المنتدى :
البحوث الأدبية
لحظة الفراق كيف واجهها العشاق بحث أدبي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لن أقدم للموضوع وسأطرحه أمامكم دون مقدمات مع الإعتذار مسبقاً لعدم الترتيب والتنسيق لا في الشكل ولا في المضمون فالموضوع مبعثر كعادة المواضيع الأدبية الجميلة كما يقول علي الطنطاوي .
أولاً : ماهو العشق ؟
يعرفه الجاحظ فيقول : أن العشق هو ما زاد عن المحبة . وهو سكون المحبوب بين أضلع المحب فيذكره ولا يهجره .
قيل لأعرابي : مابلغ حبك لفلانة ؟ قال : إني لأذكرها وبيني وبينها عقبة الطائف فأجد من ذكرها رائحة المسك .
وقيل أن شبيب أخو بثينه رأى جميل عاشق بثينه عندها فتعرض له وآذاه , ثم مالبث أن أتى شبيب إلى مكة فقالوا لجميل هذا شبيب الذي آذاك فخذ بثأرك منه
فقال جميل :
وقالوا ياجميل أتى أخوها
فقلت أتى الحبيب أخو الحبيب .
وسُئل ثمامة عن العشق فقال : هو العشق جليس ممتع وأليف مؤنس ملك الأبدان وروحها والقلوب وخواطرها والعيون ونواظرها والعقول وأراءها .
ويقول أحد الأدباء : أعشقوا فإن العشق يطلق اللسان ويفتح جبلة البليد ويجوّد البخيل ويبعث على التلطف وتحسين اللباس وتطييب المطعم وتشريف الهمة .
ولاشك أن الشعر في حياة العربي القديم كان يمثل الدور الرائد بل هو عصب الحياة عندهم في تلك الأزمان ولاشك أن هذا الفن يجري في دم كل من رضع العربية وتأثر بها .
هذا الشعر الذي أتسع لكل خواطر الانسان وشجونه وحمل أسرار قلبه دعونا نحاول ولو لمجرد محاولة أن نستجلي أحوال طائفة من شعرائه ومواقفهم في بعض ما يعرض لهم في حياتهم .
دعونا نذهب لتلك الطائفة الرائعة , طائفة العشاق وكيف كان حالهم عند فراق المحبوب .
يقول المجنون :
قالت جننت على ذكرٍ فقلت لها
الحب أعظم مما بالمجانين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبه
وإنما يُصرع المجنون في الحين
وتقول معشوقته ليلى :
لم يكن المجنون في حالةٍ
إلا وقد كنت كما كانا
لكنه بــــاح بســـر الهوى
وإنني قد مت كتمانا
وهؤلاء الشعراء كانت لهم أحوالاً عجيبة وأموراً غريبة عند ساعة الوداع فمنهم من تلزمه الحيرة مكانه وتقعده محتاراً اسيراً فلا يدري ماذا يصنع . يقول أحدهم :
حبيبي غداً لاشك فيه مودع
فوالله ما أدري به كيف أصنع
فيا يوم لا أدبرت هل لك محبس
ويا غد لا أقبلت هل لك مدفع
حيرة ما بعدها حيرة , يتمنى أن تتوقف عجلة الزمان فهو لا يدري ماذا يفعل أيودع من يحب متحاملاً على ألمه أم لا يودع كلاهما ألم وحسرة .
يقول أخر :
إذا انا لم أشيعه تقطعت حسرة
وواكبدي إن كنت فيمن يودع
ويقول :
مني الوصال ومنكم الهجر
حتى يفرق بيننا الدهر
والله لا أسلوكم أبــــــــــداً
مالاح بدرٌ أو بدا فجرُ
هذه بعض أحوالهم حين الوداع والأعجب من ذلك حالهم في الشوق والذكرى فالعاشق لايفارقه محبوبه حتى لو باعدت بينهم الأيام وفرقتهم السنون
يقول قطرب الشاعر :
إن كنت لست معي فالذكر منك معي
يراك قلبي وإن غيّبت عن بصري
والعين تبصر من تهوى وتفقده
وباطن القلب لا يخلو من النظر
وعاشق آخر يعجب من عينه التي تطلب الأحبة وقلبه الذي يشتاق لهم ! فيقول :
وتطلبهم عيني وهم في سوادها
ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
فمن عجب أني أحن إليهم
فأسأل عنهم من لقيت وهم معي
ويقول أخر مصورا التصاق محبوبه به وان لاوجود لخارطة المكان في دنيا العشاق
خيالك في عيني وذكرك في فمي
ومثواك في قلبي فأين تغيب
اما الهجر والوصل فله عندهم شأن عظيم وأسباب الهجر تتنوع فهو أما لذنب يجازي أحدهم محبوبه عليه بالهجر وإما لخوف وشاية أو حاسد وقد يقطع الوصل أمر لا يد لهم فيه من أهل أو سلطان وتعتري العاشق الأمراض والأسقام فلا ينفع معها طبيب الجسد
قال الطبيب لأهلي حين أبصرني
هذا فتاكم حق الله مسحور
فقلت ويحك قد قاربت في صفتي
عين الصواب فهلا قلت مهجور
وعندما يحاول العاشق منهم أن يخفي هواه فهل له إن ينجح في ذلك وهناك من يفضحه
وكتمت الهوى حتى إذا شب واستوت
قواه أشاع الدمع ما كنت اكتم
ولاشك أنهم لا يجدون غضاضة في البكاء عند ذكر المحبوب فيقول قائلهم :
لحا الله قلباُ بات خلواُ من الهوى
وعيناً على ذكر الهوى ليس تذرف
بل يتمادون في تبجيل الحب والعشق إلى حد السخرية مِن مَن لا يعشق
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى
فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا
فالكلام عن هؤلاء الشعراء المحبين وتتبع أشعارهم في التحدث عن أطياف أحبابهم وشوقهم للقائهم لهو قطف لذيذ حلو المذاق لما جادت به تلك القرائح الفريدة .
