بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اليوم اسمحو لي أقول ياصباح الحزن
.
البارتات اللي فاتت اذبحتني واستنزفتني
وكملها البارت هذا علي
تعبت وأنا أكتبه بشكل مرعب
لحد ماوقفت عند نقطة وماقدرت أكتب خلاص
.
البارت الحادي والخمسون
.
أخشى ألا تكون القراءة ممتعة ولكن مؤلمة
احتملوني فنحن نعبر عنق الزجاجة
وبعض الجروح لا بعد أن تُفتح لتتطهر
.
لا حول ولا قوة إلا بالله
.
.
.
بين الأمس واليوم/ الجزء الحادي والخمسون
" آمرني جعلني فداك!!"
أبو صالح نظر إلى عبدالله نظرة غامضة خليط من غضب عارم وعتب عميق ومرارة قاسية وهو يهتف له بنبرة مقصودة:
بأقول لك سالفة.. اسمعها لين آخرها وعقبه نتفاهم!!
اليوم اللي قبل سفرك بيوم.. كنت بأدخل البيت.. فشفت السواق يعطي خدامة أم حسن كيس ملفوف..
أنا نغزني قلبي منهم.. دعيت السوق ولاغيته.. قلت له وش ذا اللي أنت معطيه الخدامة؟؟
فهو قال لي ( إن ام حسن موصيته يجيب له موس حلاقة حاد مثل اللي يستخدمونه الحلاقين.. وماتبي حد يدري)
أولها قلت وش هي تبي بموس الحلاقة.. وعقبه نقدت على روحي.. قلت بصرها..
تبي به اللي هي تبي به ودامها ماتبي حد يدري.. فأكيد إنها تبيه في شي يخصها بروحها!!
عقبه يوم شفتك ثاني يوم نازل متلطم.. ماطرا علي شيء.. ولا كذبتك.. مادريت إنك قدك متعود على الكذب على أبيك..
لكن يوم شفتك ذا الحين.. بذا الحلاقة اللي حتى ماسويتها وأنت صغير.. فهمت السالفة كلها..
أبو صالح صمت وعبدالله صمت كذلك.. وهو يتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه حرجا من والده..
لم يتخيل أنه قد يقف يوما هذا الموقف المخزي أمام والده!!
أبو صالح هتف بغضب مكتوم: ها.. وش فيك متلايط؟؟ ليش ما تحكي؟!!
عبدالله بنبرة حزن عميقة: وش كنت تبيني أقول لك يبه.. أقول لك إن مرتي حلقت شنبي ولحيتي..
جوزا مقهورة واللي أنا سويته فيها واجد..
كنت تبيني أضربها.. وإلا أسحبها من شعرها ؟؟..
أبو صالح تفجر غضبه وهو مازال يكتم صوته والغضب يبدو واضحا في ارتعاش يديه:
وتدور لها عذر يا المرة!!
والله ثم والله لو عالية اللي أغلى علي من نسمتي.. سوت كذا في رجّالها..
إن كان أقول له اجلدها قدامي.. وإن عيا.. جلدتها بروحي لين يتمخلس جلدها..
أنت كنك منت برجال وبتسنع مرتك ولا أنت بكفو.. رديناها على أهلها يسنعونها..
طاق من ديرتك.. تتنى لحيتك تنبت بدل ما توريها السنع!!
نعنبو دارك.. هو قد حد سوى سواتها.. المرة إذا زعلت من رجالها..
زعلت بحشمتها وطلبت رضاها يجيها..
مهيب تمد يدها على لحى الرياجيل يا المرة!!
عبدالله شد له نفسا عميقا ثم هتف بحزم: ما يصير إلا اللي يرضيك يبه!!
بس تكفى ما تدخل حد بيني وبين مرتي!!
أبو صالح بحزم بالغ: ماني بمدخل حد بينكم..
بس عقب مابردت خاطري فيك.. بأقول لها الكلام اللي كان قلته لبنتي لو أنها سوت سواتها..
************************************
زايد يتحاور مع علي.. بينهما شيء غير مفهوم..
عفوي أو متقصد؟؟!!
كساب يسألهما بحزم: وش فيكم تساسرون؟؟ بينكم شيء ما تبون أعرفه قمت من المجلس..
