( 31 )
جامع السلطان قابوس الأكبر
"جامع السلطان قابوس الأكبر في منطقة الخوض"
في عام 1412هـ (1992م) أصد حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم تعليماته السامية بإنشاء أكبر جامع في السلطنة ، والهدف من إقامة هذا الجامع لا يقتصر على توفير مكان للصلاة والتعبد فحسب بل ليكون مركزا للتفاعل مع روح الإسلام دينا وعلما وحضارة وثقافة . وتم الشروع في بناء عمارة الجامع في عام 1415هـ (1995م) وانجزت عمارته عام 1422هـ (2001م) .
وقد اختير موقع الجامع في ولاية بوشر على مقربة من الطريق الرابط من السيب إلى قلب العاصمة مسقط بحيث يسهل الوصول إليه من ضواحي المدينة الممتدة ومركزها . ويحتل الموقع مساحة إجمالية قدرها 416000 متر مربع وتغطي مساحة أرضية الجامع ما يقرب من 40000 متر مربع .
تم تشيد الجامع على أرضية متسعة ومرتفعة عن سطح الموقع بمقدار 1.8 متر ، وفي هذا التخطيط إبقاء على النهج العماني السائد في رفع عمارة المساجد التقليدية القائمة في أحياء وقرى المدن القديمة عن مستوى العمارة السكنية أو العامة وأيضا عن مستوى أرض الوديان .
وتؤدي ثلاثة معابر من منطقة الوصول إلى أرضية الجامع عبر ثلاثة مداخل يلي كل منها صحنه الخاص والمرتبط بدوره بسلسة من العقود . ويقع المدخل الرئيسي على المحور الأفقي للمخطط منتهيا بالمئذنة التي تقف شامخة على ارتفاع 91.3 متر أو 300 قدم والى الشرق والغرب من المدخل الرئيسي يقع المدخلان الثانويان وجميعها يؤدي إلى الصحن الخارجي المحيط بقاعات الصلاة ويمتد الصحن على مساحة 24400 متر مربع .
ويأخذ المصلى الرئيسي شكلا مربعا أبعاده الخارجية (74.4 في 74.4 متر) بقبته المركزية التي ترفع عن سطح البلاط بخمسين مترا وتشكل مع المئذنة الرئيسية المنظور المميز للجامع . ويقع إلى الشرق من المصلى الرئيسي مصلى النساء مشكلا امتداد للمصلى الرئيسي عبر الصحن الداخلي وتحيط بالصحن الداخلي ومصلى النساء مجموعة من الأروقة المعقودة وست قباب تبرز على مدخل مداخل الواجهات . وقد تم تصميم المصلى الرئيسي ليضم أكثر من 6500 مصل وتبلغ سعه مصلى النساء 750 مصلية ومع إمكانية احتواء الصحن الخارجي لثمانية آلاف مصلى بالإضافة إلى الصحن الداخلي والأروقة فان السعة الإجمالية للجامع تصل إلى إمكانية احتواء 20000 مصل ومصلية .
وتشكل الأروقة الشمالية والجنوبية الفضاء الانتقالي الفاصل بين أماكن العبادة ومرافق الجامع الأخرى ويمتد كل منها على مساحة داخلية طولها 221 مترا .
وتسقف فضاءات الأروقة سلسة من القباب الهندسية المستلهمة من قباب مسجد بلاد بني بو علي الفريدة معماريا الواقع في المنطقة الشرقية من السلطنة .
وتكوّن جدران الرواق الجنوبي ساترا مرئيا مزدوجا يضم مجموعة من مرافق المجمع الوظيفية ومنها المكتبة التي تضم 20 ألف مجلد مرجعي في شتى العلوم والثقافة الإسلامية والإنسانية وتقع قاعة الاجتماعات والندوات (سعتها 300 شخص) إلى الغرب من الرواق بينما تم تصميم أماكن الوضوء في الوسط على طول خلفية الرواق المحاذية للصحن الخارجي .
وتبدو الأروقة بمثابة سور أمين حول عمارة الجامع حيث تختتم بالمآذن الأربع التي ترسم حدود الموقع بارتفاعها إلى 45 مترا وتجتمع المآذن الخمس في الجامع لترمز إلى أركان الإسلام الخمسة . وتتخلل الجدران البيضاء المهيبة مجموعة من الأقواس والكوّات المفتوحة والصماء مع دعامات تستهل واجهة المصلى الرئيسي وهذه الدعامات لها وظيفة إنشائية فضلا عن أنها ملاقف للهواء على غرار عناصر الأبراج المناخية التقليدية والسائدة في العمارة المحلية (البراجيل) .
