لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > قسم الارشيف والمواضيع القديمة > الارشيف
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

الارشيف يحتوي على مواضيع قديمة او مواضيع مكررة او محتوى روابط غير عاملة لقدمها


 
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 06-06-06, 12:52 AM   المشاركة رقم: 46
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2006
العضوية: 4594
المشاركات: 129
الجنس أنثى
معدل التقييم: adila.a عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 11

االدولة
البلدUnited_States
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
adila.a غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : النغمه الحزينه المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

الحلقة العشرون



*********

~ شمس ٌ جديدة ~






لم يكن العثور على مزرعة نديم بالأمر السهل ... قضيت وقتا لا بأس به في التفتيش ، خصوصا و أنا أقدم إلى هذه المدينة للمرة الأولى .

المدينة الشمالية هي مدينة زراعية تكثر فيها الحقول و المزارع ، و بها من المناظر الطبيعية الخلابة ما يبهج النفس المهمومة و يطرد عنها الحزن ...

كان الوقت ضحى عندما وصلت أخيرا إلى مزرعة نديم بعد مساعدة البعض .

كنت مرهقا جدا ، فأنا لم أنم لحظة واحدة منذ نهضت صباح الأمس ... و لم أهدأ دقيقة واحدة مذ رأيت الخائنين يتعانقان أمامي ...

عدا عن هذا ، فإن معدتي لم ترحم بحالي و عذبتني أشد العذاب طوال هذه الساعات

كانت مساحة المزرعة صغيرة ، محاطة بالسياج ، و بها الكثير من الأشجار المثمرة ...

ركنت سيارتي جانبا و دخلت عبر البوابة الكبيرة المفتوحة ...

كنت أسير ببطء و أراقب ما حولي ، و رأيت منزلا صغيرا في آخرها .

فيما أنا أسير نحو المنزل لمحت سيدة تقف عند الأشجار ، و إلى جانبها عدة صناديق خشبية مليئة بالثمار ..

كانت السيدة تقطف الثمار و تضعها في تلك الصناديق . و كانت ترتدي جلبابا واسعا و تلف رأسها بوشاح طويل ...

اقتربت ببطء من السيدة و أصدرت نحنحة قوية للفت انتباهها .

السيدة استدارت نحوي و نظرت إلي بتساؤل ، و من الوهلة الأولى توقعت أن تكون امرأة أجنبية ، في الأربعينات من العمر .

قلت :

" معذرة سيدتي ، إنني أبحث عن مزرعة السيد نديم وجيه و عائلته "

قالت السيدة :

" من أنت ؟؟ "

أجبت :

" أنا صديق قديم له ، أدعى وليد شاكر "

تهلل وجه السيدة ، و قالت :

" أنت صديق نديم ؟؟ "

قلت :

" نعم ... في الواقع كنت زميلا له في ... "

و صمت ّ لحظة ، ثم تابعت :

" في السجن ... "

علامات الاهتمام ظهرت جلية على وجه السيدة و أخذت تحدق بي ، فخجلت و غضضت بصري ...

قالت :

" أنا زوجة نديم ... أحقا تعرفه ؟ "

" نعم ... سيدتي و هو من دلّني إليكم "

قالت :

" و أين هو الآن ؟؟ ألا يزال في السجن ؟؟ "

صعقت لدى سماعي هذا السؤال و رفعت بصري إليها فوجدتها تكاد تخترقني بنظراتها القوية المهتمة جدا و القلقة ...

عادت تكرر بخشية :

" أما زال في السجن ؟؟ "

رباه ! لقد قتِل نديم قبل سنين ! ألم يخبروا أهله بذلك ؟؟ بم أجيب هذه السيدة الآن ؟؟

السيدة رفعت يدها إلى صدرها كمن يتوقع خبرا سيئا ، قرأته في عيني ...

أنا هربت بعيني ... نحو أشياء عدة ... إلا أنني في النهاية عدت أواجه نظراتها الملهوفة ... و قلت بنبرة حزينة :

" البقاء لله "

السيدة هلعت ... و انفتحت حدقتاها على مصراعيهما و انفغر فاها ...

ثم ضربت على صدرها ... و رأسها ... و صرخت :

" يا ويلي "

أنا كنت أريد أن ... أعتذر عن نقل خبر مفجع كهذا ... و لكني لم أعثر على الكلمات الملائمة ... كما و أنني شغلت بحالة السيدة المفجوعة ...
فجأة ... ترنحت السيدة و هوت أرضا !

اقتربت منها و قلت بصوت خائف قوي :

" سيدتي ! "


و ظهر لي أنها فقدت الوعي ...

عدت أنادي دون جدوى ... ارتبكت و لم أعرف ما أفعل ...

تلفت يمنة و يسرة و لم أجد أحدا ، و ناديت بأعلى صوتي :

" أيسمعني أحد ؟؟ ساعدوني ... "

و لم أسمع أو أرى أي تجاوب ... لم يكن في المزرعة على ما يبدو غير هذه السيدة ...

ركضت بسرعة نحو ذلك المنزل و أنا أنادي :


" أمن أحد هنا ؟ أرجوكم ساعدوني "

وقفت أمام المنزل ثانية ، ثم اقتحمته !

كنت أنادي و استنجد ... و كانت أبواب المنزل مفتوحة ...

فجأة وصلني صوت ٌ من خلف أحد الأبواب :

" من هناك ؟؟ "

قلت بسرعة و اضطراب :

" أسرعوا ... السيدة في الخارج فقدت وعيها "

اندفع الباب منفتحا فجأة و بقوة كادت تصدّع الجدار الذي اصطدم به ، و انطلق من الداخل شهاب ٌ ذهبي !

" أمي ! "

صرخت الفتاة الشقراء التي ظهرت مسرعة و ركضت مسرعة كالبرق نحو الخارج و أنا ... أتبعها ...

وصلنا إلى حيث السيدة ، و بدأت الفتاة تصيح و تصرخ بذعر ...


" أمي ... أمي ... ردي علي أرجوك ... "


و هوت إلى جانبها تحاول إيقاظها

أنا وقفت ُ مذهولا مسلوب الإرادة و التفكير ...


الفتاة أخذت تنادي بصوت قوي :


" خالي ... تعال بسرعة "


تلفت أنا من حولي و لم أر أحدا ...

نهضت الفتاة الشقراء بسرعة و ركضت مبتعدة و هي تنادي

" خالي ... أسرع "

يا إلهي ... هل ماتت السيدة ؟؟

إنني من تسبب في موتها ...

ماذا أفعل الآن ؟؟

لحظة شعرت ُ فيها برغبة قوية في الهروب ...

إلا أن رجليّ لم تسعفاني ...

ظهرت الآن الفتاة الشقراء ، تمسك بيد رجل عجوز أشقر ، تجبره على الركض ، و هو لا يقوى عليه ...

و أخيرا وصلا إلينا ... في نفس اللحظة التي بدأت فيها السيدة تفتح عينيها ...

أقبلت الفتاة بسرعة لمساعدة أمها في الجلوس و هي تقول بفزع :

" أمي ... ماذا جرى لك ؟؟ "


السيدة بدت متعبة و منهارة ، وضعت رأسها على صدر ابنتها و أغمضت عينيها ...

الفتاة نظرت الآن و لأول مرة نحوي أنا !

" من أنت ؟؟ ماذا حدث ؟؟ "


أنا ارتبكت و بدأت أتأتئ....

الرجل العجوز اقترب من السيدة و قال :

" ليندا ! ماذا جرى لك ؟؟ "

قالت الفتاة :

" يجب أن نأخذها إلى المستوصف يا خالي هيا بسرعة "


و تعاونا الاثنان على إسنادها ...

قال العجوز :

" السيارة في المؤخرة ! "

قالت الفتاة :

" أوه كلا ! "


حينها أنا تدخلت و قلت :

" أيمكنني المساعدة ؟؟ لدي سيارة تقف بالخارج ... على مقربة "


نظر العجوز إلى ، و كأنه ينتبه لوجودي الآن فقط ، و قال :

" من أنت ؟؟ "

قلت :

" أنا ... وليد شاكر ... صديق نديم "

الفتاة نظرت إلي باهتمام ، إلا أن والدتها تأوهت ، فأهملت الفتاة نظراتها إلي و نادت :

" أمي ... تماسكي أرجوك ... "

قلت :

" تعالوا معي ... "


و لم يتردد الآخرون كثيرا ، بل ساروا خلفي مباشرة ...

وُضعت السيدة في السيارة ، و جلس الرجل العجوز إلى جانبي ، ثم ذهبت الفتاة مسرعة و عادت خلال ثواني ، و جلست إلى جانب أمها في على المقاعد الخلفية

تولّى العجوز إرشادي إلى أقرب مستوصف من المزرعة ، و هناك تم إسعاف السيدة و إجراء اللازم ...

الأحداث جرت بسرعة مدهشة ، حتى أنني لا أذكر بقية التفاصيل !

قال الطبيب :

" نوبة قلبية ... يجب أن تنقل للمستشفى من أجل الملاحظة و العلاج "

رباه !
هل تسببت ُ دون قصد ٍ مني في نوبة قلبية لزوجة صديقي ؟؟
كم أنا نادم على الحضور ... بل نادم على تذكر وصيتك يا نديم ... فعوضا عن مساعدة عائلتك هاأنا أتسبب بمرض زوجتك !

الذي حدث هو أن صحة السيدة تحسنت شيئا فشيئا ، و رفضت هي الذهاب للمستشفى و أصرت على العودة إلى البيت ...

بصعوبة أقنعتها ابنتها بالبقاء بعض الوقت ، حتى تتحسن أكثر ...

تُركت السيدة في غرفة للملاحظة ، و بقينا أنا و العجوز في على مقربة ...

الآن تخرج الفتاة من الغرفة ، و تأتي نحونا


العجوز يبادر بالسؤال :

" كيف هي ؟؟ "

" نائمة ، لكنها أفضل "


و بعدها تنظر إلي أنا ...


غضضت أنا بصري ... فسألتني :


" من أنت ؟؟ "

أجبت :

" وليد شاكر ... كنت أحد أصدقاء السيد نديم وجيه "

قالت :

" إنه والدي "

قلت :

" نعم ... عرفت "

قالت :

" و لم جئت لمزرعتنا ؟ ألا تعرف أن أبي في السجن منذ زمن ؟؟ "

صمت ... ما ذا بإمكاني القول ؟؟


قالت :

" بم أخبرت أمي ؟؟ "

و أيضا بقيت صامتا ...

قالت :

" والدي قُتِل ... أليس كذلك ؟؟ "


رفعت نظري إليها مندهشا ... و متندما ... و أسِفا ... و كم كانت تعبيرات وجهها تنم عن القوة و الجرأة ...

ثم نظرت إلى الرجل العجوز ... فرأيته هو الآخر يحملق بي ...

قلت :

" أنا ... آسف ... "

خشيت أن تأتي ردة فعل الفتاة كأمها لكنني عجبت من هذه القوة و الصمود اللذين تملكاها ... قالت :

" كنت أتوقع ذلك ... "


ثم انصرفت عائدة نحو الغرفة ...

بعد ذلك بدأ العجوز يستجوبني ... و سردت عليه بعض أخبار نديم و أوضاعه في السجن قبل موته ... و علمت أنهم منعوا من زيارته و لم يبلغوا بوفاته ...

و كم أثار ذلك حزني و حنقي ...

أبعد العذاب الذي صبوه عليه كل تلك المدة ، يقتلونه و يدفنونه ثم لا يبلغون أهله حتى بأنه مات !؟

أ تركوا العائلة تعيش مرتقبة عودته فيما هو رميم تحت الأرض ..؟؟

طال الانتظار ، و لم أعرف ... أعلي الذهاب و تركهم ؟؟ أم علي البقاء و مساعدتهم ؟

و لكنني آثرت البقاء ... من باب الأدب و الوفاء لصديقي الراحل ...

بعد فترة ، اشتد علي الألم ، و التعب و بدأت أحس بالدوار ...

لم أكن قد تناولت شيئا بعد تلك البوضا الأخيرة ... لذلك أحس باضطراب ...
و قد لاحظ العجوز اضطرابي و وهني ، إذ كنت أسند رأسي إلى الحائط القائم خلف المقعد الذي أجلس عليه ..

" هل أنت على ما يرام ؟؟ "

سألني العجوز ... أجبت :

" أشعر بالإعياء ... "

قمت بصعوبة ، بالكاد أحمل نفسي و سرت خطى متعثرة حتى وصلت إلى عيادة الطبيب ...


انهرت على السرير هناك و قلت :

" أنا مرهق ... ساعدني ... "


اشتد بي الدوار و بدأت أتقيأ ... عصارة ممزوجة بالدم ...

بعد أربعين دقيقة من العلاج شعرت بتحسن كبير ... و شكرت الطبيب ...

الطبيب سألني عدة أسئلة عرف منها عن آلام معدتي المتكررة و الدماء التي تخرج من جوفي ،
فأجرى لي بعض الفحوص ثم رتب لإرسالي إلى قسم المناظير لإجراء منظرة لمعدتي ...

الرجل العجوز كان يأتي للاطمئنان علي بين الفينة و الأخرى ...

" أ أنت بخير يا هذا ؟ "

" أنا بحال أفضل الآن . شكرا لسؤالك أيها العم ، ماذا عن السيدة ؟ "

" لا تزال نائمة و يريد الطبيب نقلها إلى مستشفى أكبر ، لكن ظروفنا لا تسمح بذلك "


و الآن دخلت الممرضة في الغرفة التي كنت ُ أنا فيها و قالت :

" هيا يا سيد ، سنأخذك إلى قسم المناظير "


الرجل العجوز نقل بصره بيني و بينها في تساؤل ، فقلت :

" سأعود بسرعة "


و ذهبنا إلى قسم المناظير و تم إجراء منظرة لمعدتي ... و بعد الفراغ من ذلك قال لي الطبيب :

" إنها قرحة نازفة ... في معدتك أيها السيد "


خمس ساعات مضت و نحن في ذلك المستوصف ، ننتظر تحسن السيدة زوجة نديم كي نغادر

وصف لي الطبيب أدوية اقتنيتها من صيدلية مجاورة ، بسعر باهظ ... كما و أنني دفعت مبلغا كبيرا نسبيا من أجل مستحقات الطبيب و الفحوص و المنظرة
أتساءل ، أي مبلغ خسرت عائلة نديم يا ترى ؟؟

أقف الآن عند المخرج ، و أرى الفتاة ابنة نديم تدفع كرسي العجلات الذي تجلس عليه والدتها ، و إلى جانبهم العجوز الطيب .

حينما صاروا قربي ، انطلقت نحو السيارة و أنا أقول :

" من هنا رجاءً "

أخذ الثلاثة يتبادلون النظرات ، ثم نظروا إلي ...

في أعينهم كانت آثار الدموع واضحة ، كما علامات الحيرة و التردد ...

قلت :

" سأوصلكم إلى المزرعة ... إن لم يكن لديكم مانع ؟؟ "


وصلنا إلى المزرعة و طلب مني العجوز أن أوقف السيارة في الداخل ، إمام المنزل مباشرة

قام الاثنان بمساعدة السيدة على السير حتى دخلوا المنزل ، و أنا واقف أراقب إلى جانب سيارتي ... بعد قليل حضر العجوز و ناداني :

" تفضل بالدخول يا ... ما قلت اسمك ؟ "

" وليد ... وليد شاكر أيها العم "

" تفضل يا وليد شاكر "


ترددت قليلا ، إلا أنني آثرت البقاء معهم لبعض الوقت ، إذ لابد أنهم يودون معرفة شيء من تفاصيل موت نديم ، رحمه الله

المنزل كان صغيرا و بسيطا ، و أثاثه عادي و قديم ، ما يعطي الزائر انطباعا عن المستوى المادي البسيط الذي تعيش به هذه العائلة الصغيرة .

أخذني العجوز إلى الصالة الرئيسية في المنزل ، و بعد أن جلست بدأ يرحب بي ...


" أهلا بك ... نحن شاكرون لك صنيعك النبيل "

قلت :

" لا داعي لأي شكر أيها العم ، لم أفعل شيئا "

قال :

" و كيف تشعر الآن ؟؟ هل تحسنت ؟؟ "

" كثيرا و لله الحمد ، كل ما في الأمر أنني قضيت ساعات طويلة بلا نوم و لا طعام لذا داهمني الدوار و الإعياء ! "


قال :

" نعم أجل ... الطعام "


و نهض و ذهب إلى غرفة مجاورة ، و عاد مع الفتاة ...

الفتاة ألقت تحية علي ، و نطقت ببعض كلمات الترحيب ، ثم استأذنت ...

و أخذنا أنا و العجوز نتحدث عن أمور متفرقة ، أتى ذكر نديم و مأساة وفاته في معرضها ...


" لقد كنا نتوقع ذلك ، فجميع من سجنوا معه بلغتنا أنباء وفاتهم ، كل هذه السنين و نحن لسنا على يقين من حياته أو موته ... ليندا لم تفقد الأمل في عودته ذات يوم "


كم شعرت بالأسى ... لأجل هذه العائلة البائسة ... التي عاشت محرومة من معيلها كل تلك السنين ، و بعد كل هذا الانتظار تكتشف أنه مات !

كيف يفعلون هذا ؟؟ يسجنونه و يعذبونه و يقتلونه ، ثم لا يخبرون أهله بأنه مات ؟؟

قلت :

" يوم وفاته ... طلب مني نديم أن أزور عائلته و أطمئن على أحوال أهله ... كان ذلك قبل سنين ... أربع تقريبا ... إلا أنني ... "

العجوز كان يراقبني باهتمام شعرت معه بالخجل ، و برغبة في الاختفاء في الحال !

قال :

" هانحن نعيش حياتنا و الحمد لله .. أدعوه أن يحفظ لي صحتي و قوتي لأرعى أختي و ابنتها "


و هنا دخلت ( ابنتها ) تحمل صينية ملأى بالطعام ...

وضعت الصينية على الطاولة الماثلة أمامي و عادت ترحب بي ... ثم قالت :

" تفضل يا سيد وليد "

و انصرفت

شعرتُ بالخجل ... فأنا وسط عائلة غريبة علي ... أناس لم يسبق لي رؤيتهم قبل اليوم ... و هم على ما يبدو كرماء !


" تفضل يا بني ... طعام خفيف لحين موعد العشاء "


دهشت ! قلت :

" العشاء !؟ "

" نعم .. فأنت ستتناول عشاءك معنا هذه الليلة "

" أوه كلا ... إنني ... إنني سأنصرف بعد قليل "


و أصر العجوز على استضافتي ليس فقط على العشاء ، بل و للمبيت عندهم هذه الليلة !

العشاء كان لذيذا جدا ، علمت أن الفتاة هي التي أعدته ! كما علمت أن حالة السيدة قد تحسنت كثيرا ، و لذا فإنها و ابنتها كذلك شاركتانا الجلسة و الأحاديث بعد الوجبة .

الثلاثة يبدون متشابهين في المظهر ! جميعهم من السلاسة الشقراء !

السيدة كانت تمطرني بالأسئلة عن نديم و ما حصل معه ، و أنا أحاول الإجابة بالقليل الذي لا يسبب لها انتكاسة ، إلا أنها مع ذلك أخذت تبكي ، و تبعتها ابنتها ...

قالت الابنة بانفعال و هي لا تملك منع نفسها عن البكاء :

" أرجوك يا أمي توقفي عن البكاء ... كنت تعرفين أنه لن يعود ... جميعنا نعلم أنهم و لا شك قتلوه ... الظلمة القساة الحقرة ... الأوغاد المجرمون ... احرقهم يا رب جميعا ... انتقم منهم فأنت العزيز ذو الانتقام ... و افعل بهم ما فعلوه بنا ... و أفظع "


أما أنا فقد كنت أردد دعوتها عليهم في صدري ...

يا رب انتقم منهم جميعا ...

عاد بي شريط الذكريات إلى سنين السجن ... و عذاب السجن ... و الزنزانة ... و الطعام الرديء ... و الأسرّة المهترئة ... و الحشرات ! ... و الرائحة العفنة ... التي اختزنت في ذاكرة أنفي ! أكاد أشمها !

رفعت يدي إلى أنفي كمن يريد منع رائحة كريهة من التسلل إلى تجويف أنفه ، فلامست أصابعي الحفرة الصغيرة التي تركها السجن علامة عليه ... شعرت بنار تتأجج في صدري ... نار كنت أخالها قد خمدت بعد هذه الشهور التي قضيتها خارج السجن ... إلا أنني ... و أنا أرى المناحة و البؤس و الدموع المنسكبة من أعين الأرملة و اليتيمة ... و أتذكر نديم و هو يحتضر ... و الكدمات و الجروح التي كانت تغطي جسمه أكثر من شعيرات جلده ... عقدت العزم على ألا تواتيني فرصة للنيل منهم إلا و اقتنصتها ...

و من خلال الساعات التي قضيتها في تبادل الأحاديث معهم ، شعرت بقربي لهم و قربهم مني ... و كأنني وسط عائلتي ، و كأنني أعرفهن من سنين ...

لقد ألفت ُ هذه العائلة و أحببتها في الله !

في اليوم التالي ، و رغم أنني نمت باكرا كما نامت العائلة ، استيقظت قرابة الساعة الحادية عشرة ...

كنت قد نمت في غرفة صغيرة في الطابق السفلي للمنزل مفترشا فراشا أرضيا بسيطا و ملتحفا ببطانية ثقيلة .

على الأقل ، وفرت كلفة ليلة واحدة كنت سأبيتها في فندق أو ما شابه ...

نهضت و خرجت من الغرفة و أنا أتنحنح ...

بعد قليل ، كنت أقف في الصالة الرئيسية وحيدا ، تلفت من حولي فلم أشعر بأي حركة توحي بوجود كائن حي على مقربة مني !

مضيت نحو المخرج ، و خرجت من المنزل راغبا في استنشاق الهواء العليل العابق برائحة الأشجار و الزهور ...

كم كان منعشا و باعثا للنشاط !

أخذت أتجول سيرا حول المنزل و في ممرات المزرعة ... و أتأمل الجمال الطبيعي من حولي ، و أستمع إلى غناء العصافير و أشاهد استعراضاتها الجميلة في السماء ...

المكان كان غاية في الروعة ... و أي امرئ يقضي هنا سويعات معدودة ، لا شك أنه سيخرج بنفس مبتهجة و نفسية مرتاحة !

فيما أنا أسير ... وجدت السيدة و الفتاة على مقربة ...

كانتا ترتديان ملابس سوداء ... ربما حدادا على تأكيد موت نديم ، رحمه الله ... و كانتا تسحبان صناديق مليئة بالثمار ... تجرانها جرا ... إلى حيث تقف سيارة حوض زرقاء ، يعلو حوضها الرجل العجوز ،و يقوم بترتيب صناديق الثمار المكشوفة ، التي ترفعها السيدة و الفتاة متعاونتين و تضعانها في الحوض .
تفعلان ذلك ، ثم تعودان لجر المزيد من الصناديق ...

اقتربت من السيارة و ألقيت التحية على العجوز المنهمك في ترتيب الصناديق ، و يبدو أنه لم يسمع !

تبعت السيدتين إلى حيث وجدت مجموعة من الصناديق المليئة بالثمار تنتظر دورها للشحن في السيارة ...

و هاهما تسيران نحوي و تجر كل واحدة منهما صندوقا جديدا ...


" صـ باح الخير "

حييتهما فتركتا الصندوقين و ردتا التحية ، ثم قالت السيدة :

" هل نمت جيدا ؟ أتمنى ألا يكون الفراش قد أتعبك ؟؟ "

قلت :

" على العكس ... نمت بعمق ... شكرا لكم جميعا "

السيدة قالت مخاطبة ابنتها :

" أروى اذهبي و أعدي الفطور لضيفنا "


الفتاة نظرت إلى الصندوق ثم إلى أمها و قالت :

" حسنا "

و همت بالذهاب ...

أنا قلت :

" شكرا لكن لا داعي لذلك ... لا أشعر بالجوع الآن "

قالت السيدة :

" بلى ! سيكون فطورك جاهزا خلال دقائق ، و معذرة فأخي مشغول الآن لكن تصرف بحرية "

ثم التفتت إلى الفتاة و قالت :

" هيا أروى "


الفتاة ذهبت في طريقها إلى المنزل ... و السيدة تابعت سحب صندوقها ...

سرت أنا نحو الصندوق الآخر ، و حملته و نقلته إلى حوض السيارة ... فيما هي لا تزال تجر صندوقها !

الآن انتبه العجوز إلي !


" صباح الخير أيها العم "

" أوه ! شاكر ... نهضت إذن ! لابد أنك كنت متعبا جدا ! صباح الخير "

وضعت الصندوق في السيارة و قلت :

" كنت ، لكنني الآن بحالة ممتازة و الحمد لله . شكرا لكم . اسمي وليد أيها العم !"


سحب العجوز الصندوق ليصفه بنظام قرب أخوته ثم قال :

" أجل تذكرت ! وليد . سآخذ هذه إلى السوق ، أتفضل انتظاري أو مرافقتي ؟ "

نظرت ناحية السيدة المقبلة تجر الصندوق ، ثم إلى العجوز و قلت :

" أفضل مساعدتكم ! "


ثم بدأت بنقل الصناديق واحدا تلو الآخر ... و طلبت من العجوز أن يطلب من السيدة أن ترتاح ، فقد عاشت أزمة قلبية يوم أمس !

أقبلت الفتاة بعد ذلك ، و رأتني أحمل أحد الصناديق ... فتعجبت ! ثم قالت :

" طعامك جاهز أيها السيد ... تفضل إلى المنزل "

و مضت نحو ما تبقى من الصناديق و جرّت أحدها ...

وضعت ما بيدي في حوض السيارة ، و عدت ناحية الصناديق ...

كانت الفتاة تجر صندوقها بجهد ... قلت :

" دعي الأمر لي سيدتي أستطيع نقلها جميعا وحدي دون عناء "


فتركت صندوقها و تنحت جانبا ، فحملته و نقلته إلى السيارة ، و سارت هي من بعدي حتى صارت واقفة إلى جوار والدتها ...

انتهيت من مهمتي ، فشكرني الجميع ثم قالت السيدة الأم :

" لقد برد فطورك ! أرجوك تفضل لتناوله "


شعرت بالخجل ، و نظرت نحو الأرض بحياء ، فنادت السيدة على العجوز

" إلياس ... تعال لتكرم ضيفنا ! "


نزل العجوز أرضا ، و رافقنا نحو المنزل ...

هناك جلست عند المائدة أتناول فطوري الشهي ، و إلى جانبي العجوز يشرب الشاي ، بينما السيدة و ابنتها تراقباننا عن بعد و تتابعان أحاديثنا !


في معرض الحديث ، قال العجوز :

" ليتني أعود لمثل شبابك و قوتك ! اخبرني ... ماذا تعمل ؟؟ "


توقفت عن مضغ اللقمة الموجودة في فمي ، و ابتلعتها كما هي !

قلت :

" في الواقع أيها العم الطيب ... أنا عاطل عن العمل ! "

دهش العجوز ، فأخبرته بأن تخرجي من السجن حال دون قبولي في الوظائف التي حاولت الالتحاق بها ، و أخبرته إنني هنا في المدينة الشمالية للبحث عن عمل ...


قال :

" شبّان هذه الأيام يحبون الوظائف المكتبية و الإدارية التي لا تتطلب منهم سوى الجلوس و تقليب الأوراق ! سيصعب عليك العثور على وظيفة كهذه في هذه المدينة ! "

قلت :

" سأجرب ! فإن فشلت ، عدت ُ من حيث أتيت ! "

قال :

" إذن ... ما هي خطتك الآن ؟؟ "

قلت :

" سأذهب إلى قلب المدينة ، استأجر شقة صغيرة ، و أبحث عن وظيفة ... عسى الله أن يوفقني هذه المرة "


بعد ذلك رافقت العجوز إلى السوق ، حيث قام ببيع الثمار على أحد تجار الخضار و الفاكهة ، ثم عدنا إلى المزرعة ....

حينما وصلت ، و فيما أنا في طريقي إلى سيارتي ، لمحت السيدتين واقفتين عند الأشجار ، تقطفان الثمار و تجمعانها في السلات و الصناديق ...

نظرت إلى العجوز السائر جواري و قلت :

" ألا يساعدكم أحد في العناية بهذه المزرعة ؟؟ "

قال :

" كلا ! نحن الثلاثة من يعتني بها ، لكننا نستأجر بعض العمال لقطف الثمار أو التنظيف أو ما إلى ذلك من حين لآخر ! "

يا للحياة الشاقة التي تعيشها هذه العائلة !

لو تعلم يا نديم ... !


قلت :


" دعوني أساعدكم قبل المغادرة ! "


و بدأت العمل !

قطفنا كميات كبيرة من الثمار ، و وزعناها على الصناديق ، و تركناها قرب بعضها البعض ، لحين الغد ، حيث سيتم نقلها إلى السيارة من جديد ...

بعد ذلك قمنا بجمع الأوراق و الثمار المتساقطة و تنظيف الأرض !

كل ذلك استغرق منا ساعات من العمل ، و كلما حاول العجوز ثنيي أو الاعتذار ، قلت له :

" هذا واجبي ، و نديم يستحق أكثر من ذلك "


بعد ذلك ، دخلنا إلى المنزل و من ثم تناولت وجبة الغداء المتأخرة مع العجوز الطيب ... ، شكرته على حسن ضيافته و وعدته بالعودة لزيارتهم كلما أمكنني ...
و خرجت من المنزل و ركبت سيارتي الواقفة أمام المنزل ، و سرت بها ...

عبرت على مجموعة الصناديق ، و فكرت ... في العناء الذي ستلاقيه السيدتان غدا في نقلها إلى السيارة الزرقاء ... غدا و بعده و كل يوم ... اعتقد أن من واجبي تقديم المزيد من المساعدة لهذه العائلة التي أوصاني صديقي الراحل بها خيرا

أوقفت السيارة و عمدت إلى الصناديق و جعلت انقلها إلى السيارة الزرقاء المركونة على مقربة ، واحدا تلو الآخر ... دون علم أحد !

الشمس كانت على وشك المغيب ... لم أكن أشعر بأي تعب أو إعياء يذكر ، كما و أن آلام معدتي قد اختفت تقريبا بعد العلاج السحري الذي وصفه لي الطبيب ! أو ربما العلاج السحري في هذه المزرعة الجميلة و مناظر الطبيعة الخلابة ، و الهواء المنعش ...

كم أنا سعيد لأنني استطعت خلال الساعات الماضية طرد آلامي الجسدية و النفسية ... و أفكاري المهمومة ... بما فيها الخائنة رغد !

رغد ...

ما تراك تفعلين الآن ؟؟؟

و ما تراك فعلت ِ بعد علمك برحيلي ؟؟

ما تراك فاعلة إن علمت ِ أنني لن أعود إليك مرة أخرى ... و أنني في سبيل الابتعاد عنك مستعد لهجر أهلي للأبد ؟؟؟


" ماذا تفعل ! "


روعتُ فجأة حين سمعت صوتا آت ٍ من خلفي ، و استدرت بفزع !

