تخلت فرانسيسكا عن بحثها حالما تركها الرجل الطويل. كان الزحام شديداً, ولم تستطع العثور على جاز. ولأنها لن تعثر أبدا على الأمير الذي لا تعرفه, ارتدت معطفها وخرجت إلى حيث الظلام والمطر.
لم يكن سهلاً أن تجد تكسي دون نظاراتها. أشارت بالوقوف إلى سيارة "رانج روفر", ثم إلى شاحنة, وأصبح ضوء إشارة السير برتقالياً قبل أن تجد تاكسي. أعطت السائق العنوان, ثم استندت إلى الخلف في مقعدها وأغمضت عينيها, صباح غد ستشتري ثلاث نظارات. واحدة للبيت وواحدة للمكتبة وواحدة تبقي في حقيبة يدها, الكابوس الذي حدث هذا المساء لن تسمح بحدوثه مرة أخرى أبداً.
لكنه لم يكن كابوسا من كل النواحي, كما همس لها صمت غامض. ذلك أن الرجل الطويل في الشرفة لم يكن كابوساً.... بل كان.... ساحراً جداً.
أدركت أن ثمة فرقا بين التوقع والحقيقة.... لقد كانت تتوقع أن تنتهي هذه الليلة بعودتها مع باري حيث يخططان لمستقبلهما. ولكن, بدلاً من ذلك, انتهى بها الأمر في هذه التاكسي التي كانت تخترق بها شوارع لا تكاد تراها أو تميزها, وتحلم برجل لا تستطيع تمييزه إذا رأته مرة أخرى.
حسناً, قد لا يكون هذا صحيحاً. لأن جو السلطة الذي يحيط به كان بالغ التأثير. ربما سيعود ذلك التأثير عندما تستعيد نظاراتها وتتمكن من رؤية وجه الرجل, وتلك الهالة من الطاقة الفياضة ورائحة البراري, تلك الرائحة ستذكرها من مسافة خمسين خطوة.
لم تكن ليلتها مريحة. حاولت أن تأوي إلى سريرها لكنها بقيت تفكر في باري, وفي الرجل الغريب, ثم باري مرة أخرى.
وكانت لحظة تدعو إلى السخط عندما وجدت نظاراتها الجيدة خلف وسادة الأريكة, وتذكرت عندما رفعها باري عن عينيها.
عليها أن تنسي رجل الشرفة ذاك وتفكر في باري. فهي تعرفه علي الأقل... أو تظن أنها تعرفه.
الآن وهي وحدها, أخذت تتذكر أن باري كان دوما يبدو وكأنه يصاحب فتاة أخرى, وبعد أن تعرف إليها أنتحل لذلك عذراً بكل سهولة, والآن وهي تفكر في ذلك, أدركت أنه لا بد كان يصاحبهما هما الاثنتين, رباه, ما أفظع حكمها عليه!
تخلت عن النوم وأخذت تجول في أنحاء شقتها الفارغة في معطفها المنزلي القرمزي اللون.
تسربت الدموع من عينيها فمسحتها بغضب لكنها لم تبك قط, فماذا حل بها؟
إنها لا تفتقده. إنها لم تعرفه قط فكيف تفتقده؟ كانت تفتقد الحنان فقط. حسناً, ليس هناك رجل حقا يشعر بالحنان نحو امرأة تجد أسهل عليها أن تعد وتحسب من أن تدع مخيلتها تنطلق. هي التي ورثت شكلها عن أبيها الذي يشبه سكان الكهوف الأوائل. والتي تضع نظارات مربوطة إلى بعضها البعض بشريط لاصق.
حتى ذلك الغريب لم يكن ليتحدث إليها لو أن الظلام لم يستر وجهها عنه.
لا, لا, لم يكن مكان لها في مجال الإشباع العاطفي. وقد أثبتت ذلك حوالي عشر مرات خلال سن الرشد وحدثت نفسها بأن عليها أن تعتاد على ذلك وتكتفي بمهنتها. وبهذا, على الأقل, يكون لها حظ في النجاح.
وهكذا, كانت في الصباح التالي قد أنهت تنظيم مناضد الكتب عندما وصلت جاز, فبادرتها فرانسيسكا قائلة:
_آسفة لأنني لم أستطع أن أعثر على الأمير لأجلك.
أخرجت جاز "ترموس" من كيس ورقي وأزاحت غطاءه البلاستيكي ثم ناولتها إياه.
ثم قالت متفلسفة:
_هذا لا يدهشني لقد نجحت في أن أتبادل الحديث مع "موريس ديلون" الذي سيقيم حلقات دراسية حرة للمؤلفين الجدد في مكتبتنا, وذلك في الشهر القادم, ماذا عنك؟.
هزت فرانسيسكا رأسها:
_التقيت فقط برجل أراد أن نخرج إلى الشرفة ونتحدث تحت المطر.
رفعت جاز حاجبيها الأنيقين:
_هذا مثير.
ودهشت حين احمرت وجنتا فرانسيسكا قليلاً, وقالت متأملة:
_لا أراك فعلت شيئاً كنت أنا سأفعله لو كنت مكانك, أليس كذلك؟.