زايد هتف بنبرة مقصودة بها رائحة خبث شاسع: وش اللي ممكن نتكلم فيه وما نبيك تعرفه؟؟
كل شيء يخصنا.. يخصك..
كنت أقول لعلي عن أن رئيس كلية الطيران طالب مزون تلقي كلمة في حفل للطلبة الجدد..
وأسأله إذا يقدر يروح معها..
إلا لو أنت تقدر تروح؟؟.. جزاك الله خير!!
ثم أردف بخبث أشد: تدري يأبيك حفل كبير بيكون في الشيراتون.. وفيه ناس واجد.. وأبي واحد منكم يروح مع أختكم..
لم يفت زايد ارتعاش الفنجان في يد كساب وهو ينزله أرضا ويهتف بحزم بالغ وحاجباه ينعقدان بغضب :
أنا من زمان شايل يدي من ذا الموضوع..
وأنت بروحك قايل لي.. مالحد عليها كلمة غيرك..
كيفك في بنتك.. توديها.. تخليها..تحرقها.. أنا مالي شغل...
أنهى عبارته ليخرج كالملسوع.. بينما علي وزايد يتبادلان بينهما نظرات انتصار!!
بينما هو توجه لسيارته..وهو مازال يرتعش من الغضب!!
بحث في أدراجها عن شيء لم يره منذ أكثر من شهرين..
وجد العلبة الموبؤة.. شد له منها سيجارة..
حينما يقفز إلى ذاكرته موضوع مزون يجد أنه يريد أن يعاقب نفسه مادام عاجزا عن معاقبتها كما يريد!!
أو ربما يعاقب نفسه لأنه يعلم أنه عاقبها أكثر مما يجب..
" تستاهل.. تستاهل!!
هذي هي ما تبي تتوب!!
يعني يأما أموت بالسكتة من سبتها وإلا ما ترتاح..
ماكفاها إنها موتتني وأنا حي!!"
شد له نفسين.. ليشرق ويكح وويطلق التأففات اللاهبة وهو يلقيها خارجا بعد النفس الثاني فقط..
يكره نفسه وهو يطفيء النار بالنار هكذا!!
يكره نفسه حين يشعر بنفسه ضعيفا هكذا!!
تناول العلبة كاملة وألقاها خارجا بامتداد يده وكل قوته!!
ثم عاد ليلكم المقود بقبضتيه كلاهما حتى تصاعد الألم في مفاصله!!
مرارة جارحة تتصاعد في روحه..
يستطيع أن يقول لوالده أنها لا تهمه.. فلتفعل ما تريد..
لكنه لا يستطيع أن ينكر على نفسه كم تهمه!!
وكم كانت سعادته المخفية حين تركت الطيران!!
وهي ترسل له رسالة مع عمها.. أنها تركتها من أجله وأنها تريد رضاه!!
" كذابة.. كذابة.. عمرها ماهمها إلا نفسها!!
ماصبرت حتى شهرين من يوم خلت الطيران..
وهذي هي ناطة تبي ترجعنا للفضايح
تقول تبي رضاي؟!!
داستني أول وتالي.. وتقول تبي رضاي!!"
كلما استغرق في أفكاره .. كلما زادت لكماته للمقود وبيديه الإثنتين..
حتى انحرفت يده اليسار من قوة لكماته لتضرب حامل جهازه المحمول الذي كان له طرف حاد..
ربما لو كانت اللكمة غير لكمة كساب لم يكن ليحدث سوى كدمة بسيطة..
ولكن لأن لكمته كانت مفرطة القوة..
جرح نفسه جرحا غائرا نوعا ما بين مفاصل كفه!!
انتزع غترته وهو يتأفف غضبا وقرفا لا ألما.. ولفها حول قبضته.. وهو ينزل للبيت..
دخل كالإعصار وهو يتجه لغرفته.. كانت كاسرة تجلس مع مزون وعفراء في الصالة العلوية..
مر بهن كالسهم ودون أن يسلم حتى..
وغترته في يده وليست على رأسه!!
كاسرة وقفت وهي تهمس لهما بذوق: بأروح أشوف كساب وش فيه؟؟
همست لها عفراء بأمومة: الله يعينش.. شكلها قلبة من قلبات مزاجه!!
كاسرة دخلت خلفه وهي تناديه.. دون أن يجيبها..