كانت ابنة نديم !

كنت أحمل الصندوق على ذراعي و أسير نحو السيارة الزرقاء ، و أفكر برغد !

ثم وجدت نفسي في موقف لا أحسد عليه ، أمام ابنة نديم ... تنظر نحوي بدهشة !

تتأتأتُ في الحديث ، قلت :

" أأأ ... فكرت في ... بما أنني لازلت هنا ... يمكنني المساعدة قبل ... معذرة فأنا لم أقصد سوءا ! "


و خفضت بصري نحو الأرض ...

شعرت بثقل الصندوق فوق يدي ، فرفعته أكثر ، ثم اعتذرت ، و ذهبت إلى السيارة لأضعه فيها ...

الفتاة تبعتني ، و أخذت تنظر إلى الصناديق الموضوعة في السيارة بتعجب !


قالت :


" لم كلّفت نفسك عناء كل هذا !؟ لم يكن واجبا عليك ذلك ! "

قلت :

" بلى ... من واجبي و من دواعي سروري أيضا ! نديم كان صديقي الحميم في السجن ... ليتني أملك أكثر من هذا لأفعله من أجله ... و أجل عائلته "


الفتا قالت بعد صمت قصير :

" شكرا لك ... أنت رجل نبيل "


و صمتت تارة أخرى ، ثم قالت :

" لماذا دخلت السجن ؟؟ "


و لما لم تجد مني جوابا ، قالت :

" اعتذر ... تجاهل سؤالي إن كان يزعجك ... "

أنا كنت في غاية الاضطراب ، هناك مواقف كثيرة في الحياة لا أعرف التصرف حيالها ، و هذا أحدها !

سرت إلى الصناديق و تابعت عملي بصمت و هدوء ، و إن كان داخلي متوترا مضطربا ، و الفتاة واقفة على مقربة !

متى تنقشعين !؟

يبدو أنها امرأة قوية و جريئة !

ربما لأن أمها ـ و كذلك خالها ـ من أصل بلدة أخرى ... ذات طباع و شخصيات أخرى ... غريبة و مختلفة عما تعودت أنا عليه !

بعد فراغي من نقل الصناديق ، قالت لي :

" شكرا لك يا سيد وليد ... والدي يعرف كيف يختار أصدقاءه ... "

قلت بخجل :

" العفو ... سيدتي "

ثم ابتعدت و أنا أقول :

" مع السلامة "





~ ~ ~ ~ ~







" وقعت ِ أخيرا ! "


صاحت نهلة بصوتها العالي و هي تشير بإصبعها نحوي ، و تضيق الحصار علي !

تلفت من حولي و قلت :

" نهلة أرجوك ! اخفضي صوتك ! لابد أن أمي تسمعه في المطبخ ! "


نهلة أقبلت نحوي و هي لا تزال تمد بسبابتها نحوي حتى تكاد تفقأ عيني !


قالت بحدة و مكر :

" اعترفي يا رغد ... لن يجدي الإنكار أو المواراة ! أنت مهووسة بابن عمّك ! "


مددت يدي و أمسكت بعنقها و ضغطت عليه !

" سأخنقك ِ يا نهلة ّ "


نهلة الأخرى طوقت عنقي بيديها و قالت تمثل دور المخنوقة :

" سأنطق بالحق حتى النفَس الأخير ... رغد تحب ابن عمّها وليد... دون أن تدرك اللهم إني بلّغت ، اللهم فاشهد ! "


و بالفعل كدتُ أخنق هذه الفتاة !

طرقُ على الباب منع جريمتي من الوقوع !

تركت عنق ابن خالتي و مضيت ُ لفتح الباب ... كانت دانه !

" رغد ... وليد على الهاتف ! إن كنت ِ ترغبين بإلقاء التحية ! "


حدّقت ُ بها لثوان شبة واعية لما قالت ، ثم انطلقت مسرعة إلى حيث كانت والدتي تمسك بسماعة الهاتف و تتحدث إلى وليد ...


عندما رأتني أمي قالت له :

" بني ... هذه رغد ترغب في التحدث معك "


و مدت السماعة إلي ...

أخذت السماعة و ألصقتها في إذني و فمي ! بقيت صامتة لثانيتين ، ثم قلت :

" وليد ؟؟ "

أستوثق من كونه هو من على الطرف الآخر ...

صوت وليد وصلني خافتا مترددا و هو يقول :

" مرحبا ... صغيرتي "

بمجرد أن سمعت صوته ، انفجرت !


قلت بصرخة منطلقة مندفعة قوية حادة مجنونة :

" كذّاااااااااااااب "


و أعدت السماعة بسرعة إلى والدتي ، و جريت نحو غرفتي ، و صفعت الباب و أوصدته بانفعال !

نهلة أخذت تنظر إلي بذهول و استغراب ...


" رغد !؟؟ "


صرخت بانفعال ...


" رغد تكره وليد .... أفهمت ِ ؟؟ تكرهه ... تكرهه ... تكرهه "


و لم أتمالك منع دموعي من الانسياب بغزارة من محجري ...

و مضيت إلى سريري فجلست و سحبت الوسادة ، و غمرت وجهي فيها ... حتى كدت اختنق !


بعد قليل ، نهلة ربتت على كتفي و قالت :

" نعم ... مفهوم "


أبعدت أنا الوسادة عن وجهي و تنفست الصعداء ... و سمحت لنظرات نهلة باختراقي مباشرة ... الدموع كانت تجري بانسياب مبللة كل ما تصادفه في طريقها ...


" عزيزتي ... "


ما أن قالت نهلة ذلك حتى انهرت تماما ... و رميت برأسي في حضنها و طوقتها بذراعي باستسلام و أسى ... قلت و أنا في غمرة الحزن ... في لحظة صدق و اعتراف

" لماذا رحل دون وداعي ؟؟ لماذا كذب علي ؟؟ لماذا كذبوا كلهم علي ؟؟ أخبروني بأنه لن يعود ... لكنه عاد ... لكنه تركني ... لم يعد يهتم بي ... لأنني سأتزوج سامر ... لكني لا أحب سامر ... لا أحبه ... "


و أبعدت ُ وجهي عن حضنها و نظرت إليها باستنجاد مرير ...

" نهلة ... أنا ... لا أحب سامر ... أنا ... لا أريد أن أتزوج منه "


نهلة وضعت يدها بسرعة على فمي لكتم كلماتي ، و تلفتت ، ثم عادت تنظر إلي ...


قالت :

" اخفضي صوتك ... "


شعرت باليأس و فقدِ الأمل ... و طأطأت برأسي أرضا باستسلام لحكم القدر ...

كيف لي أن أقول هذا ... و لا تفصلني عن موعد الزفاف غير أسابيع ؟؟

لا يحق لي حتى مجرد التفكير ... فقد قضي الأمر ... و انتهى كل شيء ...

بعدما هدأت من نوبة بكائي ... و لزمت و نهلة الصمت لعدة دقائق ، قالت هي :


" رغد ... لم يفت الأوان بعد ... دعي أمي تتدخل و توقف هذا الزواج في الحال "


هززت رأسي نفيا و اعتراضا و قلت بعدها :

" لا ... كلا كلا ... نهلة إياك و الإقدام على هذا ... "

" لكن يا رغد ... "

" أرجوك نهلة ... لا تفسدي علي الأمور ... لقد فات الأوان ... و انتهى كل شيء ... لا تضعيني في موقف كهذا مع أمي و سامر و الجميع ... "


نهلة أمسكت بيدي و قالت :

" لكن... أنت لا تحبين سامر ! إنك لا ترغبين في الزواج منه ! كيف تربطين مصيرك به ؟ "

" قدري و نصيبي "

" و وليد ؟؟ "


وقفت ببطء ... و استسلام ... و أنا أتذكر تلك الليلة ، حين وعدني و أقسم بألا يرحل دون علمي ، ثم نقض الوعد و القسم ... مستغفلا إياي بعلبة بوضا !


قلت :

" لم يعد له وجود ... أو داع للوجود "


طُرق الباب مجددا ، فتوجهت لفتحه فإذا بها أمي ...


أمي حملقت في عيني المحمرتين برهة ثم قالت :

" رغد ... أهناك شيء ؟؟ "


واريت أنظاري تحت الأرض ، و قلت :

" لا ... لا شيء "


و حين رفعت نظري إليها وجدتها تنظر إلي بتشكك ...

هربت من نظراتها و نظرت إلى ابنة خالتي ... و التي بدورها قالت :

" يجب أن أذهب الآن ... "


و ذهبت إلى المرآة ترتب حجابها و عباءتها ...

قلت :

" نهلة ! كلا لن تذهبي الآن ! "

قالت :

" لدى سارة دروس تستصعبها و هي تنتظرني لتعليمها الآن ! ... "


قالت أمي :

" لا يزال الوقت مبكرا ... ابقي للعشاء معنا "


ابتسمت نهلة و قالت و هي تحرك يدها عند نحرها :

" ستذبحني سارة إن تأخرت أكثر ! "

رافقتها إلى الباب الخارجي ، و قلت لها قبل أن تنصرف :

" نهلة ... لا تذكري ما دار بيننا على مسمع من أحد ... أرجوك "

نهلة ابتسمت ابتسامة مطمئنة ، ثم غادرت ...

عندما عدت إلى غرفتي وجدت دانة هناك !

ما أن رأتني حتى بادرت بسؤالي :

" بربك رغد ! ماذا تقصدين من تصرفك الأحمق هذا ؟؟ لقد كادت السماعة أن تتصدع من صرختك ! أخشى أن تكوني قد أحرقت الأسلاك بين المدينتين ! "


لم يكن لدي مزاج مناسب للجدال مع دانة هذه الساعة ، قلت بنفس ٍ متضايقة:

" أخرجي دانة ، أريد البقاء وحدي "

دانة نظرت إلي باستنكار ، ثم قالت :

" لا تطاقين يا رغد ! متى أتزوج و أتخلص منك ! "

ثم مضت مغادرة ، و قبل أن تخرج قلت :

" قريبا يا ابنة عمي ... ماذا بعد ؟؟ أهذا يكفي ؟؟ "

و صفعتُ الباب خلفها ...

اعتقد أن تصرفاتي لم تكن لائقة لهذا اليوم ، بل و منذ رحيل وليد و أنا في حالة عجيبة ... عصبية دائما ، حزينة دائما ، ضائقة الصدر ... منعزلة في غرفتي ... فاقدة الاهتمام بأي شيء من حولي حتى الرسم ...

و مع مرور الأيام ازدادت حالتي سوءا ... و بدأ العد التنازلي لموعد الزفاف ... لموعد النهاية ... لموعد الحلقة الأخيرة من مسلسل حياتي التعيسة ...

لو كان لي أم ... لو كان لي أم تخصني أنا ... لا تكون هي أم سامر ... لكنت أخبرتها بكل ما يختلج صدري من مشاعر ...

لكنت أخبرتها بما أريد و ما لا أريد ...

أمي هذه ، أم سامر خطيبي ... العريس المتلهف للزفاف ، و إن حاولتْ التحدث معي ، أتحاشاها و اخفي في صدري ما لم أعد قادرة على كتمانه ...

كيف لي أن أخبرها بأنني لا أريد أن أتزوج من ابنها ، الذي خطبت ُ له منذ أربع سنين !؟

كيف سيكون موقفي من سامر ... و أبي ...و الجميع ...

و لماذا أفعل هذا بهم ؟؟

أيكون هذا جزاء من آووني و رعوني كل هذه السنين ، التي لم أشعر فيها أبدا بأنني يتيمة الأبوين ...؟؟

عدا عن ذلك ...

فأي رجل سأتزوج ما لم أتزوج سامر ؟؟ من سأعطيه ثقتي المطلقة مثله ... ؟

حسام الذي لا يختلف عنه كثيرا ؟؟

أم ... وليد ...الذي ...

الذي ... لم أعد أعني له شيئا ...؟؟

وليد ... الكذاب !




~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~





كذاب !

كلمة قاسية هزتني و أربكتني حتى كدت معها أوقع هاتفي من يدي ...
لها الحق بنعتي بهذه الصفة .. ألم أعدها ألا أرحل بدون علمها ثم رحلت ؟؟؟
لكن لماذا تأثرت ْ هي كثيرا من ذلك ؟؟
ماذا كان يفرق لديها ... بقائي من رحيلي ؟؟
أم تظنني سأبقى أرعاها و أدللها كما كنت في السابق ، فيما هي زوجة لأخي !

الخائنان !

كنت في سيارتي في طريقي إلى الشقة الصغيرة التي استأجرتها ، و دفعت مبلغا لا بأس به لأجل ذلك ، على الرغم من نقودي المحدودة التي تتضاءل يوما بعد يوم .

بحثت جاهدا عن وظيفة في هذه البلدة ، و كلما صادفت أعلانا عن وظيفة شاغرة في الصحف بادرت بالاتصال ، رغم أنني لا استوفي شيئا من الشروط المطلوبة ...

كانت أيام سبعة قد انقضت منذ وصولي إلى هذه البلدة ، و هي فترة قصيرة طبعا ، إلا أنني شعرت بملل و وحدة قاتلين ... و فكرت في العودة إلى مزرعة نديم !

إنني أشعر بأن أهل نديم هم أهلي ... و إن لهم حق واجب علي ... و علي تأديته ...

لذا ، فإنني غادرت الشقة ، ذهبت إليهم ... في اليوم التالي .

عندما وصلت ، كانت ابنة نديم هي أول من التقيت به ...

الفتاة كانت جالسة بين مجموعة من الصناديق الخشبية ، منهمكة في إصلاح و تجبير كسورها بالمطرقة و المسامير !

ألقيت التحية فلم تسمعني ، فعدت أحيي بصوت مرتفع فانتبهت لي ...

رمت الفتاة بالمطرقة جانبا و نهضت واقفة و قالت :

" مرحبا بك أيها السيد النبيل ... "

هبطت ببصري أرضا و قلت :

" كيف أحوالكم ؟ "

" الحمد لله . ماذا عنك ؟ "

" بخير سيدتي . ... هل العم إلياس موجود ؟ "

" خالي ذهب لجلب بعض الأشياء ... سيعود قريبا ... تفضل "

و أرادت مني أن اتبعها إلى المنزل ، لكنني قلت :

" سوف أنتظر العم ... إذا لم يكن في ذلك ما يزعجكما ؟ "

قالت :

" لا بأس ، أهلا بك ... سوف أخبر والدتي عن مقدمك "


و ذهبت مسرعة إلى المنزل ...

أنا جعلت أتأمل طابور الصناديق المكسورة التي تنتظر دورها في التجبير !

إنها مهمة شاقة لا تناسب المرأة !

أليس كذلك ؟؟

بعد قليل أتت السيدة الأم مع ابنتها ، ترحب بي بحرارة و كأنها تعرفني منذ زمن !

شعرت بالخجل من ذلك ، و لكن يبدو أنه وضع مألوف لدى هذه العائلة الغريبة !

قلت و أنا أنظر ناحية الصناديق :

" دعاني أتولى ذلك "

طبعا السيدتان اعترضتا ألا أنني قلت :

" ريثما يعود العم إلياس "


و رغم أنها المرة الأولى التي أقوم فيها باستخدام المطرقة و المسامير ، ألا أنني أتقنت العمل !

في الواقع ، شعرت بالخزي من نفسي ... فأنا عاطل عن العمل أتسكع في المدن و الشوارع ، بينما تقوم فتاة شابة في العشرينات بإصلاح كسور صناديق خشبية ، و قطف الثمار ، و حمل الصناديق الثقيلة ، و الحرث و الزرع و ما إلى ذلك ...

أمر مخز بالفعل !

بعد قليل وصل العم إلياس و ما أن رآني حتى أسرع نحوي يريد أخذ المطرقة مني يدي ...

قلت :

" مرحبا أيها العم الطيب ! لا تقلق ... إنه عمل يسعدني كثيرا ! "


اعتقد أنه شعر بالخجل ، و رحب بي بحرارة تفوق حرارة ترحيب الأخريين ، و تمتم بعبارات الشكر و بسيل من الدعوات و الأماني !

أنهيت عملي خلال ساعة ... أمطرني الجميع بكلمات الشكر اللانهائية ... شعرت حينها بأنني شخص ذو قيمة و أهمية و قدرة على العمل و إفادة الآخرين ... بعد شهور التفاهة و البطالة و التشتت التي قضيتها ...


قال العجوز :

" أعطاك الله القوة و الصحة يا بني ، آمل أن تكون قد وفقت في العثور على وظيفة تلائمك ؟؟ "

قلت :

" ليس بعد ! "

قال :

" إذن ؟؟ "

قلت :

" هل ... أجد عندكم عملا مقابل المأوى و الطعام فقط ، إلى أن أجد وظيفة ملائمة ؟؟ "




ستة أسابيع مضت منذ أن اقتحمت عالم الفلاحة ، و أصبحت مزارعا !

شيء لم أكن أحلم به أو أتخيله حتى يمر ببالي مرورا عابرا ... فقد كنت أحلم بأن أصبح رجل أعمال مهم ... مثل صديقي سيف ...

في كل صباح ، كنت أقوم بحرث الأرض ، و زرع البذور ، و قطف الثمار و تنظيف المزرعة ، و إصلاح كل مكسور ، الصناديق ... أنابيب المياه ، الأغصان !
و قبيل الظهيرة أذهب لبيع ثمار اليوم في سوق الفاكهة ، و حين أعود أتابع العمل في هذا الشيء أو ذاك ... عمل شبه مستمر حتى غروب الشمس ...

وجباتي الثلاث كنت أتناولها إما مع العم إلياس أو في الغرفة الجانبية التي خصصت لي ، خارج المنزل ...

رغم أنه كان عملا شاقا ألا أنني سررت به كثيرا بل و وجدت فيه ذاتي التائهة ... و تعلقت بعائلتي الجديدة كما تعلقت هي بي ...

أما عن صحتي ، فقد تحسنت كثيرا مع تحسن نفسيتي ، و اختفت الآلام تقريبا و كسبت عدة أرطال من الوزن !

و أفضل ما في الأمر ... أنني تقريبا أقلعت ُ عن التدخين !

اليوم تلقيت اتصالا من والدي يخبرني فيه بأنه و أمي سيسافران لأداء الحج بعد الغد ، و يرغبان في رؤيتي ... أمر يتطلب مني العودة إلى المنزل رغما عني ...
أمر ٌ و إن كان صعبا فإن علي تحمله من أجل رؤيتهما ... ليلة واحدة فقط ثم أرحل عن ذلك المنزل و من به !

هكذا كان تفكيري قبل أن يقول أبي :

" و لأن سامر لا يستطيع أخذ إجازة لكونه حجز أجازته بعد عودتنا من أجل الزواج ، فلا بد من بقائك هنا حتى نعود ! "


قلبت الأفكار في رأسي و وجدتها مهمة يصعب علي تحملها ، فقلت :

" لا أستطيع ذلك يا أبتي ... سآتي من أجل تحيتكما فقط ... "

قال :

" و من يبقى لرعاية المنزل و الفتاتين إذن ؟؟ "


أنا ؟؟

أ أعود أنا لأرعى تلك الخائنة من جديد ، و أعيش معها أيام استعدادها للزفاف ؟؟
لم تبق غير أسابيع ثلاثة عن ذلك الموعد المشؤوم ! إنني أفضل السفر إلى المريخ أو المشتري على العودة إليها ... ومشاهدتها عروسا تودع العزوبية !


" لا يمكنني ... يا أبي ... "

" في حال كهذه ... لا أملك غير تأجيل حجي للعام المقبل ! "

" أوه كلا أبي ... مادمتما قد عقدتما العزم ... فتوكلا على الله ! "

" و الفتاتان ؟؟ أ أتركهما وحدهما في البيت ؟؟ مستحيل طبعا "


أشياء كثيرة تبدو مستحيلة جدا ، ألا أنك حين توضع في وجه التيار ، تجد نفسك مضطرا لتنفيذها رغما عن أنفك ، مستقيما كان أو معقوفا !


خلاصة القول ، رضخت للأمر ... و وافقت على العودة إلى جهنم ...


كنت أرتب أشيائي في حقيبة سيارتي حين أقبل العم و معه الآنسة أروى ، ابنة نديم و وقفا يراقباني ...


قال العم :

" نحن محزونون لفراقك ... أرجوك أن تعود إلينا من جديد فوجودك عنى الكثير "

ابتسمت له بفرح ، و قلت :

" بالطبع سأعود يا عمي ، إن شاء الله ... ما أن يعود والداي من الحج حتى أوافيكم من جديد ... هنا عملي و في أي قطر من أقطار الأرض لن أجد الراحة كما أجدها هنا "

و هي حقيقة أدركها ... تماما


قالت أروى :

" نتمنى أن تحضر عائلتك لزيارتنا ذات يوم ! هلا ّ فعلت ؟؟ "

قلت :

" سأرى ما إذا كان ذلك ممكنا ... "

قالت :

" أ لديك شقيقات ؟؟ "

قلت :

" نعم ، واحدة فقط ، و شقيق واحد فقط أيضا "

قالت :

" أحضرها لزيارتنا ذات يوم ... سيعجبها المكان كثيرا "

" أنا واثق من ذلك ... "


و أغلقت حقيبة سيارتي ، ثم فتحت الباب و قلت مودعا :

" نلتقي على خير إن شاء الله بعد أسبوعين ... دعوا الأعمال الشاقة لأنجزها حين أعود "

و ابتسم العم ، و كذلك ابتسمت أروى ... ثم لوّحت بيدها مودعة ... !

أروى نديم ... فتاة قوية ... شخصية مميزة تستحق التقدير ... !




~ ~ ~ ~ ~ ~







أجلس أمام التلفاز في غرفة الضيوف أشاهد برنامجا ترفيهيا ، عل ّ ذلك يفيد في طرد الأفكار التعيسة من رأسي ...

تركت الجميع مجتمعين في غرفة المعيشة يتناقشون بشأن العرس ، و أنا أشاهد برنامجا سخيفا لا أهدف منه إلا شغل نفسي بشيء أبعد ما يكون عن ... وليد .

في أي لحظة قد يصل ...

لا لست أرتقب حضوره ، فلم يعد يهمني ذلك ، بل على العكس ، لازلت ألح على سامر ليبقى هو معنا خلال الأسبوعين اللذين سيغيبهما والداي ... في الحج ...

أقبل سامر الآن يحمل كأس عصير برتقال ، يقدمه لي !

" عروسي ... تفضلي هذا "


أخذت العصير و شكرته و قلت :


" لم تحضره بنفسك ! ؟ "

ابتسم و قال :

" عروسي و أحب تدليلها ! لم تجلسين وحدك هنا ؟ إننا نشرب العصير في غرفة المعيشة و نتحدث بشأن الحفلة ! "


ازدردت شيئا من العصير ، ثم وضعته على المنضدة التي بجانبي و عدت أتابع البرنامج متظاهرة بالاهتمام و الاندماج ...

سامر جلس على المقعد المجاور و أخذ يشاهد البرنامج بضع دقائق ، و أظنه استسخفه !

قال :

" لو كان باستطاعتي الحصول على إجازة أطول ، لكنت بقيت هذين الأسبوعين معك ... "


قلت في نفسي :

ألا يكفي أنني عشت منذ طفولتي معك ، و سأقضي بقية حياتي معك ... ؟؟ إنهما أسبوعان ليس إلا ! ألا تسأم منّي !!؟؟


الآن أمسك بيدي و قال :

" ثلاثة أسابيع فقط ... كم أنا متلهف لذلك الحين ! "


سحبت يدي من بين يديه و أمسكت بكأس العصير ، و رشفت رشفتين ، و أبقيته بين يدي حتى لا يعود لمسكي !


قال :

" فيم تفكرين ؟؟ "

التفت إليه أخيرا ... إذ أنني طوال الوقت كنت أتظاهر بمتابعة البرنامج ، قلت :

" مندمجة مع التلفاز ! "


سامر هز رأسه تكذيبا ، و قال :

" بل أنت في مكان آخر ! "

لم أستطع نفي الحقيقة ... فنظرت إلى كأس العصير ، و جعلت أهزه بعض الشيء ...

قال سامر :


" تختلفين عن دانة ... فهي متحمسة جدا للعرس ! أهناك ما يقلقك عزيزتي ؟؟ "


التزمت الصمت ، ما عساي أن أقول ؟؟؟

نعم هناك ما يكاد يخنقني !

أنا لا أريد الزواج منك ! هلا ّ أعفيتني من هذه المهمة الأبدية لو سمحت ؟؟


سامر أمسك بيدي الممسكتين بكأس العصير و قال :

" لا تقلقي ! كل شيء سيكون على ما يرام ! و ستكونين أجمل من دانه حتما ! "

في هذه اللحظة سمعنا تنحنحا فالتفتنا ناحية الباب ، و رأينا دانة تقف و تراقبنا باستنكار ... !

بمجرد أن نظرنا إليها قالت بحنق :

" سامر ! الويل لك ! من هي الأجمل مني ؟؟ سأريك ! "


سامر ضحك و سحب يديه عن يدي و قال :

" إنا أعني فتاة أخرى تدعى دانة ستتزوج في نفس ليلتنا ! "

قالت دانة :

" آه نعم صدّقتك ! أجل أعرفها ... و لها شقيق اسمه سامر ستقتله بعد دقيقتين ، و آخر اسمه وليد وصل إلى البيت قبل دقيقتين ! "


جفلت ، و توجس فؤادي خيفة ... قال سأل سامر منفعلا :

" هل وصل وليد حقا ؟؟ "

قالت :

" نعم وصل ! إنه في غرفة المعيشة ! "


عادة ً ما أحس بالحرارة لدى ذكر وليد على مسمعي أو في خاطري ، إلا أنني الآن شعرت بالبرودة !

البرودة في رجلي بالتحديد ... لأن كأس العصير البارد انزلق من يدي المرتعشتين و انسكب محتواه على ملابسي و رجلي !


دانة لاحظت وقوع الكأس من يدي ، قالت :

" ماذا فعلتِ ! أوه ... العصير الذي تعبت ُ في إعداده ! "


وقفت أنا و وقف سامر و أخذت أحدق في البقعة التي ظهرت على ملابسي !
أهذا وقته ؟؟

سامر قال :

" فداك ! "

ثم التفت إلى دانة و قال ...

" إلى وليد ! "

و ذهب مسرعا ليحيي شقيقه ...

دانة قالت و هي تنظر إلى ملابسي بشيء من السخرية :

" ألن تأتي لتحيته ؟؟ "

قلت :

" سأبدل ملابسي ... "


و مضيت نحو الباب فلما صرت قربها قلت :

" أرجو أن تغلقي باب غرفة الضيوف فأنا لا أضع حجابي "


دانة ذهبت إلى غرفة الضيوف ، فدخلت و أغلقت الباب ، بينما صعدت أنا ليس فقط لتبديل ملابسي ، بل و للاستحمام ، و غسل ملابسي ، و غسل عباءتي أيضا ، و عصرها ، و كيها كذلك !

شغلت نفسي بكل شيء و أي شيء يؤجل موعد اللقاء المحتوم ...

من قال أنني أريد أن أذهب للقائه ؟؟ من قال أنني أتحرق شوقا لرؤيته ؟؟

أنا لا أريد رؤية وجهه ثانية ... أبدا !

مضت ساعة و نصف ، و أنا في غرفتي أؤدي كل ما تقاعست عن تأديته خلال الأسابيع الماضية !

ألست ُ عروسا على وشك الزواج ؟؟

لا ألام إذن إن أنا اعتنيت ببشرة وجهي ، و وضعت عليها الكريمات و المرطبات و المعالجات كلها واحدا تلو الآخر !

و بعدما فرغت منها ، و قفت أمام المرآة ... مصرة على تجريب علبة الماكياج الجديدة التي اقتنيتها مؤخرا !

أليس هذا من حقي ؟؟؟

طرق الباب و سمعت صوت دانة تناديني فأذنت لها بالدخول ...

دخلت و فوجئت بما كنت أصنع ! نظرت إلي بتعجب ... و قالت :

" بربك ! ما ذا تفعلين ؟؟ "

قلت و أنا أمشط رموش عيني بدقة :

" أتزين ! ما ترين !؟ "

قالت :

" تتزينين ! الآن ؟؟ "

قلت :

" ماذا في ذلك ؟؟

قالت :

" ألن تأتي لإلقاء التحية على وليد ؟؟ إنه يسأل عنك ! "

قلت :

" و أنا هكذا ؟ لا طبعا ... بلغيه تحياتي ... "


ثم انغمست في تلوين وجهي كما ألون لوحة أرسمها ... بمهارة ...

دانة كانت تحدثني باستنكار ، إلا أنها في النهاية تركتني و انصرفت ، و بمجرد ذهابها أقفلت الباب ، و رميت بالفرشاة جانبا و ارتميت على سريري ....

لماذا أتصرف بهذا الشكل الغبي ؟؟

لم أعد أفهم نفسي ... ألم أكن متلهفة لرؤيته ؟؟

ماذا جرى لي الآن ؟؟

جلست ، و نظرت من حولي فوجدت لوحات رسمي المتراكمة فوق بعضها البعض ... ذهبت إليها و استخرجت منها صورة وليد ... ذي العينين الحمراوين و الأنف المعقوف ...

لماذا لا يزال هنا معي ؟؟ لمَ لمْ أتخلص من هذه الصورة ؟؟

لماذا لا أحس بالحرارة الآن ؟؟

كم كان شعورا جميلا ... رائعا ...

و انتهى ...



و إن ْ هربت كل تلك المدة لم يكن باستطاعتي البقاء حبيسة الغرفة دون أن يستغرب البقية ذلك و يقلقون ...

أتت أمي إلي ، فتحت الباب لها فنظرتْ إلي ببعض الدهشة !



" رغد ... أتنوين استقبال أو زيارة إحدى صديقاتك ؟؟ "

" أنا ؟؟ لا أبدا "

" إذن ... لم هذه الزينة ! "



حتى أنتِ يا أمي ؟؟

هل يجب أن أتزين فقط و فقط حين أقابل صديقاتي ؟؟ لماذا تبقى دانة بكامل زينتها معظم الأوقات !

أهي أفضل مني ؟؟

قلت :

" هل هذا عيب !؟ أم ممنوع ؟؟ "

قالت :

" لا لم أقصد ، لكنك لا تفعلين هذا في العادة إلا لسبب ! "

قلت "

" كيف أبدو ؟؟ إنها ألوان الموضة ! "

قالت :

" جميلة طبعا ... لكن ... ألن تتناولي العشاء معنا ؟؟ "

" كلا ، لا أشعر بأي رغبة في الطعام ... "

" حسنا ... و لن تأتي للانضمام إلينا ؟؟ "

" لا أشعر بمزاج جيد للحديث يا أمي "

صمتت أمي قليلا ، ثم قالت :

" و لن تأتي ... لتحية وليد ؟؟ "

صمت أنا لبرهة ثم قلت :

" لم يرغب في وداعي ... إذن ... لا أرغب في استقباله ... أنا ... لا أطيق مجالسة الكذابين "








>>> يتبع >>>
__________________

 
 

 

عرض البوم صور adila.a  
قديم 06-06-06, 12:56 AM   المشاركة رقم: 47
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2006
العضوية: 4594
المشاركات: 129
الجنس أنثى
معدل التقييم: adila.a عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 11

االدولة
البلدUnited_States
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
adila.a غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : النغمه الحزينه المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

الحلقة الواحدة والعشرون



********



~ دلال الأحبـّـة ~








عندما اقتربت من المنزل اتصلت بهاتفه فأجابني والدي ، و أخبرته أنني قد وصلت ...

