الفصل الخامس
الأمن الفلسطيني يقرر تجنيد
ابن جولدا مائير !
وكان والده يعمل في إحدى الحرف الدقيقة التي يمتهنها اليهود في تلك المناطق
وهو متعصب للحركة الصهيونية ول" أرض الميعاد " وكان يعمل في تجارة الأغنام
أيام الحكم القيصري , قبل انتصار الثورة البلشفية عام 1917 .
في تلك الفترة كان اليهود يحتكرون سوق الربا وتجارة الأغنام .
فقام الحاكم القيصري بالتضييق عليهم بضغط من أصحاب رأس المال المسيحي
في روسيا القيصرية .
ومع بداية الثورة البلشفية ركب عدد كبير من اليهود الموجه . وشهدت فترة ما قبل
انتصار الثورة وجود 15 حزبا روسيا . وكانت الأحزاب الثلاثة الرئيسية
البلاشفة والمناشفة والاشتراكيون الثوريون .
هذه الأحزاب كانت تنقسم إلى أجنحة : اليمين والوسط واليسار باستثناء الاشتراكيين
الذين انقسموا إلى ثلاثة أحزاب معتدلة وليبرالية وراديكالية .
إلا أن البلاشفة كانوا يمثلون اليسار المتطرف بين جميع هذه الأحزاب .
وبعد انتصار الثورة مباشرة تحسن وضع اليهود وتغلغلوا في جميع الأحزاب
لكنهم شكلوا تيارا نظريا متطرفا ضد اليسار لاعاقة تنفيذ سياسات الحزب والدولة , وتحديدا
ضد سياسة لينين وستالين بحجة أن هذه السياسة لا تتفق مع نظرة كارل ماركس .
ولكن لينين اتخذ قرارا في أحد الاجتماعات بطردهم من اللجنة المركزية , وبعد هذا القرار
كان واضحا أنهم بدءوا تشكيل تيار معارض لسياسة الحزب .
فاتخذ قرارات أخرى عديدة لمنع تطورهم ووصولهم إلى مواقع قيادية وأصبح اليهود
أعداء تقليديين للحزب الشيوعي السوفييتي
. لكنهم نبغوا في العلوم فحاول الاتحاد السوفييتي استغلال طاقاتهم العلمية في برامجه
الصناعية والعسكرية , إلا انهم اخذوا ينشقون ويهربون إلى أوروبا الغربية والولايات
المتحدة الأمريكية , فزج بهم في معسكرات العمل في سيبيريا .
وقد حاول ستالين التوصل إلى اتفاق مع اليهود من خلال طرح اليهودية كدين لا كقومية
إلا أنهم رفضوا هذا الطرح فسحقهم .
وكان بريجنيف أكثر تطرفا فسمح لليهود المحكومين بقضايا جنائية وأخلاقية من غير
العلماء , بالهجرة إلى الولايات المتحدة التي أخذت تتذمر من هذه النوعية
التي زادت مآسي المجتمع الأمريكي .
وكان والد نيكولاى جورج من المتعصبين لأهداف الحركة الصهيونية , وعمل على هجرة
عدد من اليهود إلى إسرائيل
. وكان يرتبط أيضا بعلاقة وثيقة مع جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل في ما بعد
( 1969- 1974 ) لا سيما أنها مولودة في كييف .
وقد توطدت علاقتهما أكثر أثناء وجودها في الاتحاد السوفييتي كسفيرة لإسرائيل في موسكو
عامي 1948 و 1949 في تلك الفترة ألح والده الذي تجاوز الستين من العمر
على هجرة ابنه الوحيد نيكولاى إلى إسرائيل وقامت جولدا مائير بمساعدته .
وبعد عودتهما إلى إسرائيل مباشرة تولت منصب وزيرة العمل حتى عام 1956 .
وبعد عودتهما إلى إسرائيل توفى والد نيكولاى فتبنت جولدا مائير رعايته , إذ دخل إحدى
الجامعات الإسرائيلية ودرس القانون .. ثم التحق بالجيش
وتم ترشيحه للعمل في " الموساد " .
