نظر إليها مصعوقا, فقالت بلهفة :
_"هل تفهم ؟ ".
قال :"نعم ".
قال ذلك دون أن يفتح أسنانه تقريباً. ولم يكن في صوته أية مشاعر :
_"كل شيء كان زائفاً وأنت تريدين أن تعودي إلي الحياة الحقيقية. هذا واضح جداً. سأرتب الأمر لك حالاً ".
ربما فعل ذلك. لم تعلم. لأن الزائر التالي الذي استقبلته عقب عودتها كان فيليكس الملك السابق وقد جاء من المطار مباشرة مثقلاً بالحقائب ومبتسماً بنفاق.
قال لها وهو يضمها إلي صدره :
_"يا طفلتي الحبيبة. يا له من نصر! ".
لم تكن مستعدة لعناق ملك سابق في الخامسة والسبعين, ملك دمر حياتها بمكره. فخلصت نفسها منه وسألته بضجر :
_"ماذا تريد؟ ".
_سمعت أنك قلقة لأن ليس لديك ملابس ملائمة....
_"ماذا؟".
_"هذا ما قاله كونراد ".
لم تصدق ذلك. ملابسها؟ هل ظن حقاً أنها كانت قلقة بشأن الملابس؟ وفكرت في أنها ستقتله.
ولم يلاحظ الملك السابق ذلك, من الواضح أن انعدام الحساسية هو شيء متوارث. واستمر يقول :
_"هناك بالتأكيد حفلة راقصة الليلة, ولا بد أنك لم تحضري شيئاً لتلبسيه لهذه المناسبة, وهكذا طلبت المساعدة من أمك فقط. ومن شريكتك المسلية في المكتبة!".
وأشار إلي الحقائب.
حدقت إليه غير مصدقة:
_"هل قلبت ملابسي؟ ".
بدا مذهولاً :
_"ليس أنا بل صديقتك جاز ".
_"كيف تجرؤ...
وسكتت فجأة وكأنها فهمت الآن ما قاله :
_"أية حفلة؟ ".
فابتسم مشرق الوجه :
_"الاحتفال بمنتصف الصيف...عيد سان جون...هناك دوماً احتفال كبير في هذا العيد. ولكنه سيكون هذه الليلة أكبر. فأنا أقدم حفيدي إلي شعبه ".
هزت فرانسيسكا رأسها لكي تفهم, وقالت :
_" أنت مجنون! نحن في القرن الواحد والعشرين ".
_"أبداً. إن للقصر قاعة رائعة للرقص, وقد سبق أن دعوت الضيوف....
تمتمت :
_"أراهن علي ذلك ".
تظاهر بأنه لم يسمع :
_"كل شيء قد رتب في آخر لحظة وأحضرت بذلة كونراد الرسمية وأثواباً لك لتختاري من بينها ".
_"لكنني راجعة إلي الوطن.
أمسك فيليكس بيديها, فحاولت أن تخلصهما منه, لكنه كان قد أمسك بهما, وبدا جاداً للغاية :
_"فرانسيسكا, عزيزتي. يجب أن تصغي إلي. عليك أن تكوني هنا, كونراد بحاجة إليك ".
فوجئت بذلك وعاد إليها الأمل مرة أخري وسألته :"أحقاً؟ ".
_"طبعاً, إنه لا شيء من دونك ".
ارتجفت فجأة :
_"هل قال ذلك؟ ".
_"ليس مضطراً لأن يقول ذلك وكل شخص يعرف هذا ".
قالت :"آه! ".
وتشبثت بهذه الكلمات. إنه بحاجة إليها, إنه لا شيء من دونها. كل شخص يعرف هذا.
وقال :
_"أنت شيء نافع لا يقدر بثمن ".
حاولت فرانسيسكا ألا تجفل, لكن ابتسامتها أصبحت جافة....
وتابع قائلاً :
_"أنت ودود للغاية وطبيعية غير متصنعة, وتحبين حبيبي كونراد, صدقيني إنك أحسن سفيرة يمكن أن نختارها ".
تلاشت ابتسامتها فجأة. وعاد هو يقول :
_"أعترف أنني شككت فيك في البدء ولكن في هذه الرحلة... كنت رائعة إلي حد فاق كل توقعاتنا ".