والدي خرج لاستقبالي عند باب السور الخارجي للمنزل ، و طبعا استقبلني استقبالا شديد الحرارة !

بعدها ذهبت معه إلى غرفة المعيشة حيث وجدت أمي و أختي دانة ، و اللتين بدورهما رحبتا بي ترحيبا حميما ...

ثم ذهبت دانة لإبلاغ البقية عن وصولي

و البقية تعني : سامر + رغد ...

قالت :

" إنهما يختبئان في غرفة الضيوف ! سأفاجئهما ! "

كانت مازحة ، أو ربما جادة ، في كلا الحالتين هذا يشعرني بالانزعاج ... من أول لحظة !

جلست مع والدي ّ و سكبت لي أمي عصير البرتقال الطازج في أحد الكؤوس و قدمته لي ...

" تفضل بني ...هذا نصيبك "

نصيبي ؟؟ هل كانوا يحسبون لي حسابا ؟؟ إني أرى أربعة كؤوس شُرب محتواها ، و هذا كأسي الخامس ...

بعد قليل أقبل أخي سامر فاتحا ذراعيه ...

قمت و عانقته ، و منها شعرت بأول آلام المعدة !

قال :

" ما شاء الله ! ماذا كنت تأكل يا رجل ! إنك تنتفخ مرة بعد مرة ! "

الجميع ضحك ، و تمتمت والدتي بعبارات التهليل و التكبير و الصلوات !

قلت :

" هل أبدو سمينا لهذا الحد ؟؟ "

قال سامر :

" سمين ؟ لا ! بل عظيم البنية و مفتول العضلات ! يا رجل هل كنت تمارس رياضة حمل الأثقال أم ماذا ؟؟ "

قلت :

" كنت آكل بقرة مشوية كاملة كل يوم ! "

و هنا أقبلت دانة فدخلت و أغلقت الباب من بعدها و قالت مداعبة و موجهة حديثها إلى أبي :

" سيسبب لنا الإفلاس ! هات مصروفا آخر ! "

أبي قال و هو يضحك :

" أفلست ُ بسببك يا ابنتي ! أما كفاك كل ما أخذت ؟؟ "

قالت و هي تضحك :

" من قال لك أن تزوّج ثلاثة أبناء دفعة واحدة ! ؟ "

قال سامر :

" ما ذا لو انضم الكبير إلينا ! ؟ "

يقصدني بذلك !

أمي ابتسمت و نظرت إلي و قالت :

" دعوا الكبير لي ! لن أسلمه لامرأة ما و أنا لم أتهنى بعد به ! "

و ضحكنا جميعا ...

ربما هم يضحكون من قلوبهم لكنني أضحك مجاراة لهم ...

و أدور بعيني فيما بينهم ... و أشعر بشيء ناقص ...

طبعا تعرفون ما أعني !


الصغيرة المدللة لم تأت ِ لتحيتي و لا للعشاء معنا ، و الساعات تمر و هي في غرفتها و حين كررت سؤالي عنها لوالدتي بعد العشاء قالت :

" إنها منزعجة منك ! "

قلت :

" مني أنا ؟؟ "

" نعم ! فأنت على ما يبدو كنت قد وعدتها بألا تسافر دون وداعها ثم خرجت خلسة ! "

قالت دانة :

" دعك من هذه الفتاة المتدللة يا وليد ! لها ألف مزاج في اليوم الواحد ! يا إلهي كيف سأتحمل تصرفاتها وحدي طوال هاذين الأسبوعين ! "

سامر قال :

" حذار من القسوة على عروسي يا دانة ! و إلا حبستك في المطبخ ليلة زفافك ! "


الجميع كان يضحك بمرح ، إلا أنني كنت أشعر برغبة في غرس الشوكة التي أمسك بها في صدر شقيقي ...

توقفوا عن الحديث عن الزفاف المشؤوم هذا ... أفرغت الدنيا من المواضيع ؟؟

قلت مغيرا مسار الحديث الذي كان متمركزا حول الزواج المترقب :

" متى ستعودان من رحلة الحج تحديدا ؟ "

قال أبي :

" ليلة السابع عشر من شهر الحج إن شاء الله "

إنها فترة طويلة سأضطر لتمضيتها مع رغد تحت سقف واحد !

ليت الأيام تنقضي بسرعة !

رغد لم تظهر حتى الآن ... حقيقة هي أنني أنظر ناحية الباب بين الفينة و أختها و أرتقب طلوعها ...

كم اشتقت إليها ... ! هكذا بدون أي تكلّف و ادعاء ، أنا اشتقت إليها !

مرت الساعات و لم تظهر فتملكني الضيق و الانزعاج ... و لولا الحياء و الحرج لذهبت بنفسي إليها ... أهي غاضبة مني لهذا الحد حقا ؟؟

و الشخص الذي ذهب إليها كان بطبيعة الحال شقيقي ...

و بعد أن ذهب لم يعد ...

على الأريكة الضيقة رميت بجسدي فغرقت في أعماقها ... في غرفة الضيافة .

و للعجب نمت بسرعة لم أتوقعها ! و حين نهضت وجدت جسدي غارقا في العرق !

ساعات الصباح انقضت و الصغيرة لم تظهر ، أكاد أجن ... لم لا تأت لتحيتي و لو بشكل عابر ؟؟

على مائدة الغذاء انتظرت حضورها فلما لم أجدها سألت :

" أين رغد ؟؟ ألن تشاركنا ؟؟ "


دانة بدأت بالضحك ، قم قالت :

" إنها تقلي البطاطا ، فأطباقنا اليوم لم تعجبها و ستأكل البطاطا المقلية كالعادة ! "


نظرت نحو أمي و قلت :

" أرجو ألا أكون السبب في ... "

أمي هزّت رأسها نفيا و قالت :

" لا أبدا بني ! إنها لا تحب السمك كما تعلم كما و أنها كثيرا ما تتغيب عن المائدة خصوصا في الفترة الأخيرة ! "

قالت دانة بحدّة :

" تتدلّل ! "

قال أبي :

" دعوها تفعل ما تشاء "

قال سامر :

" سأستدعيها "

وقفت أنا و قلت :

" أنا سأستدعيها "

و تحركت فورا لأسبق سامر ...

حين وصلت إلى المطبخ وجدت الباب شبه مغلق . طرقته و قلت :

" أيمكنني الدخول ؟؟ "

سمعت صوت رغد يرد علي ...

" من أنت ! ؟ "

عجبا ! من أنا ؟؟ من عساي أكون !؟ بالطبع وليد ! قلت :

" وليد ! "

قالت :

" وليد ؟ لا ! "

ثم إذا بي أرى الباب يغلق بدفعة قوية !

تراجعت ُ للخلف خطوة و بقيت محدقا في الباب ...

هل تقصد أنها لا ترتدي الحجاب ؟

قلت :

" هل أذهب ؟؟ "

قالت :

" ماذا تريد ؟ "

" فقط ... أن ألقي التحية و ... أسأل عن الأحوال "

" بخير و شكرا و اذهب "


شعرت بالحرج من ردها هذا ، فقلت معتذرا :

" سأذهب ، أنا آسف "


و استدرت منصرفا ...

فجأة سمعت الباب ينفتح من خلفي ، فالتفت إلى الوراء ...


هناك عند الفتحة ، رأيت عيني رغد تطلان علي !

ظهرت رغد واقفة أمامي ... بحجمها الصغير و وجهها الطفولي و حجابها الطويل الذي يكاد يصل إلى ركبتيها !

لدى رؤيتي لها بعد كل تلك المدة من الغياب شعرت بأن قلبي قد تخدّر و أعصابي قد تبلّدت ... و عضلاتي استرخت لبرهة كادت تفقدني توازني .

قلت بصوت خفيف و بابتسامة تفجرت على وجهي رغما عني :

" كيف حالك صغيرتي ؟؟ "


صغيرتي كانت تنظر إلي بنظرات ملؤها الغضب و الانزعاج ... كأنني أقرأ في وجهها كلمات اللوم و التأنيب و التوبيخ ... و الشتم أيضا !


قلت :

" أنا آسف ! "

رغد أشاحت بوجهها عني ، و استدارت و دخلت المطبخ ، تاركة الباب مفتوحا .

توجهت رغد نحو الموقد ، تحرك أصابع البطاطا في المقلاة ...

تجرأت و خطوت خطوة للداخل ، و خطوة أخرى فأخرى حتى صرت على مقربة من الوعاء الذي أعدته لوضع البطاطا المقلية فيه ...

هاهي الآن تضع أول دفعة من البطاطا فيه ... دون أن تلتفت إلي ...


قلت :

" تبدو شهية ! "

لم تعلّق !

قلت :

" أتسمحين لي بتذوقها ؟؟ "

قالت :

" تفضل "

طبعا دون أن تلتفت إلي ...

و لأنني كنت مخدّر الإحساس فأنا لم أشعر بحرارة البطاطا المقلية لا بين أصابعي و لا في فمي !

بل حتى طعمها لم أشعر به ، إلا أنني قلت :

" لذيذة ! "

قالت :

" خذها إن شئت "

" شكرا ، سأتناول الغذاء الآن "

بقيت صامتة و هي تخرج دفعات البطاطا واحدة بعد الأخرى حتى انتهت ...

ثم رفعت الطبق و وضعته على المائدة و سحبت الكرسي استعدادا للجلوس ...

قلت :

" ألن تأتي معنا ؟؟ "

قالت :

" لن آكل من أطباقكم "

قلت :

" تعالي بطبقك "

" لا داعي "

و جلست على الكرسي ، و انتظرت مغادرتي !

و عوضا عن الانصراف اقتربت ُ من الطاولة قليلا و قلت :

" صغيرتي ... هل أنتِ غاضبة مني ؟؟ "

لم تجب ...

قلت :

" أنا آسف ... سامحيني "

رغد الآن رفعت بصرها إلى و قالت بحنق :

" أطلب السماح ممن استهنت بعظمته لخداعي ... يا كذّاب "


كأنها خنجر مسموم طعنت كلماتها صدري بعنف ...

لم يكن أمامي إلا الانسحاب مخذولا ...

عدت وحيدا إلى من كانوا ينتظرون عودتي برغد ... و حين رأيت أعينهم جميعا تحدق بي بتساؤل ، قلت :

" لا تود الحضور ... "

و جلست على مقعدي و بدأنا تناول وجبتنا ...

لم يكن مضغ الطعام و بلعه من السهولة بمكان ... لقد اشتد علي الألم، لا أدري أ بسبب الطعام الغير مهضوم ، أم بسبب الخناجر التي طعنت أحشائي ؟؟

ربما لاحظت والدتي شيئا فقد كانت تعلق :

" كل يا وليد ! ما بك لا تأكل ؟؟ "

من حين لآخر ...

هل يطيب لي الطعام و صغيرتي متخذة مني هذا الموقف ؟؟

في وقت لاحق ، اجتمعنا كلنا في غرفة المعيشة ، عدا رغد ...

والدي طلب من دانة استدعائها فهو يود قضاء الوقت معنا جميعا قبل السفر ... ذهبت دانة ثم عادت تقول :

" لا تريد الحضور ! و عندما قلت لها أنها تتصرف كالأطفال صرخت في وجهي ثم بدأت بالبكاء ! أوه خذاها معكما و خلصاني من سخافتها يا والدي ! "

جميعنا تبادلنا النظرات ...

والدي قال :

" دانة ... تحاشي الاصطدام بها يا بنيتي ، دعيها تفعل ما تشاء "

دانة قالت :

" كالعادة يا أبي ستقول لي ذلك ، حسنا، أنا لا شأن لي بهذه الطفلة الكبيرة ... أترك الأمر لوليد بالكامل حتى لا يتهمني أحد بأنني متعجرفة معها "

همّ سامر بالنهوض إلا أن أمي استوقفته و قامت هي ، و ذهبت إلى رغد ...

قال أبي موجها كلامه لي :

" اعتني بشقيقتيك جيدا يا بني ، دانة لن تتعبك في شيء ، فهي معتمدة على نفسها في تصريف أمورها ، لكن رغد ... معتمدة علينا كثيرا ... و طلباتها لا تنتهي ! "

قالت دانة معقبة :

" هذا لأنك تدللها كثيرا يا أبي ! كما الأطفال تماما ! "

والدي قال :

" دانة إياك و تعمّد مضايقتها ... رجاءً "

سامر قال :

" إياك ! "

دانة نقلت بصرها بين الاثنين ثم قالت :

" لا تخشيا على مدللتكما الصغيرة ! "

و التفتت نحوي و قالت :

" ألقي عليك المسؤولية كاملة ! "

أنا وجدت الثلاثة يحملقون بي بمختلف التعبيرات المتقلبة على أوجههم ...

قلت بتردد :

" لا تقلقوا ... سيسير كل شيء على ما يرام ... "

بينما أنا في الداخل شديد القلق ...




~ ~ ~ ~ ~ ~







أنا مستاءة بشكل لا يمكنكم تصوّره !

سأتزوج بعد ثلاثة أسابيع من سامر ، فيما يقف وليد إلى جانبي ليعتني بي أثناء ابتعاد أمي عني ...

ثلاثة أمور جعلتني في غاية التوتر خصوصا هذا اليوم ، و آخر شيء كنت لأتقبله هو كلمات السخرية من دانة التي ترددها منتقدة إياي ...

لم أحتمل كل ذلك و بدأت بالبكاء بشكل غريب !

هم يجلسون الآن معا يودعون بعضهم البعض و أنا قابعة هنا أبلل المناديل بالدموع المالحة المتدفقة بغزارة ...

أريد أن أبقى مع والديّ قبل رحيلهما !

ليت وليد يختفي !

ليتني أنا من يختفي !

ليتكم أنتم أيضا تختفون !

سمعت صوت والدتي تناديني ، من خلف الباب المغلق ...

" نعم أمي "

والدتي فتحت الباب و دخلت قبل أن تدع لي الفرصة لمسح دموعي ، و التي و إن مسحتها لا أسهل عليها من أن ترى آثارها مطبوعة على وجهي ...

أمي نظرت إلى بقلق و حيرة و قالت :


" و بعد ؟؟ ما نهاية حكايتك هذه ؟؟ ما بك يا رغد أخبريني ؟؟ "

" لا شيء أمي "

" إذن ... لم تحبسين نفسك في غرفتك و تسبحين في بركة الدموع هذه ؟؟ "

قلت بانفعال :

" لا شيء أمي لا شيء ... لا شيء ... لا شيء ... "

و انخرطت في البكاء باستسلام ...

لم أقاوم أو أواري أي دمعة تحدتني بالظهور ... بكيت بحرقة ... لم أعهدها من قبل ... لم أكن أشعر بمثل هذه الأشياء تتحرك في صدري قبل الآن ... لكنني أشعر الآن بصرخة كبيرة تود الانطلاق رغما عني ... إنني منهارة و أريد من يواسيني ...
من يسندني ... من يساعدني ... من ينقذني مما أنا مقبلة عليه ...

من ؟
من ؟؟

أمي أقبلت نحوي ، و مسحت بيدها الحنونة على رأسي و ربتت على كتفي بلطف

قالت :

" بنيتي ... أخبريني ما بك ... إنني قلقة عليك و لا أريد السفر قبل أن أطمئن ... ما بك ؟؟ مم أنت مستاءة ؟ "


أنظر إلى أمي ، فأرى في عينيها عالما كبيرا محيرا ... أرى فيها أكواما من القلق و الخوف ... و الخشية و الاضطراب ...

ليتك يا أمي تدخلين إلى أعماقي و ترين بنفسك ...

أترين يا أمي ؟؟

إنني لا أريد أن تسافري و تتركيني ...

أيقلقك ذلك ؟؟

إنني لا أريد الزواج من سامر ...

أيفجعك ذلك ؟؟

إنني أريد أن استعيد وليد ...

أيذهلك ذلك ؟؟

إنني أريد أن تعود أمي للحياة ...

أيقتلك ذلك ؟؟

إنني أموت ببطء يا والدتي ...

أيرضيك ذلك ؟؟

أموت و أنا لم أحي َ بعد ...

لم أولد بعد !

أترين كل ذلك يا أمي ؟؟


" لا شيء أمي ... لا شيء ... "

برقت دموع في عيني والدتي لتأثرها بحالتي هذه ، و الدموع في عين أمي هي شيء لا أحتمله مطلقا... مطلقا

مسحت دموعي بسرعة و قلت :

" أمي ... لا شيء صدقيني ، أنا فقط متأثرة لسفركما ، فهي أول مرة في حياتي تبتعدان فيها عني ... لا أتصور حياتي بدونكما "

والدتي ضمتني إلى صدرها و قالت :

" ستعيشين حياتك بسعادة و راحة مرضية ... لا تقلقي ... فابني سيعتني بك جيدا كما نفعل نحن ... الله قسم هكذا "


رفعت رأسي و نظرت إليها بشيء من الحيرة ... فكلماتها بدت غامضة ، فقالت هي:

" و الآن عزيزتي ... ألن تأتي لمجالسة والدك ؟ إن هي إلا فترة قصيرة ثم نسافر ! "

أجبت بإذعان :

" بلى "

و استدركت :

" وليد معكم ؟؟ "

قالت :

" بالتأكيد ... "

طبعا هو معهم ! أين يمكن أن يكون ؟؟

أخذت حجابي و سرت نحو المرآة لارتدائه ، و هالني منظر عيني الحمراوين و جفوني المتورمة !

تركت الحجاب جانبا و مضيت لأغسل وجهي ...

عندما خرجت من دورة المياه وجدت أمي تنتظرني ...


قالت :

" هيا عزيزتي ... "

ارتديت حجابي على عجل و أقبلت نحوها ...

قالت :

" سيسير كل شيء على ما يرام ، و إن احتجت شيئا لا تترددي في طلبه من دانة أو وليد أو سامر ... سنبقى على اتصال دائم "


بعدها ذهبنا إلى غرفة المعيشة ...

كانوا جميعهم مندمجين في الأحاديث المختلفة ، و ما أن رأونا حتى قال سامر :

" تعالي رغد ! كنا نوصي الكبير و العروس بك خيرا ! "

والدي قال موجها حديثه إلي و هو يبتسم بابتهاج :

" أهلا بالعزيزة المدللة ! تعالي و اجلسي قرب أبيك ليرتوي منك قبل السفر "


سرت ُ كالآلة نحو المقعد الذي يجلس عليه أبي و جلست إلى جواره ، ففتح ذراعه و أحاطني بها ...
قال :

" ما بك صغيرتي ؟ على الوجبات لست معنا ، و في الجلسات لا تشركينا ! ألن تشتاقي لشيبتي هذه ؟؟ "

سامر ضحك ، و دانة نظرت إلى السقف باستنكار ... و أمي ابتسمت ، أما الكائن الأخير فلم ألتفت نحوه لأعرف ما فعل !


قلت :

" بلى ... كثيرا جدا ! خذاني معكما ! "

قال سامر مداعبا :

" و أنا أيضا ! "

قالت دانة :

" ماذا عنّي ؟؟ "

قلت :

" نتركك مع المغرور ! "

ضحك من ضحك ، أما صوت وليد ـ و الذي كان خفيفا و مع هذا تمكنت مجسات أذني من التقاطه ـ فجاء في الكلمتين التاليتين :

" تقصدينني أنا ؟؟ "

و أجبرني سؤاله على الالتفات إليه ...

لقد كان ينظر إلي بغرابة ...

لم أرد عليه ، بل التفت إلى أبي

و دانة تولت الإيضاح بنفسها إذ قالت :

" بل تقصد خطيبي ... فهي لا تطيقه و تنعته بالمغرور دوما "

الآن أنا التفت إلى دانة و قلت بصوت حاد :

" على الأقل ... خير من الكذابين "

بعض الصمت خيم علينا لبعض الوقت ...

و بعض الندم شعرت ُ به لبعض الوقت !

قال أبي :

" و من الكذابون بعد يا ترى ؟؟ "

قلت :

" بعض معارفي يا أبي ! لا يطاقون ! ... "

و الآن تكلم وليد و قال :

" المغرورون ، و الكذابون ، و الخونة كذلك ... كلهم لا يطاقون ! "

التفت إلى وليد و قلت :

" من تقصد ؟؟ "

قال :

" بعض معارفي يا ابنة عمي ... لا يطاقون ! "

بدا كل هذا سخف ! أليس كذلك ؟؟

قال سامر :

" دعونا من هذا ... و لنعد إلى موضوعنا .. لدينا عروسان ، بالتالي موكبا زفاف ... أبي و وليد ، من سيقود موكب من ؟؟ دعونا نحدد الآن "


قلت أنا بسرعة :

" أنا أريد أبي "

التفت سامر نحو دانة و قال :

" إذن أنت مع وليد "

دانة نظرت إلى وليد و قالت :

" إذن يجب أن تستأجر سيارة فخمة من أجلي ! أفخم من سيارة سامر ! "

والدتي ضحكت و قالت :

" يا لتفكيركن العجيب يا فتيات هذا الزمن ! "

قالت دانة :

" لن أقبل بسيارة قديمة كهذه ! "

و وجهت كلامها إلى وليد قائلة :

" لم لا تستبدل سيارتك يا وليد ؟؟ لقد عثى عليها الدهر ! "

قال وليد :

" سأفعل ... عندما تتحسن الأحوال ! "

الأحوال بالتأكيد يقصد بها الأحوال المادية !

و لكن هل ابن عمي هذا ضئيل المال ؟؟ ألم يذهب للدراسة في الخارج ؟ لا بد أن لديه شهادة عظيمة تمكنه من احتلال وظيفة مرموقة ... ذات دخل محترم !
مثل سامر !

لا أدري ما كان يقصد بتحسن الأحوال هذه !


وليد قال :

" أ لديك دراسة هذه الفترة ؟ "

طبعا كان يقصدني ! لكنني تظاهرت بأنني لم أنتبه !

لذا قال والدي :

" نعم لمدة خمسة أيام قبل إجازة العيد ... ، ستأخذها للجامعة خلال هذه الأيام "

قال وليد :

" حسنا ، أهناك أي تغيير في مواعيدك ؟؟ "

الكل ينظر إلي بانتظار جوابي !

قلت بنفور :

" لا ، و لكنني أفكر في عدم الذهاب هذه الأيام "

قال وليد :

" لم ؟؟ "

قلت باستياء :

" ليس من شأنك "

بعض الصمت سكن الغرفة تلاه صوت أبي :

" لم لا تودين الذهاب رغد ؟؟ "

قلت :

" لا أريد ترك دانة وحيدة معظم النهار "

دانة نظرت إلي بتشكك و قالت :

" لا تكترثي بشأني ! سأقضي الوقت في إعداد الطعام و العناية بالمنزل ! "

ثم أضافت بجرأة :

" و التنزه مع نوّار ! "

قالت أمي :

" على ذكر الطعام ... ماذا عن كعكتك يا دانة ؟؟ "

قامت دانة و قالت :

" آه نعم ... سأحضرها لكم الآن ... "

و ذهبت إلى المطبخ ، فقمت أنا و لحقت بها ...





~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~





عادت دانة و رغد بعد قليل تحملان الكعكة و كؤوس العصير ... و قامتا بتوزيعها علينا جميعا ...

الذي آلمني هو أنها ـ أي صغيرتي رغد ـ كانت تعاملني بنفور شديد ... حتى أنها حين جاء دوري لأخذ كأس عصيري لم تدع لي المجال لأخذه ، بل أمسكت هي به و وضعته على المنضدة الماثلة أمامي بسرعة كادت تدلق محتوياته فوقها !

كانت الكعكة لذيذة جدا ... قلت :

" ما ألذها ! سلمت يداك يا دانة ! أنت ماهرة "

قالت دانة بزهو :

" شكرا يا أخي ، سترى ! سأذيقك أصنافا لذيذة من الحلويات فأنا ماهرة في إعدادها ! "

قلت :

" عظيم ! فأنا أحب الحلويات ! "

و التفت نحو رغد و قلت :

" و أنت ؟؟ "

رغد رفعت بصرها عن قطعة الكعك التي بين يديها ببطء ، و نظرت إلي بنفاذ صبر و قالت :

" أنا لا أحب الحلويات "

قلت :

" أقصد ماذا ستذيقيننا من صنع يدك ؟؟"

لم يبد على رغد أنها تريد تباديل الأحاديث معي ... قالت بضجر :

" لا شيء ... "

قالت دانة :

" إنها كسولة ! لا تحب الطهو و لا تجيده ! لا أعرف كيف ستتولى مسؤولية بيتها المستقبلي ! مسكين سامر ! "

ضحك سامر و قال :

" سأعود لأمي كلما قرصني الجوع ! "

و أخذ الجميع يضحكون عدانا أنا و هي ...

قالت دانة و هي تضحك :

" أو صبّر معدتك بالبطاطا المقلية المقرمشة ! "

و استمروا في الضحك بمرح ...

رغد وقفت الآن بغضب و قالت :

" أنتم تسخرون مني "


الجميع توقف عن الضحك ، و نظروا إليها باهتمام ... كانت منفعلة ...

قال سامر :

" لا عزيزتي نحن نمزح فقط ! "

قالت :

" بل تسخرون مني "

و توجم وجهها بما يوحي بدموع على وشك الانهمار ...


وقفت أنا و قلت :

" معذرة ... صغيرتي "


التفتت رغد نحوي بعصبية و قالت بحدة :

" أنت أسكت ... آخر من يُسمح له بالكلام "

صعقت بهذا الرد الجارح و علاني الصمت العميق ...

الجو صار مشحونا بتيارات متعارضة متضاربة ، و النظرات أخذت تصطدم ببعضها محدثا فرقعة !

و الآن ؟؟

خرجت رغد مسرعة من الغرفة في غضب و استياء ...

بقينا بعد خروجها بعض الوقت صامتين منصتين لفرقعة نظراتنا الحائرة !

وقف سامر هاما باللحاق بها ، ألا أن أمي طلبت منه أن يلتزم مكانه ...

" دعوها فهي اليوم في مزاج شديد التعكر "

قالت هذا أمي ، فعقبت دانة :

" اليوم فقط ؟؟ بل كل يوم ! لا أدري ما ذا جرى لهذه الفتاة مؤخرا ! "

كنت أنا لا أزال واقفا أنظر ناحية الباب ...

قالت أمي :

" اجلس بني ! "

فجلست على طرف المعقد مشدود العضلات ... على أهبة النهوض !

تنهد أبي و قال أبي :

" أمرها يقلقني "

قالت أمي :

" و أنا كذلك ، لست ُ مطمئنة للسفر و تركها ! "

قالت دانة :

" خذاها معكما ! أنا لا أطيق تصرفاتها هذه ! "

أبي التفت إلي و قال :

" احرص في التعامل معها ... كن حليما ... "

قالت دانة :

" إنها لا تزال غاضبة منك ! كان الله في عونك على مراسها هذا ! "

بعد قليل آن أوان مغادرة والدي و سامر ، الذي سينقلهما إلى المطار ثم يذهب إلى شقته في المدينة الأخرى ...

أخذت أحمل الحقائب و أنقلها إلى سيارة أخي ، و عندما انتهيت من وضع الحقيبة الأخيرة و دخلت المنزل وجدت والدتي تقف عند الباب الداخلي ...

قالت :

" أعطاك الله العافية يا بني "

" عافاك الله أماه "

هممت بالدخول إلا أن أمي أمسكت بذراعي و استوقفتني ...

" وليد "

نظرت إليها بحيرة ... قلت :

" نعم أمي ؟؟ "

أمي تحدثت بصوت منخفض ، و بنبرة جدية ... و تعبيرات قلقة ، قالت :

" انتبه لرغد جيدا يا بني "

تعجبت ! قلت :

" بالطبع أمي ! "

أمي بدا المزيد من القلق جليا على وجهها و قالت :

" كنا سنؤجل حجنا للعام التالي لكن ... كتبه الله لنا هذا العام ... هكذا قضت الظروف يا بني "

و هذا زادني حيرة !

قالت :

" لو أن الظروف سارت على غير ذلك ... لكانت الأوضاع مختلفة الآن ... لكنه قضاء الله يا ولدي ... سأدعوه في بيته العظيم بأن يعوّضك خيرا مما فاتك ...
فلنحمده على ما قسم و أعطى "


قلت :

" الـ ... حمد لله على كل شيء ... أمي أنت ِ تلمحين لشيء معين ؟؟ "

قالت :

" لم تتغير هي عمّا تركتها عليه قبل سنين ... كما لم تتغير أنت ... "

ثم أضافت :

" إلا أن الظروف هي التي تغيرت ... و أصبح لكل منكما طريقه ... "


توهج وجهي منفعلا مع كلمات أمي و الحقيقة الصارخة أمامي ...


لم أستطع البنس ببنت شفة أمام نظرات أمي التي كشفت بواطن نفسي ...


قالت :


" اعتن بها كما يعتني أي شقيق بشقيقته ... كما تعتني بدانة ، و ادع معي الله أن يسعدهم هم الثلاثة ، و أنت معهم "


في هذه اللحظة فتح الباب و ظهر بقية أفراد عائلتي بما فيهم رغد ، و خرجوا واحدا تلو الآخر ... و اجتمعنا قرب بعضنا البعض في وداع مؤلم جدا ...


بالنسبة لي ، فقد اعتدت فراق أحبتي و جمدت عيناي عن أي دموع

أما البقية فقد كانت الدموع تغرق مشاعرهم ...

كلمات أمي ...

و كلمات أبي كذلك

و توصيتهما الشديدة على الفتاتين

و خصوصا رغد ، جعلتني أشعر بالخوف ...

فهل أنا أهل لتحمل مسؤولية هذا البيت و من به في حين غياب والدي ّ ؟؟

و هل هي مسؤولية خطرة تقتضي منهما كل هذه التوصيات و التنبيهات ؟؟

خرج الثلاثة ، فعدنا نحن الثلاثة إلى الداخل ... و قضيت وقتا لا بأس أراقب دموع الفتاتين ...

كنا نجلس في غرفة المعيشة ... و الحزن يخيم على الأجواء فشعرت بالضيق

قمت بتشغيل التلفاز فرأيت مشهدا مريعا لآثار قصف تعرضت له إحدى المدن هذا اليوم ... فزاد ذلك ضيقي ...

كم كنت مرتاحا هانئا في مزرعة نديم !

ليتني أعود إلى هناك !