كان جورج نيكولاى محظوظا في حياته ولم يعان من أي مشكلة مادية سوى تأثره
بأفكار والده , وان كانت تحفظات على بعض هذه الأفكار , لكنه لم ينج من تعليقات زملائه
الذين كانوا يصفونه ب" الابن المدلل لجولدا مائير " وكان يتردد عليها باستمرار لاسيما
بعد زواجه عام 1968 من فتاة يهودية جميلة من أصل أوروبي في فرنسا .
اقتحام منزل ماهر
لم تكن مفاجأة لماهر أن يقتحم أن يقتحم الجنود الإسرائيليين منزله عند الساعة الثالثة صباحاً من يوم 28 إبريل ( نيسان ) 1974 فقد كان يتوقع هذا الأمر بعد أن حصلت مشادة كلامية بينه وبين أحد العملاء في قريته فتوعده العميل .
كان الشاب الذي لم يتجاوز العشرين من العمر , منسباً إلى الثورة الفلسطينية وقام بتنفيذ عمليات فدائية ناجحة خلال عامين في جبال نابلس والخليل وبعد أن استفزه العميل وشتمه , عرف انه سيتعرض للاعتقال رغم أن العميل لا يعرف شيئاً فقدم تقرير مزوراً إلى المخابرات الإسرائيلية ينسب فيه إلى الشاب تهماً خطيرة لا تستند على أدلة .
عند الساعة الثالثة صباحاً , كان ماهر يقظاً يتوقع الاعتقال بين لحظة وأخرى , حتى سمع صوت طرقات قوية على باب المنزل في إحدى القرى الصغيرة التي تتناثر بيوتها الثلاثون على قمم إحدى الجبال القريبة من نابلس .
استيقظ والده على الصوت فأسرع إلى الباب الخارجي وصاح : من خلف الباب ؟
كان الرجل يعرف تماماً أن مثل هذا القرع العنيف على الباب لا يمكن أن يتأتى إلا من الجيش الإسرائيلي بأعقاب البنادق .
كان الظلام حالكاً والرؤيا صعبة والسماء متلبدة بالغيوم . سمع صوتاً من الخارج يقول : افتح .. جيش !
فتح الرجل الباب وهو يتمتم قائلاً : سترك يا رب !
ولم يكد يفعل حتى اندفع عدة جنود إلى ساحة المنزل الريفي , مثل الذئاب الجائعة , فقال الرجل : ماذا تريدون ؟
صاح به ضابط قائلاً : لماذا لم تفتح الباب ؟
أجاب الرجل بهدوء : لقد ظننت أن الأمر يتعلق بلصوص أو قطاع طرق .
قال الضابط : أين ماهر ؟
الرجل : موجود , لا داعي لإزعاج الأطفال , سآتيكم به فوراً .
كان ماهر صاحياً لكنه يتظاهر بالنوم .
خرج الشاب إليهم بثياب النوم وهو يفرك عينه من النعاس , سحبه أحد الجنود إلى الخارج . وما أصبح ماهر خارج الباب حتى انهالوا عليه ضربا بأعقاب البنادق واللكمات والعصى ونزلوا إلى أسفل الجبل حيث تنتظرهم السيارات العسكرية .
كان يمكن قطع المسافة بين المنزل ومكان السيارات خلال عشر دقائق فقط , لكن الجنود والضباط أوصلوه إليها بعد ساعة تقريبا وهو يتعرض للضرب الشديد ثم ألقوا به في إحدى السيارات العسكرية التي انطلقت باتجاه مركز المخابرات الإسرائيلية في نابلس .
ألقى ماهر على أرضية السيارة وحوله الجنود ينهالون عليه ضربا فأفلتت فردة من حذائه التقطها ضباط المخابرات ويدعى ليفي وراح يهوى بها وجه ماهر وعينيه .
كان ماهر يصرخ بصوت عال فتناول أحد ضباط المخابرات الإسرائيلية قطعة من القماش وضع عليها مادة كيماوية ودفعها بقوة إلى حلق ماهر ثم سحبها فلم يعد يستطيع أن يسمع الشاب صوته على الإطلاق . ولاحظ ليفي أن الشاب يريد أن يقول شيئا , فأعطاه كأسا من الماء شرب جرعة فاسترد صوته الذي خرج ليشتم المخابرات الإسرائيلية والجيش والحكومة .