توقعاتنا! توقعاتنا! هل هذا يتضمن توقعات كونراد أيضاً؟
وفجأة, بدأت فرانسيسكا تشعر ببرد شديد, لفت ذراعيها حولها رغم أن غرف القصر دوما دافئة في شمس العصر. وقالت بصوت خطر :"آه؟ ".
لكن الملك السابق فيليكس استمر في حديثه, وعلي أي حال, لم يكن ماهراً في استشعار الخطر. وقال :
_"لأجلك فقط وافق المسؤول عن المتحف الوطني علي الإفراج عن التاج ".
شعرت فرانسيسكا بالارتباك. فسألته :
_"أي تاج؟ ".
_"حسناً, ليس تاجي, فذلك يعني خرقاً للدستور, ولكن تاج ولي العهد, وتاج آخر نسائي صغير سيكون لك بالتأكيد".
نظرت إليه خرساء. وشعر بأنه لم يؤد دوره كما يجب, فقال بلهجة لوم :
_"إنه شرف عظيم ".
_"إنه أعظم مما يلزمني. فأنا عائدة إلي الوطن ".
انتبه أن هنالك شيء ما, لا يعرف الصفح.
_"لا يمكنك ذلك ".
_"سنري ".
وكان, علي كل حال, دبلوماسي خبير.
_"وماذا عن كونراد؟".
_"عمل كونراد ممتاز تماماً من دوني ".
_"هذه هي النقطة. لم يصبح عمله ممتازاً حتى حصل عليك ".
نظرت إليه بتمرد, ولم تقل شيئاً.
فكر فيليكس في كل تلك المجلات التي كان يقرأها بغبطة في الأيام القليلة الماضية, وقال بإخلاص :
_"يا عزيزتي. لقد أعدته إلي بلاده ".
أشاحت بوجهها :
_"أنا مسرورة لأجله. وبهذا يمكنني أقول أن وظيفتي انتهت ".
_"أبدا فقد جلبت إليه سعادة لم أرها من قبل".
وأدرك فيليكس فجأة أن هذا صحيح. فأفاق من غفلته, وتخلي عن التكلف في حديثه. وقال :
_"أنا أعلم إن هذا ليس من شأني, ولكن لا تتركيه الآن. أظنه بحاجة إليك حقاً ".
التفتت فرانسيسكا وأخذت تتفحصه وقد ضاقت عيناها. لأول مرة منذ وصوله, توقف عن الابتسام. فقالت ببطء :
_"أتعني ذلك؟ ".
_"لقد عرفته زمناً طويلاً, فلم أره قط يعبث مع فتاة. لا تكلفيني بما يفسد الأمر عليه....أو بالأحرى عليكما أنتما الاثنين.
ترددت, فقال متملقاً :
_"الليلة فقط أبقي هنا الليلة وتحدثي معه في الصباح ".
رآها مترددة. فتملكه اليأس :
_"ألا تريدين أن تمنحيه فرصة أخري؟ ".
لكنها لم تجب, فأذعن وخرج من الغرفة. وعندما انفردت بنفسها, سارت إلي النافذة وأخذت تنظر إلي الحدائق المنظمة. لم يكن القصر كبيراً, ولكن في الحدائق كل ما يتوقعه المرء,النافورات, أحواض الزهور بهندستها الجميلة, والطرق الممهدة, لكنها لم تر أياً من ذلك.أتراها تريد أن تمنح كونراد فرصة أخيرة؟ أتريد ذلك حقاً؟منتديات ليلاس
ومن أعماق ذاكرتها جاءها صوته, وقد أدفأه الضحك والمودة. فيجذبها...يجذبها إلي بحر من المشاعر المتلاطمة, ثم: ما كان لك أن تكوني بهذا الجمال, يا أميرة حكايات الجن.
ارتجفت بالرغم عنها. آه, إنها تريد أن تمنح كونراد فرصة أخيرة. تريد أن تمنحها لهما, هما الاثنين. لا تريد فقط, بل ترغب وتحتاج إلي ذلك.
وقالت بصوت مرتفع :
_"إذا في ذلك فرصة تريني أنه يحبني, فسأجازف بأي شيء ".
......
نهاية الفصل الثامن.......