فقالت فرانسيسكا مضطربة بشكل عادي:
_طبعاًَ لا.
ضحكت جاز بصوت مرتفع , فقالت فرانسيسكا:
- لم أقصد ذلك. حسناً, كفى ضحكا علي. رباه! وكيف أعرف ما كنت ستفعلينه.
رشفت جاز قهوتها:
_في الحقيقة, ما كنت لأستطيع القيام بالكثير على شرفة تحت المطر.
ونظرت إلى فرانسيسكا متأملة:
_لا بد أن الجو كان باردا جداً.
أجابت:
_آه....نعم, ربما. أنا لم ألاحظ في الحقيقة.
رشفت جاز مزيدا من القهوة:
_آه... كم لبثتما في الشرفة؟.
فأجابت فرانسيسكا بشيء من التمرد:
_لا أتذكر.
فقالت جاز:
_آه, هذا مثير للخيال كما أرى.
لم تستطع فرانسيسكا من الشعور برجفة خفيفة لا إرادية. وأدركت أن جاز لاحظت ذلك. وقالت دون وعي:
_وماذا كان بإمكاني أن أرى منه؟ هذا يذكرني.... هل لك أن تعطيني نظاراتي الاحتياطية من فضلك.
لم تقل جاز شيئاً. فقالت فرانسيسكا:
_اسمعي, لا يمكنك أن تظني أنني انجذبت إليه بشكل جاد. فأنا لم أره سوى مرة واحدة.
فقالت جاز:
_التجاذب عادة يحصل على الفور, ولا يمكنك أن تفعلي شيئا تجاهه. حسناً, بإمكانك أن تختاري بين الاستمرار فيه أو الهرب منه... فالتجاذب قد صعقكما لتوه.
ارتجفت فرانسيسكا مرة أخري. حتى شعورها نحو باري لم يكن صاعقا تماماً, ليس بالشكل الذي تعنيه جاز. فقالت بعنف:
_اسمعي. كنت أظن, حتى أمس, أنني أحب باري, لذا لست مستعدة الآن لتلقي صعقات الانجذاب.
بدت ابتسامة واسعة على شفتي جاز, فكادت فرانسيسكا تجن , فصاحت بها بقنوط:
_ ماذا؟ ماذا؟.
محت جاز الابتسامة عن فمها, وقالت:
_كما تقولين.
قالت فرانسيسكا بكبرياء:
_أعطيني نظاراتي. لدي عملاً أريد القيام به.
أعطتها جاز ما طلبت, ثم ذهبت فرانسيسكا إلى غرفة المخزن وهي تهمهم.
تبعتها جاز أخيراً وقالت لها:
_أنا أعرف أنك لم تعثري الليلة الماضية على الأمير, لكنني أظن أن بإمكاننا أن نقيم محاورة مثيرة ذات مساء, إذا استطعنا أن ندعوه.
لم تكن فرانسيسكا قد صفحت عنها بعد, فرفعت نظاراتها فوق أنفها وقالت:
_إنه اللجوء الرخيص إلى معالجة الموضوعات المثيرة.
فقالت جاز:
_نعم, هذا ما ظننته. لكنني نظرت في كتابه الليلة الماضية. هل قرأته؟.
رفعت فرانسيسكا أنفها في الهواء فقالت جاز:
_لا أظنك قرأته, إنها قصة جهنمية بقدر ما هي علمية.
فقالت فرانسيسكا: أهكذا؟.
أجابت جاز:
_ولهذا, ادعيه.... تحدثي إليه, أخبريه بمبلغ أهمية زبائننا.
نسيت فرانسيسكا أنها أخبرت ذلك الغريب الليلة الماضية بهذا الشيء نفسه, فسألتها:
_ولماذا أفعل ذلك؟.
كانت جاز مستعدة لهذا السؤال, فأبرزت لها من وراء ظهرها ورقة لامعة, وهي تقول:
_انظري إلى هذه.
نظرت فرانسيسكا, فاستطاعت هذه المرة أن ترى الصورة الفوتوغرافية, كانت رائعة الجمال بالأبيض والأسود.
كان وجها مؤثراً مثيراً للإعجاب. لم يكن وسيما بالشكل المتعارف عليه, فقد كان أكثر قوة من أن يكون جميلاً بوجنتيه العاليتين وأنفه البارز المنحني وعينيه اللامعتين. لكنه كان وجها لا يمكن نسيانه بسهولة,وارتجفت فرانسيسكا لسبب يتعذر تفسيره.
قلبت الصفحة. بالإضافة إلى التعريف بالكتاب, كانت هناك صورة أخرى, من الكتاب هذه المرة, وبألوان رائعة أظهرت لونه الذي لوحته الشمس بشكل بديع. كان قميصه قد فقد معظم أزراره يشكل واضح. بينما هو يلوح بفأس فوق رأسه, ضاحكاً. كان مفروضا أن تجعله الجبال المكللة بالثلج خلفه يبدو صغير الحجم, لكن هذا لم يحصل.منتديات ليلاس