لم يعترف ماهر بشيء وتواصلت عملية التعذيب حتى مركز الحاكمية العسكرية الإسرائيلية في نابلس . ادخل إلى الساحة الكبيرة وكان لا يستطيع الوقوف على قدميه . وكان الجنود والضباط الذين يمرون به وهو ملقى على الأرض في شبه غيبوبة ينهالون عليه بالضرب دون معرفة " جريمته " .
عند الساعة السابعة صباحا , جاءه جندي مراسل قصير القامة , ممتلئ الجسم يحمل بندقية من نوع كلاشينكوف واقتاده أمامه وهو يضربه من الخلف بعقب البندقية . توقف المراسل أمام إحدى الغرف وكان الباب مفتوحا وأدخل ماهر الذي وقعت عيناه على ضابط بالزي المدني . وسمع المراسل يقول : كابتن جورج .. لقد أتينا به يا سيدي !
توقف المراسل أمام إحدى الغرف و كان الباب مفتوحا و أدخل ماهر الذي وقعت عيناه على ضابط بالزي المدني و سمع المراسل يقول : كابتن جورج لقد أتينا به يا سيدي !
كان الضابط يقف أمام مرآة ويحلق ذقنه , التفت الكابتن جورج إلى الشاب الواقف أمامه فشاهد منظراً أذهله وجهه ملئ بالدماء وعينه اختفت تماماً وحلت مكانها بقعة زرقاء داكنة من شدة الضرب الذي تعرض له .
عندئذ رفع جونى يده في وجه ماهر وانقضوا عليه مجددا بالضرب الوحشي وفجأة فتح الباب ودخل رجل في الخمسين من العمر , أبيض البشرة , قصير القامة , أشيب الشعر , فصاح : لماذا تضربون هذا الرجل الطيب ؟ هذا صاحبة منذ عشرين سنة . اتركوه لم يستجب الجلادون لطلب " المنقذ " فدخل في صراع بالأيدي معهم ليخلص ماهر . وتلقى عدة ضربات على كتفه وظهره وهو يحاول تخليصه منهم وأبعادهم عنه وإخراجهم من الغرفة .
أخذ الشاب وأجلسه على الكرسي وطلب له كأساً من الماء . ثم جلس الضابط
" أبو جميل " وقال لماهر : لماذا تضع نفسك في هذا الموقف ؟ ألا ترى أهلك كيف يعيشون في الجوع ؟ أخوتك والدتك , إنها تبكى عليك . والدك المسكين ما ذنبه يتحسر عليك ؟ المنظمات تفعل بكم هكذا وتخرب بيوتكم . والمثل يقول
" مئة أم تبكى ولا أمي تبكى " .
واصل أبو جميل محاضرته للتأثير على معنويات الشاب . لكن ماهر كان واعياً لها تماماً , وفى نهاية حديثه قال : هيا . أريد السبحة .
قال ماهر : ماذا تقصد ؟
أبو جميل : التنظيم يا صبى .
رد الشاب : أنا لا أعرف شيئاً .
عندئذ انتفض أبو جميل ونهض من مكانه وصرخ في وجهه قائلاً :
بعد ثلاثة أيام ستطلب لقائي لتقول لي عن المعلومات التي لديك . ولن أتنازل للحديث معك .
قال ماهر : لا شئ لدى .
خرج أبو جميل وعاد الجلادون إلى جولة جديدة من التعذيب .
في أقسام التحقيق لدى المخابرات الإسرائيلية يوجد ضباط متخصصون يدخلون على المتهم , لحظة عجز الجلاد عن نزع اعتراف من المعتقل , للتأثير عليه بأسلوب عاطفي ولتذكيره بأهله حتى تنهار معنوياته ويعترف بما لديه . ولكن رجال المقاومة يلتقون تدريبات لمواجهة أساليب المحقق الإسرائيلي , وكان ماهراً متنبهاً ل" أبو جميل " لحظة دخول الغرفة وهو يصيح بالجلادين كي يبتعدوا عنه .
