لا تكـن سببــاً في تعـاســة تـائـب
كثيرًا ما نشمتُ في العصاة والمنحرفين، معتقدين أنْ لا خير فيهم، وأنهم لن يرجعوا أبدًا إلى رشدهم؛ بل الأدهى من ذلك أن البعض يُيئِّس مَن أراد أن يرجع منهم ويتوب، مستبشعًا ذنبَه، ومستعظمًا جُرمه، ومستكثرًا أن يقف مع الطاهرين، بعدما كان في صفوف العصاة والمجرمين، وهذا لؤم في الطبع، وخطأ كبير، وجرم يرتكب في حق هؤلاء
وصدق الله - تعالى قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ
هــــدايــــة العـــاصـــي غنيمــــــة
إن الواجب علينا تجاه العصاة أن نأخذهم باللِّين والرفق؛ عسى الله أن يهديهم على أيدينا، وإنها لغنيمة كبيرة إذا ما حدث ذلك
قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر لأعطينَّ الراية رجلاً يفتح الله على يديه ، فقاموا يرجون لذلك أيهم يعطى، فغدوا وكلهم يرجو أن يعطى،
فقال أين عليٌّ؟
فقيل: يشتكي عينيه، فأمر فدعي له، فبصق في عينيه، فبرأ مكانه حتى كأنه لم يكن به شيء
فقال نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم على رِسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعُهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله، لأنْ يُهدى بك رجل واحد خيرٌ لك من حمر النَّعم ؛ رواه البخاري.
هذا هو رسول الإنسانية جمعاء صلوات الله وسلامه عليه هذا هو الذي اتَّهمه أعداؤه بأنه نشر الإسلام بالسيف، ولم يأتِ إلا بما هو شر في زعمهم ها هو يعلن على الملأ أن هدف الإسلام والمسلمين هو الأخذ بيد الناس من الظلمات إلى النور، وانتشالهم من وحل الكفر والضلال، وليس الهيمنة عليهم، والاستحواذ على أموالهم، كما يروج لذلك أعداء الإسلام.
فمن فضل الله عزّ وجل على هذه الأمة أنْ حباها بابًا عظيمًا من أبواب الخير، الذي لا يخيب طارقُه، ألا وهو باب التوبة الذي فتحه اللهُ فضلاً منهُ، ومنَّة علينا؛ حتى نعود إليه ونستغفر؛ فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لو أن العباد لم يذنبوا، لَخَلَق الله عزَّ وجل خَلقًا يذنبون، ثم يغفر لهم، وهو الغفور الرحيم .
فلو أخطأتَ وتُبْتَ، ثم أخطأتَ وتبت، فلا يغلق الله هذا الباب، فبادِرْ ولا تسوِّف، فالعُمر ما هو إلا سويعات؛ فعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنَّ الله يقبل توبة العبد ما لم يغـرغـر والغـرغـرة: بلوغ الروح الحلقوم، والمراد تحقُّق الموت.
فعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها .
ومهما كان عِظَم المعصية والإثم، فمَنِ الْتَجَأ إلى الله بقلْبٍ سليم منكسر، يريد الإصلاح، فهذا هو الطريق، طريق التوبة. فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن قومًا كانوا قَتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، وانتهكوا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا يا محمد، إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لِما عملنا كفارة، فأنزل الله عز وجل وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا .
قال يبدل الله شركهم إيمانًا، وزناهم إحصانًا، ونزلت قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
فلقد منَّ اللهُ على كثيرٍ من أهل الجاهلية، فأسلموا وصَلُحَ حال دينهم ودنياهم، فأصبحوا من عظام الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين، ولقد منَّ الله على كثيرٍ من الناس، فأصبحوا منَ العلماء والعبّاد الصالحين، وهذا هو الحال إلى ما شاء الله، نسأل الله أن يتوب علينا أجمعين، ويتجاوز عنَّا سيئاتنا، ويغفر لنا؛ إنه هو التواب الرحيم.
فكم من تائبٍ سكب الدموع، واستغفر الله على ما فرَّط في حق الله، وتاب عن صغائر الإثم وعن كبائرها! ومن منَّا وليس له عثرة أو زلَّة؟!
