تصلب جسم الملكة السابقة:
_ أنت صريحة.
أجابت فرانسيسكا:
_من السهل علي دوما أن أقول ما أريده مقدماً.
وتساءلت عما قالته لتبدو هذه الوطواط العجوز علي هذا الشكل, وتابعت تقول:
_هذا يبعد سوء التفاهم.
قالت الملكة السابقة وقد أصبح فمها كالفخ:
_تماماً, هذا ينطبق جدا على مفاهيم القرن الواحد والعشرين. لا تظاهر, لا تهذيب ولا سمح الله "لا غرام".
حدقت فرانسيسكا إليها قائلة:" غرام؟."
فقالت الملكة:
_لكنني واثقة أن الحق معك. أنتم الشباب عموماً كذلك, إذا كان اهتمامك الوحيد به هو جعله شريكا في أهداف عملية فقط, فمن الصواب إذن أن تقولي ذلك."
لوت شفتيها. لم يبد عليها أنها تظن أن كل ما تقوله فرانسيسكا أو تفكر فيه هو صواب.
أخذت غرفة الطعام المكتظة بالأثاث تهتز أمام عيني فرانسيسكا, وضعت يدها على الجدار تثبت نفسها, ثم قالت بصوت أجش:
_"شريك؟".
أجابت الملكة السابقة:
_ما دمنا نتجنب سوء التفاهم, فلن أخفي عليك بأنني لا أوافق زوجي علي ذلك.
وألقت ببعض الشوك والملاعق علي المائدة المصقولة بحدة, وفكرت فرانسيسكا في أن هذا كابوس حقاً. فتنحنحت قائلة:
_ أي شراكة؟.
وكانت مضيفتها تنظم أدوات المائدة مكانها بغضب فقالت:
_ قد يكون هذا شيئاً عصريا جداً وعقلانياً. ولكن علينا أن نتبع أيضاً بعض العادات القديمة من الحنان والمودة. حتى ولو لم تؤمنا بالحب, عليكما, علي الأقل, أن تشعرا ببعض المودة والاحترام نحو بعضكما البعض. أنا لا أريد أن تصيب حفيدي كارثة أخرى....".
وسكتت فجأة. ثم سألتها باستياء:
_ إلى أين تذهبين؟.
أجابت فرانسيسكا عابسة:
_أريد أن أتحدث إلى أبي.
لا عجب في أن أباها بدا متضايقا في التاكسي. نسيت حذرها من كعبها العالي, فقد كانت ملهوفة إلي اتخاذ موقف من أبيها. وهتفت:
"أبي.."وإذا بجرس الباب يرن. وكانت قد أصبحت بجانبه, ودون وعي منها فتحت الباب وهي تقول:
_ هالو. الأسرة في....".
سكتت وهي تطرف بعينيها.
فأول ما فكرت فيه أن الصور لم تظهر نصف الأمر. وما افتقدته الصورة هو النظرات الثاقبة التي كانت تجتاحها حتى العظم.
أمسكت بالباب تستند إليه. في مكان ما في ذهنها, كان هناك إحساس غامض بالألفة التامة, وكأنها عرفت الأمير كونراد منذ الأزل.
هاتان العينان الثابتتان, بتجردهما الهادئ وتلك اللمحة الضاحكة فيها رائعتان... إنها تعرف أيضا كيف تبدوان, ولكنها لم تتوقع أن تطبق نظرة التسلية تلك من مسافة ستة انشات.
ابتلعت ريقها بصعوبة, ورفعت بصرها, لم تستطع أن تفكر في شيء تقوله.
وقف كونراد جامداً.
فأول ما خطر في ذهنه فكرة غير منطقية وهي أن فيليكس قد قرأ أفكاره! ولكن, لا. كان أول ما خطر له فكرة أبعد عن المنطق, فكرة بدائية للغاية, وهي أن يحمل هذه المرأة معه ويهرب بعيداً.
كان متلهفا إلي رؤيتها. لقد أدرك مبلغ ذلك وهو يراها هنا, وكان ذلك يشغل باله منذ أيام.