بحثت عنه حتى وجدته في حمام غرفة النوم
يغسل يده وحوض المغسلة ممتلئ بالدم..
والغترة الغارقة بالدم ملقاة في القمامة...
مدت يديها مع يديه تغسلهما وهي تهتف بجزع: كساب من ويش ذا؟؟
هتف لها بنبرة نفاذ صبر غاضبة: مافيني شيء.. جرح بسيط.. وخري خلني أضمده!!
هتفت بحزم وهي تتناول الضمادات من صيدلية الحمام: أنا بأضمده لك..
شدته خارج الحمام وهي تجفف يده بفوطة نظيفة وبيدها أدوات الضماد..
لم يناقشها لأنه يشعر أنه سينفجر من الغيظ.. مع أول عبارة قد يقولها..
جلست على السرير وجلس جوارها.. حين كشفت الفوطة.. كان الدم مازال يتدفق..
هتفت له بحزم حان قلق وهي تشعر أن قلبها يؤلمها من عمق الجرح:
كساب يدك تبي خياطة.. لازم تروح للمستشفى..
رد عليها بغضب: زين خلاص عطيني إبرة فيها خيط.. وأنا بأخيطه.. مايحتاج مستشفى.. كل السالفة رتبتين..
كاسرة بصدمة: أنت صاحي !!.. في أي قرن عايش؟!! تبي تخيط الجرح بروحك..
أجابها بذات النبرة الغاضبة: وتبيني أروح المستشفى عشان جرح سخيف مثل ذا؟!!
كاسرة حينها انفجرت بغضب: أنت وش ذا العقل اللي عندك؟!!
يدك تنزف وتقول جرح سخيف وبتخيطه بروحك!!
كساب بغضب مرعب: قصري حسش لأنها مهيب ناقصتش!!..
وقف وهو يشد له من إحدى الأدراج علبة بها إبر وخيوط من تلك التي توزع في هدايا الطائرات..
والأبرة تكون أساسا فيها خيط.. تناول الكحول المعقم من أدوات الصيدلية التي أحضرتها كاسرة..
سكبه على الخيط والأبرة.. ثم عقّم الجرح..
كاسرة كانت تنظر مذهولة له.. لا تصدق ماتراه.. وغضبها يتزايد عليها..
ثم لم تستطع أن تنظر وهي تراه يغرز الإبرة في جلد يده..أشاحت بنظرها وبمرارة..
لم يستغرق دقيقة حتى انتهى.. بخياطتين صغيرتين دقيقتين.. كما حدد!!
ثم وضع عليه لاصق طبي.. وانتهى!!
كل هذا وكاسرة مازالت تجلس جواره..
حينها هتفت بنبرة عاتبة: ترا الطريق للمستشفى ما يأخذ ربع ساعة حتى..
بدل الطريقة الهمجية المتوحشة اللي سويتها في روحك..
لكن أنت إذا ما وجعت قلبي ما ترتاح!!
حينها هتف لها بمرارة متأصلة: والله ماحد قلبه موجوع غيري..
إذا هي وأبيها ماذبحوني ماهم بمرتاحين!!
كاسرة هتفت بغضب: من هي ذي اللي بتذبحك؟؟..
أجابها بغضب مشابه: مهوب شغلش!!
كاسرة انفجرت: إلا شغلي ونص.. من هذي اللي تأثيرها عليك يوصل إنها تذبحك!!..
حينها أجابها ببرود كان يحترق تحته: اعتبريها زلة لسان غير مقصودة!!
كاسرة صمتت وهي تحترق.. لن تسأله أكثر حتى لا يشتم رائحة احتراقها تتصاعد مع احتراق جوفها من الغيرة..
فهي باتت تشك أنه اخترع هذه العبارة لمجرد إغاضتها!!
همست بحزم وهي تسأله لتغير الموضوع: أنت قاعد مع حد يدخن يوم جرحت يدك؟؟.. فيك ريحة زقاير..
وأشلون جرحت يدك أساسا..؟؟
حينها أجابها ببساطة حازمة كأنه يريد أن يجرحها: أنا اللي جرحت نفسي بنفسي!!
وأنا اللي كنت أدخن!!
