاتفاق على أن أذهب مع هشام إلى هناك .. بينما تبقى الفتاتان التعيستان هاهنا .. هذه ستكون تجربة مريعة ....و أنا أحب هذا النوع من التجارب "
ماذا يمكن للمرء أن يأخذ معه في رحلة إلى مقبرة .. ماء بارد ؟ ... سندوتشات ؟ .. لا أظنها فكرة صائبة ... كما أن شيئا من هذا لا يتوفر معنا في هذه اللحظة . لذا بدأنا فورا في التحرك .. نظرة أخيرة منا إلى الفتاتين رأينا في عيونهما أقسى أنواع التعابير .. وأقسى أنواع التساؤل الأنثوي عن هؤلاء الرجال الذين يتركونهما بعد منتصف الليل لزيارة بعض الأشباح ... وأخيرا انصرفنا وأغلقنا الباب خلفنا في رفق .. قابلنا الرجل الثقيل الظل في الاستقبال فنظر إلينا نظرة كريهة .. فقابلته بنظرة مماثلة وأدرت وجهي عنه عازما الخروج .. توقعت أن يستوقفني متسائلا عن الشيء الذي يدعوني للخروج في هذه الساعة من الليل أنا وهشام .. لكنه لم يفعل .. ووجدنا أنفسنا في الخارج بسلام .. ترى هل هي فكرة صائبة أن نترك شقيقاتنا وحيدات في هذا الفندق الغريب تحت إشراف هذا الرجل الثقيل الدم الذي لم أرتح له منذ أن رأيته .. نظرت إلى هشام فوجدت ملامحه تفكر في ذات الشيء الذي أفكر فيه .. وأخيرا وضعت حدا لكل هذا قائلا :
- هشام .. سأذهب وحدي ولتبق أنت مع سارة ونورهان
- وما الذي يدعوك أن تذهب أصلا ؟
- لست أدري لم أقطع هذه المسافة إلى الأسفل لأرجع بعدها و المقبرة على بعد خطوات مني .
- فليكن يا أحمد سأنتظرك فوق
وتحرك بعدها عائدا بسرعة غير منتظر لردي .. أنا أعرف هذا الأسلوب منه .. إنه يضعني في وسط المأزق الذي اخترت أن أضع نفسي فيه لأجد نفسي وحيدا فأخاف وأ صعد بعده مباشرة ... لكنني أعرف هذا الأسلوب وأستخدمه كثيرا .. و لا يؤدي معي إلى أية نتائج ... لذا نظرت إلى الفندق نظرة أخيرة وتقدمت من المقبرة بخطوات بطيئة تميز المترددين الذين يؤثرون التراجع .
لا أدري لماذا يمشي كل من يزور الأماكن المخيفة بخطوات بطيئة .. القصور المهجورة والمقابر الملعونة .. لماذا يمشون فيها دائما ببطء شديد تاظرين يمينا ويسارا ببطء أشد ... هل يساعدون الشياطين في تخويفهم ؟ .. قررت أن أمشي بخطى عادية وكأنني أزور هذه المقبرة كل يوم ... وهكذا تقدمت منها متسائلا في داخلي عن هذا الجنون الذي أتميز به دائما عن الآخرين .. أحيانا أشعر أنني الوحيد المختلف ... أنني أنا الوحيد الغريب وسط كل هؤلاء البشر ..ربما لأنني أنا نفسي أحب أن أكون مختلفا ... أحب ألا أكون ( آخَر ) ..... وخلال استغراقي في كل هذه الأفكار وجدت نفسي أدوس على طريق مختلف .. طريق مليء بأوراق الأشجار الذابلة .. لماذا تتميز كل المقابر بذات التفاصيل دائما ؟ ... يبدو أنني بدأت أدخل في حيز المقبرة ... هل جرب أحدكم سكون المقابر من قبل ؟ .. إنه سكون تام قاتم .. يمكنك حفا أن تسمع فيه دبيب النملة من تحت قدميك ... كلما تقدمت خطوة أسمع صوت تكسر أوراق الشجر الصفراء الذابلة من تحت قدمي ...وبينما أنا أقف في مكاني أطالع سور المقبرة الذي أصبح يبعد عني خطوتين أو ثلاثة ..سمعت صوت تكسير الأوراق إياه ... لست أنا من أحدث هذا ... كما أنه لا يمكن أن يحدث بفعل قط مثلا أو فأر .. فالصوت الذي سمعته لا يصدر إلا عن قدم بشرية .. وهو صوت لخطوة واحدة فقط ... أي أن من أحدث هذا الصوت مشى خطوة واحدة ثم توقف ... لماذا توقف ؟ ... ولماذا مشيى خطوة واحدة ؟ .. بل لماذا مشى أصلا ؟ ... كلها أسئلة وجدت إجابتا في الدقيقة التالية مباشرة .