ففي كل وقت كان يرفع فيه بصره عن عمله, وفي كل مرة يقف في الصف في السوبر ماركت أو ينتظر أن يغلي أبريق الشاي..... كان خيالها يتسلل إليه من الظلال مرة أخرى, ودوما بنفس السؤال,هل أنا فتاة بريئة واسعة العينين, أم عجوز أنانية مشاكسة؟
ولكن ما كان يجعل فكه يتوتر إلي حد يؤلم أسنانه,هل أنت مفتون بي بحيث لا تهتم؟
الورقة المدون عليها رقم التلفون وعنوان البريد التي أحضرتها له السكرتيرة في دار نشر "غفرون وبليك" كادت تبلى لكثرة الاستعمال, لكثرة ما كان يخرجها من جيبه ثم يعيدها إليها.
حتى الآن بقي متماسكاً أمام إغراء ابنة بيتر هيلير. لكنه كان يعلم أن ذلك شيء فاشل.
في الأيام التي تلت تلك الحفلة السخيفة, لم يستطع أن يعد المرات التي نظر فيها إلي جدول مواعيده وهو يتساءل كم من الوقت تستغرق الرحلة إلي تلك المكتبة عند خزانات الغاز
ثم يقرر أن ذلك ليس استغلالاً جيداً لوقته ثم يهنئ نفسه لهذا القرار العقلاني, كان في قراره يراهن قيها على طول المدة التي سيثبت فيها علي مبدئه ويبقي بعيدا عن ابنة بيتر هيلير.. حتى هذا النهار كان قد وضع خطة للذهاب للمكتبة بعد الصف, ثم, بعد أن طلب منه فيليكس الحضور للغداء, أجل ذلك إلي العصر.
والآن ها هي ذي...هنا!
ولكن كيف عرف فيليكس ذلك بحق الله؟ وكيف كتم الأمر؟ أمضى الصباح, وهو يقنع كونراد بأن يتحدث إلي ذلك المحتال عن منحه منة لفقراء الجالية المونتاسوربة, لكنه لم يأت علي ذكر فرانسيسكا قط. لقد فكر فيها كونراد, طبعاً. فكر فيها؟ يا الله! كان عليه أن يكافح موجة الشوق التي يشعر بها تجاهها. موجة الشوق التي تشبه مد البحر....
ففي اللحظة التي ذكر فيليكس فيها اسم بيتر هيلير, أصبح كونراد وجها لوجه مع غموض ابنته. وعادت تحتل أحلامه, وأصبح لا يعرف, ما إذا كانت ساحرة أم أميرة من الجن. أم أن تلك مشكلته هو وليست مشكلتها؟
لكن فيليكس لم يذكر حتى اسمها, ولم يذكر أيضاً أنها مدعوة إلي ذلك الغداء, وكان ذلك منتهي التفوق في المناورة حتى بالنسبة إلي مستوى فيليكس, ما الذي يهدف إليه يا ترى؟
حسناً, إذا كان يظن أن كونراد سيذعن ويفعل ما يريده بيتر هيلير لأنه انبهر بابنته, فإنه مخطئ كثيراً. لم ير كونراد اليوم من تلك العينين البريئتين الغامضتين أية لمحة.. بل بدتا مركزتين حادتين وراء نظارات مؤطرة حديثة الطراز, وكانت أطول بانشين تقريباً, وأكثر أناقة بعدة سنوات ضوئية.
شعر بغضب متعذر تفسيره وهو يتأملها, كان ثوبها التبني, المذهب من تفصيل خبير, وكان شعرها ممشطا بنعومة شعر راقصة باليه, وشم رائحة عطر هو أكثر ندرة وثمنا من أن يعرف نوعه.لا شك في أنها ليست أبداً تلك الفتاة البريئة صاحبة المكتبة, فهذه امرأة عاملة واضحة العينين, كانت بالضبط المرأة التي كان يتوقعها ابنة لبيتر هيلير, بالغة الأناقة والحنكة, مستقلة بحياتها تماماً.لكنه ما زال يريدها.
وسألها فجأة , رغم غضبه من نفسه:
_ "ماذا تفعلين هنا؟."
منتديات ليلاس