فطيف المحبوب يأتيه ويحضره في أعجب الأوقات وأغربها فهو لايعترف بالمسافات ولا بتلك الصحاري الفاصلة بينهم يقول أبو فراس الحمداني مخاطباً محبوبته ساكنة الوادي مؤكداً أن شوقه إليها وطيفها الزائر مايزالان يذكرانه بها في نومه وشهادته :
ســـــــلامٌ رائح غادي
على ساكنة الوادي
على من حبها الهادي
إذا ما زرت والحادي
فما أنفك في ذكراك
في نوم وتسهــــــادِ
بشوق فيك معتاد
وطيف منك منعاد
والبحتري لاينسى هوى محبوبته ليلى مادام طيفها يسري إليه على البعد متخطياً المسافات البعيدة فيؤرقه من أول الليل حتى بلجة الصبح فيقول :
إذا نسيت هوى ليلي أشاد به
طيف سرى في سواد الليل إذ جنحا
دنا إلي على بعد فأرقنــــــي
حتى تبلج وجه الصبح فاتضحـــــا
عجبت منه تخطى القاع من أضم
وجاوز الرمل من خبت وما برحــا
وطيف الحبيب يبعث الأرق ويثير الأشواق والحنين والعذاب في قلب المحب
وعلى الرغم من ذلك يبقى طيف المحبوب مطلب العشاق وأعز أمانيهم , فكم نشدوا الإغفاءة كي يروا أطياف أحبابهم فيبل بالوصل عطشهم ويثلج صدورهم يقول في ذلك أبو فراس :
ما بال ليلي لا تسري كواكبه
وطيف ميّة لا يعتاد زائره ؟
من لا ينام فلا صبر يؤازره
ولا خيال على شحط يزاوره
وهناك الكثير ممن ذكرهم التاريخ قد ماتوا بسبب العشق فهذا عبدالله بن عجلان الهندي رأى أثر كف عشيقته في ثوب زوجها فمات من حينه .
ومن عجيب ما يذكر أن عاشقين فرق الدهر بينهما فمات الرجل بعد مده ثم لحقت به معشوقته ودفنت في نفس المقبرة فمر رجل بالمقبرة في ثاني ليلة من وفاتها فسمع هاتف يقول :
كنا على ظهرها والدهر يجمعنا
والشمل مجتمع والدار والوطن
فمزّق الدهر بالتفريق ألفتنـــــا
وصار يجمعنا في بطنها الكفن
وما ورد في ذكر كثيّر وعزه أنها يوم ماتت صاح صائح ياكثير ما أغفلك . فقال : وما ذاك ؟
قال إن عزة ماتت اليوم وهذه جنازتها فلما رأها شق شهقة ثم فارق الحياة ودفن مع عزة في يوم واحد .
ويحكي الأصمعي أنه مر ذات يوم بحجر مكتوب عليه :
أيا معشر العشاق بالله خبروا
إذا حل عشق بالفتى كيف يصنع
فكتبت تحته :
يداري هواه ثم يكتم سره
ويخشع في كل الأمور ويخضع
ثم عدت في اليوم الثاني فوجدت مكتوبا تحته :
فكيف يداري والهوى قاتل الفتى
وفي كل يوم قلبه يتقطع
فكتبت تحته :
إذا لم يجد صبراً لكتمان سره
فليس له شيء سوى الموت انفع
ثم عدت في اليوم الثالث فوجدت شاباًُ ملقى تحت ذلك الحجر ميتاً وقد كتبت :
سمعنا أطعنا ثم متنا فبلغوا
سلامي على من كان للوصل يمنع
ختاماً أتساءل فأقول هل ياترى قدر الله في حكمته أن سكينة الإنسان التي هي غايته ومطلبه في كل وقت إنما هي ملك محبوبه يعاوده بها في القرب ويبعثها إليه طيفاً إن باعد بينهما الزمان ؟
وتقبلوا تحياتي
|