نظرت عند الباب لأجد نقطة صغيرة جدا مشتعلة والدخان يتصاعد منها ... ورأيت هذه النقطة تتحرك لأسفل ثم لأعلى .. أمعنت النظر المذعور لأتبين في النهاية أنها سيجارة مشتعلة في يد شخص ما .. حاولت أن أرى التكوين البشري المفترض أنه يدخنها .. كل ما رأيته هو مجموعة من الأسمال البالية .. وشيء ما يفترض أنه عمة على الرأس .... كانت تكفي نظرة واحدة إلى هذا الشيء لأفزع وأتراجع خطوة إلى الوراء .. ثم أدت بي هذه الخطوة إلى الوقوع على أرض المقبرة ... لا أدري لماذا تذكرت تلك المقولة اللعينة التي كنت أسمعها مرارا من الكبار ( من وقع على الأرض عند زيارته للمقبرة فسيصاب بالجنون الدائم .. هذه حقيقة واضحة مثل شمس الظهيرة ) .. مخاوف عديدة اجتمعت علي في هذا الوقت ... نظرت إلى الأسمال البالية فوجدتها ترمقني في فضول .. ثم استدار هذا الشيء أخيرا وأخذ يمشي ببطء محدثا ذلك الصوت على الأرض ... صوت تكسير الأوراق الرتيب .
ظللت في مكاني لحظة منتظرا أن أصاب بالجنون ... إن الكبار دائما يستغلون بلاهة الأطفال للتخريف عليهم ... أو كما يقولون في السعودية ( للتفقيع ) عليهم ..
بعد دقائق مذهولة على الأرض قررت أن أقوم ... نظرت نظرة سريعة من حولي .. الأسمال لازالت تتحرك باتجاه سور المقبرة ... لكن مهلا ... إنني أرى السيارة ... سيارة الشباب ... كيف لم أفكر بزيارتها من قبل ؟.... إنها فرصة لأدقق النظر في إطاراتها لأعرف سبب انفجارها .. مشيت بحرص نحو السيارة ناظرا خلفي إلى تلك الأسمال لأعرف إلى أين وصلت ... أشك أن بداخل هذه الأسمال رجل .. أظن أن بداخلها سلحفاة ما ... هنا وصلت إلى السيارة ... المكان هاديء جدا جدا .. حاولت النظر أسفل السيارة .. لا شيء يدل على أي شيء .. نظرت إلى الفندق .. وبالتحديد إلى شباك غرفتنا .... فوجئت بأن نور الغرفة مطفأ ..... ترى ماذا يعني هذا بالضبط ؟
هل يعني هذا أنهم في إثري الآن ؟ ... أم تراهم قرروا النوم ... أنا مع الاحتمال الأول .... حتما هم ينزلون الآن إليّ .... فليكن .. لا يجب أن يروني هنا بجانب هذه السيارة السخيفة ... ينبغي أن يعرفوا أنني لست خائفا ... سيجدونني بداخل المقبرة ... وهنا بدأت أتحرك بسرعة مقتربا من بوابة المقبرة ... نظرت إلى الأسمال ... يبدو أن هذا الرجل مات في مكانه وأصبحت الرياح تحركه ... عندما اقتربت منه بطأت قليلا من خطواتي ... ثم وبصوت لا أدري كيف خرج مني قلت له :
- الـ ... السـ .. السلام عليكم يا حاج ..
تمنيت ألا يرد .. لكنه التفت لي ببطء قائلا :
- أين أصدقاءك وصديقاتك ... يا فاسقين يا عديمي التربية والأدب ... أين هم ؟
- عم تتحدث يا حاج ؟
- هل تركك أصدقاءك وهربوا من السيارة كالجبناء ؟
- لحظة يا سيدي هناك خطأ ما و ...
- اخرس .. أنتم لا تحترمون الموتى .. هل أتيتم هنا لتمارسون الفجور أمام مساكن الموتى ؟
- سيدي أنا لست ...
وهنا وضع يده في داخل هذه الأسمال ... لابد أنه سيخرج شيئا ما ... وهذا الشيء لن يكون لطيفا أبدا ... لذا استدرت وجريت بأقصى قوتي ... جريت بسرعة خارقة ..... وهنا تعثرت .... ولم تكن عثرة عادية ... فمع سرعتي تلك وجدت نفسي طرت من على الأرض وانقلبت عدة مرات ثم اصطدمت بالحجارة .... لم أدر ماذا أفعل ... عادة أنا لا أتعثر .... لكن يبدو أن المقبرة فيها سر تجعل كل من يجري فيها يجب أن يتعثر ....بدأت الصورة تهتز في عيني ... هناك شيء دافيء يسيل على جبهتي .. لابد أنه دم .... يالذكائي ... أمعنت النظر قليلا ... كنت أرى الأسمال تتحرك نحوي ببطء ..... لابد أن ميتا جديدا سيضاف إلى قائمة الأموات هاهنا ..