كاسرة قفزت كالمدلوغة: نعم؟؟ أنت اللي ويش؟؟
ومن متى وأنت تدخن.. وأنا معك قربنا نخلص 3 أسابيع عمري ماشمتيها فيك ولا شفتها معك!!
أجابها وكأنه يريد أن يجرحها أكثر لشدة جروحه التي تغلغت في روحه:
أدخن حسب المزاج.. متى ماطرا علي!!
عندش مانع؟!!
******************************************
مازالت عاجزة على السيطرة على دموعها وارتعاشها..
وجهها تورم لكثرة البكاء.. ولا يهمها أن يدخل عبدالله الآن ويراها
حتى وإن كانت وعدت نفسها الآف المرات أنه لن يرى دموعها!!
كلما تذكرت ماحدث لها الليلة.. تزايدت دموعها انسكابا.. وأناتها ارتفاعا..
تشعر بالحرقة والمهانة والعار والخجل وانعدام الأمن..
كل هذه المشاعر القاسية القارصة تجمعت الليلة عليها.. ليتزايد بكاءها مرارة وحرقة!!
كانت تجلس مع أم صالح ونجلا حين ناداها عمها أبو صالح لتلحق به إلى غرفته..
وقفت بجزع لتتبعه.. وتوجس مرعب يتصاعد في روحها
لطالما كانت تخاف أبا صالح وتهابه.. أكثر حتى من والدها..
تقدمت بخجل وهي تدخل غرفته بخطوات متيبسة.. هتف لها بحزم: تعالي وسكري الباب
تقدمت وهي تغلق الباب... ليحكى لها الحكاية التي حكاها لعبدالله..والا ستنتاج الذي استنتجه!!
شعرت أنها تتمنى لو أنها تذوب في تلك اللحظة.. تختفي!!.. تتبخر!!..
لم تستطع حتى رفع عينيها إليه..
وليته اكتفى باحراجها بالحكاية التي كانت لوحدها كافية لتشعر بكل عار العالم..
ولكنه انفجر فيها بحزم غاضب:
هذي فعايل بنت الأصل يا بنت الأصل.. والله ثم والله لو عالية مسوية كذا في أخيش إن دمها حلال عليه
وش ظنش أبيش يقول لو درى بسواتش..؟؟
زين رجالش غلط عليش.. وماراضاش.. كان جيتيني.. والله ثم والله لأعلقه من أرجيله عشانش..
لكن ذا الحين مالش وجه عندي.. وعذرش انقطع.. لأن سواتش ماتسويها حتى مضيعة المذهب..
ورجالش كنه إياش اللي ماعرف يسنعش!!
قال لها كلاما كثيرا مؤلما جارحا.. تحاول أن تتناساه فلا تستطيع!!
وأكثر ما يؤلم أنها لم تستطع أن تدافع عن نفسها حتى بكلمة..
لأن ما سيرونه جميعهم أنه مهما اخطأ عبدالله في حقها لا يمكن أن تعاقبه بهذه الطريقة..
حق له أن يمزق روحها وحياتها ويضيع مستقبلها.. ثم تكون بضع شعرات في وجهه أثمن من كل ذلك!!
نادمة بشدة على تصرفها.. وليس من أجل عبدالله.. ولكن لأنها بهذا التصرف جعلت نفسها في موقع المخطئة الخطأ الذي لا يغتفر..
تتخيل لو علم والدها الذي هدد بقتل عبدالله لو ضايقها.. لو علم بما فعلته.. لربما قتلها هي!!
لا يوجد حتى من تلجأ إليه!! لأن الكل سيرفع حاجبيه استنكارا من فعل هذه المجنونة..
شعور بعدم الأمان وأنها لن تجد ظهرا يسندها بات يخنقها... فهي بفعلتها هذه أعطت لعبدالله سلاحا مسلطا دائما على رقبتها..
ومع وجود أبي صالح كشاهد.. ضاقت عليها الدائرة حتى اختنقت!!
تتخيل مظهرها أمام الناس لو انتشر الخبر..
"جوزا الخبلة حلقت شنب رجالها ولحيته"
يزداد بكاءها عنفا.. لا تريد أن تكون منبوذة أكثر من ذلك!!
لا تريد أن تكون منبوذة!!
تتخيل ما الذي قد يفعله عبدالله في ظل معرفته أنها لا تستطيع العودة لأهلها خوفا من معرفة والدها لما فعلته!!