وتتوج جدران المصلى الرئيسي شرفات يتأصل طرازها في عمارة القلاع العمانية خاصة ومسننات الشرفات في العمارة الإسلامية عموما . أما جدار القبلة فيتميز بكوّة المحراب البارزة في نتوئها عند الواجهة كما هو التقليد في وضوح التعبير عن حائط القبلة في تصميم المساجد العُمانية .
وقد استخدمت مجموعة غنية من الزخارف الإسلامية في تصميم النقوش المحفورة في أبواب المصلى الخشبية التي تعلو كلا منها آيات قرآنية بخط الثلث . أما الأبواب الخشبية المحفورة التي تربط الصحن الداخلي بمصلى النساء فانها تحتوي على مشربيات مبطنة بألواح الزجاج الملون لتؤكد على تواصل ووحدة المكان المخصص للصلاة . وتقتصر تفاصيل عناصر الجدران الخارجية على تقاسيم الزخارف المحفورة بأنماطها الهندسية والنباتية والآيات القرآنية الكريمة المكتوبة بخط الثلث .
وتزداد كثافة الزخارف ودقة إيقاعها تدريجيا مع الانتقال من قضاء عمارة الخارج إلى داخل الجامع وحرمه . وفي جدران المصلى تعتلي شبابيك الزجاج الملون بتقاسيم هندسية ونباتية رائعة التصميم والدقة .
ويحزم قمة جدران المصلى والصحن الداخلي شريط غني بالآيات القرآنية الكريمة بخط الثلث الممشوق . وتملأ الزخارف الهندسية الإسلامية أطر أقواس الأروقة والمتوجة بحزام من السور القرآنية عند العقود . وطبيعة التشكيل الفني هذه تنتشر إلى جميع أقواس المداخل الرئيسية . أسماء الله الحسنى تحتل موقعها بين أقواس واجهات الأروقة وغيرها وهي محفورة بالخط الديواني . أما قاعدة المئذنة الرئيسية فتحتوي الواجهة الجنوبية منها على نص الأذان , فيما حفر اسم الجامع على واجهتها الشمالية .
ورصفت أرضية الجامع بكاملها ببلاط الرخام بترتيب ونمط هندسي متناسق وصممت قطع بلاط الصحن الخارجي والداخلي الرخامي بمقياس وحدة سجادة الصلاة . ووضعت هندسة الجنائن في حديقة صممت شرق الجامع بما يقترن بمدأ تصميم الحديقة الإسلامية حيث بنيت مقصورة بصحن وأروقة وإيوان في وسطها بركة رخامية بمجرى مائي (فلج) يربط المقصورة وسط الحديقة .
وقد صمم على الصحن الداخلي مظلة متحركة لتمد حين تدعو الضرورة لتوفير الظل داخل الفضاء المكشوف .
وجدران قاعة المصلى الرئيسية مكسوة بكاملها من الداخل بالرخام الأبيض والرمادي الغامق وبها جداريات مشغولة بزخارف مورقة بنمط هندسي يغلب على تصميمها أسلوب الفن الصفوي والقاعة مصممة بمخطط مفتوح ذي أربعة أعمدة رئيسية حاملة لهيكل القبة الداخلي ويمتد بمحاذاة كل من الجدار الشمالي والجنوبي رواق ينفتح على قاعة المصلى بأقواس مزودة بزخرفة كما في العمارة المملوكية .
وقد تم تصميم المحراب بإطار مرتفع يضم كوّتين بتقاسيم متراجعة في عمق الجدار بمقرنصات وعقود ويحيط بإطار المحراب حاشية من الآيات القرآنية الكريمة وثنية خرفية تاتئة على شكل حبل مفتول مصنوع من الخرف المطلي بالذهب وتعتلي فتحات الجدران الجانبية شبابيك الزجاج الملون بزخارف مكملة في تصميمها لطبيعة ونمط زخارف الجدران .