قلت ـ في محاولة لتغيير الأجواء و طرد الكآبة ـ

" ما رأيكما بالذهاب في نزهة بالسيارة ؟؟ "


دانة تفهمت و قدّرت الأمر ، فقالت :

" نعم يا ليت ! هيا بنا "

نظرت إلى رغد أنتظر جوابها ، لكنها ظلت صامتة ...

قلت :

" ما رأيك ؟ "

قالت بصوت حاد و نبرة جافة مزعجة :

" لا أريد الذهاب لأي مكان "

دانة قالت :

" إذن سنذهب و أنت ابقي هنا "

رغد بسرعة التفتت إلى دانة و قالت :

" تتركاني وحدي ؟؟ "

قالت دانة :

" ما نصنع معك ؟؟ أنا بحاجة لبعض الهواء المنعش ... أما أن تأتي معنا أو ابقي مخنوقة وحدك "

وقفت رغد منفعلة و قالت :

" كان علي ّ أن أذهب معهما ... كم كنت غبية ... ليتني ألحق بهما الآن "

وقفت أنا و حاولت تهدئة الوضع فقلت :

" لا بأس ... سنؤجل نزهتنا لوقت لاحق ... لا تنزعجي هكذا صغيرتي "

رغد التفتت نحوي بعصبية و قالت صارخة :

" لا شأن لك أنت بي ... مفهوم ؟؟ لا تظن أنك أصبحت مسؤولا عني ... لا تزعج نفسك في تمثيل دور المعتني فهذا لم يعد يناسبك ... يا كذّاب "


اللهم استعنا بك على الشقاء !


ذهبت الصغيرة الغاضبة إلى غرفتها ... و بقيت مع دانة التي بدت مستاءة جدا من تصرف رغد ... اقترحت عليها بعد ذلك الجلوس في الفناء الخارجي فرحبت بالفكرة

خرجنا معا و جلسنا على المقاعد القريبة من الشجرة ... و بدأنا نتحدث عن أمور شتى ...

أخبرت دانة عن مزرعة صديق لي قمت بزيارتها مؤخرا و أعجبتني ... و عن متفرقات من حياتي ... ألا أنني لم أشر إلى السجن ، و لا ما يتعلق به ...

شقيقتي بدت متلهفة لمعرفة كل شيء عني ! و كأنها اكتشفت فجأة أن لديها شقيق يستحق الاهتمام و الفخر !
اعتقد أنها كانت تنظر إلي بإعجاب و فخر بالفعل !

بعد مدة حضرت رغد ...

كانت عيناها حمراوين ...

قالت :

" دانة ، مكالمة لك "

أجابت دانة :

" من ؟؟ "

قالت رغد :

" من غيره ؟ خطيبك المبجل "

دانة نهضت بسرور و استأذنت للدخول ...

و لحقت بها رغد بعد ثوان ، و بقيت وحيدا إلى أن سمعت ُ الآذان يرفع ...

دخلت ُ بعدها و استعددت للخروج لتأدية الصلاة في المسجد المجاور . كانت دانة في غرفتها أما رغد فأظنها في غرفة المعيشة !

خرجت إلى الفناء و فيما أنا أعبره نحو البوابة الخارجية سمعت صوت نافذة يفتح و نداء باسمي

" وليد "

التفت نحو الصوت فإذا بها رغد تطل من النافذة المشرفة على الفناء و تقول :

" إلى أين تذهب ؟؟ "

قلت :

" إلى المسجد "

قالت :

" ستتركنا وحدنا ؟؟ "

حرت في أمري !

قلت :

" هل هناك مشكلة ؟؟ سأصلي و أعود فورا ... تعالي و أوصدي البابين ... "

وافتني بعد قليل و وقفت عند البوابة و بيدها المفتاح .

قالت :

" لا تتأخر "

قلت :

" حسنا "

و عندما عدت بعد أداء الصلاة كانت هي من فتح الباب لي ...

قدّمت لي مفتاحين و قالت :

" هذا لبوابة السور و هذا للباب الداخلي ، احتفظ بهما "

" شكرا لك "

تولت رغد قاصدة دخول المنزل فناديتها

" رغد "

التفتت إلي ، و قالت بنفس ضائقة :

" نعم ؟؟ "

قلت :

" أما زلت ِ غاضبة مني ؟؟ كيف لي أن أكسب عفوك ؟؟ "

قالت :

" لا يفرق الأمر معي شيئا "

و همّت بالانصراف ، قلت :

" لكنه يفرق معي كثيرا "

توقفت و قالت :

" حقا ؟؟ "

" نعم بالتأكيد ... "

" هذا شأنك ... لا دخل لي به "

و انصرفت ...

الواضح أنني سألاقي وقتا عصيبا ... كان الله في عوني ...

بعد ساعات ، أعدت دانة مائدة العشاء و لم تشاركنا رغد فيه ... لقد مضت الليلة الأولى من ليالي تولي ّ مسؤولية هذا المنزل على هذه الحال ..


في الصباح التالي كنت أجلس مع دانة في المطبخ ، و رغد على ما يبدو لا تزال نائمة ...

قلت :

" أخبريني دانة ... كيف أقدم المساعدة ؟؟ فأنا أجهل الأمور المنزلية ! "

ضحكت دانة و قالت :

" لا تهتم ! أنا أستطيع تولي الأمور وحدي ! "

" أرغب في المساعدة فأنا بلا شاغل ! أخبريني فقط بما علي فعله ! "

و باشرت المساعدة في أعمال المنزل !

ليس الأمر سيئا كما قد يظنه البعض ، كما أنه ليس من تخصص النساء فقط !

كنت أرتب الأواني في أرففها الخاصة حين دخلت رغد إلى المطبخ ...

كانت دانة آنذاك تفتش في محتويات الثلاجة ...


قالت رغد :

" صباح الخير "

التفتنا لها و رددنا التحية . الحمد لله ، تبدو أكثر هدوءا هذا الصباح !


قالت دانة :

" تناولنا فطورنا قبلك ! "

قالت رغد :

" غير مهم "

قالت دانة و هي لا تزال تقلب بصرها في محتويات الثلاجة :

" إنني حائرة ما أطهو للغذاء اليوم !؟ ماذا تودان ؟؟ "

و نظرت باتجاهي ، فقلت :

" أي شيء ! كما يحلو لك "

ثم نظرت باتجاه رغد و سألتها :

" ما ذا تقترحين ؟؟ "

قالت رغد :

" لا شيء "

" لا شيء ؟؟ "

" لا تعملي لي حسابا فأنا حين أرغب بشيء سأصنعه بنفسي "

قالت دانة بعد تنهد :

" أما زلت ِ على ذلك ! أف ٍ منك ! "

رغد انسحبت فورا من المطبخ ...

وضعت أنا الأواني في أماكنها و قلت لدانة :

" دانة ... لا تكوني فظة معها ! "

" أنا يا وليد ؟؟ ألا ترى كيف ترد علي بنفس مشمئزة ؟؟ "

" لكن .. أرجوك لا تعامليها بخشونة .. لحين عودة والدي ّ .. "

" لا تقلق . لن أتعمد إزعاجها .. تصرّف أنت معها "


مضت ساعات و الفتاة حبيسة غرفتها ... الأمر ضايقني كثيرا ... و قبل ذهابي لتأدية صلاة الظهر في المسجد طلبت من دانة أن تذهب لتفقدها ، و عندما عادت سألتها عنها فقالت :

" لم تفتح لي الباب ! عنيدة ! "

الأمر زاد من قلقي و خوفي ... و بعدما عدت ، سألتها عنها فكررت الإجابة ذاتها ...

" حسنا ... سوف ... سوف أحاول التحدث معها ... أيمكنني ذلك ؟؟ "

" حاول وليد !علك تحرز نجاحا ! "


ذهبت بعد تردد ، و طرقت باب غرفتها ...

" هذا أنا وليد "

لم ترد علي ... شعرت بخوف ... فعدت أطرق الباب طرقا أقوى و أنادي :

" رغد ... صغيرتي هل أنت بخير ؟؟ "

و لما لم تجب أصابني الجنون ... ماذا لو أن مكروها قد حل بها و نحن لا نعلم ؟؟

طرقته الآن بقوة و عصبية ...

" رغد افتحي الباب أرجوك ... "

كدت أفقد السيطرة على نفسي لو لم ينفتح الباب في اللحظة الأخيرة !

ظهرت رغد ... و راعني المظهر الذي كانت عليه ...

كيف لي أن أتحمل رؤية ذلك ؟؟

صغيرتي أنا ... مدللتي الغالية ... تتبعثر دموعها الغالية سدى لتشربها المناديل ... و ينتهي مصيرها إلى سلة المهملات ؟؟

" ماذا تريد ؟ "

قالت بصوت حزين مخنوق ... التف حول عنقي أنا و خنقني حتى الموت ...

قلت :

" ما بك صغيرتي ؟؟ "

قالت و تعبيرات وجهها تزداد حزنا و كآبة :

" ماذا تريد قل لي ؟؟ "

قلت :

" صغيرتي ... أريد أن تتوقفي عن البكاء و الحزن أرجوك ... أنا قلق عليك "

قالت :

" قلق علي ؟ "

" نعم يا رغد ... "

" و لم ؟ هل يهمك أمري ؟؟ "

" و هل هذا سؤال ؟ طبعا يهمني ! لم أنا هنا الآن ؟؟ "

" لأن والدي طلب منك ذلك ، و وجدت نفسك مضطرا للحضور . لم تكن لتحضر لأجل أحد ... خصوصا فتاة غبية تصدّق قسم الكذّابين و تُستغفل بعلبة بوضا يشتريه لها رجل مثلك ليلهيها بها قبل الرحيل "

صعقت لسماعي كلماتها ...

قفزت الدموع من عينيها قفزا و قالت و هي آخذه في البكاء بانفعال :

" تسخر مني ؟؟ أتظنني تلك الطفلة اليتيمة الوحيدة التي تخليت عنها قبل سنين و هي في أحوج الأوقات إليك ؟؟ "

" رغد "

" أسكت ... ! "

صمت ، و أنا في قلبي صرخة لو أطلقتها لحطمت زجاج المنزل ...

" لا تدعي القلق علي يا كذاّب ... لا أريدك أن تعتني بي ... فلدي خطيب يهتم لأمري و يحرص علي ... أفضل منك .... أليس هذا هو كلامك ؟ يا ابن عمّي الكذّاب ؟؟ "


لا إراديا رفعت يدي و ضربت الباب بقوة و انفعال من فرط الغضب ...

عندها ، توقفت رغد عن الكلام و عن البكاء أيضا ... و نظرت إلي بفزع ...

كانت النار تتأجج في صدري و لو لم أمسك أعصابي ، لكنت أحرقت المنزل بمن فيه

قلت بعصبية لم أملك إخفاءها :

" لا تتحدثي معي بهذه الطريقة ثانية يا رغد ... فهمت ؟؟ "

رغد كانت تبدو مذعورة و تنظر إلي بدهشة ...

قلت :

" إنك لا تعرفين شيئا ... لا تقلبي علي ّ المواجع و دعي هذه الأيام تمر بسلام ... أتسمعين ؟؟ "


و أوليتها ظهري و انصرفت عنها ...

جلست في الردهة ... و جلست معي و تحديدا في رأسي كلمات رغد الأخيرة ...

( لدي خطيب يهتم لأمري و يحرص علي أفضل منك )

تبا لك يا سامر !

بعد نصف ساعة رأيت رغد تعبر الردهة ... في طريقها إلى المطبخ ...

ألقت علي ّ نظرة غريبة ، ثم تابعت سيرها ...

لحقت بها أنا بعد قليل ، فرأيتها تقشر البطاطا و تقطعها ... كانت دانة قد انتهت من إعداد المائدة ...

قالت :

" الغذاء جاهز ... تفضل وليد "

رافقت دانة و أنا أسير ببطء و تردد ... إلى غرفة المائدة حيث الوجبة اللذيذة التي أعدتها ...

" قل لي ما رأيك ؟؟ "

" أنت ماهرة يا دانة ! محظوظ هو نوّار ! "

ابتسمت بخجل و قالت :

" شكرا لك ... "

ثم قالت :

" على فكرة دعاني للعشاء في مطعم هذه الليلة ! "

" جميل ! "

ثم استدركت و قلت :

" ماذا قلت ؟؟ للعشاء في مطعم ؟؟ "

" نعم "

" و ... نحن ؟؟ "

قالت :

" هل تودان مرافقتنا ؟؟ "

ابتسمت و قلت :

" لا ، لا أقصد .. لكن .. "

" آه فهمت ! لا تقلق ! سأعد لكما طعاما قبل انصرافي ! "

" أوه لم أقصد هذا دانة ! إن ذهبت ستبقى رغد وحدها ! "

دانه رفعت نظرها نحو السقف لتفكر ، ثم قالت :

" لكن غدا السبت و سوف تنام مبكرة ! أنت من ستظل وحيدا ! "

" لا يفرق الأمر معي كثيرا ... "

فلطالما عشت وحيدا ... لا تشاركني أيامي سوى الهموم و الذكريات ...

" فيم شردت أخي ؟ "

سألتني دانة حين رأتني سارحا ... قلت :

" دانة ... اذهبي و استدعي رغد لتجلس معنا "

" لن تفعل ! أعرفها ! "

" إذن ... دعينا نذهب نحن إليها ! "


و قرنت القول بالعمل !

رفعت الطبق الرئيسي و حملته إلى المطبخ ، و وضعته وسط الطاولة ... بينما رغد تجلس على أحد المقاعد و تأكل أصابع البطاطا من طبق أمامها

حين رأتني نظرت إلي بدهشة ، فقلت :

" أنا أيضا أحب البطاطا المقلية ! هل لي بمشاركتك ؟؟ "

و للمرة الأولى منذ عودتي للمنزل أرى ابتسامة على وجهها ـ و إن كانت ابتسامة سطحية ...

جلست على أحد المقاعد ، فقرّبت هي طبق البطاطا مني و تناولت بعضها ...

أقبلت دانة تحمل بقية الأطباق و ترتبها أمامنا واحدا بعد الآخر ...

صحيح أن رغد لم تشاركنا طعامنا و لا حتى الحديث ألا أنها على الأقل شاركتنا المائدة ، و التنظيف أيضا !

بعد عدة ساعات حضر نوّار و جالسته بعض الوقت قبل أن يخرج هو و دانه للاستمتاع بسهرة خاصة ...

نوّار شخص مغرور بالفعل و اتفق مع رغد في حكمها عليه !

بعدما خرجت دانة أدركت أنني أصبحت في البيت منفردا مع رغد !

هي كانت تجلس في غرفتها منذ ساعات ، و أنا أتجول في المنزل بملل لا أجد ما أفعله ... !

رن الهاتف فأسرعت إليه ... لأشغل نفسي به ... كنت انتظر اتصالا من والدي لكن الذي اتصل هو آخر شخص كنت أود سماع صوته ... أخي سامر !

سأل عن أحوالنا و ما إلى ذلك ، ثم طلب مني أن استدعي رغد ...

ألكم أن تتصوروا ذلك ؟؟

أستدعي رغد لكي يتبادل الأحاديث معها هو ...

رغد لم تكن تملك هاتفا في غرفتها لذلك حين أخبرتها أتت معي و جلست في نفس الغرفة تتحدث معه !

في وضع كهذا ، فإنه لمن اللياقة و الذوق أن أنصرف ... لكنني لم أرغب في الانصراف ...
بل على العكس ... استرققت السمع عمدا لأعرف ما يدور بينهما من أحاديث ...

" ذهبت مع خطيبها و تركتني وحدي ! لكنني كنت أدرس ، و بعد قليل سآوي للنوم ... لا تقلق علي عزيزي "

عزيزي ؟؟

عزيزي ؟؟

لا يمكنني تحمل المزيد ... ألقيت بالصحيفة التي كنت أتظاهر بقراءتها و نهضت مستاءً و ذهبت إلى غرفة سامر ، و ذرعتها جيئة و ذهابا حتى صدّعت أرضها !

تناولت إحدى السجائر ـ و التي كنت على وشك الإقلاع عنها ـ و خرجت من الغرفة ، و من المنزل ، إلى الفناء الخارجي رغبة في التدخين ...

إلى أن تنتهي الأيام المتبقية لي في هذا المنزل فإنني بالتأكيد سأتدهور و أعود إلى الصفر ...

سمعت الباب يفتح بعد خروجي ببرهة ... و أتت رغد

" إلى أين تذهب ؟؟ "

التفت إليها و قلت :

" ليس لأي مكان ... سأدخن هنا فقط "

قالت :

" لا تخرج وليد ، أنا وحدي "

وحدك ؟ أليس ( عزيزك ) معك ؟؟ عودي إليه !

" أعرف "

توقعت بعد ذلك أن تعود للداخل لإتمام مكالمتها ، لكنها على العكس من ذلك خرجت و وقفت قرب الباب ... تراقبني !

قالت :

" يجب أن أخلد للنوم الآن ... أغادر عند السابعة و النصف صباحا "

" حسنا . اطمئني ، سأنهض في الوقت المناسب "

صمتت قليلا ، ثم قالت :

" ألن تنام الآن ؟؟ "

" لا ! لا يزال الوقت مبكرا بالنسبة لي ، كما و أنني سأنتظر دانة ... اذهبي أنت "

و ظلت واقفة مكانها ...

و حين رأت علامات التعجب فوق رأسي قالت :

" ألن تأتي معي ؟؟ "

" إلى أين ؟؟ "

" إلى الداخل "

" سأبقى هنا لبعض الوقت ! "

و لم أر منها أي بادرة تشير إلى أنها تعتزم الدخول !

" ما المشكلة ؟؟ "

" لا تخرج وليد رجاء ً "

" لا أنوي الخروج أبدا ... "

" إذن أدخل "

يا لهذه الفتاة ! ألم تعد تصدقني أبدا ؟؟ أم تظن أنني سأرحل و أتركها و دانة هكذا ؟؟

تخلصت من سيجارتي ، و دخلت معها . هي ذهبت للنوم و أنا بقيت أشاهد التلفاز لساعتين ، حتى عادت دانة من سهرتها !

" وليد سأذهب و نوّار غدا لشراء بعض حاجيات منزلنا عصرا و قد أغيب حتى الليل "

" و رغد ؟؟ تتركينها وحدها ؟؟ "

" لا ! أتركها معك ! "


في صباح اليوم التالي نهضت باكرا و استعددت لمرافقة رغد إلى الجامعة ...

كنت في المطبخ و قد أعددت بعض الشاي و جعلت أحتسيه ببطء .. و أراقب عقربي الساعة اللذين يقتربان من السابعة و النصف ...

و أخيرا ظهرت رغد !

أهناك أجمل من أن تستقبل صباحك برؤية وجوه من تحب ؟؟


قلت :

" صباح الخير ... صغيرتي "

ردت بشيء من الخجل ... !

قلت :

" أأ ... أ نذهب الآن أم .. ترغبين بتناول الفطور ؟؟ "

نظرت رغد نحو إبريق الشاي الذي أعددته ، و قالت :

" هل من مزيد ؟؟ "

قلت متوترا :

" نعم ، أعتقد ، أجل ... تفضلي "

و أنا في خشية من ألا يعجبها طعم الشاي البسيط الذي أعددته !

سكبت لها قليلا منه في أحد الأكواب و رشفت منه قليلا

لم يظهر على وجهها أي استياء

الحمد لله ! فشايي مقبول الطعم !

و بعدها شربت المقدار كاملا ، ثم غادرنا المنزل

الجو كان منعشا جدا و من خلال نوافذ السيارة النصف مفتوحة تتسلل تيارات الهواء الباردة عابثة بشعري !

رغد كانت تجلس خلفي ملتزمة الصمت ... و رغم برودة الجو ، ألا أن مجرد وجودها في الصورة يكفي لجعل الحريق ينشب في داخلي ....

في عصر ذلك اليوم و بعدما خرجت دانة مع خطيبها بقينا وحدنا في المنزل ، هي في غرفتها كالعادة ، و أنا لا أجد ما أفعله !

شعرت بملل شديد و أجريت عدة مكالمات مع بعض معارفي من أجل تمضية الوقت ألا أن الساعات مرت بطيئة جدا ...

لم لا أخرج في نزهة بسيطة ... و آخذها معي ؟؟

أتراها ترحب بذلك ؟؟

أ أكون مجنونا إن طلبت ُ هذا ؟؟

لم لا أجرّب ؟!

ذهبت إلى غرفتها و طرقت الباب ، و بعد قليل فتحته ...


" هل أنت مشغولة ؟؟ "

" أهناك شيء ؟؟ "

" كنت ... أرغب بالخروج للتنزه لبعض الوقت و شراء بعض الحاجيات "

و بدا على وجهها الاعتراض و قالت بسرعة :

" و تتركني وحدي ؟؟ "

قلت :

" لا ، لا ... أصطحبك معي ... إن كنت لا تمانعين ؟ "

ترددت رغد قليلا ثم قالت :

" حسنا و لكن لفترة قصيرة فأنا أريد أن أذاكر "

" نعم ، لساعة لا أكثر "

و خرجنا معا ...

حينما مررت قرب إحدى الصيدليات أوقفت سيارتي و هممت بالنزول قائلا :

" سأشتري بعض الأشياء و أعود سريعا "

رغد فتحت الباب مباشرة و هي تقول :

" سآتي معك "

قلت :

" لن أتأخر ! "

قالت :

" ليكن ، سآتي معك "

كنت أنوي شراء ما نفذ من أدويتي ، و بعض الأشياء الأخرى ...

تجولت بالسيارة على الشوارع الداخلية للمدينة ... و مررنا بعدة محلات و متاجر ...

سألتها بعد ذلك عما إذا كانت ترغب في شراء أي شيء ، أجابت بالنفي ، قلت :

" و لا حتى ... بعض البوضا ؟؟ "

قالت :

" البوضا ثانية ؟؟ لم ؟ هل قررت الرحيل هذه الليلة ؟؟ "

انزعجت من كلامها فقلت :

" و هل أنا مجنون لأرحل و أترككما وحدكما ؟؟ "

قالت :

" لا ... لست مجنونا "

ثم أضافت :

" إنما كذاّب "

عند هذه اللحظة قررت إنهاء جولتنا القصيرة ، و عدت إلى البيت .

لم أنطق بكلمة بعد ، و دخلنا المنزل و ذهبت هي مباشرة إلى غرفتها و بقيت أنا في الردهة ، أكثر ضيقا مما كنت عليه قبل خروجي ...

لماذا لا تتوقف عن نعتي بهذا ؟؟

ألا تدرك أنها تجرحني ؟؟

يجب أن أضع نهاية لهذا الموقف ...

فيما بعد ... ذهبت لأسألها عما إذا كانت ترغب في أن نحضر عشاء ً من أحد المطاعم ، بما أن دانة ستتناول عشاءها مع خطيبها ...

كان باب الغرفة مفتوحا و كانت هي تستعرض بعض لوحاتها ...

" أيمكنني أن أتفرج عليها ؟؟ "

" حسنا ... هذه الجديدة "

كانت الرسومات جميلة و متقنة ... و فيما أنا أتفرج عليها واحدة تلو الأخرى رأيت شيئا أذهلني !

أتذكرون صورتي التي رسمتها رغد في السابق ! كانت ضمن المجموعة ... إلا أن شيئا قد تغير !

كانت العينان حمراوين !

عندما وقعت يدي و عيني على هذه الصورة ، أسرعت رغد بسحبها مني !

قلت :

" دعيني أرى ! "

قالت بارتباك :

" هذه لا ! "

قلت :

" ماذا فعلت ِ بعيني ّ ؟؟ "

قالت :

" لا شيء ! "

" لكن لم طليتهما باللون الأحمر ؟ "

نظرت نحوي بحدة و قالت :

" هكذا هي عيون الكذابين "

اشتططت غضبا و رميت ببقية اللوحات على المكتب و خرجت من الغرفة ...

و نسيت أمر العشاء و كل أمور الدنيا عدا موقف رغد المزعج مني ...

و من حينها بدأت أعاملها بالمثل ... ببعض الجفاء .

توالت الأيام ، و الأجواء بيننا متنافرة ، أقوم بواجباتي بمصمت و لا أتبادل أحاديث تذكر معها ... حتى أقبل يوم الأربعاء ، و هو اليوم الذي يأتي سامر فيه لقضاء عطلة نهاية الأسبوع معنا ...

مع اقتراب موعد حضوره تعمدت ملازمة الغرفة فأنا لا أريد أن أشهد استقبالا حميما من النوع الذي يقرح المعدة ... بين الخطيبين ....

و أول حديث دار بينه و بيني :

" ألا يمكنك أخذ إجازة من الآن يا سامر ؟ "

" لا أستطيع ! و لكن ... هل واجهت أي مشاكل ؟؟ "

" لا ، غير أنني سئمت و أود المغادرة ! "

و انتهزت فرصة تواجد سامر و قضيت معظم الوقت خارج المنزل ...

ليس لأنني أرغب في الترويح عن نفسي بل لأنني لا أرغب في التواجد في مكان يجمعهما ...

و مهما توهمت أنها عادت لي ، في النهاية ... استيقظ على الواقع المر ... أنها أصبحت له .




~ ~ ~ ~ ~ ~ ~







أخبرني سامر بأن وليد أبلغه عن سأمه من رعايتنا أنا و أختي دانة !

الأمر أزعجني كثيرا ... رغم أنني أعرف أنه لا يهتم بنا .. أو على الأقل لا يهتم بي .

لم تكن بالفترة الهينة تلك التي قضيتُها مع وليد تحت سقف واحد !

كنت أجبر نفسي على التظاهر بالاستياء و الانزعاج منه لأكتم حقيقة تصرخ في داخلي ... أنا سعيدة بوجوده و أكاد أطير فرحا ...

و فرحتي هذه تنتهي في الليل ببحر من الدموع و الآهات ، للمصير الذي ينتظرني

ليت أحدا يشعر بي !

ليت أحدا ينقذني !

سامر كانت يتحدث معي بلهفة و شوق ... و كلما رأيت منه هذه المشاعر كرهت نفسي و كرهت الدنيا أكثر فأكثر ...

لم يكن لدي سوى نهلة أبثها همومي ...

و سأدعوها الليلة لقضاء بعض الوقت معي بعد أن يغادر سامر

وليد كان قد خرج منذ الصباح و لم يعد حتى الآن !

إنها الرابعة عصرا و سامر يريد الذهاب ...

ألهذا الحد هو ـ أي وليد ـ متضايق من وجوده معنا و لم يصدق أن جاء سامر ليخرج دون عودة !

" تأخر وليد ! سأتصل به "

قال سامر ، فعقبت :

" ربما رحل ! "

نظر إلى سامر باستغراب و قال :

" رحل ! مستحيل طبعا ! كيف يرحل هكذا ؟؟ "

قلت :

" إنه يرحل هكذا دون مقدمات ! أم نسيت ذلك ؟؟ "

" لكن الآن مستحيل "


و ذهب للاتصال به .

عندما فرغ من مكالمته قال :

" إنه في طريقه إلى هنا "

و شعرت بالاطمئنان ...

قلت ُ :

" متى ينقضي هذا الأسبوع ... "

كنت أعني أن تعود أمي و يعود أبي ، و تعود الأمور إلى أماكنها ، إلا أن سامر فهم حسب مزاجه !

ابتسم ابتسامة لطيفة و أمسك بيدي و قال بصوت حنون :

" أنا أيضا أنتظر على نار ! متى يا رغد ! متى ينقضي ! "

و لم ينقذني من نظراته تلك غير رنين الهاتف ...

أسرعت إليه و كان والدي على الطرف الآخر ...

كان والداي يتصلان من حين لآخر خلال الأيام المنصرمة ، و هذه المرة تعمدت الإطالة في الحديث معهما و استدعيت دانة من أجل وضع حواجز بيني و بين نظرات سامر ...

أنا لم أعد أحتمل ... ليتني أستطيع قول شيء ... سامر ... سامحني ... لكني لا أحبك ... و لا أريد الزواج منك ! ألا تلاحظ ذلك ؟؟
بعد قليل وصل وليد ...



قال سامر ممازحا :

" ما هذا يا رجل ! أخبرني أين كنت تتسكع كل هذه الساعات !؟ "

وليد لم يبد عليه أي علامات المرح ! بل كان عابسا !

قال سامر :

" علي ّ أن أذهب الآن ... "

ثم أضاف و هو ينقل بصره بيني و بين دانة :

" اعتني بشقيقتي و عروسي جيدا ! "

قال وليد بنبرة حادة تنم عن الاستياء :

" لست ُ بحاجة لتوصية ، ماذا تظنني كنت ُ أفعل ؟ أتركهما و أتسكع في الشوارع ؟؟ "


فوجئنا أنا و سامر و دانة بالنبرة الغريبة التي تحدث بها وليد ، و كلماته الجدية القوية !

سامر قال :

" كنت أمزح يا رجل ما بك ! ؟؟ "

لم يرد وليد ... بل جلس على المقعد ، و نزع ساعته و أخرج هاتفه المحمول و محفظته و مفاتيحه من جيبه و وضعها جميعا على المنضدة و أسند رأسه إلى المسند بشكل يفهم الناظر إليه بأنه مستاء جدا ...

تبادلنا نحن الثلاثة النظرات ... المتعجبة

قال سامر :

" ما بك وليد ؟؟ "

" لا شيء "

" تبدو مستاء ً ... هل حدث شيء ما ؟؟ "

" قلت ُ لك لا شيء ! ألا تسمع ؟؟ "

صمت الاثنان قليلا ، ثم قال سامر :

" إن كان البقاء هنا يزعجك لهذا الحد ... "

و لم يتم إذ أن وليد قال مقاطعا :

" أنا هنا الآن ... انصرف مطمئنا على عروسك و أختها ... إن هي إلا أيام فقط و ينتهي كل شيء "

لم يجرؤ أحدنا على النطق بكلمة بعد ...

رافقنا سامر إلى البوابة الخارجية و قبل انصرافه قال :

" هل هناك شيء ؟؟ هل هو عصبي هكذا معكما ؟؟ "

دانة قالت :

" لا مطلقا ! على العكس تماما ، لكن ... اعتقد أن شيئا ما حدث معه و هو في الخارج ! "

عندما عدنا للداخل ، وجدنا وليد و قد اضطجع على المقعد و غطى عينيه المغمضتين بذراعه ...

شعرت ُ بالقلق الشديد عليه ... إذ يبدو من تصرفه و منظره الآن أن شيئا ما قد ضايقه كثيرا ... فهل هو مستاء من البقاء معنا ؟؟

قالت لي دانة :

" سيمر نوّار لاصطحابي إلى السوق بعد قليل "

" ماذا ؟؟ ستخرجين و تتركيني ؟؟ "

" ألن تأتي نهلة لزيارتك الليلة ؟؟ "

" بلى و لكن إلى ذلك الحين ، هل سأظل وحدي ؟؟ "

" وحدك ؟؟ و معك كل هذا ؟؟ "

و أشارت بيدها نحو وليد

قلت ُ بقلق :

" إنه يبدو مخيفا ! "

ضحكت دانة و قالت :

" حتى وليد !؟ أخشى أنك تشعرين بالخوف من زوجك أيضا ! "

و انصرفت إلى غرفتها تستعد للخروج ...