تعلم أن والده أعطاه نصيبه من الكلام الجارح.. وأنه الآن معبأ تماما عليها!!
رغم كراهيتها له ولكنها تعلم تماما أي موقف محرج مذل وضعته فيه أمام والده!!
ولأنه لا يستطيع تفريغ غضبه في والده.. فبالتأكيد سيبحث عمن يفرغ غضبه فيه!!
ومن أنسب ممن كان سببا لإحراجه وذله؟!!
تبكي أكثر واكثر.. وهي تكتم شهقاتها حتى لا تزعج ابنها النائم..
تشعر كما لو أن شهقاتها مناجل مزقت روحها دون أن تجد طريقا للخروج..
لذا مازالت تعيث خرابا وتمزيقا كخبط عشواء بحثا عن الطريق!!
ألا يكفي ماحدث لها طيلة السنوات الماضية؟!
ألا يكفي!!
" والله العظيم تعبت.. تعبت!!
ماعاد فيني استحمل!!
أنا ما أنا بطوفة الكل يضرب فيها ويبونها ما تنهد!!
تعبت ياربي... تعبت!!
يا الله فرجها من عندك.. وإلا خذ أمانتك عندك!!"
كان بكائها يزداد عنفا مكتوما..وأفكارها تزداد قتامة ومرارة... وجسدها يزداد ارتعاشا كمصابة بالحمى..
حين سمعت صوت الباب يُفتح..!!
*********************************
يقف أمام باب غرفتها وهو يشد له نفسا عميقا
هل يفعلها ؟؟
أربع سنوات مرت لم يدخل غرفتها مطلقا!!
ولكنه سيموت من القهر أن فعلتها وذهبت!!
سيموت فعلا!!
فهو كان قد بدأ يبني له أملا أنها ستعود يوما إلى حضنه..
ولكن إن ذهبت.. فإن كل هذه الآمال ستنهار لا محالة..
ألا تعلم مكانتها عنده!!
لماذا تريد المتاجرة بهذه المكانة؟!
ولماذا تريد الاستمرار في إشعاره برخص مكانته عندها؟؟
كم هو مؤلم إحساسه أن الإنسان الأثمن لديك في كل العالم.. يُشعرك أنك الإنسان الأرخص لديه!!
قضى الساعات الماضية يركض على الكورنيش..
ثم مر بمسجد وصلى قيامه..
هدأت سورة الغضب.. ولكن القهر والمرارة تعمقا حتى أقصى خلية من خلاياه
تشبعت خلاياه بهما حتى تفجرت بقيحهما!!
شد له نفسا عميقا آخر.. ثم طرق الباب..
همست برقة: ادخلي خالتي.. مابعد تمنت..
دخــــــل..
كم اختلفت الغرفة من بعده!!
في المرة الأخيرة التي دخلها ليرجوها للمرة الأخيرة بكل حرارة أن تتراجع عن قراراها لدراسة الطيران.. وصفعته برفضها القاطع
كانت الغرفة أشبه بغرفة طفلة.. ألوان الزهر والبنفسج تغمر المكان..
ولكنها الآن غرفة تنضح بمرارة النضج وألوان المارون والذهب وستائرها الكلاسيكية القاتمة..
مزون حين رأته قفزت حتى كادت تتعثر..
لم يخطر لها مطلقا ولا حتى في أعذب احلامها أنه قد يزورها يوما!!
توجس قاتل اخترم روحها.. وسعادة محلقة شعرت بها ترفرف في جوانحها..
لا يهمها إن كان جاء ليسمعها بعضا من قسوته!!
يكفيها أنه هنا..
لم تتخيل أنها قد تراه في غرفتها مرة أخرى.. قريب هكذا!!
وكم حلمت بهذا القرب!!
تذكرت أنها ترتدي بيجامتها.. قد يكون سابقا اعتاد رؤيتها بالبيجامة وهما يسهران كل ليلة سويا..
ولكنها الآن تشعر بخجل عميق.. وتود أن تتناول روبها المعلق لتلبسه..
ولكن قدميها المتيبستين لم تتحركا من مكانهما..
همست باختناق: هلا كساب.. هلا والله..
تفضل حياك..
تعال نقعد في الجلسة!!
أجابها بقسوة: ما أنا بجاي أقعد.. كلمة ورد غطاها..