في اليوم التالي , بدأ برنامج آخر من التعذيب النفسي والجسدي , فجاء الضابط أبو غزالة وهو يهودي عراقي يتميز بآثار جرح عميق في وجهه . أحضر معه حقنة طبية وقال لماهر : هذه الحقنة تفقدك رجولتك .
وأخذ يعد الحقنة حوالي ساعة وهو يخرج من الغرفة ويعود ويمسك بالحقنة يملأها ويفرغها للتأثير على أعصاب ماهر , ولكنه لم يحقنه . وبعد أن فشل هذا الأسلوب , دخلت فتاة إسرائيلية " مجندة " وخرج أبو غزالة من الغرفة حاولت الفتاة إغرائه فأشاح بوجهه عنها . ولم ينجح هذا الأسلوب الذي كان القصد منه إثارة الشاب حتى يقوم الضابط المحقق بضربه على مواقع حساسة .
بعد أسبوعين لم يعترف بشيء فأحيا مجدداً إلى الكابتن جورج الذي أجرى معه تحقيقاً روتينياً في مكتبه . وبعد أن أوقع على المحضر الذي لم يشمل اعترافاً ابتسم جورج وقال له : باستطاعتك أن تعود إلى بلدتك .
نظر الضابط إلى حالته وآثار التعذيب على جسده وقال : ماعليش بعد أن قرا على بسيونى هذا التقرير بالكامل , قال لمساعده : ما رأيك في جورج ؟
جواد : لا أعتقد ـنه يختلف كثيراً عن باقي ضباط " الموساد " انه صهيوني بالوراثة .
بسيونى : وهذه نقطة هامة جداً على كل حال نحن بحاجة إلى مؤشرات أخرى فإما أن تسقط نظريتنا حوله واما تدعم فكرتنا .
ثم أضاف : المهم الآن أن نرتب لعدنان وضعا ًما داخل المنظمة التحرير الفلسطينية كان يعمل في أحد المكاتب التي لها علاقة بالعمل داخل الأراضي المحتلة مثلاً . ولكن يجب أن نتعبه قليلاً في هذه المسألة حتى يأتي التدخل لصالحه عن طريق خلدون .
لم يقتنع خلدون بمبررات عدنان لمجيئه إلى بيروت كما لم تصل به الظنون إلى الأسوأ . لكنه في النهاية وافق على رغبة أخيه ووعده بالتدخل لصالحه لدى المسؤولين وطلب منه أن يقدم طلباً لهذا الغرض . وفعلاً قام بذلك وبقى في انتظار الموافقة .
لم يكن خلدون يعرف أي شئ مطلقاً عن علاقة أخيه بأجهزة الأمن الفلسطينية والدور المزدوج الذي يلعبه مع " الموساد " وبعد حوالي شهر ونصف من المتابعة استطاع أن يحصل على موافقة كي يعمل في أحد المكاتب لجهاز " الغربي " الذي كان يترأسه الشهيد أبو جهاد . وكان مكتباً هامشياً بعيداً عن العمل الأمني أو العسكري , وقد تمت الموافقة بتسهيل غير مباشر من جهاز الأمن الفلسطيني في أوائل شهر أكتوبر ( تشرين الأول ) 1977 , وبعد أن استقر وضعه في بيوت قام بنقل الرسالة الأولى بالحبر السري على العنوان الذي زوده به جورج في أثينا . وقد حملت الرسالة مجموعة من المعلومات المطلوبة لرسالة كهذه , بدون أي ذكر لاسم أو عنوان المرسل , حسب تعليمات " الموساد " وباسم حركي هو شارل . ثم تواصلت الرسائل بمعدل واحدة كل أسبوع لمدة شهرين تقريباً .
وفى ديسمبر ( كانون الأول ) 1977 سافر عدنان بالطائرة إلى لارنكا ومنها إلى نيقوسيا حيث نزل في فندق " أوروبا " في شارع لاكيوس .