ينصحونك دائما عندما يجري الأسد وراءك أن تمثل أنك ميت ... عندها سيدور الأسد حولك بضع دقائق ثم ينصرف شاعرا بالحسرة .... قررت أن أفعل هذا الآن .... رأيت الأسد .. أقصد الأسمال تقترب .... لكن الرجل لم يدر حولي .. هو اقترب مني و مد يده إليّ ... تحسس الدماء على جبيني ثم شدني من يدي قائلا :
- ما الأمر يا بني لماذا جريت ؟ ... أنت مصاب ... تعال معي حتى نجد حلا بسرعة .
وهنا أمسك بي ذلك الرجل وحملني بيد واحدة ... وأخذ يمشي عائدا إلى المقبرة ... يالرائحة هذه الأسمال ....هل يظن أنه سيجد أدوية بداخل المقبرة ؟ ... هذا الرجل لا يتحدث بدقة ؟ .... هذا الرجل كاذب ... وهنا حاولت التملص منه بأقصى قوتي لكن هيهات .... حاولت أن أصرخ مناديا بأي اسم ....لكن لم يرد أحد ... يبدو أنني ضحية الليلة .. في نظره أنا الشاب العابث الذي قرر أن يقلق منام الأموات... وأنني أستحق العقاب .... فجأة أنزلني على الأرض واتجه إلى مكان ما ليحضر منه شيئا ما .... كانت ساقي تؤلمني بشدة بعد هذه العثرة .. لذا استسلمت تماما ... وفجأة سمعت بعض الأصوات تقترب ... أصوات مألوفة .... إنه صوت هشام يتساءل عن شيء ما .... لا أحتاج للكثير من الذكاء لأعرف ماهية سؤاله ....
هنا رأيت الرجل قد توقف .... ونظر إلى ناحية الأصوات .... ثم أخذ يقول بضع كلمات غاضبة لم أسمعها جيدا ... لكن لاريب أنها تتحدث عن خراب بيتهم جميعا ... ثم مشى إلى ناحيتهم بحدة .... لا أستطيع أن أحذر أحدا .... إنها نهايتهم ..... وهنا سمعت صرخة نورهان المميزة .... وسمعت خطوات تجري مبتعدة .... أتمنى ألا يتعثروا بدورهم ... سأكون غبيا لو انتظرت لحظة أخرى ..... قمت من مكاني بصعوبة و مشيت محاولا أن أسرع خطواتي إلى الناحية الأخرى من المقبرة .. لم أكن أعرف إلى أين ستوصلني ... لكن حتما ستبعدني عن هذا الكائن الشرير قليلا ....
اصطدمت في طريقي بالعديد من شواهد القبور .... هذا المكان مخيف جدا جدا ... وهنا سمعت صوت شيء أكد لي أنها نهايتي لهذا اليوم المشئوم .... سمعت صوت كلب .... كلب قوي يتحرك غاضبا نحوي ..... استدرت بأقصى سرعة ونفضت عن نفسي كل التراخي وحاولت أن أجري ... لكن الكلب كان قد وصل لي .. استدرت لأراه قد قفز ناحيتي قفزة هائلة .... أغمضت عيني بقوة ... ترى كيف ستكون العضة ؟ ... أنا لم أجربها من قبل .. أخي الصغير كان يعضني أحيانا ... ماذا عن هذه العضة إذن ؟ ....
رأيت الكلب يتجاوزني بقفزته ويجري ناحية باب المقبرة .... يالحظي الرائع ... إنه لم يكن يقصدني ... لقد بدا أنه لم يراني أصلا ..... يالتعاسة من سيصل إليه هذا الكلب ...... سمعت أحدهم يصيح بكلمات غاضبة ... والكلب ينبح بقوة ... ثم صرخة أنثوية عرفتها على الفور ..... يالتعاستي .... استدرت وأكملت العدو إلى الناحية الأخرى من المقبرة ..... بحثت عن أي باب .... و فجأة وجدته .... وجدت باب المقبرة الآخر ... دفعت الباب بسرعة و أكملت الجري ..... ثم حدث ما جعلني أتوقف تماما .... نظرت أمامي جيدا .... رأيت مجموعة من خمسة كلاب تتحرك في أرجاء المكان في ملل ..... ويبدو أن قدومي قد أزعجهم جدا .....
" عزيزي أحمد .... أرسل لك بهذه الرسالة وقد عرفت أين أنت ... اعذرني لأنني لم أكن أعرف .... أتمنى لك الشفاء سريعا ... أنا أعرف الإحساس القاتل الذي يصاحب تلك الحقنة الكبيرة الخاصة بعضة الكلب .... كنت أود زيارتك في المستشفى ... لكن أنت تعلم حالتي جيدا .... لكنني سأحاول فعل المستحيل لزيارتك مع عائلتي .... صديقك العزيز ... معتز "