أجابته بذات الصوت المختنق: آمرني فديتك..
حينها انفجر فيها بغضب عارم: الحين تقولين آمرني فديتك.. وأنتي مايهمش إلا روحش ولا عليش من حد..
سويتي اللي في رأسش ودخلتي طيران.. ويوم طاب خاطرش منها خليتيها بكيفش..
الحين أبي أدري يا اللي ما تستحين.. تروحين تلقين خطاب عندهم ليه؟؟
وفي حفل مفتوح بعد.. أنتي وش وجهش؟؟ مغسول بمرق؟؟ مافيه حيا؟؟
أنتي وش جنسش؟؟ وش مخلوقة منه؟؟
خافي ربش فيني؟؟ وحتى في أبيش وأخيش وعمش؟؟
ماعاد يستطيع الاحتمال ومرارة الأربع سنوات تتفجر حممها لاهبة متدفقة:
أنتي ماكفاش اللي سويتيه فيني السنين اللي فاتت..
خليتني أوطي رأسي بين العرب.. وأنا اللي كنت رافعه فيش..
بسبتش عشت قهر ماظنتي شافه بشر في ذا العالم كله!!
أدري إنه خلاص قد ذا موضوع تافه عندش
وش قيمة كلمة تلقينها في حفل مختلط.. عقب مادرستي أنتي أربع سنين اختلاط؟؟
موضوع عادي بالنسبة لش!!
لكن أنا كنت رجيت فيش خير.. قلت حست خلاص.. يمكنها عقلت!!
كان ودي أني أصدق إنه ذا الكابوس خلص.. وأختي وبنتي بترجع لي!!
لكن مادريت إن باع أول.. بيبيع على كل حزة!!
وأني أنا كنت رخيص أول وتالي!!
حينها انفجرت باكية وهي ترتعش بعنف: والله العظيم... ماوافقت..
والله العظيم... ما وافقت..
كانت تنتحب وتشهق بعنف وكلماتها تتقطع كأنها تشرق بالكلمات وتكاد تغص بها:
الرئيس.. كلمني.. وقال لي.. حفل مفتوح.. قلت له.. ما أقدر.. ما أقدر.. ما أقدر
ورجع ..وكلم .. ابي.. وابي.. قال له.. نفس.. الكلام.. وقال له..هذا.. موضوع.. انتهى..
والله العظيم ما وافقت.. ماوافقت..
والله العظيم.. ماوافقت..
لا يعلم لـمَ شعر لحظتها.. أن الدنيا غامت في عينيه..وأنه لا يبصر شيئا!!
كانت ترتعش بعنف أمامه.. ووجهها محتقن.. دموعها تسيل بغزارة..
وهي تشهق بشكل متقطع وتكرر بلا انقطاع: والله العظيم.. ماوافقت..
والله العظيم .. ماوافقت..
فهي أيضا تعبت من كل هذا وحان لحظة انفجار كبت كل هذه السنوات وقهرها ومراراتها..
فهو لأول مرة يواجهها بهذه الحدة بعد صمت السنوات الأربع الأشبه بالموت!!
لأول مرة يمزق الحواجز الهشة/المتينة التي فصلت بينهما!!
تمنى كساب لحظتها لو يستطيع التوجه للصراخ في أبيه وفي علي..
كيف يتخذان من مشاعره لهوا.. يعلمان كلاهما كم هذا الموضوع حساس بالنسبة له..
لا يجد لهما عذرا!! لا يجد لهما عذرا!!
شعر أن قلبه يتمزق بمعاول مسنونة وهو يرى حالتها الهستيرية..
لأول مرة يشعر برغبة بالبكاء بعد وفاة والدته!!
كما لو كان فقدها للمرة الثانية!!
حاول الاقتراب لاحتضانها.. وتمنى أن يحتضنها..
ربما حتى لو عاندت وقالت له أنه ستذهب.. فهو كان سيتحضنها على كل حال..
ليسكن هذا اليأس والذعر الذي شعر بهما يتفجران في جوانحها..
وليسكن القلق الأشد الذي تفجر في جوانحه هو!!
لم يسبق مطلقا أن رآها هكذا.. لا في أقصى حالات الحزن.. ولا في أقصى حالات الغضب..!!
