المنتدى :
القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
حكاية ذات العنق الطويل , من حكايات زورك نيميسيس
أشعر أن عنقي ليس على ما يرام .. بمناسبة الأعناق ، هل حكيت حكاية مصاصة الدماء الهندية ؟ لا بأس هذه النظرة في عيونكم تعني أنني لم أفعل .. عموما سندخرها لوقت لاحق .. لكن حاليا تذكرت قصة أخرى .. بمناسبة الأعناق أيضا . منتدى ليلاس الثقافي
حكاية ذات العنق الطويل
"أن تطيل امرأة من قبائل الزامبيزي عنقها فهو أمر عادي .. أما أن تفعل ذلك فتاة مصرية في العاشرة من عمرها فهو أمر مخيف "
إن المصايف المصرية لها مزية هامة جدا .. أنك لا يمكن أن تشعر فيها بالسأم أبدا.. الشوارع صاخبة من الفجر إلى الفجر .. باعة الترمس والفيشار في كل مكان يذكرونك دائما أنك حتما جائع .. صوت الأمواج الرتيب يصلح أن يكون خلفية موسيقية لو كان هذا مشهد ما في أحد الأفلام .. طفل يمشي بالآيس كريم على الكورنيش وكأنه لايعبأ لأي شيء في هذا العالم .. وكنت أنا هذا الطفل - في الثانية عشر من عمري - أمشي في شوارع ( رأس البر ).. مدينة ساحلية تستخدم كمصيف في مصر.. كنت سعيدا جدا اليوم .. فبعد قليل سيأخذنا أبي إلى الملاهي .. هذا رائع .. سيكون هناك بيت الرعب و السيارات التي ماصنعت إلا لتتصادم والكثير من الآيس الكريم المنعش .. يالي من شخص محظوظ حقا .
إن أبي شخصية أكاديمية جدا فيما يتعلق بالملاهي ... ( هيا .. إن لكل واحد منكم أن يركب ثلاثة ألعاب فقط .. هيا انطلقوا الآن ) ... كل الآباء لا يسمحون سوى بثلاثة ألعاب فقط .. هل هو قانون ما ؟ .. لقد كنا ونحن أطفال نلتزم حرفيا به ونشعر أنه ليس من حقنا أبدا لعبة رابعة .. لكن والد مراد يسمح لهم بخمسة ألعاب .. لابد أن مراد شخص سعيد جدا.. يالي من شخص تعيس في هذه الحياة .
لم تكن الملاهي التي ذهبنا إليها كالملاهي الحديثة التي نراها الآن .. كانت أشبه ببعض الخردوات التي جاؤوا بها من مكان ما وصنعوا بها ألعابا .. هناك ضوء يتسلل من مكان ما في بيت الرعب يسمح لك برؤية كل التماثيل السخيفة قبل أن تصل إليها .. المفترض أن يكون مظلما .. سيارتي المتصادمة هي الوحيدة التي لا تتجه نحو اليسار أبدا .... فأنا مجبر دائما على الانعطاف يمينا في دائرة مملة .. من سمى هذا المكان ملاهي ؟ .. ظللت أمشي في هذا المكان باحثا عن شيء ما لا أعرفه حتى وجدت استوقفني شخص غريب .
رجل يرتدي ثياب المهرجين ويضع طربوشا على رأسه وهو يشعر أنه ظريف جدا.. طوال حياتي وأنا لا أحب المهرجين .. ولا أجد فيهم ما يستدعي الضحك .. بل إنني أشعر بالرعب في بعض الأحيان إذا تخيلت أن أحدهم ظهر لي في ليلة مظلمة .. كان الرجل يبتسم بلزوجة ناظرا إلي وهو يقول بلهجته المصرية :
- إيه يا حبيبي .. زعلان ليه ؟ .. خد دي .
وأعطاني بعض الحلوى .. نظرت إليها فعرفتها فورا – فقد كنا نحفظ جميع أنواع الحلوى ونحن صغار - .. كانت من النوع الذي لا أفضله .. شكرته واستدرت متأهبا للانصراف .. وهنا دوى صوت ما من مايكروفون ما في مكان ما يقول بلهجة تقريرية :
- السادة الزوار .. إن عرض (حنكوشة ) سيبدأ بعد دقائق قيلة .. نرجو منكم التوجه إلى مسرح الملاهي الآن .. الدخول مجاني .. وستشاهدون فقرة الساحر مختار المثيرة من ضمن البرنامج .. نرجو منكم الإسراع لأن العرض على وشك أن يبدأ .. وشكرا لكم .