بقيت ُ أنا واقفة أراقب وليد الذي يبدو أنه نام !

خطوة خطوة ، بهدوء تام اقتربت ُ منه !

كان لدي فضول لألقي نظرة عن كثب على الأشياء التي وضعها على المنضدة !

يبدو شكل ميدالية المفاتيح جذابا ! مع أنه قديم !

مددت يدي بحذر حتى أمسكت ُ بالميدالية و حركتها ببطء فأصدرت صوتا خفيفا ، راقبت وليد بتمعن ، و لم ألحظ عليه أي حركة ...

الآن الميدالية في يدي ! ما أكثر المفاتيح !

و الآن ، هل أستطيع أن ألقي نظرة على الهاتف أيضا ؟؟ إنه من طراز مختلف عن هاتفي سامر و أبي !

مددت يدي نحو الهاتف و لم أكد ألمسه !

" ماذا تفعلين !؟ "

قال وليد فجأة وهو يزيح ذراعه عن عينيه و ينظر إلي !

جفلت ُ و أصبت ُ بالروع فانتفضت ُ فجأة !

وقعت المفاتيح من يدي على المنضدة

هم وليد بالجلوس و رأيت وجهه شديد الإحمرار و زخات من العرق تلمع على جبينه ...

شعرت ُ بارتباك ٍ شديد و قبل أن يستوي جالسا أطلقت ساقي للريح و فررت هاربة !

في غرفتي بعد ذلك تنفست الصعداء !

كم يبدو مخيفا هذا الرجل !

هل ظن أنني أحاول سرقته ؟؟

ما الذي دفع بي إلى حماقة كهذه !

عندما أخبرت ُ نهلة بالأمر لاحقا انفجرت ضاحكة

كنت قد اصطحبت ُ نهلة إلى غرفتي كالعادة ، و تركت وليد في البداية مع حسام ثم وحيدا بعد انصرافه

عادة ما تطول جلساتنا أنا و نهلة و بالتالي سيظل وليد وحيدا في المنزل ، و أخشى أن يخرج ...

" سوف أذهب لأتأكد من وجوده ! "

" هيا رغد ! لا أظنه سيغادر و هو يعلم أنك وحدك ! "

" بل أنت ِ معي ! "

قالت نهلة و هي تنفخ صدرها و تقطب حواجبها و ترفع كتفيها ـ كعادتها حين تتقمص شخصية رجل :

" ما دمت ُ معك ِ فلسنا بحاجة لوجود أي وليد ! "

خرجت ُ من الغرفة لهدفين : لجلب بعض العصير ، و لتفقد وليد !

و الهدفان وجدتهما في المطبخ !

واحد بارد

و الثاني حار !

هو يجلس على المقعد يقلّب صفحات إحدى الصحف ، لكني متأكدة من أن عينيه تخترقان الأوراق !

تناولت ثلاثة كؤوس و ملأت اثنين منها بالعصير البارد الذي أعددته قبل ساعة و وضعتهما في صينية ...

ثم قلت :

" أترغب ببعض العصير ؟؟ "

قال دون أن يرفع عينيه عن الصحيفة :

" نعم ، شكرا "

سكبتُ العصير في الكأس الثالث و حملته إليه ...

وضعته قربه على المنضدة ، و سرعان ما أمسك به و دلق نصف محتواه في جوفه دفعة واحدة !

كان باردا جدا ، و يكاد يتجمد !

كيف استطاع شربه بهذا الشكل !؟؟

كل هذا و عيناه محدقتين في الصحيفة !

حملت ُ الصينية و سرت نحو الباب ...

" رغد "

نطق باسمي بغتة كدت معها أترنح و أسقط الصينية من يدي بما حوت !

التفت إليه فرأيته ينظر إلي ...

قلت :

" نعم ؟؟ "

فجاء صوتي أشبه بصوت تلميذة نسيت حل الواجب و تقف بذعر أمام معلمتها !

قال :

" هل أجلب لكما طعاما للعشاء من أحد المطاعم ؟؟ "

قلت بسرعة :

" ماذا ؟؟؟ لا ! "

قال :

" و لكن هل ستتركين ضيفتك دون عشاء ؟ "

" لا تهتم ، إنها نهلة لا غير ! ... "

" و لكن ... حسنا ... كما تشائين "

و عاد يطالع الصحيفة...

هممت أنا بالإنصراف ، ثم توقفت ُ و قلت :

" لا تخرج وليد "

فرأيت عينيه تنظران إلي من فوق الصحيفة ... بحدّه !

أسرعت ُ خطاي نحو غرفتي حيث نهلة ، دفعت إليها بالصينية فأمسكت بها و أنا تهالكت على السرير !

" حمدا لله على السلامة ! "

ضحكت من تعليق نهلة رغم أنني لا أجد الوقت مناسبا للضحك !

قلت :

" مرعب يا نهلة ! اليوم يبدو مخيفا جدا ! كالفهد الأسود ! "

" صحيح ؟؟ دعيني أرى ! "

" أوه نهلة ! توقفي عن ذلك ! "

ضحكت نهلة و وضعت الصينية على المنضدة و أحضرت لي العصير و هي تقول :

" خذي اشربي ، فأنت ِ تبدين كاللبؤة الحمراء ! "

أخذت منها الكأس و رشفت رشفة صغيرة ...

" بارد جدا ! "

قالت نهلة :

" أنت حارة جدا ! هيا اشربيه ! "

بعدما فرغنا من شرب العصير ... قلت :

" اليوم ... بدا مستاء ً من شيء ما ... عندما يكون مغتاظا فإنه يصبح ... يصبح ... جذابا جدا ! "

نهلة كتفت يديها و قالت :

" رغد ! عدنا للجنون ؟؟ ! "

كلمتها هذه أيقظتني من غفوتي القصيرة في عالم الوهم ...

و حين رأت نهلة تعبيرات الأسى تعود للظهور على وجهي قالت بعطف :

" عزيزتي ... أنا قلقة بشأنك و أخشى ... أن تحطمي نفسك بهذا الشكل "

وقفت كشخص يخرج من البحر ... و يرفع رأسه للأعلى محاولا الفرار من الأمواج التي لا شك مهلكة إياه ... و قلت :

" إن كان علي أن أعيش مع شخص لا أحبه طوال عمري ، فهل كثير علي أن أسعد نفسي بأوهام عابرة قبل الغرق في بحر الواقع ؟؟ "

وقفت نهلة ازائي و قالت :

" لم يفت الأوان بعد ... إن أردت أن تتشبثي بطوق النجاة ... "

طردت الأفكار السخيفة التي غزت رأسي لحظتها ، و هززت رأسي لأتأكد من نثرها خارجا ...

ثم قلت :

" دعينا من ذلك ، ما رأيك بالخروج معي إلى السوق غدا سأشتري ملابس للعيد !؟؟ "

نهلة استجابت لرغبتي في محي الألم ، و قالت مشجعة :

" فكرة رائعة ! "

بعدما انصرفت نهلة ، و كان ذلك قرابة العاشرة مساء ً ، بحثت عن وليد فوجدته يشاهد التلفاز في غرفة الضيوف ...

" وليد "

لم يجب ، فقط نظر إلي ...

" أنا آسفة لكنني أخشى البقاء في البيت مع ابنة خالتي وحدنا "

لم يعلّق !

قلت :

" دانة لم تعد "

" أعرف "

" أأ ... أردت أن أطلب منك شيئا ... إن سمحت "

" تفضلي ؟؟ "

" غدا أود الذهاب إلى بيت خالتي لأصطحب نهلة إلى السوق ... ممكن ؟؟ "

" حسنا "

و أبعد نظره عني ، إلى التلفاز !

قلت :

" أترافقنا إلى السوق ؟ "

قال بنفاذ صبر و ضيق :

" ألم أقل حسنا ؟؟ إذن حسنا "

لم تعجبني الطريقة التي تحدث بها ... و لكني أردت أن أوضح الأمر أكثر :

" أعني أن تلازمنا أثناء التسوق ... أيمكنك ذلك ؟؟ "

قال بنبرة ضايقتني كثيرا جدا :

" نعم ، كما تأمرين يا ابنة عمي ... ألست ُ هنا لحراستك ؟ سأنفذ وصايا خطيبك و والديه بدقة ، ماذا بعد ؟؟ "

وقفت مذهولة من جملته هذه ... فهل يظن هو أن وجوده يعني فقط مهمة حراسة و خدمة موكلة إليه سينتهي منها و يختفي من جديد ؟؟
هل أعني أنا له فقط مهمة مؤقتة مجبور على تنفيذها كارها ؟؟

قلت بانفعال :

" انس الأمر ، لن أذهب معك لأي مكان "

و خرجت من الغرفة بسرعة ، و إلى غرفتي ... و إلى دموعي !

دقائق و إذا به يقف عند الباب ...

" أنا آسف رغد ! أرجوك لا تبكي بسببي "

مسحت دموعي و قلت بعصبية:

" أنا الآسفة لأنني حملتك ما لا ترغب في تحمله ! و لكن من كان ليرافقني و أبي و سامر غائبان ؟؟ من كان سيهتم لأمري و أنا لا أهل لي سواكم ؟؟ "

قال :

" لم أقصد ... أرجوك لا تسيئي فهمي "

قلت :

" حسام لا يوافق أبدا على مرافقتنا إلى السوق و إلا لكنا ذهبنا معه ... إن هي إلا أيام و تتخلص من هذا العبء الثقيل و مني "

وليد قال بعصبية :

" قلت لك لم أقصد هذا .. سأرافقكما إلى حيث تشاءان توقفي عن البكاء الآن "

وليد كان مستاءا جدا كما ظهر من تعبيرات وجهه و انفعاله

كتمت دموعي رغما عنها ، و أنهيت المشادة بسلام ...

في اليوم التالي رافقنا إلى السوق و اشتريت الكثير من الحاجيات .. و الأسواق كانت مزدحمة جدا بالناس ! فغدا هو عيد الحجاج !

و كان من بين ما اشتريت هدية لدانة و أخرى لوليد ! طبعا لم أدعه يلحظهما ...

كان يسير إلى جانبنا و يساعدنا في حمل الأكياس ! و نهلة بين حين و آخر تلقي بتعليقاتها المداعبة حوله !

اعتقد أنني بالغت كثيرا في تسوقي ! و بالتأكيد شعر وليد بالضجر ... إلا أن وجوم وجهه منعني من تقديم أي اعتذار !

عندما أوصلنا نهلة إلى بيتها دخلت معها لبعض الوقت لألقي تحياتي على العائلة ، و خرج حسام و تحدث مع وليد ...

اخترت هدية لدانة هذه المرة علبة أنيقة لحفظ المجوهرات ، أما لوليد ـ و لأنني لا أفهم في هدايا الرجال و قلما أهدي أبي أ و سامر شيئا ـ فقد اشتريت له ميدالية مفاتيح أكثر جمالا و أناقة من ميداليته الحالية !

كنت سعيدة بما اشتريت ! هل ستعجبه هديتي ؟؟

عندما عدنا للبيت وجدنا دانة و قد دعت خطيبها لقضاء أمسية معها في المنزل ...

ما أن علم وليد بوجود نوار حتى سأل دانة :

" متى سيغادر ؟؟ "

قالت :

" منتصف الليل ! لم ؟؟ "

قال :

" مادام موجودا هنا إذن أستطيع الخروج قليلا ! "

و نظر باتجاهي ...

لم يكن باستطاعتي منعه ... لكنني اغتظت ُ من إثباته مرة بعد أخرى بأنه يفتش عن أقل فرصة ليغادر المنزل ... و يبتعد عني ...
هذا أثار جنوني و سخطي الشديد !

و مرت الساعات و أنا وحيدة في غرفة المعيشة ... دانة تستمتع بوقتها مع خطيبها المغرور في ليلة العيد و وليد يتجول في مكان ما ... و أنا مرغمة على مشاهدة التلفاز وحيدة !

أُف ... متى يعود هذا ؟؟

و اقتربت الساعة من الثانية عشر منتصف الليل ... أنا أشعر بالنعاس و لكنني لا أستطيع النوم قبل أن يعود !

لماذا لم يعد حتى الآن ؟؟

هل فعلها و رحل ؟؟

طبعا مستحيل ...

كنت ُ على وشك الاتصال به حين سمعت صوت الباب ينفتح ، فأسرعت نحو المدخل و رأيت وليد يدخل و يغلق الباب خلفه

حين رآني قال :

" ألا زلت ِ مستيقظة !؟ "

قلت بتوتر :

" لماذا تأخرت ؟؟ "

قال :

" هل حدث شيء ؟ "

قلت :

" و هل كنت تنتظر أن يحدث شيء حتى تعود ؟؟ لا تدعني وحيدة هكذا ثانية "

و زادني حنقا البرود الذي قابلتني به نظراته !

و ببساطة قال :

" حسنا "

ثم سار ذاهبا إلى غرفة سامر !

لماذا يعاملني بهذا البرود ؟؟ أكاد أجن ... لم لا يدع لي فرصة لأعطيه هديته ؟؟

بعد نصف ساعة غادر نوّار ، و تعجبت دانة لدى رؤيتي ساهرة لهذا الوقت أمام التلفاز !

" متى ستنامين ؟؟ "

" متى ما شعرت بالنعاس ! "

و تركتني هي و أوت إلى فراشها ... ففكرت في إهدائها الهدية غدا ...

الساعة الثانية عشر و النصف ، رأيت جاء وليد يقدم إلى غرفة المعيشة ...

كان شعره مبللا ... لابد أنه كان يستحم !

قال :

" ألم تنامي بعد ؟؟ "

قلت :

" لا أشعر بالنعاس ... أصابني الأرق و الإجهاد ! "

لم يكترث لي ، بل ذهب إلى المطبخ ، ثم عاد و مر بي قبل ذهابه للنوم ... قال :

" تصبحين على خير "

و أولاني ظهره ...

سيطر علي الغضب من إهماله لي ! قبل أن ينصرف ناديته بسرعة :

" وليد "

استدار إلي و لم يتكلم بل انتظر سماع ما سأقوله ...

أنا فقدت شجاعتي التي كنت أتوهم امتلاكي لها ... و وقفت بخجل و ارتباك و أنا اخفي العلبة خلف ظهري !

وليد راقبني بحيرة و ضجر !

اقتربت منه شيئا فشيئا و أنا مطأطئة الرأس خجلا و بالتأكيد وجنتاي متوهجتان احمرارا !

رفعت بصري بحياء و قلت :

" كل عام و أنت َ بخير "

ثم أظهرت الهدية و قدّمتها إليه :

" هذه ِ لك "

لقد كانت يداي ترتجفان و أنا أقدمها نحوه ، و بالتأكيد لحظ هو ذلك ...

نظراتنا الآن متشابكة ... كنت أبحث عن أي كلمة شكر أو إشارة سرور ...
و أخيرا ابتسم وليد ابتسامة جميلة مذهلة و قال بارتباك ...

" و ... أنت ِ بخير ! ... أأ ... شكرا ! "

وليد مدّ يده و أمسك بالهدية ...

قال :

" هل أفتحها ؟؟ "

غضضت ُ بصري حياء ً و قلت :

" كما تشاء "

و هم هو بفتحها ، بينما قلبي أنا يخفق بشدة !

لكن الصوت الذي سمعته ليس صوت انفتاح العلبة ، بل صوت انفتاح باب ...

رفعت نظري إليه و حدقنا ببعضنا برهة ، و نحن نسمع صوت باب المدخل ينفتح ...

شعرت بذعر ...

قلت :

" ما هذا ؟؟ "

وليد سار ببطء و حذر ذاهبا ناحية الباب و تبعته أنا بخوف ...

قال وليد قبل أن يصل إلى المدخل :

" من هناك ؟؟ "

أنا أردت أن أمسك بيد وليد من الذعر ... ربما يكون أحد اللصوص ...

وليد أشار إلي أن ألزم مكاني ، و تقدم هو نحو المدخل ...

أوشك قلبي على الوقوع أرضا ...

و للمفاجأة المذهلة رأينا سامر يظهر أمامنا !

وقفنا متسمرين في مكانينا في ذهول !

قال وليد :

" سامر !! "

سامر نظر إلينا بدهشة هو الآخر ، و قال :

" آه ! أنتم مستيقظون ؟ "

قال وليد :

" هل هناك شيء ؟؟ "

قال سامر :

" أردت ُ أن أفاجئكم بظهوري غدا ! لكن أُفسِدت ْ المفاجأة ! "

الآن سامر نظر إلي و ابتسم ، و قال :

" لم أشأ أن يمر العيد و أنا بعيد جئت أشارككم ! "

و أقبل نحوي ، و أمسك بيدي و قال :

" عروسي ... كل عام و أنت ِ بخير ! "



]]]يتبع]]]
__________________

 
 

 

عرض البوم صور adila.a  
قديم 06-06-06, 12:59 AM   المشاركة رقم: 48
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2006
العضوية: 4594
المشاركات: 129
الجنس أنثى
معدل التقييم: adila.a عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 11

االدولة
البلدUnited_States
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
adila.a غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : النغمه الحزينه المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

الحلقة الثانية والعشرون



********


~ خلّصوني منه ~




لم تمر ليلتي بسلام ...

و رغم أنني نمت متأخرة على غير العادة إلا أنني نهضت باكرا ...

لم يكن أحدهم قد نهض آنذاك ، و بعد قليل نهضت دانة و ذهبنا للمطبخ لإعداد كعكة العيد !

دانة كانت مفعمة بالحيوية و النشاط أما أنا فكنت في غاية الكسل و الملل و الكآبة أيضا ...

بعد مدة اجتمعنا نحن الأربعة حول مائدة الفطور ... و تناولنا حصصنا من الكعكة ...

سامر كان متحمسا جدا و منفعلا ، و يتحدث عن النزهات التي ينوي القيام بها هذا اليوم ...

قالت دانة :

" أنا لن أشارككم فأنا سأخرج مع خطيبي ! "

قال وليد :

" و أنا سأخرج الآن "

و نهض مباشرة ...

سامر قال :

" إلى أين ؟؟ "

" سأتجول في المنطقة "


و سرعان ما غادر

قال سامر :

" ما به ؟ لا يبدو طبيعيا ! "

قلت :

" إنه يريد الرحيل "

قال :

" لن يغادر قبل زفافنا على أية حال ! "

ثم ابتسم ابتسامته التي تزعجني و هو يقول :

" بعد أيام فقط ... "



أهداني سامر زوجا من الأقراط الذهبية ، أما أنا فأهديته إحدى لوحاتي !

لم تكن لدي فكرة عن شيء جديد أهديه إليه !

قضينا نهار العيد ، أنا و سامر نتجول من مكان لآخر ...

و عند العصر ، و نحن في الطريق إلى البيت قال سامر :

" حصلت على هذا اليوم بصعوبة ، لا زال أمامي مشوار العودة الطويل "

قلت :

" أنت تكلف نفسك مشقة ! ما كان يجدر بك الحضور ! "

سامر التفت إلي باستغراب و قال :

" لا أحضر ؟؟ في يوم مميز كهذا ؟؟ "

قلت :

" أقصد .. مشقة السفر ... حضورا و ذهابا ... "

قال :

" لأجلك أنت ِ "


صمت ، و أخذت أراقب الأشياء المتحركة من حولي من خلال النافذة ...

بعد قليل ، قال سامر :

" لم كنت ساهرة لذلك الوقت المتأخر ... البارحة ؟؟ "


التفت نحوه بتعجب !

قلت :

" لم أشعر بالنعاس قبلها ... "

و أضفت :

" كما و أن ... وليد كان قد عاد قبل ذلك بقليل من الخارج ، و لم أشعر بارتياح للنوم و هو خارج المنزل "


قال :

" هل ... يسهر بعيدا كل ليلة ؟؟ "

" لا ! أبدا ... فقط البارحة ، ربما حضر أحد احتفالات العيد ! "

عندما عندنا للمنزل كنا أول الواصلين

تجازوت الساعة السادسة و لم يعد لا وليد و لا دانة ... سامر بدأ يلقي بنظرة بين حين و آخر عليها في اضطراب ...

" تأخرا ! يجب أن أغادر الآن فأمامي مشوار طويل "

و المشوار بين المدينتين يستغرق ساعات يقضيها سامر في قيادة السيارة

لابد أنه متعب الآن ! فقد قضينا ساعات أيضا في السيارة ...

قام سامر و اتصل بوليد ، و يبدو أن هذا الأخير أخبره بأنه لن يعود قريبا

لذا أتى سامر و قال :

" أ آخذك إلى بيت خالتك ؟؟ "

لم أحبذ الفكرة و مع ذلك اتصلت بهم ، و لم أجد أحدا ... لابد أنهم ذهبوا أيضا للتمتع بيوم العيد ...

قلت :

" أين هو وليد ؟؟ "

" يقول أنه في مكان بعيد ، و قد يتأخر في الحضور ... "

و تنهد سامر باستياء !

إنها المرة الأولى التي يكون فيها معي و يرغب في الذهاب !

قبيل الثامنة ، خرجنا مجددا و اشترينا عشاء خفيفا من مطعم قريب و عندنا للمنزل

و أيضا لم نجد أحدا هناك ...

عاود سامر الاتصال بوليد بعد العشاء ...

" إن علي ّ الذهاب الآن ... فمتى ستعود ؟؟ "



و من خلال تعابير سامر المستاءة استنتجت رد وليد !

قال سامر :

" و الآن هل لا حضرت ؟؟ "

بعد أقل من ساعة من المكالمة وصل وليد ...

بادره سامر بالعتاب :

" تأخرت يا وليد كثيرا .. متى سأصل إلى شقتي ؟؟ "

قال :

" شاركت الآخرين مهرجانات العيد ... لا أحد يبقى في المنزل في يوم كهذا "


فهمت أنه يقصد أن وجودي يعيقه عن الترفيه عن نفسه في يوم مميز ...

التزمت الصمت ... قال سامر :

" سأذهب الآن ... "

و صافحني ، ثم صافح وليد و قال :

" تصبحان على خير "



بقيت مع وليد ... وحيدين في المنزل ...

حينما رأيت الضجر باد عليه قلت :

" إن كنت تود الذهاب لمتابعة سهرتك في مكان ما ... فخذني إلى بيت إحدى صديقاتي ثم اذهب "


و ببساطة تجاهلني !

قلت بغضب :

" وليد أنا أتحدث معك ! "

الفت إلي و قال :

" أسمعك ، لكنني لست أبلها لأفعل ذلك "

صمت قليلا ، ثم قلت :

" أنا آسفة ... للتسبب بإزعاجك طوال هذه المدة ... بقيت بضع أيام "

لم يرد ...

قلت :

" أنا أستطيع المكوث في بيت خالتي ، لكن المشكلة مع دانة ... و إلا لكنا وفرنا عليك عناء البقاء معنا "


رماني وليد بنظرة مخيفة أخرست لساني !

لم أشأ أن أتركه وحيدا و أنعزل في غرفتي ... أحضرت كراستي و عدّة الرسم إلى غرفة المعيشة ، حيث يجلس هو ، و بدأت أرسم !

وليد كان يتصفح قنوات التلفاز و لا يجد فيها من يجذبه للمتابعة

لكنه مهووس على ما يبدو بالأخبار ...

بعد قليل ، أوقف وليد التلفاز و أخذ الهاتف ، و طلب أحد الأرقام ...

أنا لم أكن أرسم بقدر ما كنت أراقب تحركاته ...

و هاهو يتحدّث إلى الطرف الآخر :

" مرحبا ، أنا وليد شاكر "

( .................. )

" أهلا بك آنسة أروى ، كل عام و أنتم بخير ، كيف هي أموركم ؟؟ "


تركت ُ القلم من يدي و أصغيت ُ باهتمام ...


" ماذا ؟؟ متى حدث ذلك ؟؟ "

( .................... )

" أوه ... أنا آسف ... و كيف حالتها الآن ؟؟ أهي أفضل ؟؟ "

( .................... )

" لا تقلقي ، بلغيها و العم سلامي ... و أخبريهما بأنني سأعود في أقرب فرصة إن شاء الله "

( .................. )

" شكرا لك ِ ، وافوني بأخباركم أولا بأول ، تصبحين على خير "



و أنهى المكالمة ...

و عاد و شغّل التلفاز ، إلا أنه كان شاردا ...

من تكون أروى هذه ؟؟

تركت ُ اللوحة جانبا ، و قلت ُ بعد تردد قصير ضعيف غلبه الفضول الشديد :

" وليد "

" نعم ؟؟ "

" من كنت تحدّث ؟؟ "

بدا عليه الاستغراب ، ثم قال :

" لم السؤال ؟؟ "

" لاحظت ... استياءك من خبر وصلك من الطرف الآخر ... خيرا ؟؟ "

قال :

" زوجة صديقي رحمه الله تعرضت لنوبة قلبية و ترقد في المستشفى "

صمت ّ قليلا ثم سألته :

" و هي من كنت تتحدّث معها ؟؟ "

" كلا . هذه ابنتها "


ابنة صديقه ؟ إذن لابد أنها مجرد طفلة !
بعد قليل أوقف وليد التلفاز و نهض هاما بالمغادرة

قلت :

" إلى أين ؟؟ "

التفت إلي بانزعاج و قال :

" سأذهب للنوم ، إلا إذا كنت ِ تريدين من حارسك البقاء ساهرا لحين نومك ؟ "

لم أجب ، فأنا لم أجد الكلمات المناسبة ... و هو لا يدرك كم هي جارحة كلماته و قاسية معاملته ...

ليته يعرف !

استدار ليخرج فعدت ُ أناديه :

" وليد "

تنهّد و هو يلتفت نحوي قائلا :

" ماذا الآن ؟؟ "

تقدمت نحوه قليلا ، و فتشت في وجهه عن أي ملامح تشجعني على سؤالي ، لكنني لم أجد ... فبقيت صامتة ...

" نعم ؟؟ ماذا لديك ؟؟ "

توترت ، لكني بعدها جمعت غبار شجاعتي و قلت :

" هل أعجبَتـْـك ؟؟ "

" ما هي ؟؟ "

" الهدية ! "

وليد بعثر نظره هنا و هناك ، ثم قال :

" لا أذكر أين تركتها ... آسف ! "



هنا عند هذه اللحظة تمزّقت أوهامي ...
فإن كان قد أضاع هدية أعطيتها له مساء الأمس ...قبل أن يفتحها ... فكيف بماض ولى منذ تسع سنين ؟؟

و إدراكي لحقيقة أن وليد لم يعد وليد ... قتل كل رغبة في الحياة و السعادة لدي ...

الأيام التالية قضيتها حبيسة الغرفة في أنهار من الدموع ... حتى أن دانة و التي عادة ما تتهمني بأنني أتدلل بدموعي هذه بدأت تقلق بشأني و صارت تحضر لي الطعام إلى غرفتي ...

زارتني نهلة ، و خالتي ... الجميع يحاول التحدث ليعرف سبب حزني إلا أنني لم أكن أدع الفرصة لهم ...

و عندما تتصل أمي أكتفي بكلمات بسيطة معها أو مع أبي ، و أعود إلى غرفتي ...

أما سامر ، فقد كنت أتحاشى الحديث معه قدر الإمكان ...

في إحدى الليالي ، جاءتني دانة و قالت بمرح ـ محاولة بث البهجة في قلبي ـ

" رغد ! أنت مدعوّة على العشاء معي و مع وليد في أرقى مطاعم المدينة ! هيا بسرعة وليد ينتظرنا "

هي نظرة عابرة ألقيتها على دانة ثم أشحت بوجهي عنها و قلت :

" لن أذهب "

" ماذا رغد ! هيا لا تدعي الفرصة تفوتنا ! "

" لا أريد دانة رجاء ً دعيني وحدي "

دانة اقتربت مني ... و قد غطت وجهها تعبيرات القلق و قالت :

" هيا رغد ! "

هززت رأسي اعتراضا ، فقالت :

" إذن سنذهب و نتركك وحدك ! "

كانت تعرف أن نقطة ضعفي هي الوحدة ... و أتت تستخدمها كسلاح لجبري على الذهاب معهما ...

حدقت بها لبرهة ثم قلت :

" افعلا ما تشاءان "

رفعت حاجبيها دهشة و قالت :

" رغد ! معقول ! هل تخلّصت من الخوف ! "

قلت بعصبية :

" اذهبا و اتركاني وحدي ... دعيني وحدي يا دانة ... دعيني وحدي ... "

و انخرطت في بكاء مرير ...


دانة خرجت ... و بعد قليل عادت مع وليد ...




~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~






أحوال صغيرتي كانت غريبة ، و أصبحت مقلقة آخر الأيام ...

في الواقع هي كانت مستاءة جدا منذ أن قدمت ، إلا أن استياءها ازداد مؤخرا ...

كانت تحبس نفسها في الغرفة ، و لا تشاركنا لا الطعام و لا الكلام .

قررت أن نخرج معها لتناول العشاء في أحد المطاعم و من ثم التنزه فعلّ ذلك ينعشها ... إلا أن دانة أخبرتني بأنها رفضت القدوم معنا و قالت لها
( اذهبا و دعوني وحدي )

في السابق كانت دانة تترجم تصرفات رغد على أنها تدلل ، فهي متدللة جدا ... إلا أنها الآن قالت :

" أنا قلقة يا وليد ... هناك شيء تخفيه عنا ... لا أعرف ما الذي يحزنها هكذا "

كنت خلال الفترة الأخيرة أتحاشى اللقاء بها ، فلا قلبي و لا معدتي بقادرين على تحمل المزيد ... إلا أنني هذه اللحظة لم أتمالك نفسي و ذهبت مع دانة إلى رغد ...

الأخيرة كانت في غرفتها تبكي بغزارة تفطر قلب الحجر ... فكيف بقلبي أنا ؟؟
حاولت التحدث معها إلا أنها لم تستجب لي ، و قالت بعصبية :

" اخرجا و دعاني و شأني "

بقيت أيام على موعد عودة والدي ّ من رحلة الحج ... ربما يعود كل شيء على ما كان بعد عودتهما ...

و لكن إلى ذلك الحين يجب أن أفعل شيئا !

صبرت ساعة أو ما شابه ، ثم عدت إليها بمفردي ... و للأسى وجدتها لا تزال تبكي ...

" رغد ... انهضي ... دعينا نذهب لأي مكان تحبين ! "

ما وصلني منها أي جواب ...

كانت تجلس على السرير و تضع الوسادة في حضنها ...

" رغد ... ما بك ؟؟ أخبريني ؟؟ "

" لا شيء "

" إذن لم تبكين ؟ "

" لا لسبب "

" أرجوك ... أبلغيني بما يزعجك ؟؟ "

" قلت لا شيء "

" ربما أنا ؟؟ "

حين قلت ذلك نظرت إلي رغد نظرة غريبة مليئة بالمعاني ...