طوال الوقت متزنة.. هادئة.. حتى عندما تبكي.. تبكي بصمت!!
فما الذي حدث لها الآن!!
اقترب وهو يمد يديه لها ويهتف لها بحزن جازع: هدي.. هدي..
ولكنها دفعته وهي تصرخ بهستيرية: ما أبيك.. ما أبيك.. خلني.. خلني..
مد يديه أمامه وهو يشير لها أن تهدأ: خلاص بأروح الحين.. وأرجع بعد شوي..
خرج رغما عنه.. وهو لا يريد الخروج..
ماعاد حتى يريد الصراخ بعلي أو والده..
الحزن غلب الغضب.. يشعر كما لو كان جسده تفتت من الألم!!
يريد أن يجد له حضنا يرتمي فيه.. يسكب بعض مرارته فيه.. مادامت رفضت حضنه..!!
يريد أن يسكن قليلا.. ويدعها تسكن قبل أن يعود لها.. فهناك حديث طويل.. طويل بينهما
حديث بطول ومرارة قرون!!
توجه لغرفته..
نادى بإرهاق: كاسرة!!
لم تجبه.. توجه لسريره ليتمدد عليه.. وهو يشعر أن جسده كله يتمزق كما لو كان ينام على فراش من مسامير مسنونة..
نادى للمرة الثانية بإرهاق أعمق: كاسرة وينش؟؟
جاءها صوتها حازما محملا بحزن غريب عميق: نعم..
هتف بعينين مغلقتين ونبرة ذابلة: تعالي جنبي.. تعبان حدي.. حاس أني بأموت..
أجابته بنفس النبرة الحازمة الحزينة: آسفة.. روح أخذ لك شفطتين تريح أعصابك.. مالك عازة فيني!!
فتح عينيه وهتف بنبرة ذابلة تماما: والله العظيم مهيب ناقصتش..
أجابته بألم: دام مهيب ناقصتي.. مهوب أنا اللي أنقصها ولا أزيدها.
خيرك فيك..
أجابها حينها بحزم وهو يعتدل جالسا: تدرين كاسرة يمكن حياتي كلها ما أحتاج لش كثر الليلة..
وأنتي شاحة علي أنش تقعدين جنبي!!
رغما عنها آلمها قلبها.. أن يعبر بهذه الصراحة عن حاجته لها.. لم تتوقع أنه قد يفعلها يوما ...فكيف وهو يفعلها بهذه السرعة؟!!
ولكنها لا تريد الاستسلام والتراجع.. عن موضوع خطير مثل هذا!!
حينها سيعتاد أن يمرر كل شيء عليها..
كسّاب يحتاج لوقفة حازمة إن كانت تريد الحياة أن تستمر بينهما..
ولكن هل كساب في هذا الوقت.. سيحتمل أو يتقبل الوقفات الحازمة وهي تهتف له؟؟:
اسمعني عدل يا كساب..
لا راح أجي جنبك.. ولا تجي جنبي.. لين تحلف لي إنك ماترجع تدخن..
ولا تقول تعصيني.. لأنك أنت عصيت ربك.. وماظني إنه يجهلك إن التدخين حرام!!
حينها وقف كسّاب وهو ينتزع غترته من جواره ليحملها معه ويهتف بغضب مثقل بالمرارة:
الشرهة علي اللي جيت أبي حنان وحدة ما تشوف أبعد من خشمها المرفوع!!
السموحة يا بنت ناصر.. ضيعت الدرب!! غلطت!!
وأوعدش الغلطة هذي ماتكرر مرة ثانية!!
.
.
دار في البيت قليلا.. وهو يشعر أن جدران البيت الواسع تتقارب لتطبق عليه
لدرجة أنه عجز عن التنفس..
ماعاد يحتمل ألا يراها.. يكاد يجن كلما تذكر كيف حالتها.. ودموعها وارتعاشها!!
قد يكونان خلال السنوات الماضية تبادلا الجرح حتى غاصت جراح كل منهما في روح وجسد الآخر..
ولكن هذه المرة لا ذنب لها.. لا ذنب لها..
اختار الوقت غير المناسب ليفجر فيها كل غضب السنوات الماضية ومراراتها!!
كل يوم خرجا فيه صباحا وكل منهما يتجه لسيارة..