رأيت المهرج يستدير متعجلا إلى مكان ما .. لقد كنت قد أنهيت ألعابي الثلاثة .. لكني أريد بقاء أطول وقت ممكن في هذه الملاهي الخربة لأنني لا أريد الذهاب إلى الشاليه – الفندق – الضيق الآن .. فلأحاول إقناع أبي بحضور هذا العرض .. بحثت عن أبي هنا وهناك .. وأخيرا وجدته يوبخ أخي الصغير على فعل ما من أفعاله الشقية التي يمارسها كهواية .. ذهبت له ... تحدث معي كثيرا على أنه مرهق ويريد النوم .. لكنني كنت مصرا كمستعمرة من الذباب .. لم يجد أمامه مع كل هذا الإلحاح إلا ان يوافق .. يوافق على دخولنا عرض حنكوشة ... ولا أدري كيف يخترعون هذه الأسماء ...
المهرج يحاول قفز الحبل ويتعثر ويقع مرات عديدة متظاهرا بالبلاهة .. ثم يقرر أن يجد شيئا جديدا يفعله بالحبل فيفرده على الأرض ويمشي عليه فاردا ذراعيه متظاهرا بأنه يحاول التوازن ... إنه يظن أنه طريف .. الناس السخفاء يضحكون بشدة وكلهم من ذوي الشوارب .. كيف يضحكون على هذا السخيف ولايضحكون على توم وجيري ؟ .. لن نفهم الكبار أبدا .. جاء بعد المهرج عرض القرد – الذي دائما مايكون اسمه ميمون - .. كان هذا لطيفا نوعا ما .. ثم جاء نافخ النار .. وبعده المهرج السخيف مرة أخرى .. ثم دوى الميكروفون مرة أخرى ليذكرنا أن أهم عرض سنراه في حياتنا سيبدأ بعد لحظات .. عرض الساحر مختار ..
وهنا دخل الساحر مختار .. شاب مصري أسمر كالذي تراه في كل مكان هنا في مصر .. يلبس بنطلونا و قميصا و لاشيء فيه يختلف عن ذلك الرجل الذي يجلس بجانبي .. كنت أعلم أن هذه الملاهي مملة .. هنا وقف مختار هذا في وسط المسرح تماما و تكلم .. وهنا بدأت أشعر أنه مختلف .. كان يتكلم بثقة وبطء ورزانة .. قال أن لديه عرضا لنا لن نصدقه أبدا .. لا هو من ألاعيب الحواة .. ولا هو خدعة .. ولا هو أي شيء آخر يخطر على بالنا .. صمت الجميع في ترقب بانتظار ما سيقدمه .. جاء بعض الرجال بطاولة قصيرة وضعوها في منتصف المسرح تماما .. ثم أتوا بشيء غريب جدا جدا .. سأحاول أن أصفه لكم الآن .. تبا كيف يوصف هذا الشيء ؟
كان أشبه بقمع .. نعم قمع ذا عنق طويل ... وقاعدة عادية ... كان طول عنق القمع مثل طول ذراعك .. وقاعدته عادية كأي قمع آخر ... وضعوا هذا القمع على الطاولة ... وضعوه مقلوبا على قاعدته ... أي أن عنقه هو الذي بالأعلى .. وأحضر الرجال ستارا داكنا ليحجب الطاولة والقمع .. ثم دخل الساحر مختار وراء الستار ببطء.. كنت أفكر فيما قد يفعله هذا الساحر بذلك القمع الطويل .. أخذت أحاول أن أستنتج شيئا ما مرارا لكني فشلت .. ثم قررت الاستسلام والانتظار لأرى بنفسي .. وهنا أزاحوا الستار فجأة ورأينا كل شيء .. رباه .. لقد كانت لحظات مروعة ..
كل شيء كان كما هو .. الطاولة وعليها القمع .. لكن كان هناك شيء آخر .. رأس ... رأس فتاة صغيرة تبرز من فتحة عنق القمع ..... حاولت الاقتراب بعنقي لأتأكد أنني لست واهما ولا معتوها .... يا إلهي .. إنها رأس فتاة .. الفتاة تنظر إلينا وتحرك رأسها .. رأسها الذي يبرز من فتحة القمع ... أين عنق هذه الفتاة بالضبط ؟ .. هل هو بداخل عنق القمع الرفيع الذي لايزيد قطره عن قطر قلمك الجاف ... ثم أين جسدها ؟.. .إن الطاولة أسفلها خالية تماما ولا يوجد شيء ما محجوب منها .... وهنا دعانا الساحر مختار لأغرب شيء يمكنك أن تسمعه من ساحر ... دعانا للاقتراب من رأس الفتاة والدوران حولها وتفحص الطاولة وماتحتها وحولها جيدا للتأكد أنه لا يخدعنا ...