إن منظومة كل عنصر معماري في الداخل تجمع أنماطا من الفنون والحرف الإسلامية الأصيلة ولكن في بنية حديثة ومعاصرة لسياق عمارة الجامع وأفضل دليل متكامل على هذا يكمن في تصميم وصناعة القبة الداخلية للمصلى والسجادة حيث كان كل منهما مشروعا فنيا ضخما ومستقلا بحد ذاته مشكلا تحديا على صعيد التصميم والابتكار والتنفيذ الإنشائي .
القبة مجمعة بمقرنصات تشكل مثلثات كروية هندسية ضمن هيكل من الأضلاع والأعمدة الرخامية الخالصة المتقاطعة بأقواس مدببة مرصعة في جميع عناصرها بألواح من القيشاني وتمتد الألواح الخشبية من السقف بطراز ينبثق عن تطوير السقوف العُمانية الأصيلة .
وتم استيحاء أشكال العمارة العمانية في العناصر الزخرفية والهندسية المستخدمة في تصميم الجدران والسقوف والشمسيات المغشاة بالزجاج الملون . والسجاد إحدى مقومات التصميم الداخلي والتي تفرش بلاط المصلى بقطة واحدة تغطي مساحة 4263 مترا مربعا وهي مؤلفة من 1700 مليون عقدة وتزن 21 طنا استغرق صناعتها وانتاجها أربع سنوات ولقد جمعت هذه السجادة في تأليفها ونوعية تصميمها سجادة تبريز وكاشان واصفهان الأصلية .
واستخدم في نسج السجاد 28 لونا بدرجات متنوعة تم صناعة غالبيتها من الأصباغ النباتية والطبيعية . وتم تصميم السجاد في وحدات من خانات الصلاة تفصل بينها حواشي زرقاء وبيضاء بزخارف مستمدة من النسيج العماني .
وصممت مجموعة من الثريات وعددها 35 خصيصا للمصلى الرئيسي مصنوعة من (كريستال سوروفسكي) ومعادن مطلية بالذهب وتتدلى حول قاعة المصلى . أما الثريا المركزية فتتدلى من قمة القبة بقوام يبلغ طوله 14 مترا وقطر 8 أمتار وهي تشمل 1122 مصباحا وتزن 8 أطنان وصممت ثريات مصلى النساء التسع بطراز عثماني وهي مصنوعة من (الكريستال) التركي . وتضم الأروقة الشمالية والجنوبية مجموعة من القاعات إجمالي عددها 12 قاعة صممت كل قاعة بكوّات تحمل طرازا معماريا فنيا خاصا يعود إلى حقبة تراثية مميزة . وانتقاء الأعمال الفنية في القاعات جاء ليمثل نماذج تطور وتعدد أشكال الزخارف المعمارية وثقافتها التي انتشرت بأنماط غنية من الأندلس إلى الصين فيحتوي الرواق الشمالي على قاعة لفنون سلطنة عمان والجزيرة العربية يتبعها قاعة الفن العثماني ثم فن عمارة المماليك يليها قاعة من الزليج المغربي ثم فنون بلاد ما بين النهرين ومصر القديمة وأخيراً الفن البيرنطي .
أما قاعات الرواق الجنوبي فتبدأ بفن بلاد الحجاز ثم الفن الإسلامي الهندي يتبعه قاعة الفن التيموري في آسيا الوسطى ثم الفن الإيراني الصفوي والفن الإسلامي المعاصر وأخيرا نموذج من أعمال إسلامية فنية حديثة .
وبذلك يكون الجامع تحفة معمارية إسلامية بديعة ومركزا دينيا ثقافيا ينهل منه المتلقون العلم ويؤدون في جنباته العبادة .
لقد كان يوم حفل افتتاح الجامع حدثا إسلاميا مشهودا باركه حضور صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ــ حفظه الله ــ وبمعيته عدد من علماء المسلمين .
إن إنشاء هذا الصرح الديني الشامخ على تراب هذه الأرض الغالية من بلاد المسلمين والتي دخلت الإسلام طوعا ودعا لها الرسول (ص) في حديثه الشريف حين قال ( ديني دين الإسلام ، وسيزيد الله أهل عُمان خصباً وصيدا ، فطوبى لمن آمن بي ورآني ، وطوبى لمن آمن بي ولم يراني ، ولم ير من رآني ، وسيزيد الله أهل عُمان إسلاما ) لهو هدية جليلة تضاف إلى مكارم عهد المسيرة المباركة بقيادة الباني الحكيم صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ــ أعزه وأبقاه الله .