وهو يتجاهلها كأنه لا يراها.. بينما كان في أكثر الأيام يتبعها..
لم تكتشفه أبدا.. بسبب مهارته في السواقة والاختباء خلف السيارت وهو يجعل فاصلا بينهما..
لا يعلم ماذا كان يريد من اللحاق بها!!
تعذيب نفسه أكثر.. إحراق نفسه أكثر.. وهو يتمنى كل يوم لو دخل إلى الداخل وأخرجها عنوة!!
أو ربما كان كل ما أراده مجرد الاطمئنان لوصولها وهي تذهب إلى مكان بعيد مع الخادمة والسائق..
كثيرا ماشعر بالحنق على والده.. إذا كان قد وافق على دراستها هناك.. فلماذا لا يوصلها بنفسه!!
يتذكر كل يوم جلسا فيها على مائدة الأفطار وحيدين
في ظل غياب علي وسفر زايد في بعض الأحيان..
يتجاهلها ويرفض حتى تناول فنجان القهوة من يدها لتعود مدحورة إلى مقعدها..
لا ينظر حتى ناحيتها..
وهي لا تعلم أنه يبقى جالسا حتى يراها تناولت شيئا.. لأنها منذ صغرها حين يتغيب والدها عن البيت.. تقل شهيتها للطعام لأقل حد..
ولا تأكل إلا بالمحايلة!!
ومادام لا يستطيع محايلتها.. فليبقَ جالسا حتى تأكل..
لأنه يعلم أنها لن تقوم عن المائدة مادام جالسا..
وحتى لا يبدو مظهرها سخيفا وهي جالسة هكذا.. فهي كانت تضطر لتناول شيء أمامه!!
ولا يعلم هو أيضا مدى صعوبة ابتلاعها للطعام مع ضخامة العبرات التي تسد حلقها كلما رآته يتجاهلها هكذا كأنها غير موجودة!!
وهي تتخذ الطعام ستارا حتى تبقى معه في مكان واحد لأطول مدة ممكنة!!
وهي تشعر بالألم أنها مهما بقيت جالسة.. فهو لن يكلمها..
ومع ذلك رغما عنها تشعر بالأمل أنه قد يكلمها اليوم !!
"ربما اليوم يحدثني..
يسألني محض سؤال سخيف..
اسألني كساب كما كنت تسألني وأنا صغيرة
هل فرشتي أسنانك اليوم؟؟
وحين أجيب بلا!!
تشد أذني رغم أنك بالكاد تلمسها.. وتعيدني للحمام
لتفرش أنت أسناني بنفسك!!
.
اسألني هل أشرقت الشمس اليوم؟؟
لأخبرك أن الأيام بعدك باتت متشابهة!!
.
اسألني كيف هو يومك الدراسي؟؟
لأخبرك أنني أكره الكلية والكتب والتدريبات وكل شيء أغضبك مني!!
.
اسألني كساب.. اسألني عن أي شي!!
أما تعبت من هذا الجمود والصمت والغضب!!"
لتنتهي جلستهما معها دون أن يسألها عن شيء... ودون أن تخبره عن شيء!!
مرارة جارحة وألم متبادل تشاركاه طيلة السنوات الماضية
هو بتجاهله لها.. وهي باحتمال هذا التجاهل!!
هو بغضبه الأسود رغم أنه تمنى كل يوم أن يسامحها.. ودعا ربه كل يوم أن يقويه ليسامحها!!
وهي بحزنها المتزايد وهي تذبل كل يوم أكثر في انتظار هطول أمطار رضاه التي شح بها عليها حتى أجدبت روحها!!
ماعاد قادرا على احتمال وطأة القلق والأفكار ونهشهما لروحه..
صعد لغرفتها ولم يجدها..
بحث عنها كالمسعور وهو يتخبط في أنحاء الغرفة..
توجه ركضا لغرفة خالته.. فلم يجدها أيضا!!
تفجر قلقه ورعبه وهو ينزل ركضا لغرفة علي.. فلا يجده أيضا..
حينها انهار جالسا على سرير علي وهو يتصل به ويسأله بقلق ورعب:
علي وينكم كلكم؟؟
أجابه علي بصوت ممزق ارهاقا وقلقا:
مزون تعبانة شوي.. جبتها أنا وخالتي المستشفى..
#أنفاس_قطر#
.
.
.