وحسب تعليمات " الموساد " وبعد أن استقر في الفندق ذهب إلى هاتف عمومي واتصل بالسفارة الإسرائيلية تاركاًًُ رسالة للضابط جورج وهى " أنا شارل . أريد جورج . ورقم هاتفي .. "
وفى مساء اليوم التالي اتصل به جورج وقال : أهلاً بك . الحمد لله على سلامتك غداً صباحاً أتصل بك .
كان صوته ضعيفاً بعيداً عن الهاتف , وكان واضحاً أن يتحدث من مكان بعيد وعند الساعة الحادية عشرة صباحاً اتصل به مرة أخرى وقال له : أنتظرك في السفارة الإسرائيلية اليوم الساعة السابعة مساء .
في الموعد المحدد كان عدنان يقرع الجرس وأدخل بعد أن قال للحارس أنه يريد جورج .
بعد التفتيش الدقيق وبآلة كشف المعادن دخل إلى ممر طويل ثن انحرف المراسل يميناً وقرع الباب إحدى الغرف ودخل عدنان .
قام جورج من خلف المكتب وصافحه بحرارة ثم جلس يتحدث معه عن بيروت والحرب والحياة في لبنان , وأخرج عدنان من جيب معطفه عدة أوراق وقال لجورج : هذه الأوراق فيها معلومات كثيرة حصلت عليها خلال الفترة الماضية .
أمسك جورج بالأوراق وألقى بها على الطاولة , وقال : *** الآن من هذه الأمور كيف خلدون ؟
عدنان : بخير .
جورج : كيف وصلت إليه ؟
فشرح له المصاعب التي واجهته حتى وجد بالصدفة شخصاً يعرفه واهتدى إلي مكان أخيه بعد عشرة أيام من البحث المتواصل .
جورج : كيف المعلومات ؟
عدنان : معلومات لم تحصل عليها " الموساد " !
ضحك جورج وقال : أتمنى ذلك !
قرأ الأوراق بسرعة ثم قال : غداً نتقابل ظهراً في أحد المطاعم وسنتناول الغداء معاً . وأرشده إلى أحد مطاعم المدينة .
واستغرب عدنان عدم اهتمام جورج بالمعلومات وتساءل قائلاً :
هل كشف اللعبة ؟ ! ولكنه لم يستطع تفسير ما حصل . فذهب إلى الموعد في المطعم ولم يجد جورج وانتظره إلى أن وصل .
واعتذر عن التأخير ودار الحديث بينهما حول بيروت كان جورج متأثراً للقاء الأخوة لكن عدنان كان حذراً في إجاباته .
راح عدنان يسأله عن أهله وأخوته وخطيبته الهام فقال له : كلهم بخير وان أردت أن ترسل إليه رسالة , سأوصلها بكل تأكيد .
قال عدنان : سأرسلها من هنا بالبريد العادي .
لاحظ الشاب أن جورج غير مهتم بعمله في " الموساد " وبالمعلومات وكان يعامله بلطف كبير .
قال عدنان : لا أستطيع المجيء إلى هنا مرة أخرى , أو على الأقل قبل فترة طويلة . لأنني لا أستطيع أن آخذ إجازة سأصبح موضع شك من قبل رؤسائي وزملائي .
جورج : حاول أن تجد غطاء للسفر ؟
عدنان : كيف ؟
جورج : نعطيك سلفاً من المال وتفتح شركة سياحية مثلاً في بيروت .
عدنان : ممكن ولكن في هذه الحالة سأتخلى عن عملي في منظمة التحرير .
جورج : كلا ابق كما أنت . إلا تستطيع أن تأخذ إجازة كل شهر أو شهرين أو لمدة ثلاثة أيام ؟ إجازة مرضية , أو لأي سبب آخر ولا تبلغ أحداً انك مسافر .
عدنان : لكن جواز سفري سيختم وبعد فترة ستكون كارثة عندما يطلع أحد المسؤولين على الجواز ويعرف أنني أسافر سراً .
صمت جورج قليلاً ثم قال : لقد وجدت لك حلاً . سأعطيك جواز سفر .
نظر إلى وجه عدنان وقال : ملامح وجهك غريبة وسأعطيك جواز سفر كندياً .