هنا ترددت قليلا .. هل أذهب لهذا الشيء ؟ .. رأيت العديد من الرجال والنساء يقومون من مقاعدهم متجهين لهذا الشيء ... رأيت أبي لازال جالسا بهدوء يحاول اختراق أجسادهم بعينيه ليرى رأس الفتاة ... وهنا قمت من مقعدي ... يجب أن أرى هذا الأمر عن قرب ... لقد ظننت أن هذه الملاهي مملة ... لكنني كنت مخطئا تماما ..
كنت قصيرا في ذلك الوقت لذا اخترقت أجساد الرجال أمامي بسهولة محاولا الوصول إلى الطاولة ... لقد كانوا متزاحمين تصدر منهم همهمات الاستنكار والاستغراب والتساؤل والغضب والقسوة و الرعب ..... نعم همهمات فيها كل هذه المعاني ... لكنني لم أهتم .... ظللت أخترق الصفوف حتى وجدت نفسي امامها فجأة ..... أمام رأس الفتاة .
كانت رأسا كالتي تراها تزين عنق أي فتاة في العاشرة من عمرها .. لكن هذه كان شعرها بني قصير وبشرتها قمحية فاتحة ... ملامحها جميلة وعينيها لم تكن تنظر إلى أحد من الجموع المحتشدة حولها ... لقد كانت عيناها تنظران إلى اللامكان ..... سارحة في دنيا أخرى ... أحيانا تحرك رأسها .... وأحيانا تغمض عينيها في تعاسة .. وعندما برزت امامها فجأة كالقدر أدارت رأسها .... ونظرت إلي ..
إن كل الفتيات اللواتي يستخدمهن السحرة في ألعابهم السحرية على المسارح يكن واثقات جدا ومبتسمات جدا ... إلا هذه الفتاة ... نظرت إلي في تعاسة .. نظرت إلي في ألم ... كنت أعرف أن بالموضوع شيء غير طبيعي .. فلم أكلف نفسي باكتشاف أسفل المائدة أو القمع لأنني لن أجد شيئا ... إن ما أراه أمامي الآن هو نوع من السحر ... السحر الأسود ..
أغمضت عيناها مرة أخرى ثم ازدردت لعابها ... ثم فتحت عيناها ونظرت إلي ثانية .... كنت أنا مندهشا جدا فلم أبد أي حركة إيجابية .... ظللت أنظر إليها كالغبي ... ثم شعرت بحركة ما خلفي ... عرفت أن الرجال بدؤوا ينصرفون مبسملين ومحوقلين ولاعنين هذه الألاعيب الشيطانية ... وهنا ألقيت نظرة متوترة أخرى إلى الفتاة التي كانت تنظر إلى اللامكان من جديد ثم استدرت عائدا ... رأيت أمي تمسك بالكاميرا وتصور ... رائع ... إن هذا المشهد يستحق التصوير وإبقائه عندي إلى الأبد ... عدت إلى مكاني ورأيتهم يحركون الستار مرة أخرى ليحجب الطاولة ..
وعندما فتحوا الستار مرة أخرى لم يكن هناك أثر لرأس الفتاة ... كانت الطاولة .. وعليها القمع .. نظرت هنا وهناك فقد أجد رأس الفتاة يتجول بالجوار لكني لم أجده ... سمعت أبي يقول في ثقة أن مختار هذا ساحر .. وأنه استعان بالجن فيما فعل ... وأخذ يستعيذ بالله من السحرة وشرورهم ... لكنني لن أنسى تلك النظرة التي نظرت إلى الفتاة بها ما حييت .... نظرة استنجاد ... نظرة ألم لم تحاول إخفاءه .. لقد كانت مسكينة ... ولست ادري مالذي فعله بها ذلك الساحر اللعين وهي بعد في العاشرة من عمرها .
غادرنا الملاهي وأنا شارد في كل ما حدث ..... كنت أريد أن أرى تلك الصورة التي صورتها أمي للمشهد ... لم أحتمل الانتظار ... أخذت الكاميرا وصورت باقي الصور حتى أنهيت الفيلم ..... ثم أخذت الكاميرا في اليوم التالي إلى الاستوديو .... قالوا لي أن علي استلامها غدا في نفس الموعد ... يالهم من كسالى .
شعرت بالتعاسة الشديدة بعد ذلك .... فعندما استلمت الصور وجدت صورا عديدة لأخي يبتسم في بلاهة أو لنا مجموعين في صور عائلية .... بحثت عن تلك الصورة فلم أجدها مطلقا .... عرفت من عاملة الاستوديو أن هناك صورة واحدة احترقت للأسف خلال التحميض ...
هل هو حظ سيء؟ ... هل هو سحر أسود ؟ ... هل هو جان ؟ ... لن أعرف أبدا .... لكنني موقن تماما أنني في يوم ما كنت على بعد سنتيمترات قليلة من فتاة مسحورة ... يالها من تجربة .. حقا يالها من تجربة ...
|