" إن ... كنتِ منزعجة بسببي ... فأنا آسف ... ما هي إلا أيام معدودة و يعود والداي و سامر ... "

عندها أغمضت رغد عينيها و ارتفع صوت بكائها المرير ...

كيف لي أن أحتمل رؤيتها هكذا ؟؟

بصعوبة بالغة منعت ُ يدي من التربيت على كتفيها ... و لكنني لم أستطع منع نفسي من قول :

" صغيرتي الغالية كفى أرجوك ... لا أحتمل دموعك "

رغد قالت :

" أخرج "

و كررت الكلمة مرتين ، فغادرت الغرفة و أنا في قعر التعاسة و الكآبة ...

عند الفجر كنت في طريقي للخروج من المنزل قاصدا المسجد ...

فيما أنا أمر من غرفة المعيشة سمعت صوتا يصدر من هناك ...

سرت بحذر حتى دخلت الغرفة ، و أذهلتني رؤية رغد تبكي و تنحب هناك

" رغد ! "

التفتت إلي رغد بذعر إذ يبدو أنها لم تنتبه لقدومي ... ثم نهضت واقفة بارتباك ...

تقدمت منها ، و قلت :

" بالله عليك أخبريني ... ما بك ؟؟ "

رغد أرادت الخروج لكنني وقفت سادا فتحة الباب مانعا إياها من الخروج

" أخبريني ما بك أولا "

" دعني و شأني "

" لن أدعك حتى تخبريني "

" و لم َ تود أن تعرف ؟؟ ماذا يهمك أنت ؟؟ "

" يهمني كل شيء يتعلق بك ... كل شيء "

" كذّاب "


انقبضت عضلاتي استياء ً ... و استدرت للمغادرة ...

خطوت خطوتين ، و توقعت أن تخرج رغد من بعدي ، إلا أنها لم تخرج ...

عدت إلى الغرفة فرأيتها جاثية على الأرض باستسلام تام للدموع ...

نفس الجلسة التي كانت تجلسها و هي طفلة ، حين يعتصرها الألم ...


دنوت ُ منها حتى صرت ازاءها مباشرة ، و انحنيت و قلت بصوت أجش :

" أرجوك يا رغد .. أرجوك توقفي عن هذا و أخبريني بما يزعجك ، و أيا كان ... أنا سأزيحه عنك نهائيا "

رغد رفعت نظرها ... كأنها تطلب التأكيد ...

قلت :

" أي شيء يضايقك و يحزنك لهذا الحد ... أبلغيني و أنا أبعده عنك .. "

" صحيح ؟؟ "

" نعم يا رغد ، لا تظني أنني فقط أكذب و أدعي ... لا تعرفين كم هي غالية دموعك عندي ... "

" مهما كانت غالية ... هناك ما هو أغلى ... و هناك ما لا يمكن فعله أبدا"

" أخبريني أنت فقط ، و سترين "

رغد هزت رأسها نفيا ... و قالت :

" لا لن تفعل ! لن تستطيع شيئا ! "

" أخبريني ماذا تريدين ؟؟ "

" أريد أمي "

قلت بتعجب :

" تريدين أمي !؟؟ "

هزت رغد رأسها اعتراضا و قالت في صيحة قاتلة :

" أريد أمي أنا ... لا أمك أنت ... أنا أريد أمي ... فهي من يستطيع مساعدتي ... لو بقيت حية ... لا أحد منكم يستطيع ... هل يمكنك إحضارها إلي ؟؟ "


فوجئت بقولها هذا و شعرت بشرايين قلبي تتفجر بعنف ...

أيعقل أنها لا تزل تفكر في أمها ـ التي لم تعرفها يوما ـ حتى الآن ؟؟

أتقصّر أمي في شيء للحد الذي يجعل رغد تبحث عن المساعدة من أمها الراحلة منذ 15 عاما ؟؟

بعدما انتهت من نوبة بكائها قالت بتحد ٍ :

" هل تستطيع إحضار أمي إلي ؟؟ "

وجدت نفسي أقول :

" اعتبريني أنا أمك ... "

ثم أضفت :

" ألم أكن كذلك ذات يوم ؟؟ "

نظرت إلي رغد بيأس ...

قلت :

" لطالما كنت ِ تعتمدين علي و تثقين بي ... "

و لما لم أجد منها تفاعلا ... نهضت و أنا أقول :

" سأذهب لتأدية الصلاة "



عدت ُ من الخارج بعد قليل ، و لم أجدها ... ذهبت إلى غرفة سامر و اضطجعت على سريره و أخذتني دوامة الأفكار إلى عالم من المتاهات و الدهاليز ...

تذكرت ... يوما كنت فيه في غرفتي بمنزلنا القديم ، و سمعت طرقا خفيفا على الباب ... و حين فتحته ، وجدت رغد تبكي بألم ... مليئة بالخدوش و الكدمات ...

أعتقد أنني تعلقت بها ابتداء ً من ذلك اليوم ... و لا أعلم انتهاء ً بأي يوم ؟؟

فجأة ... سمعت ُ طرقات خفيفة بالكاد التقطتها أذناي ، ما يدل على تردد اليد الطارقة ...

قمت و فتحت الباب ... و وجدت رغد تقف عنده ...

كانت عيناها شديدتي التورم و الاحمرار ، و وجهها شديد الحزن و الكآبة ...

قلت :

" صغيرتي ... "

ما أن نطقت بذلك حتى قفزت الدموع من عينيها ... حاولت ُ تهدئتها ... فمسحت ْ الدموع و لملمت ْ شيئا من شتات قوتها و همت بالكلام ... لكن التردد كان مسيطرا عليها ...

قلت مشجعا :

" نعم صغيرتي ... قولي ما تودين ؟ "

ازدردت ريقها و سحبت عدة أنفاس ... ثم نظرت إلي نظرة مريرة ...

تراجعت ، و خطت خطوة للوراء لكنني استوقفتها :

" هيا رغد ... أنا أسمعك "

" لن تستطيع مساعدتي "

" بلى سأفعل ... قولي ماذا يحزنك ؟؟ "

هنا انفجرت بالبكاء و غطت وجهها بيديها و قالت بصوت متقطع :

"أنا ... أنا ... لا أريد أن ... أتزوج سامر "




لقد كان ذلك هو آخر شيء أتوقعه على الإطلاق ... الذهول الذي أصابني و هول المفاجأة لم يدعا لي فرصة للتفكير ... أو حتى استيعاب الموقف
إلا أن الألم و المرارة التي رأيتها في عيني رغد وهي تستنجد ... و تبحث بيأس عن شخص ينقذها رغم كل اعتبار ... و القنوط الذي دفعها للتفكير في أمها المتوفاة منذ إن كانت هي طفلة صغيرة ... و شعوري بالمسؤولية عليها ... كلها أمور امتزجت مع بعضها البعض و دفعتني في النهاية لقول :

" اطمئني ، لن يكون لك إلا ما تريدين "




الآن ، دخلتُ مرحلة جديدة ... و بدأت الحلقة الأولى من سلسلة المصاعب التي واجهتها فيما بعد ...

حين سألتها ساعتها :

" تقصدين ... تأجيل الزفاف ؟؟ "

قالت و هي تنفي :

" لا أريده ... أنا لا أريده "

و عندما سألتني قبل انصرافها :

" أحقا ؟ تستطيع فعل شيء لأجلي ؟ "

أجبتها :

" أي شيء ... مهما كان .. ثقي بي "




فأي شيء أغلى و أهم عندي من راحة و سعادة رغد ؟؟

في النهار التالي بدت هي أكثر راحة و ابتهاجا ، و خرجت من عزلتها و بدأت تعود للحياة ...

شاركتنا الوجبات و الجلسات ، و النزهات ... و بدت لحد ما راضية ...

حتى أن دانة قالت لي تعليقا على تقلب أحوال رغد :

" أ رأيت ! قلت لك ! سبحان مقلّب الأحوال ! "


في يوم الأربعاء التالي ، يوم حضور سامر للزيارة ، بدت في غاية التوتر و القلق ...

طلبت منها أن تذهب إلى بيت خالتها ، كما صرفت ُ دانة مع خطيبها بشكل ما ، و بقيت وحدي في البيت أنتظر ...

عندما حضر سامر استقبلته استقبالا طبيعيا ، و حين سأل عن الاثنتين أبلغته عن أمرهما ...

تركت له فرصة ليرتاح من عناء السفر ... و بعدها أخبرته بأن هناك ما يجب أن يعرفه ...

التوتر تملكه بطبيعة الحال ... أما أنا فتظاهرت بالبرود بينما النيران تأكل أحشائي ...

أخي لم يكن يتحدث عن شيء غير الزواج المرتقب ... إنني أدرك كم هو مولع برغد و يحبها بشغف ... و أدرك معنى أن يجد المرء نفسه فجأة محروما ممن يحب و يتمنى ...
كيف لي ألا أدرك هذا و أنا صاحب التجربة المرة القاسية ... ؟


لكن ... بالنسبة لي أنا ... فلا شيء يهم بعد رغد ... و كل شيء يهون من أجل رغد ...

و إن كنت ُ ارتكبت ُ جريمة من أجلها ... فهل سيصعب علي تحطيم قلب أخي في سبيل راحتها ؟؟


" خيرا يا وليد ؟؟ "

خير !؟ أتظنه خيرا يا سامر ! سامحني يا أخي فأنا ... أنا كنت ُ و لا زلت ُ مجرما ...

قلت بدون مقدمات :

" إنه بشأن زواجك "

" ماذا بشأن زواجي ؟؟ "

نظرت إليه بجدية و قلت بصوت قوي و ثابت :

" يجب تأجيله "

نظر إلي ببلاهة و عدم استيعاب :

" تأجيله ؟؟ "

" أنا جاد يا سامر . ركّز معي . زواجك سيتأجل إلى أجل غير مسمى "

" وليد ... هل لك أن تتحدّث بوضوح أكثر ؟؟ "

" بوضوح أكثر يا أخي ... العروس لا ترغب في الزواج الآن و إلى أن تحدد هي الوقت الملائم سيتم تأجيل كل شيء "



كانت هذه الجرعة الأولى التي لم استطع سقيه أكثر منها ...

سامر هاج و ماج و غضب و ثار و تخبط بجمل متعارضة متناقضة ... ثم قرر الذهاب لإحضارها من بيت خالتها

قلت له :

" ليس الآن ... سأحضرها أنا بعد قليل "

حدثت بيننا مشادة قال فيها سامر :

" أريد التحدّث معها مباشرة :

قلت :

" أنا أتحدّث نيابة عنها "

قال :

" بل سأتحدّث إليها هي ، فهي صاحبة الشأن "

قلت :

" و أنا المسؤول عنها الآن "

قال بعصبية :

" مسؤول عنها في حال غيابي لكنني موجود و أنا زوجها ... فلماذا تخبرك أنت و لم تخبرني ؟؟ "

قلت :

" كيف ستخبرك بشيء كهذا !؟ إنها مرعوبة من الفكرة فهي تدرك أن الأوان قد فات للتراجع ... و الزفاف بعد أيام ... "

" و ما الذي جعلها تغير رأيها هكذا فجأة ؟؟؟ إننا كنا معا يوم العيد و لم تأت بذكر شيء عن هذا مطلقا "

" بل كان الموضوع يشغلها منذ فترة ... و أنتم من ضغط عليها ... لكن الفتاة بحالة سيئة تزداد يوما بعد يوم بسبب اقتراب الموعد ... ألم تلاحظ ذلك ؟؟

قال سامر :

" تبا "

و سار بانفعال نحو المخل يريد الذهاب لإحضارها ...

" انتظر يا سامر "


لم يكن يصغي إلي ، و لكنه و بمجرد أن فتح الباب وقف متسمرا في مكانه ...

و ظل ممسكا بالباب المفتوح و ينظر إلى الخارج ...

ثوان ٍ و إذا بي أرى رغد تدخل المنزل ، يتبعها ابن خالتها حسام !

أول ما نظرت ، نظرت إلي ... تود استنباط مكنون ما حصل ... ثم نظرت إلى سامر و من التعبيرات الكاسية لوجهه المكفهر أدركت أنني تحدّثت معه ...

حسام كان أول من تحدّث إذ ألقى التحية ... فرددناها ، و دعوته للدخول ...

قال :

" أوصلت ُ ابنة خالتي و أردت ُ أن القي التحية ... "

رحبت به ، و دعوته للدخول إلى غرفة الضيافة ، و حدّثت رغد قائلا :

" اذهبي إلى غرفتك "


سامر قال :

" انتظري رغد "

فقلت مقاطعا :

" فيما بعد ، رغد اذهبي إلى غرفتك "

دخلت مع الضيف إلى غرفة الضيوف .

قال حسام ، و هو يلحظ شحنات غريبة في الجو :

" أهناك شيء ؟؟ "

قلت :

" كلا ! "

ثم فتحت موضوعا للحديث ...

بالي كان مشغولا هناك مع رغد ... دقائق و استأذنت الضيف و ذهبت أبحث عنها ...

وجدتها و سامر في الردهة ، و هي مطأطئة الرأس و تبكي ، فيما سامر يتحدث بعصبية ، بل بصراخ ...

قلت :

" كفى سامر ، لنؤجل ذلك قليلا "

" لا تتدخل أنت ! دعنا نناقش أمرنا وحدنا "

نظرت إلى رغد فرأيت الاستنجاد و الخوف يملأان عينيها ...

سامر كان منفعلا جدا ... قال :

" و الآن يا رغد أخبريني ما الذي جعلك تغيرين رأيك بعدما رتبنا كل شيء ؟؟ هل أنا أجبرتك على هذا ؟؟ ألم أترك تحديد الموعد لك ؟؟ ألستِ من قرر الزواج مع دانة في النهاية ؟؟ "

رغد لم تتكلم ، بل انحنت برأسها على ذراعها و استرسلت في البكاء ...

سامر قال :

" سيتم كل شيء كما خططنا له تماما "

رفعت رغد رأسها و تنقلت ببصرها بيننا و حاولت النطق :

" لكن ... "


قاطعها سامر صارخا :

" كما خططنا يا رغد ... فلا مجال للتراجع الآن "

قلت ُ بعصبية و غضب :

" سامر كفى ... كيف تجرؤ على الصراخ عليها ؟؟ "

زمجر سامر بغيظ :

" وليد لو سمحت لا تتدخل أنت "

قلت :

" بل سأتدخّل ... لا أسمح لأحد بمخاطبة رغد بهذا الشكل "

قال :

" و من ينتظر الإذن منك ؟ من تظن نفسك ؟ انسحب رجاء ً "

لكني بقيت واقفا في مكاني ...

سامر تقدم من رغد و أمسك بذراعها يحثها على السير قاصدا الذهاب إلى غرفتها ...

رغد حاولت التملص ، إلا أن سامر أطبق عليها بقوة قائلا :

" تعالي إلى الداخل "

قلت بانفعال :

" أتركها يا سامر "

نظر إلي بانزعاج و سار معها خطوتين نحو الغرفة ...

قلت :

" اتركها يا سامر قبل أن أفقد أعصابي "

زمجر بصوت عال :

"قلت ُ انصرف أنت "


و في هذه اللحظة ... فقدت بالفعل السيطرة على أعصابي ، و التي كنت كابحا إياها منذ زمن ...

اندفعت نحو سامر بلا تفكير و أمسكت بذراعه و سحبته بعنف حتى تحررت رغد من قبضة يده ، و قلت :

" قلت دعها و شأنها أيها الجبان "

و سددت إلى بطنه لكمة قوية من قبضي جعلته يترنح ... و يهوي ... و يتلوى ...

انقضضت عليه و هو على الأرض و أمسكت ُ بكتفيه و جعلت أهزهما بعنف و عصبية و أقول :

" حين تقول أنها لا تريد الزواج الآن فهذا يعني أنها لن تتزوج الآن ... أفهمت ؟؟ ... "


نهضت ، و قلت لرغد :

" اذهبي إلى غرفتك "


رغد نظرت إلى سامر ... فقلت لها :

" هيا ... "


في نفس اللحظة ، حضر حسام و الذي على ما يبدو أنه سمع شجارنا فأقبل متعجبا ...

" ماذا يحدث ؟؟ "

رغد حين رأت حسام أقبلت نحوه و هو تقول :

" أعدني إلى خالتي ... "

نهض سامر ... و نادى :

" رغد "

رغد و هي مذعورة و تبكي قالت لحسام :

" أعدني إلى خالتي ... لا أريد العيش هنا "

سامر الآن يسير نحو رغد ، و حسام ينظر إليها و يسأل :

" ماذا حدث رغد ؟؟ "

سامر قال بحدة :

" الأمر لا يعنيك يا هذا "

حسام قال بانفعال :

" إذن فهي حقيقة ... أنتم من تجبرونها على هذا الزواج ... "

سامر وقف مصعوقا يحدق برغد ... و أنا مصعوق أحدّق بحسام ...

قال حسام موجها الحديث إلى رغد :

" أليس كذلك ؟؟ "



رغد قالت بانهيار :

" دعوني و شأني ... دعوني و شأني ... "

و ركضت نحو غرفتها و أغلقت الباب ...

سامر همّ باللحاق بها إلا أنني اعترضته و قلت :

" دعها وحدها ... لا تضطرني لفقد أعصابي من جديد "


سامر حينها غير اتجاهه و دخل غرفته و صفع الباب بقوة

بقينا أنا و حسام ...

قال :

" ماذا حصل ؟؟ "

لم أجبه ... لذا قال :

" أنا استأذن ... "

و هم بالمغادرة ...

استوقفته و سألته :

" حسام ... لم استنتجت أن هناك من يجبر رغد على الزواج ؟؟ "

قال :

" أنا لم أستنتج ، أنا أعرف ذلك "

دهشت لقوله ، فسألته :

" و من أخبرك ؟؟ "

تردد قليلا ، ثم قال :

" شقيقتي "

بعدما غادر ، صبرت قليلا ثم ذهبت إلى رغد ...

كانت غارقة في الدموع ... قالت :

" أ رأيت ؟؟ لقد قضي الأمر ... لن تستطيع شيئا "

قلت :

" لماذا لم تخبريني بذلك قبل الآن ؟؟ "

رغد نظرت إلي بألم و قالت :

" ما الفرق ؟؟ النتيجة واحدة ... إنه نصيبي "

قلت بإصرار :

" لا أحد سيستطيع إرغامك على ما لا تريدين ... و أنا على قيد الحياة ...
و بمجرد أن يعود والداي ... هذا الزواج سيلغى تماما "





]]]يتبع]]]
__________________

 
 

 

عرض البوم صور adila.a  
قديم 06-06-06, 01:00 AM   المشاركة رقم: 49
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2006
العضوية: 4594
المشاركات: 129
الجنس أنثى
معدل التقييم: adila.a عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 11

االدولة
البلدUnited_States
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
adila.a غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : النغمه الحزينه المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

الحلقة الثالثة و العشرون



********

~ لأحطمنك ~





خرجت لإحضار بعض متطلبات المنزل في صباح اليوم التالي ، و قضاء بعض الحوائج .

نمت الليلة الماضية على مقعد في الردهة ... بعدما أعياني التفكير المتواصل .

عندما عادت دانة و أرادت الذهاب إلى سامر لتحييه منعتها ، و بنبرة حادة طلبت منها أن تلزم غرفتها حتى الصباح ...

لم أكن أريد لشجار أن ينشب تلك الليلة ، أردت ُ فرصة يتمكن فيها الجميع من ترتيب أفكارهم و استيعاب حقائق الأمور .

حين عدت ُ إلى المنزل وجدت أختي دانة جالسة في المطبخ في وضع يقلق ...

قلت :

" خيرا ؟ هل حصل شيء ؟؟ "

قالت :

" رغد المجنونة ! قررت تأجيل زفافها ! لا يفصلنا عن ليلة الزفاف غير ليال معدودة "

صمت ، و لم أعقّب .

قالت :

" ألن نفعل شيئا ؟؟ "

قلت :

" دعيها هي تفعل ما تريد "

تعجبت و استاءت في آن واحد ، و قالت :

" تعني أن الأمر لا يزعجك ؟؟ "

" ليس للحد الذي تتوقعين ... لا أريد أن يضطرها أحد لفعل مالا تريد "

" لكن الزفاف بعد أيام ! سامر مستاء جدا ... إنه مشتعل كالبركان "

شعرت بالضيق ، قلت :

" هل تحدّثت ِ معه ؟ "

" لم أكد ، تحدّثت ُ مع رغد ، ثم جاء و طلب منّي تركهما بمفردهما ... "

انزعجت من الفكرة ، قلت :

" أين ؟ "

" في غرفتها "



تركت الأكياس التي كنت أحملها تنساب من يدي و ذهبت إلى هناك .

عندما اقتربت من الباب ، سمعت صوت أخي .

كان يتحدّث بعصبية ... أصغيت فإذا بي أسمع رغد تتحدث باكية .

لم أحتمل ، طرقت الباب و قلت بحدة :

" سامر "

ثوان ٍ و إذا بالباب ينفتح و يخرج أخي .

كان مكفهر الوجه مقطب الحاجبين متورم الأوردة .

" نعم ؟ "

نظرت إلى ما ورائه فرأيت رغد ، و وجهها الكئيب المبلل بالدموع .

قلت :

" أرغب في التحدث معك "

" فيما بعد يا وليد "

ألقيت نظرة أخرى على رغد فطأطأت الأخيرة برأسها بأسى و استسلام . قلت :

" الآن يا سامر "

قال بعصبية :

" ألا ترى أنني مشغول بالنقاش مع خطيبتي ؟ "

و مجرد نسبها إليه يحرّض شياطين رأسي على الشر و القتال .

قلت ُ و الدماء تصعد إلى وجهي و النار تشتعل شيئا فشيئا :

" حسنا ، لكن ... بهدوء ... لا أريد لأي دمعة أن تراق "




و انصرفت .

بقيت ُ جالسا على مقربة ... أضرب أخماسا بأسداس ... و أشد قبضتي و أرخيهما بين فينة و أخرى .

بعد قرابة الساعة ، سمعت ُ الباب يفتح فنهضت مسرعا ... رأيت سامر يمشي أمامي فلما رآني قال :


" سوينا الأمور "

قلت ُ بذهول و خوف :

" ماذا تعني ؟ "

قال :

" سنتم الزواج كما خططنا له "

أدق الشعيرات الدموية في وجهي أحسست بها تتفجر فجأة .

قلت :

" و رغد ؟؟ "

قال :

" أقنعتها "

قلت :

" أقنعتها ؟؟ أم أجبرتها ؟؟ "

قال بعصبية :

" اذهب و اسألها لتتأكد بنفسك "

سرت من فوري نحو غرفة رغد . طرقت الباب و قلت :

" أنا وليد "

لم أسمع جوابا . قلت :

" أ أدخل ؟ "

" نعم "

سامر كان يقف خلفي .

فتحت الباب و رأيت رغد تجلس على السرير تخفي نظرها تحت قدميها .

قلت :

" صغيرتي "

ترددت قليلا ثم رفعت رأسها و نظرت إلي . كنت ُ أرى في عينيها نظرات الخوف و الاستسلام . ربما هذا ما جعلها تتردد في النظر نحوي . قلت :

" هل كل شيء على ما يرام ؟ "

نظرت نحو سامر ثم نحوي و قالت :

" نعم "

لم أرتح للإجابة مطلقا ، قلت :

" و الزفاف ؟؟ نؤجله أو نقيمه ؟ "

قالت :

" نقيمه "

صمت برهة ثم قلت :

" أ واثقة من ذلك ..؟ أخبريني بما تريدينه أنت ِ لا ما يريده سامر و الجميع "

رغد نظرت نحو سامر ثم قالت :

" نعم . واثقة "

قلت :

" إذن لماذا أخبرتني بأنك لست ِ مستعدة للزواج الآن ؟؟ لماذا غيرت رأيك بهذه السرعة ؟؟ "

لم تجب . قلت :

" هل يجبرك سامر على شيء ؟ "

سامر قال بعصبية :

" و لماذا أجبرها ؟ بربّك يا وليد دع الأمور تسير كما هي "

التفت إليه و قلت :

" ابتعد أنت ، و دعني أتحدث معها بحرية "

قال :

" بل ابتعد أنت ، لاحظ أنك تتحدّث إلى خطيبتي أنا "

هيجتني الكلمة مرة أخرى و أيقظت من كان نائما من شياطيني ... قلت بانفعال :

" ابتعد يا سامر و لا تدعني أفقد أعصابي من جديد "

و التفت إلى رغد و قلت :

" اسمعي يا رغد ، لن يحدث شيء لا تريدينه أنت ِ . إياك و الخوف من شيء . فإن كنت ترغبين في تأجيل الزواج فأخبريني الآن بصراحة ... هل تريدين الزواج الآن أم أنك مضطرة إليه ؟؟ "


رغد طأطأت برأسها من جديد و أخفت وجهها خلف يديها و أجهشت بكاءً .

ثار جنوني و أنا أراها هكذا ... التفت نحو سامر الذي لا يزال يقف خلفي و قلت :

" لن يقام هذا الزفاف و أنا حي أرزق "

سامر صاح بعصبية :

" وليد لا شأن لك بهذا "

" لن أسمح لأحد بأن يرغم صغيرتي على شيء مطلقا "

" من قال أننا نرغمها ؟؟ "

و التفت نحو رغد و قال بعصبية :

" هل أنا أرغمتك ؟؟ أخبريه "

رغد وقفت و أولتنا ظهرها و صاحت :

" دعاني و شأني . سأفعل ما تريدون جميعا . دعوني وحدي "

قلت :

" أ رأيت ؟ "

سامر دخل الغرفة و اتجه نحوها و أمسك بكتفيها و أدارها باتجاهنا و هو يقول :

" واجهينا يا رغد ... قولي له أنك قررت ِ ذلك و لم يجبرك ِ أحد "

رغد قالت بعصبية :

" بل أجبرتموني "

حملقنا كلانا فيها ، و قال سامر :

" من أجبرك ؟ "

قالت :

" كلكم . و إن ليس بشكل مباشر. ليس أمامي إلا الرضوخ لقدري . لما تريدون أنتم جميعا .. لما تخططون أنتم جميعا .. كلكم "

أنا و سامر تبادلنا النظرات الحادة ...

قال :

" إذن فأنت ِ لا تريدين الزواج الآن ؟؟ "

قالت بعصبية و هي تصرخ في وجه سامر :

" لا ... لا ... لا "

كان سامر يمسك بكتفيها ، لكن يده تحركت الآن ... و فجأة سددت صفعة إلى وجهها ... أمام عيني ...


ربما لم يكن في الصفعة من القوة ما يحدث الألم الجسدي بمقدار ما كان فيها من إيلام معنوي ... صاحت صغيرتي :

" آي "

و وضعت كفها على خدها المتألم ...

أنا .. أرى صغيرتي .. مدللتي .. حبيبتي رغد .. تتلقى صفعة على وجهها من يد كائن بشري ... أي ٍ كان .. أمام عيني هاتين ؟؟

" سامر ! أيها الوغد ... كيف تجرؤ ؟؟ "

و قبل أن أدع له الفرصة حتى ليلتفت إلي قفزت ُ قفزة واحدة باندفاع إليه و انقضضت عليه ، و ووجهت لكمة قوية فتاكة نحو وجهه ...

تلاها سيل متواصل من القذائف التي أشبعت بها جسد أخي من رأسه حتى إخمصي قدميه ...

الرغبات التي كبتها في صدري منذ الطفولة و حتى الآن ... و لم أجرؤ على التعبير عنها خرجت كلها من داخلي دفعة واحدة ...

ضربته بوحشية و عنف لم أضرب بهما سواه ، و لم أضرب بهما مثيله منذ سنين

صرت أرفع فيه و أخفض ... و أهز و أرمي ... و ألكم و أرفس .. و ألوي و أثني .. و أمارس كل أنواع الضرب المبرح التعذيبي الذي تلقيته في السجن على أيدي العساكر ... في جسد أخي ...

جن جنوني و لم أتمالك نفسي ... لم أملك منعها أو إيقافها ... ضربت و ضربت حتى أصاب عضلاتي الإعياء و تصبب العرق من جسدي كله ... و نفذ الهواء من غرفة رغد فما عدت بقادر على التنفس ...

و لم يكن أخي يقاوم أو يدافع ... بل استسلم لضرباتي.. لا أدري أمنعه من صدها الذهول أم العجز ؟؟

لم أنته من درس الضرب هذا إلا بعد أن فرغت شحناتي كلها .. و تطايرت شياطيني من رأسي واحدا بعد الآخر ...

يداي كانتا تطوّقان عنقه بينما كنت أجثو على صدره ... أكاد أخنقه ...

لا أعرف ما الذي جعلني أتوقف ...

قلت و أنا أشد الضغط على عنقه تارة و أرخي قبضتي تارة :

" ألا تعرف ما الذي أفعله بمن يتجرأ على إيذاء صغيرتي ... ؟؟ "

شددت الضغط و سامر ينظر إلي بفزع و خوف ...

قلت :

" أقتله ... "




و تراءت لي صورة عمّار و هو يبتسم ابتسامته الأخيرة للدنيا ... قبل أن أكسر جمجمته بالصخرة ...

حررت عنق أخي من قبضتي فجأة ... و نهضت كالمجنون ... أتلفت يمينا و يسارا ... كأنني أبحث عن عمّار ... خيّل إلي أنه معي الآن ...

لكن عيني ّ وقعتا على أربع أعين تنظر إلي بذعر و فزع و ذهول

اثنتان منها تخصان أختي دانة ، و الأخريان المغمورتان بالدموع هما عينا صغيرتي المذعورة رغد ...

مشيت نحو رغد ، فسارت هي للوراء خوفا ... حتى اصطدمت ْ بالجدار ...

و لمّا صرت ُ أمامها مباشرة قلت :

" زواجك من هذا المخلوق منته تماما ، و إن حاول أي شخص إرغامك على أي شيء ، فويل له مني "



خرجت بعد ذلك من الغرفة و من المنزل و إلى الفناء الخارجي ... أفرغ ما تبقى من غضبي في السجائر ...


بعد قرابة الساعة و النصف حضرت السيدة أم حسام لزيارة رغد .




~ ~ ~ ~ ~ ~ ~






كنت أعلم أن الأمر لن ينتهي بسلام .

ها قد أقبلت خالتي و تعقّدت الأوضاع أكثر فأكثر ...

خالتي تحدّثت مباشرة إلى سامر و قالت له أن أقل ما يجب فعله هو تأجيل موعد الزفاف حتى تستقر الأمور .

سامر و الذي كان مثخنا بالكدمات محمر الوجه متهيج الأعصاب طلب منها بنبرة حادة ألا تتدخل ، إلا أن خالتي قالت :

" لن أدعكم تتحكمون في مصير ابنتي كيفما شئتم "

ثم نظرت إلي ّ و قالت :

" سآخذها معي إلى أن تعود أم وليد و نضع حدا لهذا الزواج "


سامر اعترض و كذلك دانة ، إلا أنني تشبثت بخالتي و خرجت معها رغم ذلك .