ما رأيك ؟
عدنان : ألا يكتشف أمري ؟
جورج : أنت تتحدث الإنجليزية . أليس كذلك ؟
عدنان : نعم .
جورج : عندما تسافر بجواز السفر الكندي لا تتحدث بالعبرية مطلقاً ولن يشك أحد في الأمر .
عدنان : جواز مزور أم أصلى ؟
ضحك جورج وقال : طبعاً مزور . لكن لا يستطيع أحد أن يكتشفه وتستطيع أن تسافر به إلي كل بلدان العالم ما عدا كندا . هل لديك صور شخصية ؟
عدنان : كم صورة تريد ؟
قهقه جورج وقال : صورة واحدة هل تظننا دائرة الجوازات !
عدنان : لا توجد معي صور .
جورج : اذهب الآن إلى أحد محلات التصوير وصور نفسك وتعال بسرعة , أنا قادر على تصويرك بالسفارة . ولكنني لا أريد أن تتأخر حتى أعطيك جواز سفرك غداً .
خرج الشاب من المطعم وعاد بعد حوالة ربع ساعة وهو يحمل عدة صور صغيرة . فأخذ جورج صورة وقال : غداً نلتقي الساعة الخامسة في السفارة .
حقيبة سرية
كان جورج يجلس خلف المكتب , فتناول حقيبة صغيرة سوداء وقال لعدنان : فتش الحقيبة .
فتش الحقيبة وقال : لم أجد شيئاً .
جورج : ألم تلاحظ شيئاً ؟
عدنان : كلا
جورج : فيها جيب سرى .
أظهر جورج الجيب أمام عدنان وقال له : تخفى أوراقك السرية وفلوسك في الجيب السري ولا يستطيع أحد في المطارات اكتشافه .
ثم ناوله ورقة عليها بعض الأسئلة وثمن تذكرة السفر والإقامة ومبلغاً إضافيا قدره ألف دولار . وقال : بعد شهر أو شهرين تأتى إلى قبرص وكلما وجدت فرصة سانحة سافر فوراً واتصل بي فآتيك .
فتح جورج درج مكتبه وأخرج جواز سفر وقال له : انظر إلى هذا الجواز .
تصفح عدنان الجواز فوجده كندياً وصورته ملصقة عليه باسم جاك وايت هيد .
قال جورج : هذه أسماء كندية , ويجب أن تحفظ كل المعلومات الواردة في جواز سفرك . لا تنسى اسمك . جاك وايت هيد . وعندما تسافر بالجواز الكندي انس تماما أن اسمك عدنان ..
حمل عدنان أغراضه ووضعها في الحقيبة ثم ودع جورج وانصرف , عاد إلى بيروت والتقى بجواد حيث حصل منه على تقرير مفصل حول رحلته إلى قبرص ولقائه مع جورج . ثم أخذ منه جواز السفر الكندي وأوراق الأسئلة والحقيبة السرية لدراسة الرحلة ونتائجها , كان تقييم الرحلة إنها ناجحة تماماً , والمؤشرات تؤكد أن " الموساد " بدأت مرحلة جديدة في العمل , لاسيما بعد أن أعطت عدنان جواز سفر مزوراً لتسهيل رحلاته من بيروت إلى قبرص وغيرها من البلدان الأوروبية , ثم درست احتياجات " الموساد " التي كانت معظمها عسكرية وأمنية . لكن على بسيونى كان يريد أن يتأكد من مسألة واحدة تتعلق بطبيعة ضابط " الموساد " شخصيا .
كانت أجهزة الأمن الفلسطينية قد جمعت معلومات وافية حول جورج خلال الفترة الماضية مصادر مختلفة , وأكدت هذه المعلومات أن جورج يعيش أزمة نفسية , فقد عمل داخل المؤسسة الإسرائيلية واطلع عن قرب على ممارسات المخابرات ضد المدنيين الفلسطينيين , ولم يستطع أن يتقبل الوضع داخل إسرائيل رفع على بسيونى تقريرا حول هذه " الحالة " إلى مدير أجهزة الأمن الفلسطينية طارحاً عليه موضوعاً رئيسياً : تجنيد الكابتن جورج وكان رد المدير أنه لابد أن يدرس هذا الموضوع بشكل موسع لأنها مغامرة كبيرة . قد تؤدى بحياة عدد كبير من رجال المقاومة .