نسأل الله أن يهدينا إلى الطريق المستقيم، ولكن نرى من الناس من يَتَجَرَّأ على الله، ويحجِّر رحمة الله الواسعة، وكأن مفاتح باب التوبة في يده يفتحها لمن شاء.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال :كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب
فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟
فقال: لا، فقتله، فكمَّل به مائة
ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم
فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟
فقال: نعم، ومَن يحول بينه وبين التوبة؟
انطلِق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أناسًا يعبُدون الله، فاعْبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق، أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب
فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله
وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاه ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم
فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضتْه ملائكة الرحمة .
فكم مِن مريد توبة صدَّه الناس بجهلهم أو بتكبرهم عن طريق الصواب، وتركوه في حيرة من أمره في ظلمات المعصية.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب
فيقول: أقصر، فوجده يومًا على ذنب
فقال له: أقصر
فقال: خلني وربي، أبعثتَ عليَّ رقيبًا
فقال: والله، لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين،
فقال لهذا المجتهد: كنت بي عالمًا؟
أو كنت على ما في يدي قادرًا؟
وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي
وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار ، قال أبو هريرة رضي الله عنه والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته .
وكم من تائب فرح بدموع توبته على ما للمعصية من أَلَمٍ ومرارة! فقد غسلت ران القلوب، فهذه الرحمة الرَّبَّانية التي تتنزَّل على العباد؛ ولكن كم من متكبر أُعجب بعبادته وصلاحه، وكان سببًا في تعاسة تائب، فينظر للعصاة بعين التكبُّر على أنهم أقل منه صلاحًا وعبادة وعلمًا، فيسبب الألم والحسرة لذلك التائب والتعاسة حتى ييأس مما هو فيه، فالله قد قبل التوبة وغفر الذنب، وبدَّل السيئة حسنة، ولكن المتكبرين من الناس لم ينسوا، ولم يرحموا، فالله المستعان.
أَوَلَيْسَ من الأَوْلَى أن نأخذ بيد التائب، ونكون له عونًا ناصحين بمحبة ورحمة، لا بتكبر وإعجاب
فعن أبي عبيدة بن عبدالله عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التائب من الذنب كمَنْ لا ذنب له .
وكم من صاحب صغائر تغافل عنها، وما تاب وغرته الأماني، حتى تعاظمتْ وأصبحت بعِظَمِ الكبائر! ومع ذلك يرى أخطاء الناس، ولا يرى ما فيه من نواقص، ويعيب على الناس وينكر عليهم ويسبب لهم الألم، ألا تذكر قول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجِذع - أو الجذل - في عينه معترضًا .
القذاة: الوسخ ونحوه مما يقع في العين، والمراد: العيب والنقيصة.
الجِذع: ساق النخلة والمراد الشيء الكبير.
فصغائر الذنوب تتعاظَم حتى تصبح مهلكة، دون أن يلقي صاحبها لها بالاً، وقد تفاخر بعدم ارتكابه الكابر، فتغافل عن الصغائر لإعجابه بنفسه، ونسي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم إياكم ومحقراتِ الذنوب، كقوم نزلوا في بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود، حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه .
فلتفرحْ أخي بتوبة التائبين، فلا تدري أن تُبتَلى وتُحْرم من التوبة لتكبُّرك وإعجابك بنفسك، فالله يفرح بتوبة عبده، فلا تكنْ أنت سببًا في تعاسته، بعبارات الحقد والكبر، الآن وقد تاب، وبعد ماذا؟
ما ترك معصية إلا وارتكبها، مثل هذا لا تقبل توبته، وغيرها من العبارات المحبطة لعزائم التائبين.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم، كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح
فالهداية من الله وحده، وهي فضل ومنَّة منه سبحانه فلا تغرنَّ أحدًا طاعتُه أبدًا، ولا يغترنَّ أحد بعمله، فلن يدخل الجنةَ أحدٌ بعمله؛ بل بفضل الله تعالى وصدق مَن قال "رُب طاعـة أورثتْ عـزًّا واستكبارًا، ورب معصية أورثت ذلاًّ وانكسارًا"..
مما قرأت ..