حين كنت أعبر الفناء الخارجي وجدت وليد هناك ..

قال :

" إلى أين ؟ "

خالتي تولت الإجابة :

" سآخذها معي لبعض الوقت "

لم أر في عيني وليد أي اعتراض ، فخرجت معها ...



في غرفة نهلة ذرفت الكثير من الدموع و أنا أروي لها ما حدث و أصف الهجوم الوحشي الذي قام به وليد ... و أرعبني .


" كنت أعرف أن هذا ما سيحدث ... الآن أنا أحدثت شرخا في العائلة ... ماذا سيفعل والداي حين يعودان ؟؟ أنا نادمة على تهوري ... كان يجب أن أرضخ لقدري ... "

" يكفي يا رغد ... أنت لم ترغبي في الزواج منه ، هذه الحقيقة إذن دافعي عنها "

قلت :

" لأجل ماذا أدافع عنها ؟ ماذا سأربح إن تخلصت من سامر و جعلت الجميع يتخذ مني موقفا معاديا ؟ ثم ماذا ؟ هل تتخيلين كيف سأعيش بينهم و قد حصل ما حصل ؟ "

" ابقي معنا هنا "

" مستحيل ... عمّي هو ولي أمري ... إنه أبي و لا يمكنني العيش في غير بيته "

" ستعيشين في بيت زوجك ! "

" أي زوج هذا ؟؟ "

" الذي تحبين ! "

قلت ُ بألم و يأس :

" و هل تعتقدين أنه بعد أن أنفصل عن أخيه سيكون من الطبيعي أن أرتبط به هكذا ببساطة ! أم هل تظنين أن وليد يفكر بي ؟ "

" إذن لماذا ساندك في موقفك ؟ "

" لأنه يشعر بالمسؤولية تجاهي .. كما لو كنت واجبا عليه تأديته لا أكثر ... "

و هي حقيقة مرة أتجرعها لحظة بعد لحظة ... رغما عني .

ساعات طويلة قضيتها في التفكير ... إلام سيؤول أمري بعد الذي حصل ؟

و كلما تخيلت الوحشية التي طغت على وليد هذا الصباح شعرت بالخوف و الفزع .. أهذا هو ابن عمي الذي كنت أعرف ؟؟

أهذا هو الرجل الذي أحببت ؟

إنني حتى لا أجرؤ الآن على مجرد النطق باسمه ...


عندما عدت ُ إلى البيت في المساء لم يكن هو موجودا ، استقبلتني دانة بوجه عابس مليء باللوم و العتاب ...

قالت :

" هل أنت راضية عما فعلت ِ ؟ أي جنون هذا الذي أصابك ؟ "

كنت أريد الهروب منها إلا أنها لحقتني و تابعت كلامها بكل إصرار و قسوة :

" رغد اخبريني ماذا جرى لك ؟ إن سامر حزين جدا فهل يرضيك هذا ؟ ألا تشعرين بما يحس به ؟ ألا تعلمين أنه متلهف للزواج منك منذ زمن ؟ إنه يحبك بجنون .. أنت ِ خالية من المشاعر تماما كالجدار الذي خلفك "


قلت بعصبية :

" حلّي عنّي ! اتركوني و شأني "

" لا لن أدعك و شأنك و أنا أراك تحطمين أخي بهذا الشكل . ستتزوجين منه و ينتهي الأمر كما رسمنا له "

قلت :

" و ماذا عن مشاعري أنا ؟؟ ألا يحق لي الزواج من الرجل الذي اختاره ؟ "

نظرت إلي دانة بدهشة و قالت :

" ماذا تقصدين ؟؟ أنك لا تريدين أخي ؟ "

التزمت الصمت ، قالت :

" لا تحبين أخي ؟؟ "

قلت بانفعال :

" بلى أحبه ... تماما كما تحبينه أنت ِ .. كأخي الذي تربيت معه ... فهل علي أن أتزوج من أخي ؟؟ "

دانة بدت مذهولة و قالت بتردد :

" رغد ... ما الذي تعنينه ؟؟ أتعنين أنك ... تحلمين بالزواج من شخص آخر ؟؟ "

فاجأني سؤالها و أربك تعبيرات وجهي ، ما جعل الشكوك تكبر في رأسها ...

صمتت برهة ثم قالت :

" لقد فهمت ... فهمتك أيتها الخبيثة ... إذن فقد أقنعتك خالتك و عائلتها ... تبا لكم جميعا "

لم استطع قول كلمة بعد .. بقيت أحملق في دانة بذهول و تشتت ، أما هي فقالت :

" سأخبر والدتي بكل شيء ... سترين "


و تركتني و انصرفت .

لازمت غرفتي لبعض الوقت ثم ذهبت إلى غرفة سامر ... حينما طرقت الباب و ذكرت اسمي لم يأذن لي بالدخول ... إلا أنني فتحت الباب و تركته نصف مغلق .. و تقدّمت إلى الداخل .

سامر كان يجلس على كرسي مكتبه في شرود و حزن ... حينما وقعت عيناه علي رأيت فيهما بحرا من الآهات و الألم ...

سامر نهض و وقف ليواجهني ، كنت أعرف أنني لا أستطيع مواجهته .. إلا أنني لا أستطيع أيضا تركه هكذا ..

تقدم سامر نحوي و قال بصوت كئيب :

" لماذا يا رغد ؟ "

لم أقو َ على إبقاء عيني مركزتين في عينيه بل هويت بهما نحو الأرض في خجل و خذلان .. و شعور بالذنب و الإثم ...

اقترب مني أكثر و أمسك بوجهي و رفعه إليه ليجبرني على النظر إليه .. و قال :

" أخبريني .. لماذا ؟ هل فعلت ما ضايقك مني ذات يوم ؟ "

هززت رأسي نفيا ... أبدا ... مطلقا ...كلا .. إنه لم يكن هناك من يهتم بي و يحرص على مشاعري و يحسن معاملتي بمقدار ما كان سامر يفعل ..

قال :

" إذن لماذا ؟ أن .. تؤجلي الزفاف ربما بعد عسر كبير أجد له مبررا أو آخر .. أما أن .. أن .. تهدمي جسر الوصل بيننا هكذا فجأة .. فجأة و دون سابق تلميح .. و تعلني أنك أجبرت ِ على الارتباط بي .. و أنك لم ترغبي في ذلك يوما .. بعد كل هذه السنين يا رغد .. بعد كل هذه السنين .. فهذا ما لا أستطيع أن أجد له أي تفسير أو سبب مهما فتشت .. لماذا أخبريني ؟؟ "


فاضت الدموع من عيني جوابا على سؤال لم يعرف لساني له إجابة .. سامر أخذ يمسح دموعي .. و قال بعطف :

" أنا آسف لما حصل هذا الصباح .. كنت مجنونا .. سامحيني "

أغمضت عيني إشارة إلى أنني قد نسيت الأمر .. و حين فتحتهما رأيت لمعان دمعة محبوسة في عين سامر المشوهة .. يخشى إطلاق سراحها ..

قال :

" لا تفعلي هذا بي يا رغد .. تعلمين كم أحبك .. "

و طوّقني بين ذراعيه بعاطفة حميمة ...
فتحت المجال أمام سامر للتعبير عن مشاعره ، و بقيت أسيرة بين ذراعيه فترة من الزمن .. لم أتحرك إلا حين سمعت صوتا قادما من ناحية الباب فالتفت كما التفت سامر .. و رأينا وليد يقف هناك .

لا أستطيع أن أصف لكم النظرات الوحشية المرعبة التي كان يرمينا بها .. لقد كنت أشعر بها تلسعني و تحرقني ..

تقدّم خطوة بعد خطوة ، تكاد خطواته تهز الأرض من قسوتها .. كان الشرر يتطاير من عينيه و هو يحملق في سامر و يعض على أسنانه ..

شعرت بالخوف .. تراجعت للوراء .. اختبأت خلف سامر .. امتدت يدا وليد و أمسك بتلابيب سامر بعنف و قال :

" قلت لك لا تحاول استدرار تعاطفها ثانية .. حذّرتك من الاقتراب منها حتى يعود والدي .. ألم تفهم ؟ "

ثم سحبه و دفع به نحو الجدار ..

سامر رفع رجله و سدّد ركله بركبته إلى وليد ، فقام هذا الأخير بلكم سامر بعنف على خدّه المشوه ..

وليد قال و هو يلصق سامر بالجدار بقوة :

" لن أسمح لرغد بالزواج منك .. أفهمت ؟ لا تستحق رجلا مشوها مثلك "

قال سامر :

" نعم ، فالأفضل لها الزواج من القتلة المجرمين "

و ما إن قال سامر ذلك حتى تحوّل وليد إلى وحش .. نعم وحش .. فهو أقل وصف يمكنني نعته به ..

صرخت :

" توقفا "

إلا أن الاثنين دخلا في عراك مميت ...

أسرعت أجري بحثا عن دانة .. فوجدتها في غرفتها تتحدث إلى خطيبها .. صرخت :

" أسرعي دانة .. يتقاتلان مجددا "

دانة تركت السماعة و جاءت تركض معي ..

حاولنا التدخل لفض العراك الجنوني إلا أننا فشلنا تماما .. و أخذت كل واحدة منا تصرخ من جهة دون جدوى ..

يد الغلبة كانت بطبيعة الحال لوليد الذي كان يفوق سامر بدانة وبنية و قوة ..

استمر العراك فترة من الزمن .. كنت أصرخ و أنا أبكي

" توقفا .. يكفي "

إلا أن أحدهما لم يكن ليستجب لي ...

قلت :

" أنا سأتزوج من سامر .. سأفعل ما تريدون .. هذا يكفي .. يكفي .. "

إلا أن ذلك لم يزد الحرب إلا وطيسا ..

دانة التفتت نحوي و صرخت بوجهي :

" هذا كلّه بسببك أنت .. أيتها اللعينة رغد ابتعدي عن وجهي الآن .. "

و دفعت بي نحو الخارج عنوة ..

ركضت أنا نحو غرفتي و جعلت أبكي بصراخ .. و أنادي أمي و أبي ..




~ ~ ~ ~ ~ ~






لو لم يكن أخي .. ابن أمي و أبي .. شقيقي .. من تجري دماؤه في عروقي و يختزن حبه في قلبي .. لكنت قضيت على هذا الرجل المشوّه الذي كان يعانق رغد قبل قليل
و أرسلته إلى العالم الآخر ..

لقد جنّ جنوني .. و فقدت أدنى معاني الرأفة و الإنسانية .. و أوسعته ضربا أشد و أقسى و أعنف من الدرس الذي لقنته إياه صباح هذا اليوم ..

إنه جزاء من يقترب من صغيرتي أنا ..

نعم ، إنها فتاتي أنا .. و لن أسمح لأي رجل مهما كان .. بأن يقترب منها مسافة تقل عن ميل كامل .. من الآن فصاعدا

لقد كانت دانة تقف قربنا محاولة حشر نفسها بيننا و لو لم أسيطر على نفسي لدفعتها بقوة هي الأخرى ..

إنني الآن في أشد لحظات عمري جنونا و ثورة .. و إن يقع في يدي أي سلاح ، فسأفتك بكل من يعترضني بدون تفكير ..

و الشيء الذي وقع في يدي كان مجرد علبة حديدية وقعت من على المكتب أثناء عراكنا ...

كنت مطبقا على سامر الواقع على الأرض ، و عائقا إياه عن الحركة .. بثقل جسمي الضخم ..

رفعت يدي بما حملت ، بالأداة الحديدية على أهبة ضرب رأسه بها ..

سامر كان يحاول التملص مني دون جدوى ، و ينظر إلى العلبة الحديدية و يصرخ

" ماذا ستفعل يا مجنون ؟ "

قلت :

" سأحطّم جمجمتك .. "

قال بذعر :

" وليد ... ستقتلني ؟ "

دانة أقبلت مسرعة و أمسكت بذراعي تعيقني عما كنت بجنون مقدما عليه ...

تركت ُ العلبة تسقط من يدي ...

و قلت ُ مهددا أخي :

" سأقتلك .. إن حاولت الاقتراب منها ثانية .. "

و ألصقت ُ رأسي برأسه و قلت :

" أنا لم أقتل ذلك النذل .. و أضيع من عمري كل تلك السنين مرميا في السجن .. و أخسر ماضي و مستقبلي ... لأخرج و أراك تتزوج من صغيرتي رغما عنها .. و إن حاولت الاقتراب منها ثانية .. فسأرسلك إليه .. لأن هذا هو جزاء من يؤذي صغيرتي بأي شكل من الأشكال .. أفهمت يا سامر ؟ سأقتلك .. و أقتلكم جميعا إن تجرأتم على إيذاء صغيرتي و لو حتى بمجرد الكلام.. أفهمت ؟؟ "

و سددت إلى وجهه اللكمة الأخيرة .. ثم نهضت ..

ترنحت في مشيتي من شدة الإعياء .. و توجهت نحو الباب سائرا على غير هدى

وقعت عيناي على دانة التي كانت تنظر إلي بذهول و فزع ...

قالت و حدقتا عينيها مفتوحتان لأقصى حد :

" وليد .. ما الذي تقوله ؟؟ "

قلت مزمجرا :

" نعم .. في السجن .. و لن يهمني العودة إليه إذا ما تعلّق الأمر برغد .. و لن أسمح لأحد بإجبارها على الزواج من شخص لا تريده .. و لن أدع أي رجل يتزوّج منها إلا إذا أخبرتني هي بأنها هي ترغب في الزواج منه و تريده ... مفهوم ؟؟ "

و خرجت من الغرفة تاركا المذهول مذهولا ... و المجروح مجروحا ... و المحطم محطما ...

ذهبت رأسا إلى غرفة رغد و التي قفزت مذعورة ما أن رأتني ... و صارت ترتجف بخوف ...

لحظتها فقط أدركت أنني خرجت من طوري .. و أنني لم أكن في وعيي و رشدي .. و أنني شوّهت أي صورة حسنة يمكن أن تكون لا تزال باقية في رأس رغد عني ..


قلت :

" رغد "

سماعها لكمتي جعلها تنتفض خوفا .. ربما كان صوتي مرعبا .. ربما كان شكلي مفزعا .. ربما كنت أشكّل بالنسبة إليها هذه اللحظة مصدر روع و وجل ..

وقفت ُ متسمرا في مكاني أراقب صغيرتي المذعورة ..

سمحت للأرض التي تلامس قدمي ّ بامتصاص الباقي من غضبي و ثورتي
و تنفست أنفاسا عميقة تطرد الشر من صدري .. و أرخيت ما كنت أشده من الأعصاب و العضلات .. و قلت بصوت حاولت جعله حنونا بقدر ما أمكنني في ساعة الوحشية تلك :

" صغيرتي رغد .. لا تفزعي مني ..أنا آسف "

لكن القشعريرة و الرعشة لم تفارقا يديها و فكها الأسفل ..

قلت بألم :

" آسف لإرعابك يا رغد .. أرجوك لا تفزعي مني .. أخبريني فقط بما تودين مني القيام به و أنا رهن إشارتك "

رغد تكلمت بارتجاف قائلة :

" دعني وحدي "

وقفت لحظة في مكاني عاجزا على تحريك قدمي ، بعد كل تلك القوة التي أفرغتها في بدن شقيقي ...

قلت :

" سامحيني يا رغد .. أنا وليد كما تعرفينني "

قالت :

" أنت لست وليد .. غادر غرفتي .. دعني وحدي "

آلمني طلبها هذا فقلت بانكسار :

" كما تأمرين .. سأخرج لكني سأعود .. و سأفعل أي شيء ترغبين فيه بنفسك .. حتى و إن رغبت ِ الزواج من سامر مجددا .. لكنني متى ما شعرت ُ بأن أحدا يضطرك لفعل ما لا تريدين .. فلن أبقى مكتوف اليدين مطلقا "


و غادرت غرفة رغد بل و المنزل أيضا ...

عندما عدت إلى هناك ، كان ذلك في عصر اليوم التالي و رأيت سيارة نوّار عند باب المنزل إلا أن سيارة سامر لم تكن موجودة .

حينما دخلت ، وجدته و دانة يجلسان في غرفة المعيشة ...

ألقيت التحية ، فرد نوّار بينما أشاحت دانة بوجهها عني .

سألت :

" أين سامر ؟ "

لم تجب ، فرد نوّار :

" عاد إلى شقته "

سألت :

" متى غادر ؟؟ "

قال :

" اعتقد عند الظهيرة "

قلت موجها كلامي إلى دانة :

" و أين ابنة عمّك ؟ "

لم تجب ..

كررت سؤالي :

" أين ابنة عمك يا دانة ؟؟ "

التفتت إلي دانة بغضب و قالت :

" لو سمحت .. لا تتحدّث معي بعد الآن "

نوّار بدا محرجا و قال بصوت خافت :

" دانة .. أعصابك ! "

إلا أن دانة صرخت :

" أنا بريئة من هذا الرجل و لا أريد أن يتحدّث معي من الآن فصاعدا "



تركتهما و ذهبت لأفتّش عن رغد .

لم أجدها في أي مكان ، فعدت ُ إليهما مجددا و سألت :

" أين ابنة عمك ؟ "

لم تجبني دانة ، فتدخّل نوّار قائلا :

" أظن أنها ذهبت إلى بيت أقاربها ... فقد جاء حسام قبل فترة و اصطحبها معه "

انزعجت من ذلك ، و قلت :

" وحده ؟ "

قالت دانة بحدّه :

" نعم وحده . اتصلت به و طلبت منه الحضور ليأخذها إلى بيته .. ماذا بعد ؟ "

قلت :

" لمَ لم تنتظرني ؟ "

قالت دانة بعصبية :

" و لماذا عليها أن تنتظرك ؟ لقد ذهبت مع ابن خالتها و انتهى الأمر "

قلت بغضب :

" دانة .. كيف تتركينها تخرج هكذا ؟ "

قالت بنفور :

" و هل كنت تنتظر مني أن أذهب معهما أم ماذا ؟؟ "

ثم أضافت :

" ليس عليك أن تقلق فهي في المكان الذي تحب التواجد فيه .. مع أحبابها "

قلت :

" إلام تشيرين ؟؟ "

قالت بنفاذ صبر :

" ماذا ؟؟ ألم تخبرك أيضا بأنها تخلّت عن شقيقي و سببت كل هذا من أجل ابن خالتها العزيز ؟ فلتشبع به إذن "

فوجئت .. ذهلت .. أصبت بالهول لدى سماعي ما قالته دانة .. و انفغر فوهي عن كلمات مبعثرة :

" من ؟ ماذا ؟ ما الذي تقولينه ؟ "

دانة عضت على أسنانها و شدّت على قبضتيها و قالت حانقة :

" اللعينة .. لن أسامحها على ما فعلت بأخي أبدا .. لن أسامحك أنت أيضا .. عسى الله ألا يوفّقها في الزواج ممن حطّمت قلب شقيقي من أجله ... أبدا ... أبدا يا رب "



]]]يتبع]]]
__________________

 
 

 

عرض البوم صور adila.a  
قديم 06-06-06, 01:02 AM   المشاركة رقم: 50
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2006
العضوية: 4594
المشاركات: 129
الجنس أنثى
معدل التقييم: adila.a عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 11

االدولة
البلدUnited_States
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
adila.a غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : النغمه الحزينه المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

الحلقة الرابعة و العشرون

*********

~ الليلة الحمراء ~






كلما تذكّرت الدمعة الحبيسة في عين سامر، التي كاد يطلقها لحظة عناقنا الأخير.. تفجرت عوضا عنها عشرات الدموع من محجري.

لم يكن ما فعلته شيئا يغتفر.. إنه سامر رفيق الطفولة و الصبا و المراهقة.. إنه أعز إنسان لدي.. لكنه ليس الأحب..

في صباح اليوم، عندما رأيته.. تلوّت أمعائي و أصابني مغص شديد مفاجئ للكدمات التي شوهت ما لم يكن مشوها من جسده النحيل.

حين حاولت التحدّث إليه لم يرد علي، حتى بدأت أقنع نفسي بأن اللكمات التي تلقاها فكه قد أعجزته عن النطق ، إلا أنه تحدّث مع دانة التي انفردت به مطولا في غرفتها .

بالتأكيد كان حوارهما يدور حولي و حول ما سببته من مشكلة معقدة بغبائي و تهوّري...

و كل هذا، لأنني اكتشفت أنني أحب وليد !

أحب رجلا وحشا مفترسا... لم يسبب لي منذ ظهوره في حياتي من جديد غير الألم و المعاناة...

و لو استهلكت كل كلمات الندم الموجودة على وجه الأرض، ما كفاني ذلك لأعبّر عما أشعره هذه اللحظة من الذنب...

الآن، أنا فتاة طائشة ناكرة للجميل و المعروف، حطّمت قلب الرجل الذي يحبها و يتلهف لإسعادها، من أجل رجل لم تعرف عن حقيقته شيئا أكيدا، غير أنها تحبه.. وتتمناه.. و حينما يعود والداي، و يرحل وليد، كما رحل سامر، فإن كل شيء سينتهي.. و أفقد عائلتي.. و أعود يتيمة وحيدة كما قدمت إليهم قبل 15 عاما...

بين الفينة و قرينتها تجيء ابنة خالتي نهلة لتتفقدني، فتراني كما تركتني.. أهيم في أفكار بائسة لا نهائية.. في ضياع و تشتت.
كنت أحاول النوم على سريرها، إذ أنني قضيت الليلة الماضية ساهرة سهر النجوم.. وحيدة وحدة القمر.. باكية بكاء المطر.. تعيسة تعاسة السواد المخيم على السماء... تتلاعب بي الأفكار تلاعب الرياح بورقة شجر صفراء جافة.. فقدت فرعها و أصلها و جذرها و تاهت في صحراء لا نهاية لا.. و لا بداية.


" أما زلت ِ مستيقظة ؟ "

سألتني نهلة و القلق الشديد يتملكها و يحوّل وجهها البشوش الصريح إلى مغارة من الغموض و الحيرة..

قلت:

" أنى لعيني النوم يا نهلة، و قد فعلت ُ ما فعلت ؟ .. غدا مساءا سيعود والداي.. ماذا أقول لهما ؟ يا إلهي لا أريد أن أريهما وجهي.. "

" هّوني عليك يا رغد، لستِ أول و لا آخر فتاة تحل ارتباطها من خطيبها بعد سنين من الخطوبة ! لا عليك يا ابنة خالتي.. هل تعتقدين أنهم سيطردونك من المنزل مثلا من جراء فعلتك هذه ؟؟ "

قلت:

" لا أستحق العيش تحت كنفهم بعد الآن... بل لا أجرؤ على العودة إليهم ! أوه لو رأيت الطريقة التي خاطبتني بها دانة هذا اليوم.. "

و تذكّرت كلماتها القاسية التي وجهتها إلي بعد مغادرة سامر، مكسور الخاطر...

قالت نهلة:

" و منذ متى كانت طيبة معك ! إنها دائما قاسية عليك، دعك ِ منها.. لكن عندما تعود أمك يا رغد، أخبريها بحقيقة الأمر.. أخبريها بأنك لم تحبي سامر يوما و أنك... تحبين وليد !"

قلت بأسى و اعتراض:

" مستحيل ! لا يمكن أبدا... و لا بشكل من الأشكال ! كيف يا نهلة كيف ؟؟ و ماذا سأجني من قول هذا ؟ أم تظنين أنها ستقول : لا بأس ، ننقلك من سامر إلى وليد ، بهذه البساطة ؟؟ "


و جعلت أندب حظي الذي أوقعني في مأزق كهذا..

" ليته لم يسافر و يتركني.. ليته لم يعد ! ليتني أستطيع التوقف عن التفكير به ! ليته يحس بي... ليت معجزة سماوية تجعله يرتبط بي و تجعل سامر ينساني.. ليته يختفي من حياتي و قلبي.. ليته يظهر الآن و ينتشلني من كل هذا ! "


و حشود من الأمنيات تمنيتها في عجز عن تحقيق أي منها... أو حتى تخيّل تحقيقها.. إلا أن واحدة منها تحققت فورا !

طرق الباب هاهنا و دخلت سارة و قالت:

" قريبك الكبير أتى يا رغد "


نظرت نحو سارة بقلق مفاجىء و انعقد لساني، فتحدّثت نهلة بالنيابة و قالت :

" من تعنين سارة ؟؟ "

قالت :

" وليد الطويل ! "


أنا و نهلة تبادلنا النظرات ذات المعنى، ثم قلت:

" ماذا يريد ؟؟ "

سارة قالت وهي مبتهجة:

" سأل أولا عن والدي و أخي، و كلاهما غير موجود ! ثم قال: ( هل ابنة عمي رغد هنا ؟ ) قلت ( نعم ) قال: ( هل لا استدعيتها من فضلكِ يا آنسة ؟).. قال عنّي آنسة ! "

و بدت مسرورة بهذا الاكتشاف العظيم ! إنها آنسة ! ما أشد فراغ رأس هذه الفتاة !
يبدو أنها المرة الأولى التي تسمع فيها أحدا يطلق عليها هذا اللقب !

قلت:

" أين هو ؟"

قالت:

" في الخارج ! عند الباب "

نظرت إلى نهلة و قلت:

" لا أريد العودة إلى البيت.. لابد أنه جاء لاصطحابي إلى هناك. لن أذهب "

و سرعان ما كانت سارة على وشك الذهاب إليه و هي تقول:

" سأخبره بذلك "

نهلة صرخت:

" انتظري سارة ! ما بالك ما أن تلتقط أذناك كلمة حتى أسرع لسنك ببثها ؟ اذهبي و أخبري أمي عن قدومه حتى تتصرف ! "

و انصرفت سارة مذعنة للأمر ! و بكل سرور !

بعد ثوان حضرت خالتي، و قالت:

" سأذهب للتحدث إليه، لا تقلقي "



إلا أن قلقي بدأ يتضاعف هذه اللحظة...

ذهبت خالتي ثم عادت بعد دقيقتين تقول:

" يرغب في التحدث معك، تركته واقفا في الحديقة "

هممت بالنهوض، فقالت:

" ما لم ترغبي في ذلك فسأصرفه "

قلت:

" لا داعي خالتي. سأصرفه بنفسي "

و تلوت ُ بعض الآيات في صدري لتمنحني القوة على الوقوف أمامه من جديد !

في الحديقة الصغيرة الأمامية للمنزل، وجدت وليد واقفا على مقربة من الباب. سرت إليه أجر قدميّ جرا... في خوف و اضطراب.

كنت أعلم أن خالتي و ابنتيها يراقبنني من النافذة !

حينما صرت ُ أمامه، بادر هو بإلقاء التحية ، ثم سألني :

" أ أنت بخير ؟؟ "

إنه سؤال عادي جدا يتداوله الناس عشرات المرات في اليوم لعشرات الأسباب ، إلا أنني احتجت وقتا قياسيا للتفكير في الإجابة !

هل أنا بخير ؟؟

لما رأى وليد ترددي و حيرتي قال:

" تبدين بحال أفضل.. "

نطقت لا إراديا بصوت خفيف:

" نعم "

قال:

" هل نعود إلى البيت إذن ؟؟ "

هنا تحدثت ُ بصوت عال مندفع:

" لا ! "

فوجىء وليد بردي فقال:

" لم ؟ إنها الثامنة.. هل تودين البقاء أكثر ؟؟ "

قلت:

" نعم "

" إلى متى ؟ تأخر الوقت ، دعينا نعود فقد تركت ُ دانة وحدها "

" لا ! "

بعد وهلة واصل وليد كلامه:

" هل تنوين المبيت هنا ؟؟ "

" نعم "

" هذه الليلة فقط ؟ "

" لا "

" كل ليلة ؟؟ "

" نعم "

" أتمزحين ؟؟ "

" لا "

" إذن فأنت جادّة ؟؟ "

" نعم "

" و هل تظنين أنني سأسمح بهذا ؟ "

" لا "

لم أكن أنظر إلى وليد بل إلى الحشيش الأخضر المغطي للأرض... في تشتت.. لكنه حين قال:

" لا أم نعم ؟؟ "

انتبهت ُ لسؤاله الأخير، و لجوابي الأخير... و رفعت عيني إليه بارتباك و قلت:

" نعم.. أعني بالطبع نعم "

قال:

" بالطبع لا "

كانت نظرته مليئة بالإصرار.. ، قال:

" فلنعد إلى البيت يا رغد "

قلت:

" لا "

قال :

" أليس لديك تعليق غير نعم و لا ؟ دعينا نذهب الآن لأنني لا أريد ترك دانة بمفردها أطول من هذا "

" لا أريد العودة، سأبقى هنا"

" لماذا ؟ "

" أريد البقاء مع خالتي.. أريد بعض الهدوء و الطمأنينة بعيدا عنكم "

يبدو أن كلماتي قد ضايقت وليد لأن تعبيرات وجهه الآن تغيرت .. قال:

" غدا سيعود والداي و نضع حدا لكل شيء. ستسوى الأمور بالشكل الذي تريدينه أنت ِ .. لا تقلقي و لا تضطري نفسك للتضحية.. "

قلت:

" لكن سامر لا يستحق.. لا يستحق ما سببتُه له، و لا ما فعلت َ أنت به.. مسكين سامر.. "

و حتى تعاطفي مع سامر أزعجه و زاد من حدّة تعبيرات وجهه الغاضبة.. قال:

" ستسوّى الأمور غدا أو بعده. لن أسافر قبل أن أتأكد من أن كل شيء يسير على خير ما يرام "

و كلمة أسافر هذه دقّت نواقيس الخوف في صدري... قلت بسرعة:

" تسافر ؟ هل ستسافر ؟ "

قال:

" سيعود والدي و تنتهي مهمّتي "

و كم قتلتني جملته هذه... ألا يكفيني ما أنا به حتّى يزيدني هما فوق هم ؟؟

قلت:

" و زفاف دانة ؟ "

تنهّد و نظر إلى السماء.. و لم يجب.

قال بعدها:

" هيا رغد "

لم أشأ العودة... فلأجل أي شيء أعود ؟ لأجل أن أذرف المزيد من الدموع.. لأجل أن أعيش المزيد من الحسرة ؟؟ ألأجل أن أراه و هو يرحل من جديد ؟؟ نعم، فهو قد جاء في مهمة محددة أنجزها و سيغادر..

كرر:

" هيا يا رغد ! "

قلت باعتراض:

" لن أذهب معك. سأبقى هنا لحين عودة أمي "

ازداد استياؤه و قال بما تبقى له من صبر:

" رجاءا يا رغد.. هيا فأنالا أحبذ أن تباتي خارج المنزل "

" لكنه بيت خالتي و قد اعتدت على هذا "

" عندما يعود أبي افعلي ما تشائين و لكن و أنت ِ تحت رعايتي أنا، لا أريد أن تباتي في مكان بعيد عني "

" لماذا ؟ "

" لن أشعر بالراحة لذلك و أنا متعب بما يكفي، و لا ينقصني المزيد من القلق. تعالي معي الآن "

شعرت بالغيظ من كلامه. من يظن نفسه ليتحكم بي هكذا ؟ إذا كان أبي لا يمانع من مبيتي في بيت خالتي من حين لآخر فما دخله هو ؟؟

" لن آتي "

قلتها بتحد ٍ، فنظر إلي بعصبية و صرخ بحدّة:

" رغد ! "

انتفضت ُ من جراء صرخته المخيفة هذه.. و حدّقت به مذعورة.. تتسابق نبضات قلبي لدفع الدماء خارجه عشوائيا..