بسيونى : سنقترب من جورج أكثر وبشكل تدريجي . وبعدها سنقرر , ولن يشعر بشيء .
وافق مدير أجهزة الأمن الفلسطينية على تفاصيل الخطة التي سيعهد بتنفيذها إلى الضابط جواد حسين . وبدأ جواد يستعد , وأحيطت العملية بإطار بالغ السرية ولم يطلع على ملف القضية سوى ثلاثة أشخاص : المدير وعلى بسيونى والضابط جواد حسين . في حين كانت العملية مكلفة مالياً وتحتاج إلي جهد كبير من الإعداد والدراسة .
وكان جواد قد تخرج من جامعة موسكو حصل فيها على الماجستير في الدراسات الشرقية , وأقام في الاتحاد السوفيتي سنوات دراسته وهو يعرف البلد بشكل جيد ويتقن اللغة الروسية ويتكلمها بطلاقة . وبعد انضمامه إلى الثورة الفلسطينية وترشيحه للعمل في أجهزة الأمن الفلسطينية , تم ايفاده في دورات أمنية إلى الاتحاد السوفيتي وألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا .
ويعتبر جواد من الضباط المميزين في أجهزة الأمن , فهو يتمتع بذكاء كبير وسرعة البديهة , ويتقن اللهجة اللبنانية , وقد لعب أدواراً مهمة في الحرب الأهلية واللبنانية في ضبط شبكات " الموساد " من خلال عمله في فرقة "مكافحة التجسس" الفلسطينية وعلى الرغم من أن شكله لا يوحي بما يتمتع به هذا الرجل من جرأة ودهاء فالحديث معه يعكس انطباعاً بأنه شخص وديع وأبعد ما يكون عن صفاته الحقيقية .
بعد عودة عدنان من نيقوسيا بحث عن أخيه فلم يجده . وبعد حوالي شهر , أي في أواخر يناير ( كانون الثاني ) 1978 , أجمعه به لقاء خاطف فأخذ خلدون يستفسر عن أهله وأخوته . وكأنه يرى عدنان لأول مرة أحس الأخير بأن أخاه لديه الكثير مما يريد قوله , لكنه لسبب ما كانت الكلمات تتوقف شفى حنجرته فلا يبوح بشيء وصدر عنه بكلام مبهم غير مفهوم , وكان يسأله عن أهله ثم يوصيه في الوقت نفسه بأن يبقى ملتزماً خط الثورة الفلسطينية النضالي ويوصيه بأن يبقى وفياً لأهله وخطيبته الهام .
أحس عدنان بأن أخاه يودع الدنيا . فما الذي حصل لخلدون ؟ !هذه التساؤلات أقلقت عدنان لأيام عديدة , ولم يستطع تفسير ذلك اللقاء الذي انتهى بوداع خلدون وهو يقول : أنا ذاهب إلى معسكر في الجنوب . وقد أعود . وإذا سافرت إلى الأرض المحتلة بلغ تحياتي إلي والدتي ووالدي واخوتي وكل أحبائنا , والهام لا تنساها . إنها طيبة وتحبك .
رأى عدنان سعادة في عيني أخيه لم يرها طوال حياته . لقد تغير خلدون كلياً وسعادته بادية تماماً على وجهه وعينيه وحركاته وهو ذاهب إلى الجنوب .
أدرك عدنان سبب فرح خلدون وتأكدت شكوكه , فعاد إلى غرفته وهو يفكر :
هل يقول لأخيه ألا يذهب , كيف ؟ لا يمكن فالواجب أهم من العواطف . وانحدرت دمعة من عينه , ثم انتفض من مكانه وكأنه يريد إبعاد الهواجس عن نفسه .
في أوائل مارس ( آذار ) 1978 كان عدنان يستعد للسفر إلى نيقوسيا , وكان ميخائيل ( جواد حسين ) يستعد بدوره للسفر بدون علم عدنان مع فريق من جهاز الأمن الفلسطيني .