عيناه كانتا متمركزتين على عيني و حاجباه مقطبين و وجهه غاضب عابس مرعب.. يثير الفزع في نفس من لا يهاب الوحوش !

تراجعت إلى الوراء خطوتين في هلع.. كنت أتمنى لو تستطيع رجلاي الركض، إلا أن الفزع صلّب عضلاتهما و جمّد حركاتهما..

وليد مد يده نحوي فارتعدت.. في خشية من أن يلطمني.. لكن يده توقفت في منتصف الطريق... قلت ُ باضطراب و ارتجاف:

" سـ .. أحضر.... حـ .. ـقيبتي "

و استدرت ُ مرعوبة و جريت بضع خطوات فارة، إلا أنه ناداني مجددا:

" رغد "

تصلبت ُ في مكاني و رجلي معلقة فوق الأرض.. ثم

التفت إليه بخوف يفوق سابقه.. ماذا الآن؟ هل ينوي صفعي أو ماذا ؟؟

أراه يقترب مني أكثر و لا أقوى على الفرار.. حين صار أمامي مباشرة نظر إلي بعمق.. و قال:

" رغد.. ما بالك فزعت ِ هكذا ؟؟ "

لم أنطق و لم يخرج من فمي غير تيارات الهواء السريعة اللاهثة..

وليد حدّق بي بانزعاج و مرارة و قال:

" رغد ! هل تظنين أنني سأؤذيك بشكل من الأشكال ؟؟ "

ثم تابع:

" أنت ِ مجنونة إن فكّرت ِ هكذا "

نظر إلى أصابعي المتوترة المرتعشة، ثم إلى عيني المفزوعة ثم تنهد بضيق و قال :

" حسنا، سوف أمر بك غدا قبل أن نذهب لاستقبال والدي ّ.. لكن إذا أردت الحضور قبل ذلك فأعلميني و لا تطلبي ذلك من ابن خالتك.. "

ما زلت أحدّق به نصف مستوعبة لما يقول...

قال بصوت خفيف دافىء:

" اعتني بنفسك.. صغيرتي "

ثم ختم:

" تصبحين على خير "

و استدار.. و سار مبتعدا.. و غادر المكان.

بقيت أنا أراقبه حتى غاب... و غاب معه قلبي و حسّي...

سرت ببطء عائدة إلى الداخل فوجدت الثلاث في انتظاري.. سألت خالتي:

" إذن ماذا ؟ "

قلت:

" سيأتي غدا... "

و صعدت ُ أنا و نهلة إلى غرفتها من جديد...

قالت:

" بدوت ِ مضطربة رغد ! ماذا قال لك ؟؟ "

أمسكت بيديها و قلت:

" نهلة.. سأجن.. لا أعرف لم أصبح هكذا ؟ إنه مخيف ! "

" رغد ! ماذا قال ؟؟ "

" لا أذكر ما قال ! ماذا قال ؟؟ لا أدري نهلة إنني أفقد تركيزي حين يكون على مقربة ! لا أعرف ما الذي يصيبني ؟؟ "

و لم أتمالك نفسي... تفجرّت عيناي بسيلين متوازيين من الدموع الدافئة تسابقا على تبليل خديّ الحزينين...

" رغد.. عزيزتي تماسكي "

" إنه سيسافر.. من جديد يا نهلة سأحرم من وجوده.. من رعايته.. من أن أراه.. و أتعلّق به.. و اسمعه يناديني ( يا صغيرتي ) كما كان يفعل منذ طفولتي.. لا أحد يناديني هكذا حتى الآن.. كيف سأتحمّل عودة حياتي خالية منه و قلبي أجوف لا يسكنه أحد ؟ سأجن يا نهلة إن تركني و غادر.. لا أحتمل ذلك.. أنا أحبه كثيرا يا نهلة كثيرا.. إنه كل شيء بالنسبة لي.. ما أنا فاعلة من بعده ؟ أخبريني ماذا أفعل ؟ ماذا ؟ "

و لم أر غير الظلام و السواد الذي غلّف حياتي و بطّنها أسفا على وليد قلبي...

و رغم الآلام و التعب.. و الإعياء الذي أعانيه.. ضل النعاس طريقه إلى عينيّ حتى ساعة متأخرة من تلك الليلة المشؤومة...




~ ~ ~ ~ ~ ~ ~






كنت أتمنى الذهاب إلى مكان واسع.. رحيب.. تعبث تيارات الهواء في سمائه بحرية..

إلى البحر.. حيث أرمي بأثقال جسدي و هموم صدري الضائق الحزن...

إلا أنني عدت إلى المنزل الكئيب و جدرانه العائقة.. لأبقى رفيقا لشقيقتي الغاضبة...

كانت في غرفتها، حمدت الله أن لم تسنح الفرصة للقائنا مجددا، فبعد الذي أثارته هذا اليوم، كرهت نفسي و كرهت انتسابي لهذا البيت..

بعدما رحل نوّارعند المغرب، أتتني و مزيج من الشرر و الغضب و الذهول و عدم التصديق يتربع على وجهها..

" سؤال واحد، أجبني عليه.. و بعدها انس أن لك أختا.. يا وليد، قل لي.. أنت.. كنت َ في السجن ؟؟ "

و تلا السؤال ( الواحد ) عشرات الأسئلة.. أسئلة بدا أنها عرفت الإجابة عليها من سامر، و الذي بالتأكيد خضع لاستجواب مكثف من قبلها قبل رحيله..

و أسئلة أخرى تهرّبت من الإجابة عليها.. فما رأيته في عينيها من الغضب و الاحتقار كان كاف لقتل أي رغبة في الدفاع أو التبرير في نفسي..

" لا أصدّق ذلك ! أخي أنا.. قاتل خرّيج سجون ؟؟ و أنا من كنت أظنه رجل أعمال كبير درس في الخارج ! أنا من كنت ُ أتباهى بك بين رفيقاتي ..! كيف أواجه خطيبي و أهله بحقيقة خاذلة كهذه ؟ لذلك كنت تتحاشى الحديث عن نفسك ! كم أنا مصدومة بحقيقتك ! "

عندما صوّبت ُ نظري إليها، أشاحت بوجهها الباكي و ركضت إلى غرفتها تواري الألم.. و تدفن الواقع المخزي..

و هاهي الآن.. منعزلة في ذات الغرفة منذ ساعات...

و بدوري، انزويت في غرفة حسام مع حشد من الأفكار الكئيبة.. تولى قيادتها و سيادتها..صغيرتي رغد..

و كلما تذكرت الخوف الذي تملكها و هي تقف أمامي.. أكره نفسي و وجودي و كياني ...

إذا لم أكن على الأقل أمثل مصدر الطمأنينة و الأمان لصغيرتي.. فماذا يعني وجودي في هذا الكون ؟؟

ماذا تبقى لي.. ؟ هاقد خسرت أهلي أيضا.. سامر و تشاجرت معه و حطمت قلبه و علاقتي به .. و دانة و وقعت من عينيها و صارت تزدريني.. و رغد.. رغد الحبيبة.. تنفر مني و ترتجف خوفا ؟؟

كيف جعلتها تذعر مني هكذا و تفقد ثقتها بي ؟؟

ما عساها تظن بي الآن ؟؟

أي موقف ستتخذ مني متى عرفت عن سجني و جريمتي ؟؟

هل ستحتقرني مثل دانة ؟؟ لا يا رغد أرجوك ..

فأنا لن أحتمل ذلك أبدا.. و أفضل الموت على العيش لحظة واحدة تنظرين فيها إلي بذرة ازدراء واحدة.. مهما كانت جريمتي و آثامي..

ليتكِ لا تعلمين..

يا رغد.. سامحيني..

ربما لم أعد وليد الذي عرفته و تعلّقت ِ به صغيرة، بفخر و معزّة و ثقة.. لكنني لا أزال وليد الذي يحبك و يتوق إليك.. يهتم بكل شؤونك بهوس...

ليتك ِ تعلمين...

نمت أخيرا على خيال الذكريات الجميلة الماضية.. فهي الشيء الوحيد الجميل في حياتي.. و الذي يمكن لقلبي المنفطر الشعور بالسعادة و الراحة حين تذكره...





فجأة...

صحوت ُ من النوم مفزوعا على دوي شديد زلزل الغرفة بما فيها..

فتحت ُ عيني ّ فإذا بي أرى الليل نهارا.. و السواد نارا.. و السكون زلزالا.. و الهدوء ضجيجا عظيما...مهولا..

و أرى الأشياء من حولي تهتز و تقع أرضا و سريري يتذبذب..

للوهلة الأولى لم أستوعب شيئا، أهو كابوس أم ماذا ؟؟

و سرعان ما صدر صوت انفجار مجلجل حرك جدران المنزل...

قفزت من على سريري أترنح مع الاهتزازات، و خرجت مسرعا من الغرفة و إذا بي أرى شقيقتي تأتي مسرعة نحوي و هي تصرخ

" ما هذا ؟ قنابل ! "

و للمرة الثالثة دوي صوت انفجار ضخم و أضيئت الدنيا بشعاع النيران.. و عبقت الأجواء بالدخان و روائح الحريق..

كانت الأرض تهتز من تحتنا فأسرعت بالإمساك بشقيقتي و انبطحنا أرضا.. و شهدنا زجاج النوافذ يتحطم و تقتحم ألسنة النيران المنزل... و تتوزع حارقة كل ما تقع عليه...

اندلع الحريق من حولنا في أماكن متفرقة فجأة.. و توالت أصوات الانفجارات مرة بعد أخرى بعد أخرى .. بشكل متواصل و مندفع ..

شيء ما اخترق السقف فجأة و هوى أرضا، و انفجر...

ركضت أنا و دانة مبتعدين بسرعة عن ذلك الشيء و هي تصرخ... و بدأ السقف يهوي فوق رأسينا..

هربنا فزعين مسرعين ناجيين بنفسينا متجهين نحو المدخل.. لا يعرف أحدنا أين تطأ قدماه..

و نحن نعبر الردهة.. توقفت ُ فجأة و صرخت:

" رغد ! "

قفزت قفزا نحو غرفة رغد و صرخت:

" رغد.. رغد "

و دون أن أنتظر فتحت ُ الباب بسرعة واقتحمت الغرفة و لم أر َ غير النيران تلتهم الأثاث... و تحرق السرير..

" رغد.. "

كاد قلبي يتوقف، بل إنه توقّف، و كدت أسلم نفسي للنيران تلتهمني.. إلا أنني فجأة تذكرت ُ أنها لم تبت هنا الليلة.. و لا أعرف ما الذي دفعني لنسيان أو تذكر هذه المعلومة..هذه اللحظة

صرخات دانة وصلتي رغم الدوي المجلل الطاغي على أي صوت في الوجود، و وجدتها مقبلة نحوي بذعر تقول:

" تهدّم السقف.. سنموت "

ثم نظرت نحو سرير رغد المشتعل نارا و صرخت:

" رغد "

و بدت و كأنها دخلت في نوبة فزع هستيرية، أمسكت بها و قلت:

" ليست هنا، لنخرج فورا "

و عوضا عن التوجه إلى الردهة ثم المخرج، توجهت إلى غرفتي إذ أن فكري قادني تلقائيا إلى مفاتيح السيارة..

سحبتها و سحبت المحفظة التي كانت بجوارها و أطلقت ساقي للرياح، ممسكا بيد شقيقتي الصارخة بذعر..

فتحنا الباب و خرجنا إلى الفناء و خرجت معنا الأدخنة التي نفثها الحريق داخل المنزل... و رأينا السماء تسبح في الدخان، و الليل نهارا ملتهبا..أحمر.. و الحجر يتساقط من حولنا كالمطر.. بينما تعج الدنيا بأصوات انفجارات متتالية.. و تتزلزل الأرض مع كل انفجار..أيما زلزلة

و عندما فتحت الباب الخارجي، رأيت ما لم تره عيناي من قبل.. و لا من بعد..

رأيت النيران مندلعة في كل الأنحاء.. و المنازل تتهدّم.. و الأرض تتصدع و تتشقق.. و الناس.. يركضون في كل الاتجاهات فارين صارخين مذعورين.. يصطدم بعضهم ببعض و يدوس بعضهم على بعض..

و من السماء المشتعلة، كانت تتساقط صواريخ و قنابل أشبه بالشهب و النيازك، ترتطم بأي ما يعترض طريقها، و تدمّره..

لقد كانت المرة الأولى التي أشهد فيها قصفا جويا.. وجها لوجه..

كنا في موعد مع الموت...

وقفت دانة مذعورة فزعة.. ترقب شعلة نارية تهوي من السماء ثم تسقط فوق منزلنا..

شددت على يدها و سحبتها مسرعا إلى خارج المنزل، نحو السيارة.. و نحن حافيي الأقدام و مجردين إلا من لباس النوم..

ما كدت أفتح باب السيارة حتى تفجّر المنزل.. و هطلت الحجارة و الشظايا و الشرار فوق رأسينا...

" اركبي بسرعة "

دفعت بشقيقتي إلى داخل السيارة و توجّهت إلى الباب الآخر، ركبت و انطلقت مسرعا مبتعدا عن المنزل.. في عكس اتجاه الطريق، أدوس على الأرصفة اصطدم بكل ما يعترض طريقي، و أحطم كل ما يصادفني..

الشوارع كانت تعج بالناس الفارين من النيران.. إلى النيران.. و القليل من السيارات التي تسير باتجاهات مختلفة عشوائية على غير هدى..

سلكت ُ أسرع طريق يؤدي إلى منزل أبي حسام، غير آبه بالشهب التي ترمي بها السماء من فوقي و من حولي، لا أرى من الأهوال الدائرة من حولي شيئا..
لا أرى إلا صورة رغد مطبوعة على زجاج النافذة أمامي..

كل ذلك كان في دقائق لا أعرف عددها و لا أمدها

وصلت أخيرا إلى منزل أبي حسام و رأيت النار تأكل رأسه...

" رغد... رغد.. لا.. لا.. "


صرخت كالمجنون.. هبطت من السيارة راكضا نحو بوابة سور الحديقة.. ضربته بعنف ٍ حطّم زجاجه ثم فتحته و اقتحمت المنزل و أنا أنادي بأعلى صوتي و بكل جنوني:

" رغد.. رغد.. "

كنت متوجها إلى باب المنزل الداخلي و الذي أراه أمامي مفتوحا... تخرج منه ألسنة النار.. و أنا أناديها بفزع.. و رهبة.. مما قد تكون الجدران تخبئه خلفها و الأقدار تخفيه على بعد خطوات..

يا رب لا تفجعني بصغيرتي و احرقني أنا قبل أن تلمس النيران شعرة منها...
يا رب إن كنت اخترتها فأنزل قنبلة فوق رأسي تفجّرني هذه اللحظة قبل أن أدخل و أراها ميتة..

" رغد.. رغد.. "

صرخت و صرخت و صرخت.. صراخا شعرت به أقوى و أفظع من دوي القنابل المتفجرة من حولي .. و أنا أركض بلا وعي نحو النيران..
نحو النهاية..
نحو الجحيم ..
نحو الموت..
نحو رغد..


وصلت إلى الباب و استقبلني لهيب النار الحار يلفح وجهي المذعور المفزوع ...كنت على وشك اقتحام الحريق، و فجأة حتى سمعت صوتا يناديني..
من عالم الأحياء..

" وليــــــــــــــد "

التفت يمنة و يسرة أبحث عن مصدر الصوت كالمجنون.. أدور حول نفسي و أصرخ بقوة:

" رغد... رغد "

و عند زاوية في طرف الحديقة، رأيت رغد و عائلة خالتها جميعا مكومين قرب بعضهم البعض متشابكي الأيدي ينتظرون المصير المجهول..

مع الإضاءة التي أحدثها انفجار قنبلة خارج المنزل، استطعت أن أرى رغد جيدا و هي تقف هناك.. ثم تأتي راكضة مسرعة نحوي ............

" رغد.. أنت ِ بخير ؟؟ حقا بخير؟؟ الحمد لله.. الحمد لله "

" وليد .. أنتما حيان ؟؟ "

و التفت للخلف فرأيت شقيقتي تصرخ:

" رغد "

و تتحرر رغد من بين ذراعي و ترتمي في حضن دانة و هي تهتف باكية:

" أنتما حيان.. أنتما حيّان "

جذبت الاثنتين و ضممتهما إلى صدري.. لا أعرف من منا نحن الثلاثة كان أكثر فزعا من الآخرين..

انفجار آخر دوي الأجواء، فانبطحنا أرضا و جعلت الأرض تهز أجسادنا كما تهز أفئدتنا المذعورة..

و أخذ الجميع يتصايح و يصرخ.. و امتزجت الأصوات و الهزات و الاصطدامات..

توقفت النوبة برهة، وقفنا و أنا ممسك بكلا الفتاتين و حثثتهما على السير بسرعة نحو المخرج...

صوت حسام يصرخ:

" إلى أين ؟؟ "

قلت:

" سنغادر المدينة بسرعة "

قال:

" الزم مكانك يا مجنون ! ستقتل "

قلت للفتاتين:

" هيا بنا "

صراخ حسام و عائلته:

" ابقوا مكانكم القصف لم ينته "

لكني مضيت في طريقي..

حسام يصرخ:

" رغد عودي إلى هنا.. عودي يا رغد.."

رغد تتشبث بي أكثر، و أنا أتمسك بيدها بقوة و أمضي بها و بدانة إلى السيارة

بابا السيارة الأماميين كانا مفتوحين، جعلت ُ رغد تدخل بسرعة إلى المقدمة ، و أنا أفتح الباب لدانة و أدخلها سريعا، ثم أقفز نحو باب المقود، فأجلس و أطير بالسيارة حتى قبل أن أغلق الباب..

لم تكن باللحظة التي يستطيع فيها دماغ أي بشر، غبي أو عبقري، أن يفكر..

انطلقت بالسرعة القصوى للسيارة أجتاز كل ما أعبر به، محاولا تحاشي الاصطدام بما يصادفني قدر الإمكان

أرى الناس يخرجون من كل ناحية أفواجا أفواجا ، رجالا و نساء و أطفالا.. متخبطين في سيرهم يركضون باتجاهات عشوائية.. يهيمون على الأرض على غير هدى.. يصرخون و يهيجون و يموجون باعتباط و فوضوية.. و في نواح متفرقة تتناثر مخلفات الدمار .. الحجارة و الأشلاء.. و الجثث.. تحرقها النيران.. و تفوح روائح كريهة لا تستطيع الأنوف إلا استنشاقها مرغمة..

و كلما انفجر شيء جديد، منزل أو مبنى أو شارع أو سيارة.. صرخت الفتاتان و ارتعشت يداي و انحرفت في سيري جاهلا.. أيهما سيكون الأسرع لتحديد مصيرنا .. قنبلة ما ؟ أم اصطدام ما ؟ أم أن النجاة ستكتب لنا بقدرة من لا تفوق قدرته قدرة، و لا يضاهي رحمته رحمة..

كنت أشهد أمامي تصادم السيارات المسرعة، التي فرت من الموت.. و إليه
و أرى أشياء ترتطم بزجاج سيارتي و تحدث تصدعات و كسور تحول دون وضوح الرؤية أمام عيني..

لم يكن باستطاعتي إلا الاستمرار في طريقي اللا محدد .. و كما تسير الحية سرنا ذات اليمين و ذات الشمال ننعطف كلما ظهر شيء أمامنا و نسلك كل تشعب نلقاه حتى انتهى بنا الطريق إلى شارع رئيسي...
حانت مني الآن التفاتة أخيرا إلى اليمين.. فرأيت الفتاة الجالسة إلى جانبي و قد انثنت بجدعها إلى الأمام حتى لامس رأسها ركبتيها و وضعت ذراعيها على جانبي رأسها لتحاشي رؤية أو سماع شيء.. بينما أنفاسها الباكية اللاهثة تكاد تلهب قدمي ّ الحافيتين..

" رغد.. "

لم تغير من وضعها ..

التفت إلى الوراء لألقي نظرة على دانة، فوجدتها هي الأخرى مكبة على وجهها تحتضن المقعد المجاور و تنوح و تصرخ ..

" يا رب.. يا رب.. يا رب.. "

هتفت بأعلى صوتي:

" يا رب.. يا رب.. يا رب "

هتفت رغد بصوتها المبحوح المرتجف:

" يا رب.. يا رب.. يا رب "

لم يكن لدينا أمل في النجاة إلا برحمة الله..




أسير في الشارع بسرعة جنونية دون هدف.. وسط قصف جوي مباغت.. و القنابل و الصواريخ تهوي من السماء كالوابل.. و الأرض تتزلزل من تحتي.. و معي فتاتان مذعورتان تصرخان بفزع و هلع.. و النيران تحاصرني و تحيط بي من جميع الاتجاهات... وسط ليلة غدر عجت سماؤها بألسن النار و الشر.. مخلفا منزلا محترقا متهدما.. و مستقبـِلا مصيرا مجهولا غامضا..



كم من الوقت مضى.. لا أعرف
كم من المسافة قطعت ؟ لا أعرف ..
ألا زالت الفتاتان على قيد الحياة ؟
لا أعرف
أنجونا من الموت ؟
أيضا لا أعرف...



الشيء الذي ألاحظه هو أنني في وسط طريق بري.. و لم أعد أرى السماء متوهجة.. و لم أعد أحس بالأرض ترتعد كما لم أعد أسمع الدوي و لا الضجيج...


" رغد.. دانة.. "

لم تجب أي منهما...

" رغد.. دانة أتسمعانني ؟؟ "

و أيضا لم تردا..

هلعت، رفعت يدي اليمنى عن المقود و مددتها نحو رغد التي لا تزال على نفس الوضع..

" رغد صغيرتي.. ردي علي.. "

ببطء تحركت رغد حتى استوت جالسة و هي تخفي وجهها خلف يديها خشية النظر .. و شيئا فشيئا فرّقت ما بين أصابعها و سمحت لنظرة منها للتسلل إلى المحيط و رؤية ما يجري..

" لقد ابتعدنا.. أأنتِ بخير ؟؟ "

نظرت رعد غير مصدقة.. إلى الشارع .. إلى السماء.. إلى الطريق من أمامنا .. إلى دانة من خلفنا.. و إلي..

لم تستطع النطق بأي كلمة.. عادت تنظر إلى الوراء تريد أن تنادي دانة الدافنة وجهها في المقعد المجاور .. إلا أنها عجزت عن ذلك..

نظرت أنا إلى دانة و هتفت بصوت عال:

" دانة.. عزيزتي.. اجلسي أرجوك "

دانة لفت برأسها إلينا و جعلت تنقل بصرها بيننا ..

ثم جلست و نظرت عبر النافذة المغلقة ثم قالت:

" أين نحن ؟؟ "

قلت و أنا أنظر إليها عبر المرآة:

" الله أعلم "

قالت:

" أين نذهب ؟؟ "

قلت:

" الله أعلم.. فقط لنبتعد عن منطقة الخطر.. "

نظرت إلى الوراء ثم إلي و قالت:

" هل سننجو ؟ "

أنى لي أن أتنبّأ ؟؟

الله الأعلم..

دانة اقتربت من مسند مقعدي حتى التصقت به و مدت يدها عبر الفتحة بين المقعدين إلى ذراعي تمسك به و تصيح:

" هل هذه حقيقة ؟؟ وليد هل أنا أحلم ؟؟ ألا زلت نائمة ؟؟ هل مت ّ ؟؟ هل أنا حية ؟؟ "

رفعت يدي فأمسكت بيدها،إن لأواسها أو لأطلب منها المواساة .. و كم كانت باردة كالثلج...

" وليد "

هذه كانت رغد التي تنظر إلي ربما طالبة المواساة و الأمان هي الأخرى.. ثم ضمّت يدها إلى أيدينا و دخلتا في نوبة طويلة و قوية من البكاء و النواح..

لقد كنت أنا أيضا بحاجة للبكاء مثلهما.. فما رأيت كان من الفظاعة و الشناعة ما يجعل الجبال الصخرية تخر منهارة..

إلا أن الدموع ستحول دون الرؤية أمامي، و أنا أقود وسط الظلام بسرعة رهيبة..
تماسكت و ركزّت على الطريق..


فجأة.. قالت دانة:

" نوّار ! "

ثم أخذت تلطم على وجهها و تنوح..

" يا إلهي ماذا جرى لنوّار ؟؟ "

و نظرت إلي و هي تسأل:

" الهاتف ؟؟ "

و لكن الهاتف لم يكن معي...

إننا نفذنا بجلودنا و الله العالم بما حلّ بمن بقي في المدينة..

لم تهدأ من نوبة النواح إلا بعد زمن... أظن القنوط غلبها و استسلمت لما يخبئه لنا القدر



انتبهت الآن إلى عبوة لمشروب غازي موضوعة إلى جانبي، و كنت ُ قد اشتريتها يوم أمس أثناء تجولي بالسيارة ثم لم أشربها.. مددت يدي إليها و لمست حرارتها التي استمدتها من حرارة السيارة..

خففت ُ السرعة و أخذت العبوة و فتحتها بيدي اليمنى، ثم مددتها نحو رغد..

" اشربي "

إذ لا بد أن حلوقنا جميعا جافة متخشبة من هول ما مررنا به..

رغد أمسكت العبوة بكلتا يديها و قربتها من فمها و رشفت مقدار ما رطب جوفها و أعادتها إلي..

" دانة.. خذي اشربي "

مدت دانة يدها و تناولت العلبة و شربت منها ثم أعادتها إلي .. و جاء دوري لأشرب..

كان ساخنا غير مستساغ المذاق إلا أن العطش اضطرنا لازدراده عن آخره دون تذوق.


ساعة السيارة كانت تشير إلى الثالثة و الأربعين دقيقة فجرا.. عندما رأيت أضواء أمامي... و طابور من السيارات الواقفة خلف بعضها البعض.. ظهر لي أنها نقطة تفتيش أو ما شابه..

خففت السرعة تدريجيا حتى انضممت إلى طابور السيارات.. و بدأ القلق يزداد بسرعة في نفسي و نفسي الفتاتين..

بدأ الطابور يتحرك ببطء.. لا يتناسب و تسارع نبض قلبي و أنفاسي..

و أخيرا حان دوري..

فتحت نافذة بابي فقرّب الشرطي رأسه منها و طلب البطاقة و الاستمارة و رخصة القيادة

بعدها بدأ بطرح الأسئلة.. عن مكان قدومي و وجهتي..

" لقد فررت بعائلتي من المدينة الصناعية... حيث القصف المباغت.. سأنزل أقرب مكان آمن.. "

و يبدو أنها كانت إجابة معظم من في السيارات السائرة قبلي..

" من معك ؟ "

" شقيقتي و ابنة عمّي "

" ألديك بطاقتيهما ؟ "

" لا، لم أفكر في إحضار شيء كهذا فقد نفذنا بجلودنا فقط "

الشرطي أطل برأسه من النافذة ناظرا نحو من يركب السيارة معي.. ثم طلب مني إيقاف السيارة جانبا و النزول.

ركنت ُ السيارة جانبا، و هممت بالنزول.. الفتاتان هتفتا في وقت واحد:

" وليد "

بخوف و وجل..

إن نسيتم فسأذكركم بأنني أرتعد خوفا من الشرطة و العساكر.. بعد الذي لاقيته في السجن تلك السنين.. و إن كنت سأطمئن الفتاتين فإن على أحدهم طمأنتي بادىء ذي بدء..

قلت بصوت مضطرب :

" لا تقلقا.. سأرى ما يريدون "

نزلت من السيارة و وطأت قدماي الحافيتين الشارع.. و ذهبت إلى حيث كان رجال الشرطة يقفون مع مجموعة من سائقي السيارات المركونة إلى جانب سيارتي..

الجو كان باردا و كذلك الأرض.. لكن رعدة جسدي الحقيقية كانت من أثر القصف و منظر رجال الشرطة المهاب..

هناك، استجوبني الرجال و دونوا المعلومات ثم طلبوا مني فتح السيارة لتفتيشها

عدت إلى السيارة و معي اثنان منهم بعد قرابة العشرين دقيقة.. و فتحت الباب المجاور لرغد أولا و قلت:

" يريدون تفتيش السيارة، اهبطا "

لم تتحرك الفتاتان مباشرة، تلفتت رغد من حولها فرأت شماغا لي ملقى على مقعدي يظهر أنني نسيته في السيارة يوم أمس ، فأخذته و تلثّمت به.. ثم هبطت حافية القدمين أيضا و وقفت إلى جواري مباشرة و حين فتحت الباب الخلفي لدانة أبت الخروج.. و أشارت إلى شعرها..

لم تكن دانة ترتدي حجابا

نظرت من حولي فلم أجد شيئا أغطي به رأس شقيقتي.. فضلا عن قدميها.. فيما الشرطيان يقفان على مقربة و الناس من حولي كثر..

نزعت قميص نومي و قدّمته لها لتختمر به.. و بعدما نزلت التصقت بي من جهة بينما رغد من الجهة الأخرى..

أمسكت بيدي الفتاتين و سرت مبتعدا عن السيارة بعض الشيء لأفسح المجال لرجلي الشرطة للتفتيش.

بعد فراغهما من المهمة سألتهما:

" أيمكننا الذهاب ؟؟ "

قال أحدهما:

" ليس بعد. فمغادرة هذه المنطقة محظورة لحين إشعار آخر "

ثم أشار إلى الناحية الأخرى من الشارع و قال :

" ابقوا هناك.."

نظرت إلى تلك الناحية فرأيت مجموعة من الناس الذين أوقفهم رجال الشرطة مثلنا يقف بعضهم و يجلس البعض الآخر على حافة الشارع، متفرقين..

شددت الضغط على يدي الفتاتين و عبرت الشارع معهما تطأ أقدامنا الحافية العارية الأرض الجرداء و تستقبل أجسادنا تيارات الهواء البارد فتقشعر.. و يزداد اقترابنا من بعض و تشبثنا ببعض والناس في شغل عن النظر إلينا.. بأنفسهم و ذويهم .. و إلى السماء يرتفع البكاء و العويل و الصراخ و النواح.. من كل جانب.. و إليها أرفع بصري فأرى بدر الليلة السادسة عشر من شهر الحج يشهد فاجعة شعب غدر به عدّوه و انتهك حرمته في غفلة من أعين الناس.. و عين الله فوق كل عين ٍ شاهدة ٍ.. شاهدة.







]]]يتبع]]]
__________________

 
 

 

عرض البوم صور adila.a  
 

مواقع النشر (المفضلة)
facebook




جديد مواضيع قسم الارشيف
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 01:01 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية