مــدخـل
إلـى عـلم الإنسـان
(الأنثروبولوجيا )
الدكتور عيسى الشمّاس
مــدخـل
إلـى عـلم الإنسـان
(الأنثروبولوجيا )
- دراســــة -
تقــديـم
تعدّدت الدراسات والاتجاهات التي تناولت الأنثروبولوجيا، في الآونة الأخيرة، بوصفها علماً حديث العهد، على الرغم من مرور ما يقرب من القرن وربع القرن على نشأة هذا العلم.
لقد اتّسعت مجالات البحث والدراسة في هذا العلم الجديد، وتداخلت موضوعاته مع موضوعات بعض العلوم الأخرى، ولا سيّما علوم الأحياء والاجتماع والفلسفة. كما تعدّدت مناهجه النظرية والتطبيقية، تبعاً لتعدّد تخصّصاته ومجالاته، ولا سيّما في المرحلة الأخيرة حيث التغيرات الكبيرة والمتسارعة، التي كان لها آثار واضحة في حياة البشر كأفراد و كمجتمعات .
وبما أنّ الأنثروبولوجيا تهتمّ بدراسة الإنسان، شأنها في ذلك شأن العلوم الإنسانية الأخرى، فهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمجتمع الإنساني الذي توجد فيه، حيث تعكس بنيته الأساسية والقيم السائدة فيه، وتخدم بالتالي مصالحه في التحسين والتطوير .
ثمّة من يردّ بدايات تاريخ الأنثروبولوجيا إلى العصور القديمة، إلاّ أنّ الأنثروبولوجيين الغربيين، ولا سيّما الأوروبيون، يرون أنّ الأصول النظرية الأساسية لعلم الأنثروبولوجيا، ظهرت إبّان عصر التنوير في أوروبا (عصر النهضة الأوروبية )، حيث تمّت كشوفات جغرافية وثقافية لا يستهان بها، لبلاد ومجتمعات مختلفة خارج القارة الأوربية .
وقد قدّمت هذه الكشوفات معلومات هامة عن الشعوب القاطنة في تلك البلاد، أدّت إلى تغيّرات جذرية في الاتجاهات الفلسفية السائدة آنذاك، عن حياة البشر وطبيعة المجتمعات الإنسانية وثقافاتها وتطوّرها. وهذا ما أدّى بالتالي إلى تطوير المعرفة الأنثروبولوجيّة، واستقلالها فيما بعد عن دائرة الفلسفة الاجتماعية .
لقد انحسرت الفلسفة – إلى حدّ ما – في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أمام التفكير العلمي، حيث تطوّرت العلوم الاجتماعية واستطاع العالم البريطاني / إدوارد تايلورE. Tylor / أن يرى في تنوّع أساليب حياة الشعوب وتطوّرها، ظاهرة جديرة بالدراسة، وأنّ علماّ جديداً يجب أن ينشأ ويقوم بهذه المهمّة. وسمّى تايلور هذه الظاهرة بـ" الثقافة Culture أو الحضارة Civilization " .
ومع دخول الأنثروبولوجيا مجال القرن العشرين، بأحداثه وتغيّراته العلمية والاجتماعية والسياسية، طرأت عليها تغيّرات جوهرية في موضوعها ومنهج دراستها، حيث تخلّت عن المنهج النظري وأخذت بالمنهج التطبيقي باعتبارها ظاهرة علميّة، إضافة إلى تحديد علاقة التأثير والتأثّر بينها وبين منظومة العلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى. حيث أصبحت النظرة الشاملة تميّز المنهج الأنثروبولوجي، الذي يتطلّب دراسة أي موضوع – مهما كانت طبيعته وأهدافه- دراسة كليّة متكاملة، تحيط بأبعاده المختلفة، وبتلك التفاعلات المتبادلة بين أبعاد هذا الموضوع وجوانب الحياة الأخرى السائدة في المجتمع .
ويأتي هذا الكتاب، ليلقي الضوء على أبرز الجوانب في علم الأنثروبولوجيا، من حيث أبعاده النظرية والتطبيقية. ولذلك، قسّم الكتاب إلى ثلاثة أبواب تضمّن كلّ منها عدداً من الفصول، على النحو التالي :
الباب الأوّل – تضمّن ثلاثة فصول، تحدّثت عن : مفهوم الأنثروبولوجيا وأهدافها، ونشأتها وتاريخها، وعلاقتها بالعلوم الأخرى .
الباب الثاني- تضمّن ستة فصول، تحدّثت عن : الدراسات الأنثروبولوجية واتّجاهاتها المعاصرة، والفروع الأنثروبولوجية (العضوية – النفسيّة- الثقافية- الاجتماعية )، والمنهج الأنثروبولوجي والدراسات الميدانية .
الباب الثالث- تضمّن ثلاثة فصول، تحدّثت عن : البناء الاجتماعي ووظائفه، والأنثروبولوجيا في المجتمع الحديث، والاتّجاه نحو أنثروبولوجية عربية.
والأمل في أن يقدّم هذا الكتاب، رؤية واضحة عن هذا العلم الحديث (الأنثروبولوجيا)، على الأقلّ في مجتمعنا وجامعاتنا، وبما يحقّق الفائدة المرجوّة لطلبتنا الأعزّاء.
في 20/ 5 / 2003 المؤلِّف
cc
الباب الأوّل :
مفهوم الأنثروبولوجيــا وأهدافها
وعلاقتها بالعلوم الأخرى
الفصل الأول – مفهوم الأنثروبولوجيا وطبيعتها وأهدافها
الفصل الثاني – نشأة الأنثروبولوجيا وتاريخها
الفصل الثالث-علاقة الأنثروبولوجيا بالعلوم الأخرى
الفصل الأول
مفهوم الأنثروبولوجيا وطبيعتها وأهدافها
مقــدّمـة
أولاً- مفهوم الأنثروبولوجيا
ثانياً- طبيعة الأنثروبولوجيا
ثالثاً- أهداف الأنثروبولوجيا
مقدّمــة :
يجمع الباحثون في علم " الأنثروبولوجيا " على أنّه علم حديث العهد، إذا ما قيس ببعض العلوم الأخرى كالفلسفة والطب والفلك .. وغيرها. إلاّ أنّ البحث في شؤون الإنسان والمجتمعات الإنسانية قديم قدم الإنسان، مذ وعى ذاته وبدأ يسعى للتفاعل الإيجابي مع بيئته الطبيعية والاجتماعية .
لقد درج العلماء والفلاسفة في كل مكان وزمان عبر التاريخ الإنساني، على وضع نظريات عن طبيعة المجتمعات البشرية، وما يدخل في نسيجها وأبنيتها من دين أو سلالة، ومن ثمّ تقسيم كلّ مجتمع إلى طبقات بحسب عاداتها ومشاعرها ومصالحها. وقد أسهمت الرحلات التجارية والاكتشافية، وأيضاً الحروب، بدور هام في حدوث الاتصالات المختلفة بين الشعوب والمجتمعات البشرية، حيث قرّبت فيما بينها وأتاحت معرفة كلّ منها بالآخر، ولا سيّما ما يتعلّق باللغة والتقاليد والقيم .. ولذلك، فمن الصعوبة بمكان، تحديد تاريخ معيّن لبداية الأنثروبولوجيا.
أولاً-مفهوم الأنثروبولوجيا
إنّ لفظة أنثروبولوجيا Anthropology، هي كلمة إنكليزية مشتقّة من الأصل اليوناني المكوّن من مقطعين : أنثروبوسAnthropos ، ومعناه " الإنسان " و لوجوس Locos، ومعناه " علم ". وبذلك يصبح معنى الأنثروبولوجيا من حيث اللفظ " علم الإنسان " أي العلم الذي يدرس الإنسان .
(Nicholson, 1968, P.1)
ولذلك، تعرّف الأنثروبولوجيا، بأنّها العلم الذي يدرس الإنسان من حيث هو كائن عضوي حي، يعيش في مجتمع تسوده نظم وأنساق اجتماعية في ظلّ ثقافة معيّنة .. ويقوم بأعمال متعدّدة، ويسلك سلوكاً محدّداً؛ وهو أيضاً العلم الذي يدرس الحياة البدائية، والحياة الحديثة المعاصرة، ويحاول التنبّؤ بمستقبل الإنسان معتمداً على تطوّره عبر التاريخ الإنساني الطويل. . ولذا يعتبر علم دراسة الإنسان (الأنثروبولوجيا) علماً متطوّراً، يدرس الإنسان وسلوكه وأعماله (أبو هلال، 1974، ص 9)
وتعرف الأنثروبولوجيا أيضاً، بأنّها علم (الأناسة) العلم الذي يدرس الإنسان كمخلوق، ينتمي إلى العالم الحيواني من جهة، ومن جهة أخرى أنّه الوحيد من الأنواع الحيوانية كلّها، الذي يصنع الثقافة ويبدعها، والمخلوق الذي يتميّز عنها جميعاً .( الجباوي، 1997، ص 9)
كما تعرّف الأنثروبولوجيا بصورة مختصرة وشاملة بأنّها " علم دراسة الإنسان طبيعياً واجتماعياً وحضارياً " (سليم، 1981، ص 56) أي أنّ الأنثروبولوجيا لا تدرس الإنسان ككائن وحيد بذاته، أو منعزل عن أبناء جنسه، إنّما تدرسه بوصفه كائناً اجتماعياً بطبعه، يحيا في مجتمع معيّن لـه ميزاته الخاصة في مكان وزمان معينين .
فالأنثروبولوجيا بوصفها دراسة للإنسان في أبعاده المختلفة، البيوفيزيائية والاجتماعية والثقافية، فهي علم شامل يجمع بين ميادين ومجالات متباينة ومختلفة بعضها عن بعض، اختلاف علم التشريح عن تاريخ تطوّر الجنس البشري والجماعات العرقية، وعن دراسة النظم الاجتماعية من سياسيّة واقتصادية وقرابية ودينية وقانونية، وما إليها .. وكذلك عن الإبداع الإنساني في مجالات الثقافة المتنّوعة التي تشمل : التراث الفكري وأنماط القيم وأنساق الفكر والإبداع الأدبي والفني، بل والعادات والتقاليد ومظاهر السلوك في المجتمعات الإنسانية المختلفة، وإن كانت لا تزال تعطي عناية خاصة للمجتمعات التقليدية. (أبو زيد، 2001، ص 7)
وهذا يتوافق مع تعريف / تايلور/ الذي يرى أنّ الأنثروبولوجيا : "هي الدراسة البيوثقافية المقارنة للإنسان " إذ تحاول الكشف عن العلاقة بين المظاهر البيولوجية الموروثة للإنسان، وما يتلقاه من تعليم وتنشئة اجتماعية. وبهذا المعنى، تتناول الأنثروبولوجيا موضوعات مختلفة من العلوم والتخصّصات التي تتعلّق بالإنسان .
ثانياً-طبيعة الأنثروبولوجيا
إنّ الشعوب الناطقة باللغة الإنكليزية جميعها، تطلق على علم الأنثروبولوجيا : " علم الإنسان وأعماله " بينما يطلق المصطلح ذاته في البلدان الأوروبية غير الناطقة بالإنكليزية، على " دراسة الخصائص الجسمية للإنسان". ويصل هذا الاختلاف إلى طبيعة علم الأنثروبولوجيا .. فبينما يعني في أوروبا، الأنثروبولوجيا الفيزيقية، وينظر إلى علمي الآثار واللغويات كفرعين منفصلين، فإنّ الأمريكيين يستخدمون مصطلح (الإثنولوجيا أو الإثنوغرافيا) لوصف (الإثنوجرافيا الثقافية) والتي يطلق عليها البريطانيون (الأنثروبولوجيا الاجتماعية) .
ففي إنكلترا مثلاً، يطلق مصطلح الأنثروبولوجيا، على دراسة الشعوب وكياناتها الاجتماعية، مع ميل خاص للتأكيد على دراسة الشعوب البدائية. أمّا في أمريكا، فيرى العلماء أنّ الأنثروبولوجيا، هي علم دراسة الثقافات البشرية البدائية والمعاصرة، في حين أنّ علماء فرنسا يعنون بهذا المصطلح، دراسة الإنسان من الناحية الطبيعية، أي " العضوية " .( كلوكهون، 1964، 209 )
فعلم الأنثروبولوجيا يركّز اهتمامه على كائن واحد، هو الإنسان، ويحاول فهم أنواع الظاهرات المختلفة التي تؤثّر فيه .. في حين تركّز العلوم الأخرى اهتمامها على أنواع محدّدة من الظاهرات أنّى وجدت في الطبيعة .وكان علم الأنثروبولوجيا، وما زال، يحاول فهم كلّ ما يمكن فهمه أو معرفته عن طبيعة هذا المخلوق الغريب الذي يسير على قدمين، وكذلك فهم سلوكه الذي يفوق طبيعته الجسمية غرابة .
ومع أنّ علماء الأنثروبولوجيا، استطاعوا استخدام بعض الأساليب التي طوّرتها العلوم الاجتماعية، فإنّهم قلّما اضطروا إلى انتظار تطوّر مثل هذه الأساليب .. والواقع أنّ إسهامهم في تطوّر العلوم الاجتماعية، لا يقلّ شأناً عن إسهام هذه العلوم في تطوّر الأنثروبولوجيا. ولذلك، ينقسم علم الأنثروبولوجيا إلى قسمين أساسيين كبيرين : يبحث الأول في الإنسان، ويعرف بالأنثروبولوجيا الطبيعية، في حين يبحث الثاني في أعمال الإنسان، ويعرف بالأنثروبولوجيا الثقافية / الحضارية .( لينتون، 1967، ص 15-16)
واستناداً إلى هذه المنطلقات، فقد حدّدت الباحثة الأمريكية / مارغريت ميد/ طبيعة علم الأنثروبولوجيا وأبعاده، بقولها : " إنّنا نصنّف الخصائص الإنسانية للجنس البشري (البيولوجية والثقافية) كأنساق مترابطة ومتغيّرة، وذلك عن طريق نماذج ومقاييس ومناهج متطوّرة. كما نهتمّ أيضاً بوصف النظم الاجتماعية والتكنولوجية وتحليلها، إضافة إلى البحث في الإدراك العقلي للإنسان وابتكاراته ومعتقداته ووسائل اتصالاته. وبصفة عامة، نسعى – نحن الأنثروبولوجيين –لتفسير نتائج دراساتنا والربط فيما بينها في إطار نظريات التطوّر، أو ضمن مفهوم الوحدة النفسيّة المشتركة بين البشر .."( Mead, 1973, p.280)
وتأسيساً على ما تقدّم، فإنّ الأنثروبولوجيا هي العلم الذي يدرس الإنسان، ويدرس أوجه الشبه وأوجه الاختلاف بينه وبين الكائنات الحيّة الأخرى من جهة، وأوجه الشبه والاختلاف بين الإنسان وأخيه الإنسان من جهة أخرى.
وفي الوقت ذاته، يدرس السلوك الإنساني ضمن الإطار الثقافي والاجتماعي بوجه عام. فلا تهتمّ الأنثروبولوجيا بالإنسان الفرد، كما تفعل الفيزيولوجيا أو علم النفس، وإنّما تهتمّ بالإنسان الذي يعيش في جماعات وأجناس، وتدرس الناس في أحداثهم وأفعالهم الحياتية .
ثالثاً- أهداف دراسة الأنثروبولوجيا
استناداً إلى مفهوم الانثروبولوجيا وطبيعتها، فإنّ دراستها تحقّق مجموعة من الأهداف، يمكن حصرها في الأمور التالية :
3/1- وصف مظاهر الحياة البشرية والحضارية وصفاً دقيقاً، وذلك عن طريق معايشة الباحث المجموعة أو الجماعة المدروسة، وتسجيل كلّ ما يقوم به أفرادها من سلوكات في تعاملهم، في الحياة اليوميّة .
3/2- تصنيف مظاهر الحياة البشرية والحضارية بعد دراستها دراسة واقعية، وذلك للوصول إلى أنماط إنسانية عامة، في سياق الترتيب التطوّري الحضاري العام للإنسان : (بدائي- زراعي- صناعي – معرفي – تكنولوجي)
3/3- تحديد أصول التغيّر الذي يحدث للإنسان، وأسباب هذا التغيّر وعملياته بدقّة علمية .. وذلك بالرجوع إلى التراث الإنساني وربطه بالحاضر من خلال المقارنة، وإيجاد عناصر التغيير المختلفة .
4/3- استنتاج المؤشّرات والتوقعّات لاتّجاه التغيير المحتمل، في الظواهر الإنسانية / الحضارية التي تتمّم دراستها، وبالتصوّر بالتالي لإمكانية التنبؤ بمستقبل الجماعة البشرية التي أجريت عليها الدراسة. (لينتون، 1964، ص15)
ويبدو أنّ التباين العرقي بين بني البشر، هو الخاصة البيولوجية التي تستأثر باهتمام العالِم الحديث، أكثر من سائر الخواص البيولوجية الأخرى عند الإنسان. ويبذل المصنّفون العرقيون محاولات دائبة للتوصّل إلى تصنيف عرقي مثالي. فكان من نتائج انشغال علماء الأنثروبولوجيا الجسمية بمشكلة العرق، أن اكتسب مفهوم النوع (العرق) رسوخاً أعاق التفكير بالكائن البشري ذاته. فالأصناف العرقية البشرية ظلّت، وإلى عهد قريب، تعتبر كيانات ثابتة نسبياً، وقادرة على الصمود أمام تأثيرات البيئة أو قوى التغيّر الفطرية.
ويلاحظ أنّ التطرّف في تمجيد فكرة العرق، أدّى إلى فرض عدد محدود من التصنيفات الصارمة على بني البشر الذين يمتازون بتنوّع لا حدّ له، وأدّى بالتالي إلى زج الأفراد في هذه التصنيفات، بصورة تطمس صفاتهم الأصلية الخاصة. (لينتون، 1967، ص 46)
إنّ اهتمام الأنثروبولوجيا بدراسة المجتمعات الإنسانية كلّها، وعلى المستويات الحضارية كافة، يعتبر منطلقاً أساسياً في فلسفة علم الأنثروبولوجيا وأهدافها. ولكن على الرغم من التوسّع في مجال الدراسات الأنثروبولوجية، فما زالت الاهتمامات التقليدية للأنثروبولوجيا، ولا سيّما وصف الثقافات وأسلوب حياة المجتمعات، ودراسة اللغات واللهجات المحلية وآثار ما قبل التاريخ، تؤّكد ولا شك، تفرّد مجال الأنثروبولوجيا عمّا عداها من العلوم الأخرى، ولا سيّما علم الاجتماع. (فهيم، 1986، ص 35 )
ومن هنا كانت أهميّة الدراسات الأنثروبولوجية في تحديد صفات الكائنات البشرية، وإيجاد القواسم المشتركة فيما بينها، بعيداً عن التعصّب والأحكام المسبقة التي لا تستند إلى أية أصول علمية.
وإذا كان علم الأنثروبولوجيا، بدراساته المختلفة، قد استطاع أن ينجح في إثبات الكثير من الظواهر الخاصة بنشأة الإنسان وطبيعته، ومراحل تطوّره الثقافي / الحضاري، فإنّ أهمّ ما أثبته هو، أنّ الشعوب البشرية بأجناسها المتعدّدة، تتشابه إلى حدّ التطابق في طبيعتها الأساسية، ولا سيّما في النواحي العضوية والحيوية .
***
مصادر الفصل ومراجعه
- أبو هلال، أحمد (1874) مقدّمة في الأنثروبولوجيا التربوية، المطابع التعاونية، الأردن، عمّان .
- سليم، شاكر (1981) قاموس الأنثروبولوجيا، جامعة الكويت .
- الجباوي، علي (1996/1997) الأنثروبولوجيا – علم الإناسة، جامعة دمشق .
- فهيم، حسين (1986) قصّة الأنثروبولوجيا – فصول في تاريخ علم الإنسان، عالم المعرفة (98)، شباط، الكويت .
- كلاكهون، كلايد (1964) الإنسان في المرآة، ترجمة : شاكر سليم، بغداد .
- لينتون، رالف (1964) دراسة الإنسان، ترجمة : عبد الملك الناشف، المكتبة العصرية، بيروت .
- لينتون، رالف (1967) الأنثروبولوجيا وأزمة العالم الحديث، ترجمة : عبد الملك الناشف، المكتبة العصرية، بيروت .
- Nicholson, C. (1968) Anthropology and Education , London.
- Mauduit, J. A (1960) Mannuel d, Athnographie, Payoy, Paris
Þ
الفصل الثاني
نشأة الأنثروبولوجيا وتاريخها
أولاً- العصر القديم
1- عند الإغريق (اليونانيين القدماء)
2- عند الرومان
3-عند الصينيين القدماء
ثانياً- العصور الوسطى
1- العصور الوسطى في أوروبا
2- العصور الوسطى عند العرب
ثالثاً- عصر النهضة الأوربية
أولاً-الأنثروبولوجيا في العصر القديم :
يجمع معظم علماء الاجتماع والأنثربولوجيا، على أنّ الرحلة التي قام بها المصريون القدماء في عام 1493 قبل الميلاد إلى بلاد بونت (الصومال حالياً)بهدف التبادل التجاري، تعدّ من أقدم الرحلات التاريخية في التعارف بين الشعوب. وقد كانت الرحلة مؤلّفة من خمسة مراكب، على متن كلّ منها /31/ راكباً، وذلك بهدف تسويق بضائعهم النفيسة التي شملت البخور والعطور .ونتج عن هذه الرحلة اتصال المصريين القدماء بأقزام أفريقيا. وتأكيداً لإقامة علاقات معهم فيما بعد، فقد صوّرت النقوش في معبد الدير البحري، استقبال ملك وملكة بلاد / بونت / لمبعوث مصري .(Mauduit, 1960,P.18)
1-عند الإغريق (اليونانيين القدماء ):
يعدّ المؤرخ الإغريقي (اليوناني) هيرودوتس Herodotus، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وكان رحالة محبّاً للأسفار، أول من صوّر أحلام الشعوب وعاداتهم وطرح فكرة وجود تنوّع وفوارق فيما بينها، من حيث النواحي السلالية والثقافية واللغوية والدينية. ولذلك، يعتبره معظم مؤرّخي الأنثربولوجيا الباحث الأنثروبولوجي الأوّل في التاريخ .
فهو أول من قام بجمع معلومات وصفيّة دقيقة عن عدد كبير من الشعوب غير الأوروبية (حوالي خمسين شعباً )، حيث تناول بالتفصيل تقاليدهم وعاداتهم، وملامحهم الجسميّة وأصولهم السلالية .(Darnell, 1978, P.13) إضافة إلى أنّه قدّم وصفاً دقيقاً لمصر وأحوالها وشعبها، وهو قائل العبارة الشهيرة : "مصر هبة النيل " .
وممّا يقوله في عادات المصريين القدماء : " إنّه في غير المصريين، يطلق كهنة الآلهة شعورهم، أمّا في مصر فيحلقونها. ويقضي العرف عند سائر الشعوب، بأن يحلق أقارب المصاب رؤوسهم في أثناء الحداد، ولكن المصريين إذا نزلت بساحتهم محنة الموت، فإنّهم يطلقون شعر الرأس واللحية " (خفاجة، 1966، ص 120)
وأمّا عن المقارنة بين بعض العادات الإغريقية والليبية، فيقول : " يبدو أنّ ثوب أثينا ودرعها وتماثيلها، نقلها الإغريق عن النساء الليبيات. غير أنّ لباس الليبيات جلدي، وأنّ عذبات دروعهن المصنوعة من جلد الماعز ليست ثعابين، بل هي مصنوعة من سيور جلد الحيوان. وأما ما عدا ذلك، فإنّ الثوب والدرع في الحاليتين سواء .. ومن الليبيين تعلّم الإغريق كيف يقودون العربات ذات الخيول الأربعة " (خشيم، 1967، ص 87 )
واستناداً إلى هذه الإسهامات المبكرة والجادة، يعتقد الكثيرون من علماء الأنثروبولوجيا، أنّ منهج هيرودوتس في وصف ثقافات الشعوب وحياتهم وبعض نظمهم الاجتماعية، ينطوي على بعض أساسيات المنهج (الأثنوجرافي) المتعارف عليه في العصر الحاضر باسم (علم الشعوب) .
وكذلك نجد أنّ أرسطو (348- 322 ق.م) كان من أوائل الذين وضعوا بعض أوليات الفكر التطوّري للكائنات الحيّة، وذلك من خلال ملاحظاته وتأمّلاته في التركيبات البيولوجية وتطوّرها في الحيوان .. كما ينسب إليه أيضاً، توجيه الفكر نحو وصف نشأة الحكومات وتحليل أشكالها وأفضلها، الأمر الذي يعتبر مساهمة مبدئية وهامة في دراسة النظم الاجتماعية والإنسانية. (فهيم، 1986، ص 46)
إنّ الدارس أعمال الفلاسفة اليونانيين يصل إلى معلومة طريفة وذات صلة بالفكر الأنثروبولوجي، وهي: أنّ اليونانيين أخذوا الكثير من الحضارات التي سبقتهم، حيث امتزجت فلسفتهم بالحضارة المصرية القديمة، وتمخّض عنها ما يعرف باسم " الحضارة الهيليلنية " تلك الحضارة التي سادت وازدهرت في القرون الثلاثة السابقة للميلاد.
وعلى الرغم من هذا الطابع الفلسفي الذي يناقض – إلى حدّ ما – ما تتّجه إليه الدراسات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية (علم الاجتماع)من دراسة ما هو قائم، لا ما يجب أن تكون عليه الأحوال الاجتماعية والثقافية، فإنّ فضل الفكر الفلسفي اليوناني، ولا سيّما عند كبار فلاسفتهم، لا يمكن التقليل من شأنه أبداً.
2- عند الرومان :
امتدّ عصر الإمبراطورية الرومانية حوالي ستة قرون، تابع خلالها الرومان ما طرحه اليونانيون من مسائل وأفكار حول بناء المجتمعات الإنسانية وطبيعتها، وتفسير التباين والاختلاف فيما بينها.. ولكنّهم لم يأخذوا بالنماذج المثالية/ المجرّدة للحياة الإنسانية، بل وجّهوا دراساتهم نحو الواقع الملموس والمحسوس. ومع ذلك، لا يجد الأنثروبولوجيون في الفكر الروماني ما يمكن اعتباره كإسهامات أصيلة في نشأة علم مستقلّ لدراسة الشعوب وثقافاتهم، أو تقاليد راسخة لمثل هذه الدراسات .
ولكن، يمكن أن يستثنى من ذلك، أشعار / كاروس لوكرتيوس / التي احتوت على بعض الأفكار الاجتماعية الهامة. فقد تناول موضوعات عدّة عرضها في ستة أبواب رئيسة، ضمنّها أفكاره ونظرياته عن المادة وحركة الأجرام السماوية وشكلها، وتكوين العالم .. وخصّص الباب السادس لعرض فكرتي : التطوّر والتقدّم، حيث تحدّث عن الإنسان الأوّل والعقد الاجتماعي، ونظامي الملكية والحكومة، ونشأة اللغة، إضافة إلى مناقشة العادات والتقاليد والفنون والأزياء والموسيقى .( فهيم، 1986، ص47)
وقد رأى بعض الأنثروبولوجيين، أنّ /لوكرتيوس / استطاع أن يتصوّر مسار البشرية في عصور حجرية ثمّ برونزية، ثمّ حديدية .. بينما رأى بعضهم الآخر في فكر لوكرتيوس، تطابقاً مع فكر لويس مورجان –L. Morgan
(1818-1881) أحد أعلام الأنثروبولوجيا في القرن التاسع عشر. وذلك من حيث رؤية التقدّم والانتقال من مرحلة إلى أخرى، في إطار حدوث طفرات مادية، وإن كان مردّها في النهاية إلى عمليات وابتكارات عقلية .
( Darnell ,1978 ,p.15)
وإذا استثنينا أشعار / لوكرتيوس / هذه وما احتوتها من أفكار تتعلّق بطبيعة الكون ونشأة الإنسان وتطوّره، فإنّه من الصعوبة بمكان أن تنسب نشأة علم الأنثروبولوجيا إلى الفكر الروماني القديم، كما هي الحال عند الإغريقيين .
وعلى الرغم من أنّ الرومان اهتموا بالواقع، من حيث ربط السلالات البشرية بإمكانية التقدّم الاجتماعي والحركة الحضارية، فقد وجدوا في أنفسهم امتيازاً وأفضلية على الشعوب الأخرى. فكان الروماني فوق غيره بحكم القانون، حتى أنّ الرومان إذا أرادوا أن يرفعوا من قدر إنسان أو شأن سلالة، أصدرت الدولة قراراً بمنح الجنسية الرومانية لأي منهما (مؤنس، 1978، 43) ويبدو أنّ هذا الاتجاه العنصري، وجد في معظم الحضارات القديمة، ولا سيّما الحضارات الشرقية : الإغريقية والرومانية والصينية .
3-عند الصينيين القدماء:
يعتقد بعض المؤرّخين، ولا سيّما الأنثروبولوجيون منهم، أنّه على الرغم من اهتمام الصينيين القدماء بالحضارة الرومانية وتقديرها، فلم يجدوا فيها ما ينافس حضارتهم.
كان الصينيون القدماء يشعرون بالأمن والهدوء داخل حدود بلادهم، وكانوا مكتفين ذاتياً من الناحية الاقتصادية المعاشية، حتى أن تجارتهم الخارجية انحصرت فقط في تبادل السلع والمنافع، من دون أن يكون لها تأثيرات ثقافية عميقة. فلم يعبأ الصينيون في القديم بالثقافات الأخرى خارج حدودهم، ومع ذلك، لم يخلُ تاريخهم من بعض الكتابات الوصفية لعادات الجماعات البربرية، والتي كانت تتّسم بالازدراء والاحتقار. Darnell , 1878 , p.15) )
وهذا الاتّجاه نابع من نظرة الصينيين القدماء العنصرية، إذ كانوا يعتقدون – كالرومان – أنّهم أفضل الخلق، وأنّه لا وجود لأيّة حضارة أو فضيلة خارج جنسهم، بل كانوا يرون أنّهم لا يحتاجون إلى غيرهم في شيء .. ولكي يؤكّد ملوكهم هذا الواقع، أقاموا " سور الصين العظيم " حتى لا تدنّس أرضهم بأقدام الآخرين.(مؤنس، 1978، ص 15)
ولذلك، اهتمّ فلاسفة الصين القدماء، بالأخلاق وشؤون المجتمعات البشرية، من خلال الاتجاهات الواقعية / العملية في دراسة أمور الحياة الإنسانية ومعالجتها، لأنّ معرفة الأنماط السلوكية التي ترتبط بالبناء الاجتماعي، في أي مجتمع، تسهم في تقديم الدليل الواضح على التراث الثقافي لهذا المجتمع، والذي يكشف بالتالي عن طرائق التعامل فيما بينهم من جهة، ويحدّد أفضل الطرائق للتعامل معهم من جهة أخرى. وهذا ما يفيد الباحثين في العلوم الأخرى، ولا سيّما تلك التي تعنى بالإنسان.
ثانياً- الأنثربولوجيا في العصور الوسطى
يجمع معظم المؤرّخين أن هذه العصور، تمتدّ من القرن الرابع إلى القرن الرابع عشر الميلادي. وقد اصطلح على تسميتها بالعصور الوسطى كونها ارتبطت بتدهور الحضارة الأوربية وارتداد الفكر إلى حقبة مظلمة من جهة، ولأنّها من جهة وقعت بين عهدين هما: نهاية ازدهار الفلسفات الأوربية القديمة (اليونانية والرومانية) وبداية عصر النهضة الأوربية (عصر التنوير) والانطلاق إلى مجالات جديدة من استكشاف العوالم الأخرى، وإحياء التراث الفكري القديم، وإبداعات في الفنون والآداب المختلفة، في الوقت الذي كانت فيه الحضارة العربية الإسلامية تزدهر، وتتّسع لتشمل مجالات العلوم المختلفة .
1- العصور الوسطى في أوربا :
يذكر المؤرّخون أنّه في هذه العصور الوسطى (المظلمة) تدهور التفكير العقلاني، وأدينت أيّة أفكار تخالف التعاليم المسيحيّة، أو ما تقدّمه الكنيسة من تفسيرات للكون والحياة الإنسانية، سواء في منشئها أو في مآلها. ولكن إلى جانب ذلك، كانت مراكز أخرى وجّهت منطلقات المعرفة، وحدّدت طبيعة الحضارة الغربية في تلك العصور، كبلاط الملوك مثلاً، الذي كان يضمّ في العادة، فئات من المثقفين كرجال الإدارة والسياسة والشعراء. (فهيم، 1986، ص 50)
يضاف إلى ذلك التوسّع في دراسة القانون (جامعة بولونيا) ودراسة الفلسفة واللاهوت (جامعة باريس) ممّا كانت لـه آثار واضحة في الحياة الأوربية العامة (السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية) ومهّد بالتالي للنهضة التي شهدتها أوروبا بعد هذه العصور .
لقد ظهرت في هذه المرحلة محاولات عدّة للكتابة عن بعض الشعوب، إلاّ أنّها اتّسمت – غالباً- بالوصف التخيّلي، بعيدة عن المشاهدة المباشرة على أرض الواقع. مثال ذلك، ما قام به الأسقف / إسيدور Isidore / الذي عاش ما بين (560- 636) حيث أعدّ في القرن السابع الميلادي موسوعة عن المعرفة، وأشار فيها إلى بعض تقاليد الشعوب المجاورة وعاداتهم، ولكن بطريقة وصفية عفوية، تتّسم بالسطحية والتحيّز.
وممّا ذكره، أنّ قرب الشعوب من أوربا أو بعدها عنها، يحدّد درجة تقدّمها، فكلّما كانت المسافة بعيدة، كان الانحطاط والتهور الحضاري مؤكّدا لتلك الشعوب. ووصف الناس الذين يعيشون في أماكن نائية، بأنّهم من سلالات غريبة الخَلق، حيث تبدو وجوههم بلا أنوف .
وقد ظلّت تلك المعلومات سائدة وشائعة حتى القرن الثالث عشر، حيث ظهرت موسوعة أخرى أعدّها الفرنسي / باتولو ماكوس Batholo Macus/، والتي حظيت بشعبية كبيرة، على الرغم من أنّها لم تختلف كثيراً عن سابقتها في الاعتماد على الخيال .( المرجع السابق، ص 52)
2- العصور الوسطى عند العرب :
وتمتدّ من منتصف القرن السابع الميلادي، وحتى نهاية القرن الرابع عشر تقريباّ. حيث بدأ الإسلام في الانتشار، وبدأت معه بوادر الحضارة العربية الإسلامية آنذاك بالتكوين والازدهار. وقد تضمّنت هذه الحضارة : الآداب والأخلاق والفلسفة والمنطق، كما كانت ذات تأثيرات خاصة في الحياة السياسية والاجتماعية والعلاقات الدولية .( Darnell,1978, p.259)
وقد اقتضت الأوضاع الجديدة التي أحدثتها الفتوحات العربية الإسلامية، الاهتمام بدراسة أحوال الناس في البلاد المفتوحة وسبل إدارتها، حيث أصبح ذلك من ضرورات التنظيم والحكم .
ولذلك، برز العرب في وضع المعاجم الجغرافية، كمعجم (البلدان) لياقوت الحموي. وكذلك إعداد الموسوعات الكبيرة التي بلغت ذروتها في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر ميلادي) مثل " مسالك الأمصار " لإبن فضل الله العمري، و " نهاية الأرب في فنون العرب " للنويري .
وإلى جانب اهتمّام هذه الكتب الموسوعية بشؤون العمران ، فقد تميّزت مادتها بالاعتماد على المشاهدة والخبرة الشخصيّة، وهذا ما جعلها مادة خصبة من ناحية المنهج الأنثروبولوجي في دراسة الشعوب والثقافات الإنسانية .
وهناك من تخصّص في وصف إقليم واحد مثل/ البيروني/ الذي عاش ما بين (362 – 440 هجرية) ووضع كتاباً عن الهند بعنوان " تحرير ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة " .وصف فيه المجتمع الهندي بما فيه من نظم دينية واجتماعية وأنماط ثقافية. واهتمّ أيضاً بمقارنة تلك النظم والسلوكيات الثقافية، بمثيلاتها عند اليونان والعرب والفرس. وأبرز البيروني في هذا الكتاب، حقيقة أنّ الدين يؤدّي الدور الرئيس في تكبيل الحياة الهندية، وتوجيه سلوك الأفراد والجماعات، وصياغة القيم والمعتقدات .( فهيم، 1986، ص54)
كما كانت لرحلات ابن بطوطة وكتاباته خصائص ذات طابع أنثروبولوجي، برزت في اهتمامه بالناس ووصف حياتهم اليومية، وطابع شخصياتهم وأنماط سلوكاتهم وقيمهم وتقاليدهم. فمّما كتبه في استحسان أفعال أهل السودان : " فمن أفعالهم قلّة الظلم، فهم أبعد الناس عنه وسلطانهم لا يسامح أحداً في شيء منه. ومنها شمول الأمن في بلادهم، فلا يخاف المسافر فيها ولا المقيم من سارق ولا غاضب. ومنها عدم تعرّضهم لمال من يموت في بلادهم من البيضان (البيض والأجانب) ولو كان القناطير المقنطرة. وإنّما يتركونه بيد ثقة من البيضان، حتى يأخذه مستحقّه. (ابن بطوطة، 1968، ص 672)
أمّا كتاب ابن خلدون " العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر " فقد نال شهرة كبيرة وواسعة بسبب مقدّمته الرئيسة وعنوانها : " في العمران وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتية من الملك والسلطان، والكسب والمعاش والمصانع والعلوم، وما لذلك من العلل والأسباب ". وتعتبر هذه المقدّمة عملاّ أصيلاً في تسجيل الحياة الاجتماعية لشعوب شمال أفريقيا، ولا سيّما العادات والتقاليد والعلاقات الاجتماعية، إلى جانب بعض المحاولات النظرية لتفسير كلّ ما رآه من أنظمة اجتماعية مختلفة. وقد شكّلت موضوعات هذه المقدّمة – فيما بعد – اهتماماً رئيسياً في الدراسات الأنثروبولوجية.
ومن أهمّ الموضوعات التي تناولها ابن خلدون في مقدّمته، والتي لها صلة باهتمامات الأنثروبولوجيا، هي تلك العلاقة بين البيئة الجغرافية والظواهر الاجتماعية. فقد ردّ ابن خلدون – استناداً إلى تلك الدعامة – اختلاف البشر في ألوانهم وأمزجتهم النفسيّة وصفاتهم الجسمية والخلَقية، إلى البيئة الجغرافية التي اعتبرها أيضاً عاملاً هاماً في تحديد المستوى الحضاري للمجتمعات الإنسانية. (ابن خلدون، ج1، 1966، ص 291) كما تناول ابن خلدون في مقدّمته أيضاً، مسألة قيام الدول وتطوّرها وأحوالها، وبلور نظرية (دورة العمران) بين البداوة والحضارة على أساس المماثلة بين حياة الجماعة البشرية وحياة الكائن الحي.
وقد سيطرت هذه الفكرة على أذهان علماء الاجتماع في الشرق والغرب – على حدّ سواء – في العصور الوسطى .. حيث اعتبر ابن خلدون أن التطوّر هو سنّة الحياة الاجتماعية، وهو الأساس الذي تستند إليه دراسة الظواهر الاجتماعية.
يقول في ذلك : " إنّ أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم، لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقرّ، وإنّما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول. (المرجع السابق، ص 252) فعمر الدول عند ابن خلدون كعمر الكائن البشري، تبدأ بالولادة وتنمو إلى الشباب والنضج والكمال، ثمّ تكبر وتهرم وتتلاشى إلى الزوال .
لقد أرسى ابن خلدون الأسس المنهجية لدراسة المجتمعات البشرية، ودورة الحضارات التي تمرّ بها، فكان بذلك، أسبق من علماء الاجتماع في أوروبا. ولذلك، يرى بعض الكتّاب والمؤرّخين، أن ابن خلدون يعتبر المؤسّس الحقيقي لعلم الاجتماع، بينما يرى بعضهم الآخر، ولا سيّما علماء الأنثروبولوجيا البريطانيون، في مقدّمة ابن خلدون بعضاً من موضوعات الأنثروبولوجيا الاجتماعية ومناهجها .وفي أمريكا، أشار /جون هونجيمان / أيضاً في كتابه " تاريخ الفكر الأنثروبولوجي " إلى أنّ ابن خلدون تناول بعض الأفكار ذات الصلة بنظرية / مارفين هاريس / عـن " المادية الثقافية –Cultural Materialism " ونجد أنّ / هاريس / ذاته، يذكر أنّ ابن خلدون ومن قبله الإدريسي، قدّما أفكاراً ومواد ساعدت في بلورة نظرية الحتمية الجغرافية، التي سادت إباّن القرن الثامن عشر .(( Anderson , 1984 , p.112
واستناداّ إلى ما تقدّم يمكن القول : إنّ الفلاسفة والمفكّرين العرب أسهموا بفاعلية – خلال العصور الوسطى- في معالجة كثير من الظواهر الاجتماعية التي يمكن أن تدخل في الاهتمامات الأنثروبولوجية، ولا سيّما التنوّع الثقافي (الحضاري) بين الشعوب، سواء بدراسة خصائص ثقافة أو حضارة بذاتها، أو بمقارنتها مع ثقافة أخرى. ولكن على الرغم من اعتبارها مصادر للمادة الأثنوجرافية التي درست (أسلوب الحياة في مجتمع معيّن وخلال فترة زمنية محدّدة) ولا سيّما العادات والقيم وأنماط الحياة، فإنّ الأنثروبولوجيا التي تبلورت في أواخر القرن التاسع عشر كعلم جديد معترف به، لم تكن ذات صلة تذكر بهذه الدراسات، ولا بغيرها من الدراسات (اليونانية والرومانية) القديمة .
ثالثاً- الأنثروبولوجيا في عصر النهضة الأوروبية
يتّفق المؤرّخون على أنّ عصر النهضة في أوربا، بدأ في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، حيث شرع الأوروبيون بعملية دراسة انتقائية للعلوم والمعارف الإغريقية والعربية ، مترافقة بحركة ريادية نشطة للاستكشافات الجغرافية. وتبع ذلك الانتقال من المنهج الفلسفي إلى المنهج العلمي التجريبي، في دراسة الظواهر الطبيعية والاجتماعية، والذي تبلور وتكامل في القرن السابع عشر .
إنّ هذه التغيّرات مجتمعة أدّت إلى ترسيخ عصر النهضة أو ما سمّي (عصر التنوير) وأسهمت بالتالي في بلورة الانثربولوجيا في نهاية القرن التاسع عشر، كعلم يدرس تطوّر الحضارة البشرية في إطارها العام وعبر التاريخ الإنساني. الأمر الذي استلزم توافر الموضوعات الوصفية عن ثقافات الشعوب وحضاراتها، في أوروبا وخارجها، من أجل المقارنات، والتعرّف إلى أساليب حياة هذه الشعوب وترتيبها بحسب مراحل تطوريّة معيّنة، بحيث يضع ذلك أساساً لنشأة علم الأنثروبولوجيا .
لعلّ أهمّ رحلة أو( رحلات) استكشافيّة مشهورة أثّرت في علم الأنثروبولوجيا، ما قام بها / كريستوف كولومبوس /إلى القارة الأمريكيـة ما بين (1492- 1502) حيث زخرت مذكّراته عن مشاهداته واحتكاكاته بسكان العالم الجديد، بالكثير من المعلومات والمعارف عن أساليب حياة تلك الشعوب وعاداتها وتقاليدها، اتّسمت بالموضوعية نتيجة للمشاهدة المباشرة .
وممّا قاله في وصف سكان جزر الكاريبيان في المحيط الأطلسي : " إنّ أهل تلك الجزركلّهم عراة تماماً، الرجال منهم والنساء، كما ولدتهم أمَّهاتهم. ومع ذلك، فثمّة بعض النساء اللواتي يغطين عورتهنّ بورق الشجر، أو قطعة من نسيج الألياف تصنع لهذا الغرض. ليست لديهم أسلحة ومواد من الحديد أو الصلب وهم لا يصلحون لاستخدامها على أيّة حال. ولا يرجع السبب في ذلك إلىضعف أجسادهم، وإنّما إلى كونهم خجلون ومسالمون بشكل يثير الإعجاب.. " Oswalt , 1972,p. 10) )
وكتب في وصفه لسكان أمريكا الأصليين : " إنّهم يتمتّعون بحسن الخَلق والخُلُق، وقوّة البنية الجسدية. كما أنّهم يشعرون بحرية التصرّف فيما يمتلكون، إلى حدّ أنّهم لا يتردّدون في إعطاء من يقصدهم أيّاً من ممتلكاتهم، علاوة على أنّهم يتقاسمون ما عندهم برضى وسرور .." (Boorstin,1983, p.628)
وهكذا كان لرحلات كولومبس واكتشافه العالم الجديد (أمريكا) عام 1492أثرها الكبير في إدخال أوروبا حقبة جديدة، وفي تغيير النظرة إلى الإنسان عامة، والإنسان الأوروبي خاصة، ممّا أثّر بالتالي في الفكر الأنثروبولوجي. وذلك، لأنّ هذه الاكتشافات الجغرافية / الاجتماعية وما تبعها من معرفة سكان هذه الأرض بميزاتهم وأنماط حياتهم، أظهرت بوضوح تنوّع الجنس البشري، وأثارت كثيراً من المسائل والدراسات حول قضايا النشوء والتطوّر عند الكائنات البشرية.
لقد تميّز عصر النهضة الأوربية، بظاهرة كان لها تأثير في توليد نظريات جديدة عن العالم والإنسان، وهي أنّ المفكّرين اتفقوا، على الرغم من تباين وجهات نظرهم، على مناهضة فلسفة العصور الوسطى اللاهوتية، التي أعاقت فضول العقل الإنساني إلى معرفة أصول الأشياء ومصادرها، وتكوين الطبيعة وقوانينها، وصفات الإنسان الجسدية والعقلية والأخلاقية. (فهيم، 1986،
ص86)
وظهر نتيجة لهذا الموقف الجديد اتّجاه لدراسة الإنسان، عرف بالمذهب الإنساني (العلمي) اقتضى دراسة الماضي من أجل فهم الحاضر، حيث اتّجهت دراسة الطبيعة الإنسانية وفهم ماهيتها وأبعادها وفق المراحل التاريخية/ التطوّرية للإنسان .
وقد تبلور هذا الاتّجاه (المذهب) العلمي في الدراسات التجريبية والرياضية، التي ظهرت في أعمال بعض علماء القرن السابع عشر، من أمثال: فرانسيس بيكون F.Becon (1561-1626) ورينيه ديكارت R.Decartes
(1596-1650) واسحق نيوتن I. Newton (1642-1727)، وغيرهم. حيث أصبحت النظرة الجديدة للإنسان عل أنّه ظاهرة طبيعية، ويمكن دراسته من خلال البحث العلمي والمنهج التجريبي، ومعرفة القوانين التي تحكم مسيرة التطوّر الإنساني والتقدّم الاجتماعي .وهذا ما أسهم في تشكيل المنطلقات النظرية للفكر الاجتماعي، وأدّى بصورة تدريجية إلى بلورة البدايات النظرية للأنثروبولوجيا، خلال عصر التنوير .
أمّا بالنسبة للدراسات الأثنوجرافية (دراسة أسلوب الحياة والعادات والتقاليد) والدراسات الأثنولوجية (دراسة مقارنة لأساليب الحياة للوصول إلى نظرية النظم الاجتماعية )، والدراسات الأنثروبولوجية الاجتماعية، فثمةّ أعمال كثيرة قام بها العديد من العلماء .
وقد تكون محاولة الرحالة الإسباني (جوزيه آكوستا J. Acosta) في القرن السادس عشر، لربط ملاحظاته الشخصيّة عن السكان الأصليين في العالم الجديد ببعض الأفكار النظرية، المحاولة الأولى لتدوين المادة الأثنوجرافية والتنظير بشأنها.
فقد افترض آكوستا أنّ الهنود الحمر كانوا قد نزحوا أصلاً من آسيا إلى أمريكا، وبذلك فسّر اختلاف حضاراتهم عن تلك التي كانت سائدة في أوروبا حينذاك. وقدّم آكوستا أيضاً افتراضاً آخر حول تطوّر الحضارة الإنسانية عبر مراحل معيّنة، معتمداً في تصنيفه على أساس معرفة الشعوب القراءة والكتابة.
وقد وقفت أوروبا في أعلى الترتيب، وأتت بعدها الصين في المرتبة الثانية لمعرفتها الكتابة، بينما جاءت المكسيك في مرتبة أدنى من ذلك .. وصنّفت المجتمعات الأخرى بدرجات متباينة في المواقع الأدنى من هذا الترتيب. Darnell,1978,p.81)) وربّما شكّل هذا التصنيف أساساً استند إليه الأنثروبولوجيون – فيما بعد- للتمييز بين المجتمعات .
وظهر إلى جانب آكوستا / الإسباني في الدراسة الأثنوجرافية عن الشعوب البدائية، عالم الاجتماع الفرنسي، ميشيل دي مونتاني M.De. Montaigne الذي عاش ما بين (1532-1592) وأجرى مقابلات مع مجموعات من السكان الأصليين في أمريكا المكتشفة، والذين أحضرهم بعض المكتشفين إلى أوربا. وبعد إن جمع منهم المعلومات عن العادات والتقاليد السائدة في موطنهم الأصلي، خرج بالمقولة التالية : " إنّه لكي يفهم العالم فهماً جيّداً، لا بدّ من دراسة التنوّع الحضاري للمجتمعات البشرية واستقصاء أسباب هذا التنوّع " ويكون بذلك قد طرح فكرة (النسبية الأخلاقية).
وممّا قاله في هذا الإطار ما كتبه في مقاله الشهير عن " أكلة لحوم البشر " وجاء فيه : " يبدو أنّ ليس لدينا أي معيار للحقيقة والصواب، إلاّ في إطار ما نجده سائداً من آراء وعادات على الأرض التي نعيش عليها (أوروبا)، حيث نعتقد بوجود أكمل الديانات، وأكثر الطرائق فاعلية في الحصول على الأشياء .
إنّ هؤلاء الناس (أكلة لحوم البشر) فطريون / طبيعيون، مثل الفاكهة البريّة. فقد بقوا على حالهم البسيطة، كما شكّلتهم الطبيعة بطريقتها الخاصة، وتحكّمت فيهم قوانينها وسيّرتهم ." Leach,1982,p.67)) ومن هذه الرؤية، لاقى كتابه الشهير " المقالات " الصادر عام 1579، اهتماماً كبيراً لدى مؤرخي الفكر الأوروبي عامة، والفكر الفرنسي خاصة .
ويأتي القرن الثامن عشر، ليحمل معه كتابات جان جاك روسو J.J. Rossow، التي احتلّت أهميّة كبيرة لدى مؤرّخي علم الأنثروبولوجيا، وذلك بالنظر لما تضمنته في دراستها الأثنوجرافية للشعوب المكتشفة (المجتمعات البدائية) مقارنة مع المجتمعات الغربية / الأوروبية .
لقد تميّزت وجهة النظر الأنثروبولوجية عند روسّو بالتجرّد والموضوعية، حيث تجلّى ذلك في نقد بعض القيم والجوانب الثقافية في مجتمعه الفرنسي، مقابل استحسان بعض الطرائق الحياتية في المجتمعات الأخرى. وفي هذا الإطار، يعدّ كتابه " العقد الاجتماعي" من البواكير الأولى للفكر الأنثروبولوجي.
وكان إلى جانب روسّو، البارون دي مونتسكييه، الذي وضع كتاب (روح القوانين) وأوضح فيه فكرة الترابط الوظيفي بين القوانين والعادات والتقاليد والبيئة. وسادت هذه الفكرة الترابطية في أعمال الأنثروبولوجين في أوائل القرن العشرين، ولا سيّما عند الأنثروبولوجيين الإنجليز، حيث انتقل اهتمام مونتسكييه بدراسة النظم السياسية، وتأثير المناخ على نوعيّة الحضارة أو الثقافة – فيما بعد – إلى الكتابات الأنثروبولوجية، وشكّل مجالاً واسعاً للدراسات الأنثروبولوجية Darnell,1978, p.87)).
أمّا في ألمانيا، فقد تبلور الفكر في عصر التنوير، عن التفوّق العنصري والنزعة القوميّة الشوفينيّة (التعصبيّة ). وظهر ذلك واضحاً في كتابات كلّ من / جورج هيجل (1770-1831) وجوهان فخته (1762-1814)، حيث جعلا الشعب الألماني، الشعب الأمثل والأنقى بين شعوب العالم .
أمّا كتابات جوهان هيردر (1744-1803) فجاءت لتعزّز فكرة التمايز بين السلالات البشرية من ناحية التركيب الجسمي، والتفاوت فيما بينها بمدى التأثّر بمظاهر المدنية، وفي تمثّلها لمقوّمات الحضارة. وعلى هذا الأساس، يذهب هيردر إلى أنّ ثمّة سلالات بشرية خلقت للرقي، وسلالات أخرى قضي عليها بالتأخّر والانحطاط .( الخشاب، 1970، ص375 ).
لكن هذا الاتجاه العنصري في الدراسات الأنثربولوجية، واجه انتقادات كبيرة في بداية القرن العشرين ، حيث برزت فكرة أنّه لا يجوز أن تتّخذ اللغة كأساس أو دليل على الانتماء إلى أصل سلالي واحد، وأنّ العلاقة بين الجنس البشري واللغة، لا يجوز أن تكون أساساً لتقسيم الشعوب الإنسانية إلى سلالات متمايزة. وقد نقض ذلك ودحضه، فيما بعد، الفكر الأنثروبولوجي القائم على المشاهدة الواقعية، والدراسة الميدانية المقارنة لمجتمعات الشعوب الأخرى .
وهنا يمكن القول : إنّ الأنثروبولوجيا المتحرّرة التي ظهرت اتّجاهاتها وقضاياها الانسانية، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، تجد – ولا شكّ - في الكتابات الفرنسية في عصر التنوير، جذوراً أو أصولاً نظرية لمنطلقاتها الفكرية .( فهيم، 1986، ص101).
وتأسيساً على ما تقدّم، يمكن القول : إنّ الفكر الأنثروبولوجي الذي ساد أوروبا في عصر التنوير، وتجلّى في كتابات العديد من الفلاسفة والباحثين والمؤرّخين، شكّل الملامح النظرية الأولى لعلم الأنثروبولوجيا، الذي بدأ يستقل بذاته مع بدايات القرن العشرين، ويتبلور بمنطلقاته وأهدافه في النصف الثاني من القرن ذاته.
**
مصادر الفصل ومراجعه
- ابن بطوطة، أبو عبد الله (1968)، رحلة ابن بطوطة، دار التراث، بيروت .
- ابن خلدون، عبد الرحمن (1966) مقدّمة ابن خلدون، تحقيق :علي عبد الواحد وافي، القاهرة .
- الخشاب، أحمد (1970) دراسات أنثروبولوجية، دار المعارف بمصر .
- خشيم، علي فهمي (1967) نصوص ليبيّة، دار مكتبة الفكر، طرابلس، ليبيا .
- خفاجة، محمد صقر (1966) هيرودت يتحدّث عن مصر، دار العلم، القاهرة .
- فهيم، حسين (1986) قصّة الأنثروبولوجيا- فصول في تاريخ الإنسان، سلسلة عالم المعرفة (198)، الكويت .
- مؤنس، محمد (1978) الحضارة – دراسة في أصول وعوامل قيامها وتدهورها، عالم المعرفة، عدد كانون الثاني، الكويت .
-Anderson, John (1984) Conjuring with Ibn Khaldon: from an Anthropological point of view, Leiden .
-Boorstin, Daniel. J (1985) The Discoveries A History Of Man’s Search to Know his World and Himself .Vintage Books edition .
-Darnell, Regna and editor (1978) Reading in the History of Anthropology, University of Illinois .
- Leach, Edmund (1982) Social Anthropology , Fontana- Paper backs .
-Mauduit, J. A (1960) Manuel d,Athngraphie , Payot , Paris
-Oswalt, Wendell (1972) Other People , Other Customs , Holt Rinehart and Winston Inc .
***
الفصل الثالث
علاقة الأنثروبولوجيا بالعلوم الأخرى
أولاً -علاقة الأنثروبولوجيا بعلم الأحياء
ثانياً-علاقة الأنثروبولوجيا بعلم الاجتماع
ثالثاً-علاقة الأنثروبولوجيا بعلم الفلسفة
رابعاً- علاقة الأنثروبولوجيا بعلم النفس
خامساً_علاقة الأنثروبولوجيا بعلم الجيولوجيا والجغرافيا
مقــدمّة
على الرغم من الاعتراف بالأنثروبولوجيا كعلم مستقلّ بذاته، يدرس الإنسان من حيث نشأته وتطوّره وثقافته، فما زال العلماء، ولا سيّما علماء الإنسان يختلفون حول تصنيف هذا العلم بين العلوم المختلفة .. فيرى بعضهم أنّه من العلوم الاجتماعية، كعلم النفس والاجتماع والتاريخ والسياسة. ويرى بعضهم أيضاً أنّه من العلوم التطبيقية، كالرياضيات والطب والفلك. بينما يرى بعضهم الآخر أنّه من العلوم الإنسانية، كالفلسفة والفنون والديانات ..
لكن هذه العلوم كلّها دخلت على مرّ التاريخ الثقافي لشعب ما، إلى جسد هذه الثقافة وأصبحت جزءاً منها ، ومكوّناً من مكوّناتها، الأمر الذي أدى في النهاية إلى اختلاف الثقافات بين المجتمعات البشرية. ومن هنا كان علم الأنثروبولوجيا، ذا صلة بكثير من العلوم أخرى.
فعلم الأنثروبولوجيا اضطرّ المرة تلو المرّة، إلى الانتظار ريثما تنجح العلوم الطبيعية في استجلاء نقطة معيّنة عن طريق التجارب التي تجرى على الحيوانات. وممّا لا شكّ فيه أنّ نتائج الأبحاث التي أجراها علماء الوراثة على الجرذان وذباب الأشجار المثمرة، هي التي مهّدت الطريق لفهم قوانين الوراثة عند الكائنات البشرية، ولجلاء المشكلات المختلفة المتّصلة بما يسمّى (العروق أو الأجناس البشرية ). غير أنّنا من جهة أخرى، نستطيع القول : إنّ الحقائق التي اكتشفتها العلوم الطبيعية، لا تساعد كثيراً في فهم طبيعة السلوك الإنساني، وذلك لأنّ معظم الظاهرات السلوكية البشرية لا تجد ما يماثلها مماثلة وثيقة على الصعيد الحيواني .
ويصدق هذا بوجه خاص على الظاهرات المتّصلة بالحياة الاجتماعية المنظّمة. فمع أنّ علماء الأنثروبولوجيا استطاعوا استخدام بعض الأساليب التي طوّرتها العلوم الاجتماعية، فإنّهم قلّما اضطرّوا إلى انتظار تطوّر مثل هذه الأساليب. والواقع أنّ إسهامهم في تطوّر العلوم الاجتماعية، لا يقلّ شأناً عن إسهام هذه العلوم في تطوّر الأنثروبولوجيا. (لينتون ،1967، ص 16)
وسنكتفي بتبيان صلة الأنثروبولوجية بعلم الأحياء، وعلم الاجتماع وعلم الفلسفة، وعلم النفس، وعلم الجيولوجيا والجغرافيا، ونترك صلتها بالعلوم الأخرى لأنّها سترد في الفصول اللاحقة، من خلال عرض فروع الأنثروبولوجيا.
أولاً- علاقة الأنثروبولوجيا بعلم الأحياء / البيولوجيا Biology
يتناول علم الأحياء دراسة الكائنات الحيّة من وحيد الخلية الأبسط تركيباً، وحتى كثير الخلايا والأكثر تعقيداً .ولذلك يعرّف بأنّه : العلم الذي يدرس الإنسان كفرد قائم بذاته، من حيث بنية أعضائه وتطوّرها .
ويرتبط علم الأحياء بالعلوم الطبيعية، ولا سيّما علم وظائف الأعضاء والتشريح وحياة الكائن الحي. وتدخل في ذلك، نظرية التطوّر التي تقول بأن أجسام أجناس الكائنات الحيّة وأنواعها ووظائف أعضائها، تتغيّر باستمرار ما دامت هذه الكائنات تتكاثر وتنتج أجيالاً جديدة ، قد تكون أرقى من الأجيال السابقة، كما هي الحال عند الإنسان.
كما تستند هذه النظرية إلى أنّ الإنسان بدأ كائناً حيّاً بخلية واحدة، تكاثرت في إطار بنيته العامة، إلى أن انتهى إلى ما هو عليه الآن من التطوّر العقلي والنفسي والاجتماعي. وهذا ما دلّت عليه بقايا عظام الكائنات الحيّة المكتشفة في الحفريات الأثرية .
فالأنثروبولوجيا، من الناحية النظرية، شديدة القرب من البيولوجيا ؛ فكلاهما يدرس عملية إعادة إنتاج الحياة، وكلاهما مبنيّ على نموذج نظري للتنوّع، وكلّ في تخصّصه.
لكنّ نتائج الحوار في الدراسة الميدانية، أدّت كما يقول / كارلوس سافيدرا/ إلى أنّ المبادىء التي تأسّست عليها نظرية التطوّر تتبع من الناحية المنطقية والمنهجيّة، توالياً أو نموذجاً، يسير من الثبات إلى التغيّر.. فبنو الإنسان من أصل واحد، سواء أكان التطوّر بالتعبير التطوّري أو بتركيب الحمض النووي بالتعبير التزامني .. ولكن هناك أيضاً – في الوقت نفسه – تشوّهات وتغيّرات مختلفة الأشكال، بنيوية وتركيبية بالمصطلح الأنثروبولوجي .
ويحظى تحليل التنوّع في العلمين، بدور حيوي : التنوّع الجيني في علم (البيولوجيا) والتنوّع الاجتماعي في (الأنثروبولوجيا) , فالتنوّع أمر أساسي لما تسمّيه البيولوجيا " الفاعلية البيولوجية " وهي القدرة على مواصلة الحياة، وإخلاف الذرية. والأمر ذاته نجده في الأنثروبولوجيا فيما يطلق عليه : إشباع الحاجات الأساسية.
يعدّ / دارون / رائد علم الأحياء، الذي استند فيه إلى نظرية (النشوء والارتقاء ) في حياة الإنسان، والتي قدّم لها تفسيراً منهجياً معقولاً، يتلخّص في الأمور التالية:
1-إنّ عمليات الحياة المتتابعة بمعطياتها وظروفها، تنتج كائنات مختلفة عن أصولها .. أي أنّ أنواع هذه الكائنات لا تتكرّر هي ذاتها من خلال التكاثر، بل تتنوّع في أشكالها ومظاهرها .
2- إنّ الخصائص التي تتمتّع بها بعض الكائنات الحيّة، تجعلها أكثر قدرة على البقاء من بعضها الآخر، حيث تستطيع التلاؤم مع الظروف البيئيّة الخاصة التي تحيط بها .
3-إنّ الكائنات الحيّة الجديدة، الأكثر قدرة ورقيّاً، تمتلك عوامل التكاثر والاستمرار على قيد الحياة، لفترة أطول ممّا هي عند بعض الكائنات الضعيفة الأخرى، التي تتعرّض للانقراض السريع .
4-إنّ بعض الخصائص البيولوجية( الصفات المهلكة) عند بعض أنواع الكائنات الحيّة تؤدّي إلى موتها بصورة سريعة، وربّما مباشرة، إذا لم تكن هذه الخصائص تؤهّلها للتكيّف مع الظروف البيئيّة. وهذا ما يؤثّر سلباً في نسل هذه الكائنات من حيث البنية والمقاومة.
واستناداً إلى هذه المبادىء التي قدّمها دارون في أصل الكائنات الحيّة وتطوّرها، وصولاً إلى وضع الإنسان الحالي، اكتشف العلماء قوانين الوراثة وما يتبعها من الجينات (الخلايا) التي تحمل صفات الإنسان، وتنقلها من الآباء إلى الأبناء، من خلال التلقيح والتكاثر. وهذا ما جعل علماء الأنثروبولوجيا يعتقدون بأن الجنس البشري مرّ بمراحل تطوّرية عديدة ،حتى وصل إلى الإنسان (الحيوان الناطق والعاقل ).
ومهما يكن الأمر، فإنّ النقاش ما زال مفتوحاً حول دور الأنثروبولوجيا في الدراسات الخاصة بتطوّر الإنسان هذا التطوّر الذي يدخل في الإطار التاريخي، ولكن بطبيعة بيولوجية، لا بدّ من دراسة مبادئها ومظاهر تغيّرها .
ثانياً- علاقة الأنثروبولوجيا بعلم الاجتماع
يعدّ علم الاجتماع من أحدث العلوم الأساسية وأهم العلوم الإنسانية. لذلك، يعرّف بأنّه : العلم الذي يدرس الحياة الاجتماعية بجميع مظاهرها، ويتحرّى أسباب الحوادث الاجتماعية وقوانين تطوّرها. (الحصري، 1985، ص 8)
ويعرّف بصورة أوسع، بأنّه : أحد العلوم الإنسانية الهامة التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، وهو من العلوم التي تحاول الوصول إلى قوانين وقواعد تفسّر الظواهر الاجتماعية، سواء كانت هذه الظواهر في شكل جماعات بشرية، أو نظم ومؤسّسات اجتماعية أو إنسانية .وهو بالتالي، العلم الذي يساعد في تكيّف الفرد والمجتمع للعيش معاً، ضمن أهداف معيّنة يسعون إلى تحقيقها، من أجل التقدّم والاستمرارية. (عيسى، 1986، ص 13)
فعلم الاجتماع إذن، يدرس العلاقات بين الأفراد وعمليات التفاعل فيما بينهم، وتصرّفاتهم كأعضاء مكوّنين لهذه الجماعة. فهو يركّز على سلوكات الأفراد ضمن هذا المجتمع أو ذاك، ويدرس بالتالي تأثير البيئة الاجتماعية (الاقتصادية والثقافية) في تكوين الشخصيّة الإنسانية، وتحديد العلاقات بين الأفراد. (الجيوشي والشماس، 2002/2003، ص 59)
إنّ مصطلح / علم الاجتماع / مشتقّ من كلمتين، الأولى هي (سوسيو Sociu) اللاتينية، وتعني رفيق أو مجتمع. والثانية (لوغوس Logos) اليونانية، وتعني العلم أو البحث. وبما أنّ علم الاجتماع يتناول التفاعل الاجتماعي عندما يدرس الجماعة، فإنّ ثمّة تداخلاً كبيراً بين علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، فكلاهما يدرس البناء الاجتماعي والوظائف الاجتماعية .. وهذا ما دعا أحد العلماء إلى القول : إنّ علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية، هو فرع من فروع علم الاجتماع المقارن. (لطفي، 1979، ص 44 )
وهكذا نجد أنّ ثمّة صلة من نوع ما، بين علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، بالنظر إلى أنّ كلاًّ منهما يدرس الإنسان. ويتجاوز الترابط بينهما المعلومات التي يهدف كلّ منهما الحصول عليها، إلى منهجيّة البحث من حيث طريقته وأسلوبه، إلى حدّ تسمّى الأنثروبولوجيا عنده، بعلم الاجتماع المقارن، على الرغم أن أنّها تهتمّ بالجانب الحضاري عن الإنسان ، بينما تقترب دراسة علم الاجتماع من الأنثروبولوجيا الاجتماعية .
فعلم الاجتماع يركّز في دراساته على المشكلات الاجتماعية في المجتمع الواحد، كما يدرس الطبقات الاجتماعية في هذا المجتمع أو ذاك من المجتمعات الحديثة، ويندر أن يدرس المجتمعات البدائية أو المنقرضة. بينما تركّز الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) في دراساتها، على المجتمعات البدائية / الأولية، وأيضاً المجتمعات المتحضّرة / المعاصرة.
ولكنّ دراسة الأنثروبولوجيا للمجتمعات الإنسانية، تتركّز في الغالب على : التقاليد والعادات والنظم، والعلاقات بين الناس، والأنماط السلوكية المختلفة، التي يمارسها شعب ما أو أمّة معيّنة. (أبو هلال، 1974، ص 1) أي أنّ علم الأنثربولوجيا الاجتماعية يدرس الحياة الاجتماعية (المجتمع ككلّ )، وينظر إليها نظرة شاملة، ويدرس البيئة العامة، والعائلة ونظم القرابة والدين، بينما تكون دراسة علم الاجتماع متخصّصة إلى حدّ بعيد. حيث يقتصر على دراسة ظواهر محدّدة أو مشكلات معيّنة، أو مشكلات قائمة بذاتها، كمشكلات : الأسرة والطلاق والجريمة، والبطالة والإدمان والانتحار ...( لطفي، 1979، ص45)
وإذا كان ثمّة تباين أو اختلاف بين العلمين، فهو لا يتعدّى فهم الظواهر الاجتماعية وتفسيراتها، وفق أهداف كلّ منهما. فبينما نجد أنّ الباحث في علم الاجتماع، يعتمد على افتراضات نظرية لدراسة وضع المتغيرات الاجتماعية، ويحاول التحقّق منها من خلال المعلومات التي يجمعها بواسطة استبيان أو استمارة خاصة لذلك، نجد – في المقابل – أنّ الباحث الأنثروبولوجي، يعتمد تشخيص الظاهرة استناداً إلى فهم الواقع كما هو، ومن خلال الملاحظة المباشرة ومشاركة الأفراد في حياتهم العادية .
ثالثاً-علاقة الأنثروبولوجيا بعلم الفلسفة
تعود كلمة (فلسفة) إلى الأصل اليوناني المكوّن من مقطعين : (فيلو PHILO + سوفيا SOPHY) أي فيلوسوفيا PHILOSOPHY، وتعني : (حبّ الحكمة) أو محبّة الحكمة .
ولكن على الرغم من أصلها الاشتقاقي، فقد اتّخذت عند أرسطو معنى أكثر دقّة وشمولاّ، حيث عرّفها بأنّها: " علم المعنى الأكثر شمولاً لكلمة علم ". ويشرح ذلك بقوله : " الفلسفة هي علم المبادىء والأسباب الأولى، غايتها البحث عن الحقيقة برمّتها، وبأكثر أساليب الفكر نظاماً وتماسكاً ". أي أنّها : علم الوجود بما هو موجود، أو الفكر في جوهر وجوده. ولا يمكن بلوغ هذه الغاية إلاّ بإحكام دقيق للفكر، أي بمنهج يستند إلى مبادىء العقل. (الجيوشي ،1987/1988، ص 3 )
وبالنظر إلى هذا المعنى الواسع، اختلف الفلاسفة في إعطاء معنى دقيق للفلسفة. فقد عرّفها الطبيعيون بأنّها : البحث عن طبائع الأشياء وحقائق الموجودات. وعرّفها بعض الفلاسفة الآخرين بأنّها : مجموعة المعلومات في عصر من العصور. (محمود، 1968، ص 225)
وإذا كانت الفلسفة (أم العلوم) كما كانت تسمّى، بالنظر لشمولية دراستها مجموعة من العلوم الرياضية والإنسانية والفيزيائية، فإنّ صلة الأنثروبولوجيا بها وثيقة جدّاً، ولا سيّما فيما يتعلّق بنظرة الإنسان إلى الكون والحياة، في زمان ما أو مكان محدّد. وذلك لأنّ الزمان والمكان مرتبطان بعلاقة جدلية، لا يمكن إدراك مكوّناتها إلاّ من خلال دراسة الفعل الإنساني، الذي يسعى إلى البقاء والاستمرار.
فدراسة أصل الإنسان ونشأته وحياته وسعيه إلى البقاء والخلود، وما ينجم عن ذلك من تطوّر وتغيّر مستمرّين، كلّها تقع في ميدان الدراسات الأنثروبولوجية، ولا سيّما تلك العلاقة الأزلية بين طبيعة الإنسان، وواقعه وما يطمح إليه من آمال وأهداف، تؤمّن سيرورة حياته .
رابعاً- علاقة الأنثروبولوجيا بعلم النفس
يعرّف علم النفس بأنّه : العلم الذي يهتمّ بدراسة العقل البشري، والطبيعة البشرية، والسلوك الناتج عنهما. أي أنّه : مجموعة الحقائق التي يتمّ الحصول عليها من وجهة النظر النفسيّة. (فراير، 1968، ص 32) وهذا يعني : أنّه العلم الذي يدرس سلوك الإنسان بهدف فهمه وتفسيره. (عيسوي، 1989،
ص 7)
ومن هذا المنطلق، يمكن القول : إنّ علم النفس ، هو العلم الذي يدرس الإنسان من جوانب شخصيّته المختلفة، بغية الوصول إلى حقائق حولها، قد تكون ذات صفة عامة ومطلقة، يمكن تعميمها .
ولذلك، تهتمّ الدراسات النفسيّة بالخصائص الجسميّة الموروثة، وتحديد علاقاتها بالعوامل السلوكية لدى الفرد، ولا سيّما تلك العلاقة بين الصفات الجسميّة العامة، وسمات الشخصيّة. مع الأخذ في الحسبان العوامل البيئيّة المحيطة بهذه الشخصيّة .
ويميل النفسيون إلى الاعتقاد بأهميّة هذه العوامل البيئيّة في هذه العلاقة، فالشخص القوي البنية، والذي يميل إلى السيطرة وتولّي المراكز القياديّة، لا بدّ وأنّه تعرّض إلى خبرات اجتماعية / نفسيّة، في أثناء طفولته ونموّه، أسهمت في إكسابه هذه السلوكات. (الجسماني، 1994، 271 )
وإذا كانت الأنثروبولوجيا، توصف بأنّها العلم الذي يدرس الإنسان، من حيث تطوّره وسلوكاته وأنماط حياته، فإنّ علم النفس يشارك الأنثروبولوجيا في دراسة سلوك الإنسان. ولكنّ الخلاف بينهما، هو أنّ علم النفس يركّز على سلوك الإنسان / الفرد، أمّا الأنثروبولوجيا فتركّز على السلوك الإنساني بشكل عام. كما تدرس السلوك الجماعي النابع من تراث الجماعة. (ناصر، 1985، ص 21)
وعلى الرغم من أنّ علم النفس يقصر دراسته على الفرد، بينما تركّز الأنثروبولوجيا اهتمامها على المجموعة من جهة، وعلى كلّ فرد بصفته عضواً في هذه المجموعة من جهة أخرى، فثمّة صلة وثيقة بين العلمين. حيث اكتشف علماء النفس أنّ الإنسان لا يعيش إلاّ في بيئة اجتماعية يؤثّر فيها ويتأثّر بها ..
وتنصبّ الدراسة في علم النفس الاجتماعي على المحاكاة والتقليد والميول الاجتماعية، كالمشاركة الوجدانية والتعاون والغيرية وغريزة التجمّع، إضافة إلى دراسة الاتّجاهات. فقد صدرت دراسات خاصة بالأنثروبولوجيا السيكولوجية، التي تعنى بالظواهر السيكولوجية لبني البشر حين يعيشون في طبقة أو جماعة، حيث أنّ الطبيعة الإنسانية من صميم علم النفس العام، كما أنّها عامل حتمي في تكوين النظم الاجتماعية / الإنسانية. (رشوان، 1988،
ص 86)
ولذلك نرى أنّ المهمّة التي تواجه الباحث الأنثروبولوجي، لا تختلف عن تلك المهمةّ التي تواجه عالم النفس. فكلاهما عليه أن يستخلص صفات الشيء الذي هو موضوع دراسته، من التعبير الخارجي في السلوك .. وإن كان عالم الأنثروبولوجيا يعوّقه اضطراره إلى إدخال خطوة إضافية في مستهلّ عمله. فبينما يستطيع عالم النفس أن يلاحظ سلوك موضوع بحثه بصورة مباشرة، ينبغي على عالم الأنثروبولوجيا أن يبني استنتاجاته على الأنماط المثالية للثقافة التي يتناولها بالبحث.
ولكنّ مهمّة عالم الأنثروبولوجيا في محاولاته لكشف خفايا الأمور، تشبه مهمّة عالم النفس في الجهود التي يبذلها في سبر غور العقل الباطن. وفي كلا الحالين، تتألّف النتائج التي يتوصّل إليها الباحثون من سلسلة تأويلات، أمّا الحقائق التي تستند إليها هذه التأويلات، فكثيراً ما تكون قابلة لأكثر من تفسير. (لينتون، 1964، ص 395 )
لذلك، تعدّ دراسة الأنثروبولوجيا دراسة للأنماط السلوكية الإنسانية، بينما تعدّ الدراسة النفسيّة دراسة للسلوك الخاص بالشخصيّة الفردية، وأن كانت تتأثّر بالعلوم الاجتماعية .
خامساً- علاقة الأنثروبولوجيا بعلم الجيولوجيا والجغرافيا
تساعد الدراسات الجيولوجية التاريخية في تحديد الفترات الزمنية التي عاش فيها كلّ نموذج من أنواع الجنس البشري، نظراً لوجود البقايا العظمية للأسلاف، على شكل بقايا مستحاثة حفرية بين ثنايا القشرة الأرضية الرسوبية والمنضدّة بعضها فوق بعض، وفق خاصية النشوء والتقادم لكلّ منها، بحيث يكون أسفلها أقدمها وأعلاها أحدثها .
وهذا يمكّننا من معرفة الفترة الزمنية التي عاش فيها ذلك الإنسان الحفري، إلى جانب معرفة العالم الحيواني الآخر الذي كان يحيط به، من خلال التعرّف إلى البقايا العظمية المستحاثية للأنواع الحيوانية التي كانت تعاصره في بيئة جغرافية واحدة. كما أننّا نستطيع التعرّف إلى الظروف المناخية التي كانت سائدة عندما كان يعيش هذا الإنسان أو ذاك، في تلك الأزمنة السحيقة من تاريخنا البشري .(الجباوي، 1988، ص 12)
وكما تستفيد الأنثروبولوجيا من الدراسات الجيولوجية، تستفيد أيضاً من المعطيات العلمية / الجغرافية، وفي مقدّمتها النواحي الطبيعية، من تضاريس ومياه، إلى جانب الظروف المناخية التي تتفاوت من منطقة إلى أخرى، وذلك بحسب قربها – أو بعدها- من خط الاستواء، أو من شواطىء البحار والمحيطات، أو ارتفاعها وانخفاضها عن سطح البحر.
فهذه العوامل كلّها تؤثّر في حياة الإنسان بجوانبها المختلفة، العضوية والاجتماعية والثقافية. ولذلك، فإنّ الأحوال المعيشية والبنى الاجتماعية عند المجتمعات البشرية، ليست متشابهة بسبب تباين الظروف الجغرافية التي توجد فيها تلك المجتمعات. فسكان المناطق الجبلية المرتفعة يكونون في مأمن من الأخطار الخارجية، بينما يتعرّض سكان السهول دوماً إلى غزوات واجتياحات من الشعوب أو القوى الخارجية. وفي المقابل، يكون سكان المناطق الساحلية أكثر انفتاحاً في علاقاتهم مع العالم الخارجي، قياساً بأهل المناطق الداخلية حيث تكون العلاقات الأسرية شبه منغلقة على ذاتها، إلى جانب الالتزام بالعصبية القبلية. وهذا ينعكس في سلوكية السكان في هذه المنطقة أو تلك. (المرجع السابق، ص 14)
ولذلك، يميل علماء الأنثروبولوجيا إلى إهمال ما يسمّى بالقدرات الفطرية للشعوب الإنسانية، ويؤثرون كتابة تاريخ الحضارة في ضوء عوامل البيئة والحظ وتسلسل الأحداث المترابطة. فهناك من يجد أنّ للمناخ أثراً في ناتج الطاقة الإنسانية، وهناك من يعتقد بوجود علاقة بين الطقس والخمول الذي يتميّز به سكان المناطق الحارة، أو النشاط الاندفاعي الذي يميّز سكان المناطق الباردة والعاصفة.
وضمن هذه الرؤية، قام الدكتور (وليم بيترسن) W. Petersen في أواسط الستينات من القرن العشرين، بإجراء تحليل دقيق للارتباط الوثيق بين الطقس والوظائف الفيسيولوجية، وبنى دراسته على التقدّم الذي أحرزه المرضى الذين كان يشرف على علاجهم. وتبيّن من نتائج أبحاثه، أنّ تقلّبات حالة المرضى تتبع نمطاً مشابهاً لتراوحات الضغط البارومتري، وبدا وكأنّ الظاهرة الأولى تتأثّر بالثانية. (لينتون، 1968، ص61 )
وإذا كان من الصحيح أنّ وظائف الإنسان الفسيولوجية قابلة للتكيّف مع أنواع البيئات المختلفة، فإنّه من السهل – في المقابل – أن نتصوّر أن بعض جوانب البيئة، تكون أكثر أهميّة وتأثيراً من بعضها الآخر، في مراحل معيّنة من تاريخ التطوّر الإنساني، الحضاري والاجتماعي والثقافي ... وهذا كلّه يدخل في جوهر الدراسات الأنثروبولوجية وأهدافها .
وهكذا، تُشكّل الأنثروبولوجيا مع العلوم الأخرى، ولا سيّما العلوم الإنسانية، منظومة من المعارف والموضوعات التي تدور حول كائن موضوع الدراسة، وهو الإنسان. ويأتي هذا التشابك (التكامل) بين هذه العلوم بالنظر إلى تلك الأطر المعرفية والمناهج التحليلية، التي تنظّم العلاقة المتبادلة والمتكاملة بين المجالات المعرفية المختلفة التي تسعى إليها هذه العلوم .
***
مصادر الفصل ومراجعه
- أبو هلال، أحمد (1974) مقدّمة في الأنثروبولوجيا التربوية، المطابع التعاونية، عمّان .
- الجسماني، عبد العال (1992) علم النفس وتطبيقاته الاجتماعية، الدار العربية للعلوم، بيروت .
- الجيوشي، فاطمة (1987/1988) فلسفة التربية، جامعة دمشق، كلية التربية.
- الجيوشي، فاطمة والشمّاس عيسى (2002/2003) التربية العامة (1)، جامعة دمشق – كليّة التربية.
- الحصري، ساطع (1985) أحاديث في التربية والاجتماع، دار العلم للملايين، بيروت.
- رشوان، حسين عبد الحميد أحمد (1988) الأنثروبولوجيا في المجال النظري، ط1، الاسكندرية .
- عيسى، محمد طلعت (1986) مدخل إلى علم الاجتماع، دار المعارف، بيروت.
- عيسوي، عبد الرحمن (1989) علم النفس في المجال التربوي، دار العلوم العربية،
بيروت .
- فراير، هنري، ساركس (1968) علم النفس العام، ترجمة : ابراهيم منصور، بغداد .
- لطفي، عبد الحميد (1979) الأنثروبولوجيا الاجتماعية، دار المعارف، القاهرة.
- لينتون، رالف (1964) دراسة الإنسان، ترجمة : عبد الملك الناشف، المكتبة العصرية، بيروت .
- لينتون، رالف (1967) الأنثروبولوجيا وأزمة العالم الحديث، ترجمة : عبد الملك الناشف، المكتبة العصرية، بيروت.
- محمود، عبد الحليم (1968) التفكير الفلسفي في الإسلام، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.
- ناصر، ابراهيم (1985) الأنثروبولوجيا الثقافية (علم الإنسان الثقافي) عمّان.
***
الباب الثاني
اتجاهات دراسة الأنثروبولوجيا وفروعها
الفصل الأوّل- دراسة الأنثروبولوجيا واتجاهاتها المعاصرة
أولاً-بداية دراسة الأنثروبولوجيا
ثانياً-الاتجاهات المعاصرة في دراسة الأنثروبولوجيا
الفصل الثاني- الأنثروبولوجيا الطبيعيّة
الفصل الثالث- الأنثروبولوجيا النفسيّة
الفصل الرابع- الأنثروبولوجيا الثقافية
الفصل الخامس- الأنثروبولوجيا الاجتماعية
الفصل السادس- المنهج الأنثروبولوجي والدراسات الميدانيّة
الفصل الأوّل
دراسة الأنثروبولوجيا واتجاهاتها المعاصرة
أولاً- بداية دراسة الأنثروبولوجيا
ثانياً- الاتجاهات المعاصرة لدراسة الأنثروبولوجيا
1- الاتجاه التاريخي
1/1-الاتجاه التاريخي/ التجزيئي
1/2-الاتجاه التاريخي/ النفسي
2- الاتجاه البنائي/ الوظيفي
مقــدّمـة
لم تعرف الأنثروبولوجيا قبل النصف الثاني من القرن العشرين، تقسيمات وفروعاً، إذ كانت تتمّ لأغراض خاصة بالباحث أو من يكلّفه، كدراسة حياة بعض المجتمعات أو مكوناتها الثقافية .
ومع انطلاقتها في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، حيث أخذت تتبلور مبادئها وأهدافها، كانت ثمّة محاولات جادّة لتوصيفها كعلم خاص، وبالتالي وضع تقسيمات لها وفروع من أجل تحقيق المنهجية التطبيقية من جهة، والشمولية البحثية التكاملية من جهة أخرى. فظهرت نتيجة ذلك تصنيفات متعدّدة، استند بعضها إلى طبيعة الدراسة ومنطلقاتها، بينما استند بعضها الآخر إلى أهدافها .
فقد قسّمها / رالف بدنجتون/ في كتابه " مقدّمة في الأنثربولوجيا الاجتماعية " الصادر عام 1960 ،إلى قسمين أساسيين : (الأنثربولوجيا العضوية أو الطبيعية، والأنثروبولوجيا الثقافية ).
أمّا / بارنو / فقد قسّمها في كتابه " الأنثروبولوجيا الثقافية " الصادر عام 1972، إلى ثلاثة أقسام، هي : (الأنثروبولوجيا التطبيقية، الأنثربولوجيا النفسية أو الثقافة والشخصية، الأنثروبولوجيا الاجتماعية ).
وإذا اعتبرنا أنّ الانثروبولوجيا التطبيقية، هي أقرب إلى المنهج البحثي وليست فرعاً من علم الأنثروبولوجيا، ومن ثمّ قمنا بعملية توليف بين الأقسام الأخرى في التصنيفين السابقين، أمكننا الوصول إلى التصنيف التالي الذي يضمّ أربعة فروع (أقسام) رئيسة تشمل الجوانب المتعلّقة بالإنسان / الفرد والمجتمع/، وهي : (الأنثروبولوجيا العضوية / الطبيعية ، الأنثربولوجيا النفسيّة، الأنثروبوبوجيا الثقافية، الأنثروبولوجيا الاجتماعية ). وسنتعرّف فيما يلي كلّ فرع من هذه الفروع .
أولاً-البدايات الأولى لدراسة الأنثروبولوجيا :
شهد القرن العشرين مراحل تكوين الأنثروبولوجيا وتطويرها، لتصبح كياناً أكاديمياً ومهنة متخصّصة عند كثير من العلماء والفلاسفة والباحثين. فعلى الرغم من أنّ الفكر الأنثروبولوجي قد ظلّ خلال العقدين الأوليين من القرن العشرين، متأثّراً إلى حدّ بعيد، بالنظريات التي سادت وتبلورت في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، فإنّه سرعان ما تغيّر وتحوّل إلى منطلقات جديدة، نتج عنها اتّجاهات متعدّدة إزاء دراسة الإنسان وحضارته، سواء ما كان منها نظرياً أو منهجيّاً (فهيم، 1986، ص 149)
إنّ الاتجاه العلمي الذي نشط في القرن التاسع عشر، وتبلور في مجالات متعدّدة، دفع العقل الإنساني إلى نبذ الفكر الفلسفي الذي كان يتحفّظ على قدرة العقل الإنساني في التوصّل إلى الحقيقة المطلقة. وهذا ما نتج عنه قيم فكرية جديدة تدعو إلى النظر إلى العقل والمنطق المحسوس، والواقع الملموس كأدوات للمعرفة، كما تدعو إلى التفاؤل بمستقبل الإنسانية .
إلاّ أن أحداث الحرب العالمية الأولى ونتائجها السلبية على المجتمع الإنساني، بدّدت هذا التفاؤل، وأحلّت محلّه النظرة التشاؤمية. وهذا ما بدا في نظرة الفلاسفة إلى مشكلات الإنسان في هذا القرن (القرن العشرين )، إلى حدّ اعتقاد بعضهم أنّ المستقبل صعب ومظلم مع ظهور النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا. وبلغ هذا الاتّجاه ذروته فيما عرف بالحركة( الوجودية) التي شاعت في فرنسا، وعلى رأسها/ جان بول سارتر/ الذي عاش ما بين (1905- 1980)
وبرز مقابل هذا الاتجاه التشاؤمي، اتجاه آخر اتّصف بالتفاؤل، كان من أبرز رواّده في أمريكا الفيلسوف التربوي / جون ديوي / الذي عاش ما بين
(1859-1952). فقد أصدر كتابه الشهير " إعادة البناء في الفلسفة " وتبنّى فيه موقفاً صريحاً مناهضاً للفلسفة الميتافيزيقية .
ودعا فيه إلى ضرورة الاهتمام بالبحث عن القوى المعنوية التي تحرّك مناشط الإنسان، لاعتقاد/ ديوي/ أنّ لدى هذا الإنسان الكثير من الإمكانات والقدرات التي يمكنه بواسطتها الخروج من أزمته الراهنة .. كما تساعده في مشكلاته الحياتية المتزايدة، دون اللجوء إلى قوى خارجة عن نطاق الطبيعة .
وكان للدين أيضاً تأثيراته في تشكيل الفكر الأنثروبولوجي في العقود الأولى من القرن العشرين، ولا سيّما على النظم الاجتماعية. إلاّ أنّ ذلك التأثير تضاءل أمام تعاظم التيارات التحرّرية وما رافقها من إنجازات علمية هائلة، الأمر الذي حدا بالكنيسة في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، إلى تقبّل فكرة الحوار وحرية المناقشة في الأمور الدينية والدنيوية .. بعيداً عن الأساليب القمعية التقليدية .(Burns,1973,p.892)
وهكذا، شكّل هذا العلم دعامة أساسيّة في ثقافة القرن العشرين عامة، وفي الفكر الأنثربولوجي خاصة، حيث كان وثيق الصلة بالفكر الاجتماعي والقضايا الإنسانية التي أسهمت في تحديد موضوعات الدراسات الأنثروبولوجية، ومناهجها وأهدافها .
ثانياً-الاتّجاهات المعاصرة في دراسة الأنثروبولوجيا :
لاقت النظرية التطوّرية التي ظهرت في القرن التاسع عشر، انتقادات واسعة باعتبارها استندت إلى الحدس والتخمين، وتعميم الأحكام المطلقة على الثقافات الإنسانية، من دون أن تثبت صحّة ذلك بالبراهين أو القرائن العملية / الواقعية.
ولذلك، بدأت تضمحلّ تدريجياً مع بداية القرن العشرين، لتحلّ محلّها أفكار نظرية جديدة لدراسة الثقافات الإنسانية، من حيث نشوؤها ومكوّناتها وتطوّرها. فكان أن ظهرت خلال الربع الثاني من القرن العشرين ثلاثة اتجاهات رئيسيّة متفاعلة فيما بينها، ركّزت في دراساتها على تناول العلوم الاجتماعية، بأسسها ومنطلقاتها وأهدافها. وهذا ما أسهم بفاعلية في إرساء دعائم علم الأنثربولوجيا المعاصر .
1-الاتّجاه التاريخي :
ويقسم إلى قسمين : الاتجاه التاريخي / التجزيئي ، والاتّجاه التاريخي النفسي. وسنقدّم فيما يلي عرضاً موجزاّ لكلّ منهما .
1/1- الاتّجاه التاريخي / التجزيئي : ذكرنا أنّ الفكر التطوّري للحضارات الإنسانية، أصبح سائداً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث بدأت تتبلور الدراسات الأنثروبولوجية .وظهر إلى جانبه أيضاً الاتّجاه الانتشاري الذي يعتمد على أنّ نشأة الحضارة الإنسانية كلّها ترجع إلى مصدر (مجتمع) واحد، ومنه انتشرت إلى أماكن أخرى في العالم .
ويوجد الاتّجاه الانتشاري في كلّ من الأنثروبولوجيا الثقافية والأنثروبولوجيا الاجتماعية، وإن أخذ طابعاً خاصّاّ في كلّ منهما. فتطبيق الاتجاه الانتشاري في مجال الأنثروبولوجيا الثقافية، يتعلّق بجمع العناصر الثقافية، بما في ذلك من العناصر التكنولوجية والفكرية، بينما يقتصر في مجال الأنثروبولوجيا الاجتماعية، على العلاقات والنظم الاجتماعية السائدة في المجتمع، والتي تشمل بعض العناصر الثقافية، ولا تشملها كلّها .
ويقوم الاتجاه هنا على مبدأ هام، وهو أنّ النظم الاجتماعية كثيراً ما تستعار أو تنقل من مكان إلى مكان آخر. وبناء على ذلك، فإنّ تشابه النظم الاجتماعية والعادات، في المجتمع الواحد أو في المجتمعات المختلفة، لا ينشأ على نحو تلقائي، وإنّما ناتج عن التشابه في الإمكانات الاجتماعية والطبيعيّة والإنسانية. (جابر، 1991، ص 85 )
وعلى الرغم من ذلك، استمرّ اهتمام الباحثين باستخدام المنهج التاريخي في تفسير ظاهرة التباين بين الحضارات في المجتمعات الإنسانية. واعتمد هذا الاتّجاه على مبدأين اثنين .
أولهما : أنّ الاتّصال بين الشعوب المختلفة، كان بفعل الاحتكاك الثقافي / الحضاري، المباشر وغير المباشر.
وثانيهما : عملية انتشار بعض المكوّنات (الخصائص) الحضارية أو كلّها، من مصادرها الأصلية إلى المجتمعات الأخرى، سواء بالرحلات التجارية أو بالكشوف أو بالحروب والاستعمار. وهذان المبدآن متكاملان في دراسة الظواهر الثقافية، ويمكن من خلالهما تفسير التباين الحضاري بين الشعوب .
وقد اعتمد هذا الاتّجاه منهجاً تاريخياً –جغرافياً، قاده الألماني /فريدريك راتزال / الذي ركّز على أهميّة الاتّصالات والعلاقات الثقافية بين الشعوب المختلفة، ودورها في نمو الحضارة الخاصة والعامة .وتبعه في ذلك تلامذته، ولا سيّما / هوينريخ شورتز/ الذي أبرز فكرة وجود علاقات حضارية بين العالم القديم (إندونيسيا وماليزيا) والعالم الجديد (أمريكا) .وكذلك /ليوفرو بينيوس / صاحب نظرية (الانتشار الحضاري) بين إندونيسيا وأفريقيا.
وانطلاقاً من هذا الاتّجاه، ظهرت في أوروبا نظريتان مختلفتان حول التفسير الانتشاري لعناصر الثقافة.
النظرية الأولى : هي النظرية الانتشارية التي تعتمد الأصل المركزي الواحد للثقافة / الحضارة . سادت هذه النظرية في إنكلترا، وأرجعت نشأة الحضارة الإنسانية كلّها إلى مصدر واحد، ومنه انتشرت إلى المجتمعات الإنسانية الأخرى .
وكان من روّاد هذه النظرية، عالم التشريح / إليوت سميث / وتلميذه / وليم بيري / اللذان رأيا أنّ الحضارة الإنسانية، نشأت وازدهرت على ضفاف النيل في مصر القديمة، منذ حوالي خمسة آلاف سنة قبل الميلاد .
وعندما توافرت الظروف المناسبة للتواصل بين الجماعات البشرية، بدأت بعض مظاهر تلك الحضارة المصرية القديمة تنتقل إلى أرجاء متعدّدة من العالم، حيث عجزت شعوبها عن التقدّم الثقافي والابتكار الحضاري، فراحت تعوّض عن ذلك العجز بالاستيراد والتقليد. (رياض، 1974، ص 127)
لقد نال / إليوت سميث / شهرة كبيرة عن جدارة، نتيجة أبحاثه عن المخ ودراساته في الأنثروبولوجية القديمة Paleo-anthropology))، حيث انكبّ في إحدى فترات حياته على دراسة المخ في المومياء المصرية. وقادته أبحاثه هذه إلى الإقامة في مصر، حيث أدهشته الحضارة المصرية القديمة. وأخذ، كما فعل العديدون، يلاحظ أنّ الثقافة المصرية القديمة، تضمّ عناصر كثيرة يبدو أنّ لها ما يوازيها في ثقافات بقاع أخرى من العالم، وقلبت نظرياته الجريئة، الاعتبارات التقليدية عن الزمان والمكان. فلم يقتصر على القول بأنّ العناصر المتشابهة في حوض البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا والشرق الأدنى والهند، من أصل مصري، بل ذهب إلى أنّ العناصر المماثلة في ثقافات أندونيسيا والأمريكتين، تنبع من المصدر المصري ذاته .
أمّا / وليم بيري / فقد أعطى في كتابه (أبناء الشمس) شرحا كاملاً للنظرية " الهيليوليتية Heliolithic " وهو الاسم الذي أطلق على / المدرسة الانتشارية / عن تاريخ الثقافة. فعنوان الكتاب، يشير إلى أحد عناصر المجمّع الثقافي الذي تزعم هذه المدرسة أنّ أصله في مصر، ومنها انتشر.. وهو الاعتقاد بأنّ الملك ابن الشمس، والعناصر الأخرى في هذا المجمّع هي : التحنيط، بناء الأهرامات، والقيمة الكبرى للذهب واللآلىء .( هرسكوفيتز، 1974، ص 210 )
وتنطلق براهين / سميث وبيري / من أنّ بناء الأهرامات أيضاً من منشأ مصري، كما هي الحال في أهرامات المكسيك. وكذلك الأمر في احتفاظ الأفريقيين بعظم ساق الملك المتوفّى، لاستعماله في الطقوس الدينية نتيجة لانتشار عادة التحنيط عند المصريين.
النظرية الثانية : هي النظرية الانتشارية التي تعتمد الأصل الثقافي / الحضاري، المتعدّد المراكز. وكان من دعاة هذه النظرية، فريق من العلماء الألمان والنمساويين، وفي طليعتهم / فريتز جراينور / الذي عاش في الفترة ما بين 1875-1934) و/وليم شميدت / الذي عاش في الفترة ما بين (1868-1959) .
لقد رفض هذا الفريق فكرة المنشأ( المركز) الواحد للحضارة الإنسانية، لأنّ هذه الفكرة ضرب من الخيال أكثر من قربها إلى الأساس العلمي. وافترضوا وجود مراكز حضارية أساسية وعديدة ، في أماكن متفرقة في العالم. ونشأ من التقاء هذه الحضارات، بعضها مع بعض، دوائر ثقافية تفاعلت ببعض عمليات الانصهار والتشكيلات المختلفة .
وكان / ويسلر / أوّل من استعمل (الدائرة الثقافية) بهذا المعنى، في بحثه عن ثقافات الهنود الأمريكيين. ولا يزال تعريفه لهذا المفهوم على الرغم من تعديله، منذ ذلك الوقت مفيدا في هذا المجال. يقول / ويسلر / : " إذا أمكننا تجميع سكان العالم الجديد الأصليين، أي الهنود الأمريكيين، فسنحصل على دوائر متعدّدة : دوائر طعام، دوائر منسوجات، ودوائر خزف ... وغيرها. وإذا أخذنا في الحسبان العناصر جميعها في وقت واحد، وحوّلنا الوحدات الاجتماعية أو القبلية، يمكننا أن نجد جماعات محدّدة المعالم، وهذا ما يعطينا الدوائر الثقافية، أو تصنيفاً للجماعات وفق عناصر ثقافتهم ". (هرسكوفيتز، 1974، ص 124 )
وهذا ما يفسّر أوجه الاختلاف عن تلك الثقافات المركزية الأساسية. إلاّ أنّ أصحاب هذا الرأي لم يقدّموا الدلائل على أماكن وجود تلك المراكز، أو عمليات تتبع حركات الاتّصال فيما بينها، ودراسة النتائج المترتّبة على ذلك، بطريقة منهجيّة سليمة .( فهيم، 1986، ص160)
لقد كانت وجهة نظر المدرسة (الثقافية التاريخية) الألمانية – النمساوية، أكثر عمقاً وتنميقاً .. وكانت عنايتها باختيار معايير الحكم على قيمة وقائع الاقتباس المفترضة، وإصراراها على الحيطة في استخدام مصادر المعلومات، ودقّتها في تحديد تعريفاتها، وغنى وثائقها، تتجاوب كلّها تماماً مع متطلّبات البحث العلمي الدقيق، ولهذا لاقت قبولاً واسعاً .
تقوم نظرية المدرسة (الثقافية – التاريخية) في جوهرها، وكما شرحها زعيمها / وليم شميدت /، على نظرة صوفية إلى طبيعة الحياة وإلى التجربة الإنسانية. فقد نشأت هذه المدرسة ضمن إطار فكري، واستخدمت تعبيرات ومصطلحات تختلف اختلافاً جوهرياً عن النظرة العقلانية، وعن مفردات أغلب المفكّرين الأنثروبولوجيين .. ويظهر ذلك في مناقشة / شميدت /طرائق البحث في دراسة الدوائر الثقافية المختلفة، والتي تقسم إليها هذه المدرسة، أي الثقافات جميعها .، وترى أنّها انتخبت الثقافات الموجودة – اليوم – في العالم، بواسطة انتشار عناصرها .
ويعترف / شميدت /، كما يعترف الأنثروبولوجيون جميعهم، بالحاجة إلى فهم (معنى الحياة البدائية) بالنسبة لمن يعيشونها. والأهمّ من ذلك، فهم معناها بالنسبة لأولئك الذين عاشوها في العصور الغابرة ... ويقول / شميدت / إنّنا نعرف ذلك باللجوء إلى المبدأ السيكولوجي التعاطفي، الذي يستطيع الإنسان بواسطته أن يضع نفسه في الحالة النفسيّة للشخص الذي يرتبط معه بعلاقة ما.(هرسكوفيتز، 1974، ص213)
أمّا إسهام / فريتز جرابنور/ في منهج المدرسة التاريخية – الثقافية بوجه خاص، وفي علم الأنثروبولوجيا، بوجه عام، فتمثّل في التحديد الدقيق الموضوعي لمعايير تقييم انتشار بعض العناصر الثقافية، من شعب إلى شعب آخر .
فالنظام الاجتماعي والثقافة السائدان عند جماعة (مجتمع ما) لهما تأثير انتقائي، إذ يحولان دون قبول نماذج لا تنسجم البتّة مع النسق القائم. وفي الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل أثر الاقتباس على الأنظمة الاجتماعية، حيث تتوقّف فرص الاقتباس على الاحتكاكات التي تكون وليدة المصادفات. ومثال ذلك : أن تكون الثقافة التي احتكّ بها الهنود المكسيكيون هي الثقافة الإسبانية، أمر يمكن اعتباره حدث اتفاقاً وعَرَضاً. وكذلك الحال بالنسبة لهنود الولايات المتّحدة الأمريكية، الذين كان معظم احتكاكهم بالثقافتين الإنجليزية والفرنسيّة. (لينتون، 1964، ص 354 )
إنّ هذه المعايير التي يدعونها معايير الكيف والكم، هي أساسية في الدراسات التي تتناول النقل الثقافي جميعها، ومعناها بسيط جدّا ؛ فعندما يبدو للعيان تماثل بين ثقافتي جماعتين مختلفتين، فإنّ حكمنا حول احتمال اشتقاقهما من مصدر واحد، يتوقّف على عدد العناصر المتماثلة ومدى تشابكها. فكلّما ازداد عدد العناصر المتماثلة، ازداد احتمال وقوع الاقتباس .. وينطبق الأمر ذاته على مدى تداخل (تعقيد) عنصر من العناصر. ولذا يمكن استخدام القصص الشعبية، مثلاً، استخداماً مفيداً في دراسة الاحتكاك التاريخي بين الشعوب البدائية. (هرسكو فيتز، ص 213)
ولم يقتصر التفسير الانتشاري على أوروبا فحسب، وإنّما امتدّ أيضاً إلى أمريكا حيث ظهرت حركة مماثلة لآراء / سميث وشميدت / من حيث نقد التفسير التطوّري للثقافة، والاتّقاق على فكرة انتشار العناصر الثقافية بطريق الاستعارة والتقليد، كأساس لتفسير التباين الثقافي / الحضاري بين الشعوب .
أمّا بخصوص فكرة المراكز الحضارية (الدوائر الثقافية) فيرى أصحاب المدرسة الأمريكية، أنّ الملامح المميزّة لثقافة ما، وجدت أولاً في مركز ثقافي – جغرافي محدّد ثمّ انتقلت إلى أماكن أخرى من العالم. وهذا يعني أنّ أصحاب الاتّجاه الانتشاري في أمريكا، رفضوا آراء الأوربيين بعدم إمكانية التطوّر الحضاري المستقلّ، وأن بعض الناس بطبيعتهم غير مبتكرين أو قادرين على القيام بعملية الابتكار والتطوّر.
وكان الأمريكي / فرانز بواز / الرائد الأوّل لهذا الاتّجاه التاريخي / التجزيئي، قد عارض الفكرة القائلة بوجود طبيعة واحدة وثابتة للتطوّر الثقافي. ورأى أنّ أية ثقافة من الثقافات، ليست إلاّ حصيلة نمو تاريخي معيّن. ولذلك، يتوجب على الباحث الأنثروبولوجي أن يوجّه اهتمامه نحو دراسة تاريخ العناصر المكوّنة لكلّ ثقافة على حدة، قبل الوصول إلى تعميمات بشأن الثقافة الإنسانية بكاملها. وقد أصرّ/ بواز/ على أنّه لكي تصبح الأنثربولوجيا علماً، فلا بدّ أن تعتمد في تكوين نظرياتها على المشاهدات والحقائق الملموسة، وليس على التخمينات أو الفرضيات الحدسيّة .
ومن هذا المنطلق، استخدم / بواز / مصطلح (المناطق الثقافية) للإشارة إلى مجموعة من المناطق الجغرافية ذات النمط الثقافي الواحد، بصرف النظر عمّا تحتويه هذه المناطق من جماعات أو شعوب. وقد طبّق / بواز / هذا المفهوم على ثقافات قبائل الهنود الحمر في أمريكا، واستطاع تحديد – تمييز- سبع مناطق ثقافية رئيسة، يندرج تحتها هذا العدد الهائل من قبائل الهنود الحمر، والذي كان يزيد عن (50) قبيلة، في الوقت الذي نزح الأوروبيون لاستعمار القارة الأمريكية .
وبهذا يشير مفهوم (المنطقة الثقافية) إلى طرائق السلوك الشائعة بين عدد من المجتمعات التي تتميّز باشتراكها في عدد من مظاهر الثقافة، نتيجة لدرجة معيّنة من الاتّصال والتفاعل.(أبو زيد، ،1980، ص 202 )
وإذا ما تصفّحنا كتابات / بواز / وجدنا أنّ أفكاره تتميّز عن أفكار/ سميث وبيري وشميدت / وغيرهم من الانتشاريين المتطرّفين، وذلك بتشديده على النقاط التالية :
1- إنّ الدراسة الوصفية للانتشار، مقدّمة لدراسة عملية الانتشار دراسة تحليلية .
2- يجب أن تكون دراسة الانتشار دراسة استقرائية، أي أنّه يجب دراسة العناصر الثقافية المترابطة (المجمّعات الثقافية) التي يزعم أنّها ناشئة عن الانتشار تبعاً لعلاقتها الداخلية، أكثر من كونها مجموعة من العناصر شكّلها الباحث اعتباطياً .
3- يجب أن تتّجه دراسة الانتشار من الخاص إلى العام، ورسم توزيع للعناصر في مناطق محدودة، قبل رسم خارطة توزّعها في القارة، وترك الكلام عن توزّعها في العالم كلّه .
4- إنّ منهج دراسة العملية الديناميكية ،والانتشار ليس سوى وجه من وجوهها، يجب أن يكون منهجاً سيكولوجياً، وأن يعود إلى الفرد بغية فهم حقائق التغيّر الثقافي. (هرسكوفيتز، 1974، ص 216)
واستناداً إلى هذه المنطلقات، يرى / بواز / أنّ مراعاة العوامل السيكولوجية الكامنة في عملية الاقتباس، تكتسب أهميّة كبيرة في هذه الدراسات الثقافية. كما يجب تحليل هذه الثقافات بصورة إفرادية أولاً، ومن ثمّ إجراء مقارنة تفصيلية فيما بينها، سواء من حيث نظامها البنائي أو من حيث عناصرها. ولا تكون النتائج مقبولة، إلاّ بتحرّيات في مناطق عديدة ـ تسمح بتعميم هذه النتائج .
فقد اكتشف / بواز / أنّ ثمّة عدداً من السمات الثقافية المشتركة بين جماعات الهنود الحمر، التي تعيش في السهول الساحلية لأمريكا الشمالية .فعلى الرغم من أنّ لكلّ منها استقلاليتها الخاصة واسمها ولغتها وثقافتها، إلاّ أنّ سكانها جميعهم يصطادون الجاموس للغذاء، ويبنون المساكن على أعمدة يغطونها بالجلود التي يستخدمونها أيضاً في صنع الملابس. ..
وهكذا جاء مفهوم (مصطلح) المنطقة الثقافية، كتصنيف وصفي وتحليلي للثقافات، الأمر الذي يسهل المقارنة بين الثقافات، ومن ثمّ الوصول إلى تعميمات بشأن الثقافة الإنسانية كلّها .( أبو زيد، 1980، ص 203)
ونتج عن هذا الاتّجاه الانتشاري بوجه عام، أن بدأ الأنثروبولوجيون ينظرون إلى أنّ للثقافات الإنسانية كيانات مستقلّة من حيث المنشأ والتطوّر والملامح الرئيسة التي تميّز بعضها من بعض. وهذا ما عزّز فكرة تعدّد الثقافات وتنوّعها، وطرح مفهوم النسبية الثقافية التي أصبحت من أهمّ المفهومات الأساسيّة في الفكر الأنثربولوجي وتطوّره، كعلم خاص من العلوم الإنسانية لـه منطلقاته وأهدافه، توجب دراسته من خلالها .
ولكنّ نظرية الانتشار الثقافي بحسب فكرة الدوائر المتّحدة المركز، لاقت انتقادات شديدة، ومنها ما وجّهه / إدوارد سابير/ الذي ذكر ثلاثة تحفّظات على فكرة التوزّع المستمرّ :
أولها : يمكن أن يكون الانتشار في أحد الاتّجاهات، أسرع منه في اتّجاه آخر .
ثانيها: قد يكون الشكل الأقدم تاريخياً، تعرّض لتعديلات في المركز، بحيث يخطىء الباحث في تحديد المركز الحقيقي لأصل الشكل.
وثالثها: قد يكون لتحرّكات السكان داخل منطقة التوزّع، آثار تؤدّي إلى سوء تأويل نموذج " الانتشار الثقافي " .
ولكن، هل يعني هذا التخلّي عن محاولات إعادة تركيب الاحتكاك التاريخي، بين الشعوب البدائية والتطوّر التاريخي للمناطق التي ليس لها تاريخ؟ والجواب : ليس ثمّة ما يبرّر هذه النتيجة. ويبدو أنّ هذا الجهد المبذول في هذا المجال، إذا ما أخذ كل شيء في الحسبان، جدير بالاهتمام والعناية، بشرطين :
1- أن يكون بالإمكان اعتبار المنطقة المختارة للتحليل، ذات وحدة تاريخيّة.
2- أن يكون الهدف من التحليل، تقرير احتمال وقوع التطوّرات التاريخية، وليس تقرير الحقيقة المطلقة عنها .( هرسكوفيتز1974، ص 221 )
ولكن، مهما تعدّدت الأدلّة على ظاهرة الانتشار الثقافي، فإنّه يتعذّر بالنسبة للمجتمعات غير المتعلّمة –وفي معظم الأحيان – التمييز بين العناصر الثقافية التي تسرّبت إليها من الخارج، وبين العناصر التي نشأت من داخلها. ويتّضح من وجهة النظر التجريبية، أنّ كلّ ثقافة بمفردها اقتبست عن الثقافات الأخرى، أشياء أكثر من التي اخترعتها بذاتها. والدليل على ذلك، الانتشار الواسع لعناصر ثقافية معقدة في مجالات التكنولوجية والفنون الشعبية، والمعتقدات الدينية والمؤسّسات الاجتماعية. (لينتون، 1967، ص 272)
وهكذا نجد، أنّ عملية الانتشار الثقافي تسير في اتّجاهين، حيث يستفيد كلّ مجتمع من ثقافة المجتمع الآخر الذي يحتكّ به .. ولا سيّما في المجتمعات الكبيرة، حيث تتمّ عملية الانتشار الثقافي من خلال اقتباس عناصر من ثقافات أخرى، وانتشار مقوّماتها وأنماطها الرئيسة والفرعية، بين فئات هذه المجموعة البشرية الكبيرة.
1/2- الاتّجاه التاريخي / النفسي :
بدأ الاتّجاه التاريخي / التجزيئي يتعدّل ويأخذ مسارات جديدة، حيث ظهرت فكرة توسيع المفهوم التاريخي في دراسة الثقافات الإنسانية، وذلك بفضل من تأثّروا بنتائج علم النفس، ولا سيّما / سيغموند فرويد / الذي عاش ما بين (1852-1939) وتلامذته، الذين رأوا أنّه بالإمكان فهم الثقافة من خلال التاريخ، مع الاستعانة ببعض مفهومات علم النفس وطرائقه التحليلية. وهذا ما كان لـه أثر كبير في الاتّجاه نحو الكشف عن الأنماط المختلفة للثقافات الإنسانية.
فقد رأت / روث بيند كيت / ورفاقها أنّ دراسة التاريخ، بوقائعه وأحداثه، لا تكفي لتفسير الظواهر الاجتماعية والثقافية، وذلك لأن الظاهرة الثقافية بحدّ ذاتها مسألة معقّدة ومتشابكة العناصر. فهي تجمع بين التجربة الواقعية المكتسبة والتجربة السيكولوجية (النفسية )، وأنّ أية سمة من السمات الثقافية، تضمّ مزيجاّ من النشاط الثقافي والنفسي بالنسبة لبيئة معيّنة .( أبو زيد، 1980،
227)
وعلى الرغم من ذلك، فإنّ أية ثقافة لا تؤلّف نظاماً مغلقاً أو قوالب جامدة، يجب أن تتطابق معها سلوكات أعضاء المجتمع جميعهم . ويتبيّن من حقيقة الثقافة السيكولوجية، أن الثقافة – بهذه الصفة – لا تستطيع أن تفعل شيئاً، لأنّها ليست سوى مجموع سلوكات الأشخاص الذين يؤلّفون مجتمعاً خاصاً (في وقت معين ومكان محدّد) وأنماط عادات التفكير عند هؤلاء الأشخاص.
ولكنّ، على الرغم من أنّ هؤلاء الأشخاص يلتزمون – عن طريق التعلّم والاعتياد- بأنماط الجماعة التي ولدوا فيها ونشأوا، فإنّهم يختلفون في ردود أفعالهم تجاه المواقف الحياتية التي يتعرّضون لها معاً. كما أنّهم يختلفون أيضاً في مدى رغبة كلّ منهم في التغيير، إذ إنّ الثقافات جميعها عرضة للتغيير. (هرسكو فيتز 1974، ص65)
وهذا يدلّل على مرونة الثقافة، وإتاحتها فرصة الاختيار لأفرادها .. بحيث أنّ القيم التي يتمسّك بها مجتمع ما وتميزه من المجتمعات الأخرى، ليست كلّها ثابتة بالمطلق وتنتقل إلى حياة الأجيال المتعاقبة، وإنّما ثمّة قيم متغيّرة، تتغيّر بحسب التغيّرات الاجتماعية والثقافية التي يمرّ بها المجتمع.
ويعتبر كتاب " أنماط الثقافة " الذي نشرته/ بيند كيت / عام 1932، البداية الحقيقية لبلورة الاتّجاه التاريخي / النفسي في دراسة الثقافات الإنسانية. حيث أوضحت الدراسة أنّه من الضرورة النظرة إلى الثقافات في صورتها الإجمالية، أي كما هي في تشكيلها العام. وذلك، لأنّ لكلّ ثقافة مركز خاص تتمحور حوله وتشكّل نموذجاً خاصاً بها، يميزها عن الثقافات الأخرى .
ومن هذا المنظور، قامت/ بيند كيت/ بإجراء دراسة مقارنة بين ثقافات بدائية متعدّدة، وخلصت إلى أنّ ثمّة علاقات قائمة بين النموذج الثقافي العام ومظاهر الشخصية، وهذا ما ينعكس لدى الأفراد في تلك المجتمعات .
(F reidle, 1977, p.302)
ومن الممكن دراسة مظاهر التكيّف المورفولوجي (الشكلي) للنوع البشري بالمصطلحات المألوفة في علم الأحياء، وفي الوقت نفسه، كان لا بدّ من تطوير أساليب فنيّة جديدة لوصف مظاهر التكيّف السلوكي والنفسي. ويعدّ مفهوم الثقافة من أهم المفهومات التي طوّرت في هذا المجال، وأكثرها فائدة وحيوية. ومع أنّ هذا المفهوم اقتصر في السابق على النواحي الوصفية، فإنّه – على أضعف تقدير – زوّدنا بطريقة محدّدة للتعرّف إلى النتاج النهائي لعمليات التكيّف، فوضع بالتالي أسساً للمقابلة بين النماذج المختلفة لطرق التكيّف. (لينتون، 1967، ص 196 )
لقد شهد الاتّجاه التاريخي/ النفسي في الدراسات الأنثربولوجية، ظهوراً متميّزاً في الربع الثاني من القرن العشرين، مترافقاً مع انتشار مدرسة التحليل النفسي التي أنشأها / فرويد / واستمدّ منها الأنثروبولوجيون الكثير من المفاهيم النفسية، لتحديد العلاقات المتبادلة بين الفرد وثقافته في إطار المنظومة الثقافية / الاجتماعية.
وقد انصبّ اهتمام أصحاب هذا الاتّجاه، على دراسة الموضوعات المتعلّقة بالتمييز الثقافي / الاجتماعي، بالاستناد إلى الميزات النفسية السائدة بين الأفراد والجماعات. وتعدّ دراسة بيند كيت، بعنوان " الكريزنتيموم والسيف The Chrsyanthemum and the Sword، عام 1946 " من أهمّ الدراسات في هذا الاتّجاه، حيث بحثت في علاقة الثقافة بالشخصيّة اليابانية .
وهذا ما ساعد في بلورة السياسة الأمريكية تجاه استسلام المحاربين اليابانيين في أثناء الحرب العالمية الثانية. وأوضحت الدراسة أنّ الجنود اليابانيين كانوا سيرفضون الاستسلام بصورة مطلقة، ويستمرون في القتال حتى الموت. إلاّ أنّ تأثير مبادىء الطاعة والولاء للإمبراطور على هؤلاء الجنود، جعلهم يستجيبون لتعليماته ويخضعون لأوامره .( المرجع السابق، ص510)
ولكن يرى بعض العلماء _ وهو محقّ في ذلك – أنّ الانشغال الزائد بالأشكال الخارجية للثقافة، قد أثّر سلبياً في المحاولات الرامية إلى تفهّم دلالتها السيكولوجية. ومن المعروف أن الحقيقة النهائية للثقافة، هي سيكولوجية .. ونقصد بذلك، أنّ وجود الثقافة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بوجود أناس يديرون مؤسّساتها. وهذه الحقيقة السيكولوجية للثقافة تفسّر الاستقرار الثقافي، أو بالأحرى، تفسّر السبب الذي من أجله تشعر الكائنات البشرية بارتياح كبير عندما تعيش وفق نظام رتيب معروف .
وهذه الحقيقة تفسّر أيضاً آلية التغيّر الثقافي. فالأفراد في كلّ مجتمع يملكون قابليات وحوافز وميولاً، وقدرات تؤدّي دورها ضمن إطار القالب الثقافي العام، وتسهم باستمرار في مراجعة التقاليد القائمة، وإدخال تحسينات عليها. (لينتون، 1967، ص 285 )
وكان من نتيجة ذلك، ظهور مدرسة ثقافية نفسية (أمريكية) من روادها : (كلايد كلاكهون، مرغريت ميد، رالف لينتون) وغيرهم ممّن اعتمدوا على مفهوم بناء الشخصيّة الأساسي الذي يشير إلى مجموعة الخصائص السيكولوجية والسلوكية، التي يبدو أنّها تتطابق مع كلّ النظم والعناصر والسمات التي تؤلّف أية ثقافة. (أبو زيد، 1989، ص238) إذ إنّه على الرغم من أنّ النمط الثقافي السائد في إي مجتمع، لا يمكن أن يزيد – أو يقلّل – من وجود الفوارق الفردية في نطاق الثقافة الواحدة، إلاّ أن تلك العلاقة القائمة بين الأنماط الثقافية والشخصيّة الفردية، وما تحدث من تأثيرات متبادلة بينهما، لا يجوز إهمالها، بل يجب أخذها في الحسبان أثناء دراسة الثقافات الإنسانية .(Freidle, 1977, p.303)
إنّ الأساس السيكولوجي للقوانين الاجتماعية القائمة، مثل : (أنماط السلوك الثابتة، والأعراف والتقاليد، والعادات والقيم)، هو تكوين أطر استناد مشتركة، ناتجة عن احتكاك الأفراد بعضهم ببعض ؛ وإذا ما تكوّنت مثل هذه الأطر الاستنادية وتغلغلت في أعماق الفرد، أصبحت عاملاً هامّاً في تحديد ردود فعله أو تعديلها، في الأوضاع التي سيواجهها فيما بعد، سواء كانت اجتماعية أو غير اجتماعية، ولا سيّما في الحالات التي لا يكون الحافز فيها جيّد التنظيم، أي في حالة تجربة ليس لها سوابق في السلوك الذي اعتاد عليه الفرد. (هرسكوفيتز، 1974، ص 68 )
وضمن هذا الاتّجاه أيضاً، اهتمّ / مالينوفسكي / بنظرية فرويد وكتاباته النفسيّة / وعلاقة ذلك بالمحرّمات الجنسيّة، من خلال المادة التي جمعها ميدانياً من سكان جزيرة (التروبرياند ). إلاّ أنّه عارض تفسير فرويد لعلاقة الابن بالأم وغيرته من الأب في إطار ما أسماه فرويد بـ (عقدة أوديب )، وقدّم بدلاّ منها تفسيراً وظيفيّاً، توصّل من خلاله إلى أنّ تحريم العلاقات الجنسية المكوّنة للعائلة الموحّدة (النووية) والتي تشمل : " الأم والأبناء والأخوة والأخوات " هو الذي يمنع ما قد ينشأ من صراعات داخلية، بسبب الغيرة أو التنافس ..
وهذا ما يحفظ بالتالي تماسك الأسرة، ويمنع تفكّك أواصرها وتهديم كيانها،
وما ينجم عنه من ضعف المجتمع العام، وتهديد وحدته وتماسكه.
Freidle, 1977, p. 303))
وخلاصة القول، إنّ هذه الاتّجاهات بأفكارها وتطبيقاتها، مثّلت مرحلة انتقالية بين الأنثروبولوجيا الكلاسيكية التي كانت تعتمد على التخمينات والتفسيرات النظرية فحسب، وبين الأنثروبولوجيا الحديثة التي بدأت مع النصف الثاني من القرن العشرين معتمدة على الدراسات الميدانية / التحليلية، والتي تعنى بالجوانب الاجتماعية الثقافية المكوّنة للفكر الأنثروبولوجي.
وهذا ما أدّى بالتالي إلى ظهور التخصّص في علم الأنثروبولوجيا، ممّا ساعد في إرساء المبادىء الأساسيّة للأنثروبولوجيا المعاصرة .
2-الاتّجاه البنائي / الوظيفي :
ترافق نشوء هذا الاتّجاه مع ظهور اتّجاه الانتشار الثقافي، كردّ فعل عنيف على النظرية التطوّرية. وقد تميّز الاتّجاه البنائي، بأنّه ليس تطوّرياً وليس تاريخياً، حيث ركّز على دراسة الثقافات الإنسانية كلّ على حدة، في واقعها الحالي / المكاني والزماني /.
وهذا ما جعله يختلف عن الدراسات التاريخيّة، لأنّه اعتمد العلم في دراسة الثقافات الإنسانية كظاهرة، يجب البحث في عناصرها والكشف عن العلاقات القائمة فيما بينها، ومن ثمّ العلاقات القائمة فيما بينها وبين الظواهر الأخرى. (فهيم، 1986، ص 164)
يعود الفضل في تبلور الاتّجاه البنائي / الوظيفي في الدراسات الأنثروبولوجية، إلى أفكار العالمين البريطانيين، (برونسلو مالينوفسكي) و (راد كليف براون )، اللذين عاشا في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. ويدينان باتّجاهاتهما النظرية، إلى أفكار عالم الاجتماع / إميل دوركهايم / الذي ركّز اهتمامه على الطريقة التي تعمل بها المجتمعات الإنسانية ووظائف نظمها الاجتماعية، وليس على تاريخ تطوّر هذه المجتمعات والسمات العامة لثقافاتها.
ولعلّ / كلود ليفي ستروس / الوحيد بين البنائيين الفرنسيين، الذي يستخدم كلمة (بناء أو بنائية) صراحة في عناوين كتبه ومقالاته، ابتداء من مقاله الذي كتبه عام 1945، عن " التحليل البنائي " في اللغويات وفي الأنثروبولوجيا، والذي يعتبر – بحق –" ميثاق " النزعة البنائية، وإلى كتاب " الأبنية الأولية للقرابة " الذي كان سبباً في ذيوع اسمه وشهرته، والذي يعتبره الكثيرون أهمّ وأفضل إنجاز في الأنثروبولوجيا الفرنسية على الإطلاق .. ومن ثمّ إلى كتابه " الأنثروبولوجيا البنائية ".
وعلى الرغم من الانتقادات التي وجّهت إليه، فلا يزال يؤمن بأنّ البنيوية (البنائية) هي أكثر المناهج قدرة على تحليل المعلومات وفهم الأثنوجرافيا وتقريبها إلى الأذهان، وإنّها في الوقت نفسه، أفضل وسيلة يمكن بها تجاوز المعلومات والوقائع العيانية المشخّصة، والوصول إلى الخصائص العامة للعقل الإنساني. فقد أفلح في أن يحقّق للبنائية ما لم يحقّقه غيره، مع أنّه لم يقم بدراسات حقلية بين الشعوب المتخلّفة (البدائية )، وحتى حين قام بدراساته في (البرازيل والباكستان) كان يمضي فترات قصيرة ومتباعدة بين الجماعات التي درسها. وخرج بالبنائية من مجال الأنثروبولوجيا، إلى ميادين الفكر المختلفة، الواسعة والرحيبة. وجعل منها اتجاهاً فكرياً ومنهجياً يهدف إلى الكشف عن العمليات العقلية العامة، وله تطبيقاته في الأدب والفلسفة واللغة والميثولوجيا (الأسطورة) والدين والفن. وبلغ من قوّة البنائية أن أصبحت في البداية، تمثّل تهديداً مباشراً للوجودية التي تركّز على الفرد والسلوك الفردي. (أبو زيد، 2001، ص 82-83 )
فالاتّجاه البنائي / الوظيفي، يعبّر في جملته عن منهج دراسي تمّ التوصّل إليه من خلال المقابلة (الموازنة) بين الجماعات الإنسانية (المجتمعات) والكائنات البشرية (الأفراد ). ولم يعد استخدامه مقصوراً على الأنثروبولوجيين، وإنّما تناولـه أيضاً علماء الاجتماع بالفحص والتطبيق والتعديل، على يد / تلكوت بارسونز، وجورح ميرتون /. كما ارتبط أيضاً بالعلوم الطبيعية، ولا سيّما علوم الحياة والكيمياء. Leach, 1982, p.184))
فقد رأى / مالينوفسكي / أنّ الأفراد يمكنهم أن ينشئوا لأنفسهم ثقافة خاصة، أو أسلوباً معيّناً للحياة، يضمن لهم إشباع حاجاتهم الأساسية، البيولوجية والنفسيّة والاجتماعية. ولذلك ربط الثقافة – بجوانبها المختلفة، المادية والروحية والاجتماعية، بالاحتياجات الإنسانية .
فالاهتمام بالبنية Struture، كترابط منظّم وخفي للعناصر الثقافية، يساعد النموذج في تفسيره وراء العلاقات الاجتماعية، يوازيه في اتجاه آخر اهتمام وظائفي بالمعنى الذي يحدّده / مالينوفسكي /، والذي تعني فيه الوظيفة : تلبية حاجة من الحاجات، ويكون فيها التحليل الوظيفي هو ذلك الذي : " يسمح بتحديد العلاقة بين العمل الثقافي والحاجة عند الإنسان، سواء كانت هذه الحاجة أولية أو فرعية / ثانوية " (لبيب، 1987، ط3، ص12 )
فالثقافة كيان كلّي وظيفي متكامل ، يماثل الكائن الحي، بحيث لا يمكن فهم دور وظيفة أي عضو فيه، إلاّ من خلال معرفة علاقته بأعضاء الجسم الأخرى، وإنّ دراسة هذه الوظيفة بالتالي، تمكّن الباحث الأثنولوجي من اكتشاف ماهية كل عنصر وضرورته، في هذا الكيان المتكامل .
ولذلك، دعا / مالينوفسكي / إلى دراسة وظيفة كلّ عنصر ثقافي، عن طريق إعادة تكوين تاريخ نشأته أو انتشاره، وفي إطار علاقته مع العناصر الأخرى. وهذا يقتضي دراسة الثقافات الإنسانية كلّ على حدة، وكما هي في وضعها الراهن، وليس كما كانت أو كيف تغيّرت .
وبذلك يكون / مالينوفسكي / قد قدّم مفهوم( الوظيفة) كأداة منهجيّة تمكّن الباحث الأنثروبولوجي من إجراء ملاحظاته بطريقة مركّزة ومتكاملة، في أثناء وصفه للثقافة البدائية. (Freidle, 1977, p.304 )
أمّا / براون / فقد قام من جهته، بدور رئيس في تدعيم أسس الاتّجاه البنائي / الوظيفي، في الدراسات الأنثروبولوجية، وذلك مع بداية القرن العشرين، موجّهاً الأثنولوجيا نحو الدراسات المتزامنة، وليس نحو التفسير البيولوجي للثقافة كما فعل / مالينوفسكي / .
اعتمد / براون في دراسة المجتمع وتفسير الظواهر الاجتماعية تفسيراً اجتماعياً، بنائياً ووظيفياً، على فكرة الوظيفية التي نادى بها / دوركهايم / والتي تقوم على دراسة المجتمعات الإنسانية، من خلال المطابقة (المماثلة) بين الحياة الاجتماعية والحياة العضوية، كما هي الحال في المشابهة بين البناء الجسمي المتكامل عند الإنسان، والبناء الاجتماعي المتكامل في المجتمعات الإنسانية .
ويوضح / براون / طبيعة هذا (البناء الاجتماعي) بأنّه يندرج تحت هذا المفهوم، العلاقات الاجتماعية كلّها، والتي تقوم بين شخص وآخر. كما يدخل في ذلك التمايز القائم بين الأفراد والطبقات، بحسب أدوارهم الاجتماعية، والعلاقات التي تنظّم هذه الأدوار. وكما يستمرّ تجدّد بناء الكائن العضوي طوال حياته، فكذلك تتجدّد الحياة الاجتماعية مع استمرارية البناء الاجتماعي في علاقاته وتماسكه .
واستناداً إلى ذلك، يصبح الاعتراف بالتنوّع الثقافي بين المجتمعات – مهما كان شكله- إحدى الخطوات الهامة في تطوّر علم الأنثروبولوجيا، انطلاقاً من النقاط التالية:
1- إنّ الثقافة تعبير عن سلوك شعب ما، وعن قواعد هذا الشعب .
2- إنّ مجموع التنوّعات في العقيدة والسلوك الفرديين لدى أفراد جماعة معيّنة وفي زمن معيّن، يحدّد ثقافة تلك الجماعة .. وهذا صحيح بالنسبة للثقافات الفرعية في الوحدات الصغيرة، داخل الكلّ الاجتماعي.
3- ليست العقيدة والسلوك في أي مجتمع، أبداً نتاج الصدفة، بل يتحوّلان وفق قواعد راسخة.
4- يجب استنباط هذه القواعد بواسطة الاستقراء من التوافق الملاحظ في العقائد وأنماط السلوك لدى جماعة ما .. وهي تشمل نماذج ثقافة تلك الجماعة .
5- كلّما صغر حجم الجماعة، كانت نماذج عقائدها وسلوكاتها، أكثر تجانساً فيما إذا تساوت الأمور الأخرى.
6- قد يظهر لدى الفئات الاختصاصية، تنوّع في حقل اختصاصها أكثر اتّساعاً ممّا يظهر لدى الفئات الأخرى، المساوية لها في الحجم، بين الجماعة الكليّة. (هرسكوفيتز، 1974، ص 263-264 )
وإزاء هذه الأمور مجتمعة، لا بدّ من الاعتراف بأهميّة مسألة التجانس الثقافي والتنافر الثقافي، في الدراسات الأثنولوجية، وفي أثناء مناقشة النظريات الأنثروبولوجية.
وإذا كان / مالينوفسكي / أخذ بفكرة النظم الاجتماعية لتأمين الحاجات البيولوجية والنفسية للأفراد، بينما اتّجه / براون / نحو مسألة تماسك النظام الاجتماعي، من حيث مكوّناته وعلاقاته، فأنّهما رفضا معاً فكرة تجزئة العناصر الثقافية (مكوّنات البناء الاجتماعي) إلى وحدات صغيرة يقوم الباحث بدراسة منشئها أو انتشارها وتطوّرها ..
واعتمدا بدلاّ من ذلك على الدراسات الميدانية، لوصف الثقافات بوضعها الراهن. وقد وجد هذا الاتّجاه قبولاً واسعاً لدى المهتمّين بدراسة الثقافات الإنسانية في النصف الأوّل من القرن العشرين، ولا سيّما بين الأنثربولوجيين الأوروبيين، الذين انتشروا في المستعمرات لإجراء دراسات ميدانية، وجمع المواد الأولية اللازمة لوصف الثقافات في هذه المجتمعات، وتحليلها في إطارها الواقعي وكما هي في وضعها الراهن .
**
مصادر الفصل ومراجعه:
- أبو زيد، أحمد (1980) البناء الاجتماعي – مدخل لدراسة المجتمع، ج1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة .
- أبو زيد (2001) الطريق إلى المعرفة، كتاب العربي (46 )، منشورات مجلّة العربي، الكويت .
- جابر، سامية (1991) علم الإنسان – مدخل إلى الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، دار العلوم العربية، بيروت .
- رياض، محمد (1974) الإنسان – دراسة في النوع والحضارة، دار النهضة العربية، بيروت .
- فهيم، حسين (1986) قصة الأنثروبولوجيا – فصول في تاريخ الإنسان، عالم المعرفة
(198 )، الكويت .
- لبيب، الطاهر (1987) سوسيولوجيا الثقافة، دار الحوار، اللاذقية .
- لينتون، رالف (1967) الأنثروبولوجيا وأزمة العالم الحديث، ترجمة: عبد الملك الناشف، المكتبة العصرية، بيروت .
- هرسكوفيتز، ميلفيل. ج (1974) أسس الأنثروبولوجيا الثقافية، ترجمة : رباح النفاخ، وزارة الثقافة، دمشق .
- Burns , Edward (1973) Western Civizalition , New York .
- Freidl ,John (1977) Anthropology , HarperandRowPublishers, New York .
- Leach , Edmund, (1982) Social Anthropology , Font and
- Paperbacks .
***
الفصل الثاني
الأنثروبولوجيا العضوية (الطبيعيّة )
Physical Anthropology
أولاً- تعريف الأنثروبولوجيا العضوية
ثانياً- فروع الأنثروبولوجيا العضوية
ثالثاً- الصفات العضوية للإنسان وعروقه
أولاً- تعريف الأنثروبولوجيا العضوية (الطبيعية)
تعرّف بوجه عام، بأنّها العلم الذي يبحث في شكل الإنسان من حيث سماته العضوية، والتغيّرات التي تطرأ عليها بفعل المورّثات. كما يبحث في السلالات الإنسانية، من حيث الأنواع البشرية وخصائصها، بمعزل عن ثقافة كلّ منها. وهذا يعني أنّ الأنثروبولوجيا العضوية، تتركّز حول دراسة الإنسان / الفرد بوصفه نتاجاً لعملية عضوية، ومن ثمّ دراسة التجمعّات البشرية / السكانية، وتحليل خصائصها.
وتهتمّ هذه الدراسة بمجالات ثلاثة هي :
- المجال الأوّل : ويشمل إعادة بناء التاريخ التطوّري للنوع الإنساني، ووصف (تفسير) التغيّرات التي كانت السبب في انحراف النوع الإنساني، عن السلسلة التي كان يشترك بها مع صنف الحيوانات الرئيسة .
- المجال الثاني : يهتمّ بوصف (تفسير) التغيّرات البيولوجية عند الأحياء من الجنس الإنساني. وتمتدّ هذه الأبحاث لتشمل : العلاقة الكامنة بين التركيب البيولوجي من جهة، والثقافة والسلوك من جهة أخرى.
- المجال الثالث : وهو تخصّص هام في علم الأنثروبولوجيا العضوية، ويبحث في الرئيسات : علاقاتها مع بيئاتها، تطوّرها، سلوكها الجماعي.
ومن أجل إعادة بناء التاريخ التطوّري للإنسان، يعمل علماء الأنثروبولوجيا الطبيعية – أحياناً- ما يعتبره غالبية الأنثروبولوجيين العمل الأكثر سحراً في الأنثربولوجيا العضوية، وهو البحث عن المستحاثات، ولا سيما تلك التي تتعلّق بالنوع الإنساني، وبأسلافه من الرئيسات التي وجدت من قبله. Daniel , 1990,8))
ويستخدم مصطلح الأنثربولوجيا الطبيعيّة (العضوية) للإشارة إلى ذلك العلم الذي يهتمّ بدراسة الجانب العضوي (الحيوي) للإنسان، منذ نشأته كنوع حيواني على سطح الأرض، وقبل فترة زمنية تزيد على ثلاثة ملايين سنة ونيّف، وحتى الوقت الحاضر الذي نعيش فيه.
إنّ الموضوع الأساسي في الأنثروبولوجيا العضوية (الفيزيائية) هو الاختلاف البيولوجي الذي يطرأ على الكائن الإنساني في الزمان والمكان .. والشيء الذي ينتج غالبية هذه الاختلافات، هو اتحاد المقومات الوراثية مع البيئة .. فثمّة تأثيرات بيئية لها صلة مباشرة بهذا الموضوع، مثل : (الحرارة، البرودة، الرطوبة، أشعة الشمس، الارتفاع، والمرض ..). وهذا التركيز على اختلاف الكائن الإنساني عن غيره من الرئيسات، يضم خمسة تأثيرات محدّدة تدخل في سياق الأنثروبولوجيا العضوية، وهي :
1- نشوء الكائن الشبيه بالإنسان، كما تمّ الكشف عنه من خلال التقارير التي نجمت عن البحث في المستحاثات (الأنثروبولوجيا القديمة ).
2- التركيب الوراثي للإنسان .
3- نموّ الإنسان وتطوّره .
4- المرونة (المطواعية) الموجودة في بيولوجيا الإنسان (قدرة الجسم على التكيّف مع ضغوطات، مثل : الحرارة، البرودة، درجة حرارة الشمس..)
5- التركيب البيولوجي وما يتبعه من عملية النشوء والسلوك والحياة الاجتماعية للسعادين (القردة )، والحيوانات الأخرى من فصيلة الرئيسات. Kottak, 1994,9))
ولا بدّ من الإشارة هنا، إلى أنّ الألمان يعتبرون / يوهان بلومينياخ / المؤسّس الأول للأنثروبولوجيا الطبيعيّة. فهو من الروّاد في دراسة الجماجم البشرية، كما أنّه قسّم الجنس البشري إلى خمسة أقسام (سلالات )، هي : القوقازي، المغولي، الأثيوبي، الأمريكي، والملاوي. (سليم، 1981،
ص 122)
ولكي نستطيع أن نفهم الإنسان كنتاج لعملية عضوية، يجب أن نفهم تطوّر أشكال الحياة الأخرى، بل وطبيعة الحياة ذاتها، وكذلك خصائص الإنسان القديم والإنسان الحديث .. وقد استطاع هذا العلم – من هذه المنطلقات – أن يجيب عن العديد من التساؤلات ، التي كانت موضع اهتمام الإنسان وتفكيره منذ القديم وحتى العصر الحاضر. (محمّد، 1974، ص 12)
ثانياً- فروع الأنثروبولوجيا العضوية
تقسم الأنثروبولوجيا العضوية بحسب طبيعة الدراسة، إلى فرعين أساسيين، هما:
1- فرع الحفريات البشرية Paleontology)) :
وهو العلم الذي يدرس الجنس البشري منذ نشأته، ومن ثمّ مراحله الأولية وتطوّره، من خلال ما تدلّ عليه الحفريات والآثار المكتشفة. أي أنّه يتناول بالبحث نوعنا البشري واتجاهات تطوّره، ولا سيّما ما كان منها متّصلاً بالنواحي التي تكشفها الأحافير. (لينتون، 1967، ص 17)
ومهمّة هذا النوع من الدراسة، هي محاولة استعادة (معرفة) ما نجهله عن الإنسان البائد، وذلك من خلال الحفريات التي تكشف عن بقاياه وآثاره وما خلفه وراءه من أدوات، ومحاولة تحليل هذه المكتشفات من أجل معرفة الأسباب التي دعت إلى حدوث تغيّرات مرحلية في شكل الإنسان، الذي أصبح كما هو عليه الآن.
ويحاول العلماء الذين يدرسون هذا الفرع، الإجابة عن العديد من التساؤلات التي تدور حول موضوع الإنسان، وكيفيّة ظهوره على الأرض، ومن ثمّ كيف اختلفت الأجناس البشرية، بفصائلها وسلالاتها وأنواعها. وكيف تغيرّ الإنسان وتطوّرت الحياة على وجه الأرض إلى أن وصلت إلىشكلها الحالي / المعاصر. (ناصر، 1985، ص32)
وقد برهن العديد من الحفريات التي تمّت في هذا المجال، على أنّ الإنسان القديم الذي كان يعيش على هذه الأرض منذ ما يقرب من نصف مليون سنة ، كان يختلف عن الإنسان الحالي، حيث كان أكبر حجماً وأقوى بنية، إضافة إلى بروز فكيّه وغور عينيه وعرض جبهته ..
2- فرع الأجناس البشرية أو الأجسام البشرية Somatology)):
وهو العلم الذي يدرس الصفات العضوية للإنسان البدائي (المنقرض) والإنسان الحالي، من حيث الملامح الأساسية والسمات العضوية العامة. ولذا كرّس علماء الأجسام معظم جهودهم لدراسة الأصناف البشرية ورصد الفروقات بينها، ومحاولة معرفة الأسباب المحتملة لهذه الفروقات .. ويلاحظ أنّ اهتمامهم انصبّ – إلى عهد قريب جدّاً – على تصنيف الأجناس البشرية المختلفة على أساس العرق، وإيجاد العلاقات المحتملة بين هذه الأجناس .
ويمكن القول : إنّ التصنيفات العرقية التي طوّرها علماء الأجناس البشرية، لا تزال تعتمد في المقام الأوّل، على خصائص سطحيّة بسيطة : كلون الجلد وشكل الشعر. وفي الآونة الأخيرة ، أخذ الاهتمام يتحول إلى فروق أقلّ وضوحاً وأوثق ارتباطاً بالمشكلات التي نواجهها، كالفروق بين أنواع الدم وبين الأجهزة العضلية وغيرها. ومع بداية الستينات من القرن العشرين، سار علماء الأجسام شوطاً أبعد من ذلك، إذ بدأوا يدرسون الفوارق بين الفئات المختلفة من حيث سرعة النمو، وسنّ النضوج الجنسي، ومدى المناعة ضد الأمراض. .( لينتون، 1967، ص 18-19) ويمكن القول : إنّ الكثير من اكتشافاتهم في هذه الميادين، قد يكون ذا قيمة علمية مباشرة، ولا سيّما في الدراسات الأنثروبولوجية.
وعلى هذا الأساس، فإنّ فرع الأجناس البشرية، يدرس التغيّرات البيولوجية التي تحصل بين مجموعات إنسانية في مناطق جغرافية مختلفة، على أساس تشريحي ووراثي، وذلك من خلال المقارنة مع الهياكل العظمية للإنسان القديم، والموجودة في المقابر المكتشفة حديثاً. وهذا ما ساعد العلماء كثيراً، في وضع التصنيفات البشرية على أسس موضوعية وعلمية، يمكن الاعتماد عليها في دراسة أي من المجتمعات الإنسانية .
وتعمد الأنثروبولوجيا العضوية من أجل أن تحقّق أهدافها في دراسة أصل الإنسان دراسة تاريخية وفق منهجية علمية، إلى الاستعانة بعلم الأحياء وعلم التشريح، إلى درجة يمكن معها أن يطلق على الأنثروبولوجيا العضوية اسم " علم الأحياء الإنسانية Human Biology " أي أنّها الدراسة التي تتعلّق بالإنسان وحده دون غيره من الكائنات الحيّة الأخرى.
واستناداً إلى ما تقدّم، يمكن القول إنّ الأنثروبولوجيا العضوية (الطبيعية) إنّما تدرس تلك الخصائص والملامح العامة للبناء الفيزيقي للإنسان، أو ما يسمّى بالبناء العضوي للإنسان. (اسماعيل، 1973، ص 42) أي أنّها تدرس التاريخ العضوي للإنسان الطبيعي، مع الأخذ في الحسبان خصائصه العضوية المختلفة، وملامحه البنائية الحالية والمنقرضة، وبما يعطي في النهاية، المراحل التطوّرية الارتقائية للجنس البشري.
ثالثاً-الصفات العضوية للإنسان وعروقه :
يتصف الإنسان بميزات عضوية خاصة، لا يشاركه فيها إي من
الكائنات الحيّة الأخرى، وتتمثّل هذه الصفات في الجوانب التالية:
Ardrey , 1961, p.86) (
- انتصاب القامة والسير على قدمين اثنين .
- تركيب الرأس من حيث شكله ومكوّناته .
- تركيب الجسم، من حيث شكله العام ومقاييس أطرافه (الذراعين والساقين) ومدى تناسبهما مع الأعضاء الأخرى في الجسم .
- محدودية المساحات التي ينبت فيها الشعر، وتحديد أماكن وجودها.
- فترة الطفولة الطويلة، مقابل قصرها عند الكائنات الرئيسة الأخرى (الثدييات) .
وعلى الرغم من الصفات الجسميّة العامة المشتركة بين البشر، إلاّ أن ثمة فروقات في تكوين بعضها وخصائصها، والتي تؤثّر إلى حدّ ما ببنية الشخصيّة الإنسانية، ولا سيّما من النواحي النفسيّة والسلوكية .
وكان من نتائج انشغال علماء الأنثروبولوجيا الجسمية بمسألة العرق، أن اكتسب هذا المفهوم (النوع أو العرق) رسوخاً أعاق تفكير الباحثين عن الكائن البشري. فالأصناف العرقية البشرية ظلّت – إلى عهد قريب _ تعتبر كيانات ثابتة نسبيّاً، وقادرة على الصمود أمام تأثيرات البيئة أو قوى التغيّر الفطرية.
ويلاحظ أنّ التطرّف في تمجيد فكرة (العرق) أدّى إلى فرض عدد محدود من التصنيفات الصارمة على بني البشر الذين يمتازون بتنوّع لا حدّ له، وأدى بالتالي إلى زجّ الأفراد في هذه التصنيفات، بصورة تطمس صفاتهم الأصلية الخاصة. ولو أنّ عملية التصنيف لوحقت ضمن المجالات المناسبة لها، ومن أجل الأضواء التي تلقيها على تطوّر الإنسان، ولو أنّها أيضاً اقترنت بإدراك طبيعتها – شبه الاعتباطية- لكان من الممكن حصر نتائجها في استعمالات عملية مشروعة .
ولكنّ هذه العملية – ولسوء الحظّ- تحمل في طيّاتها نزعة تلقائية إلى المبالغة .. وما ذلك إلاّ لأنّ طبيعة التصنيف نفسها، تقتضي اعتبار الشواذ والأشكال المغايرة، كما لو أنّها من الظاهرات التي تستحقّ الاستهجان. ومهما يكن الأمر، فإنّ هذه الأشكال المغايرة، هي نفسها التي اكتسبت دلالة خاصة في التطوّرات الأخيرة لعلم البيولوجيا. (لينتون، 1967، ص 46 )
واستناداً إلى هذه الاختلافات الشكلية وأيضاً السلوكية، فقد جرى الاتّفاق بين علماء الإنسان على تقسيم البشر إلى ثلاثة أجناس أو عروق رئيسيّة، وهي: (أبو هلال، 1974، ص 107 )
1/3/1- العرق الأبيض (القوقازي) : يمتاز هذا العرق بصفات خاصة في: (علو الأنف ودقّته، اعتدال الشفة وبروز الفكّين، استقامة العينين، تموّج الشعر وتجعّده، وكثرة شعر الجسم وكثافة اللحية..)
ويندرج ضمن هذا العرق : العرق الهندي – عرق البحر الأبيض المتوسط، العرق الألبي (وسط أوروبا )، العرق النوردي (الإيرانيون، الأفغان، البربر، المصريون، والأثيوبيون ).
1/3/2- العرق الأسود (الزنجي) : يمتاز بالأنف المتوسّط والشفة الغليظة، والفك البارز بشكل كبير. وكذلك بالعيون المستقيمة والشعر القصير الأشعث، والرأس المستطيل.
ويمثّل هذا العرق : زنوج أمريكا، زنوج أفريقيا الوسطى، والحاميون النيليون في مصر .
1/3/3- العرق الأصفر (المنغولي) : يمتاز هذا العرق ببشرة معتدلة الدكنة، ويتراوح بين اللون النحاسي البنّي كما عند (الهنود الحمر)، واللون الأصفر الفاتح كما عند (الصينيين الشماليين ). كما يمتاز هذا العرق باستقامة الشعر ونعومته -إلى حدّ ما -على الرأس، وقلّة كثافته على الجسم والذقن .
ويمثّل هذا العرق : المغول الأصليون (الأسكيمو، اليابانيون، الكوريون، والصينيون) وكذلك، الأتراك والأندونيسيون، والهنود الأمريكيون، وسكان التيبت.
إنّ هذه الاختلافات الشكلية الظاهرة بين العروق (الأنواع) الثلاثة، هي العوامل الأساسية التي يعتمد عليها في الدراسات الأنثروبولوجية، للتمييز بين الأفراد والمجتمعات. إلاّ أنّ بعض العلماء يضيفون عاملاً آخر للتمييز بين عرق وآخر، يتمثّل في القدرات الذكائية (نسبة الذكاء )، مع أنّ هذا العامل لم تثبت صحّته، حيث أنّ الزنجي الأسود، على سبيل المثال، لا يقلّ ذكاء عن الأمريكي الأبيض، في حال وفّرت لـه الظروف النمائية والتربوية المناسبة .
ويميل معظم علماء الأنثروبولوجيا اليوم، إلى نبذ حتى الفكرة القائلة بأنّ تقدّم أي شعب من الشعوب في مدارج الحضارة، يقيم دليلاً غير مباشر على قدرات هذا الشعب الفطرية. وقد تأثّر هؤلاء العلماء بالدور الذي يؤدّيه انتشار الثقافات في تحقيق التقدّم، وبأثر " الأحداث العَرَضيّة " في توجيه التطوّر. ولذلك تراهم يميلون إلى إهمال ما يسمّى بالقدرات الفطرية لشعوب العالم، ويؤثرون كتابة تاريخ الحضارة في ضوء عوامل البيئة والحظّ وتسلسل الأحداث المترابطة. (لينتون، 1967، ص 59)
وهذا يعني أنّ البيئة الاجتماعية والطبيعية لها دور كبير في تكوين الشخصيّة الإنسانية، المنتجة والمبدعة، وليست العوامل الوراثية (العرقية) فحسب. وهذا ما بدأت تأخذ به الدراسات الإنسانية المعاصرة .
**
مصادر الفصل ومراجعه
- أبو هلال، أحمد (1974) مقدّمة في الأنثروبولوجيا التربوية، المطابع التعاونية، عمّان.
- اسماعيل، قباري محمد (1973) الأنثروبولوجيا العامة، منشأة المعارف، الإسكندرية .
- الجباوي، على (1997) الأنثروبولوجيا – علم الإناسة – جامعة دمشق .
- لينتون، رالف (1967) الأنثروبولوجيا وأزمة العالم الحديث، ترجمة : عبد الملك الناشف، المكتبة العصرية، بيروت .
- محمد، رياض (1974) الإنسان – دراسة في النوع والحضارة، دار النهضة العربية، القاهرة .
- ناصر، ابراهيم (1985) الأنثروبولوجيا الثقافية، (علم الإنسان الثقافي)،عمّان .
***
الفصل الثالث
الأنثروبولوجيا النفسيّة
Psychology Anthropology
1- مفهوم الشخصيّة وطبيعتها
2- مفهوم الثقافة وخصائصها
3- الثقافة والشخصيّة
مقــدّمة
تسمّى الأنثروبولوجيا النفسيّة أيضاً (الثقافة والشخصيّة )Culture and Personality. وذلك بالنظر إلى العلاقة الوثيقة بين الثقافة والشخصيّة الإنسانية. فقد أثبتت بعض الدراسات أنّ التطابق في التقييمات المستقلّة للمعلومات التي جمعت، بقصد دراسة معادل " الثقافة – الشخصيّة " بلغ حدّاً كبيراً يدلّ على توقّع حدوث تعاون مثمر، بين الأنثروبولوجيين والتحليل النفسي في أبحاث أخرى.ويدلّ أيضاً، على أنّ من المستحسن أن يتدرّب الباحث على فروع علمية عديدة حتى يتمكّن من إجراء المراحل المختلفة من البحث والتحليل، والتي تتطلّبها طريقة التركيب " السيكو- ثقافي". (هرسكوفيتز، 1974، ص 53)
ومن هذا المنطلق، أكّدت معظم التعريفات التي تناولت مفهوم الثقافة، ارتباطها بشكل أساسي بالنتاجات / الإبداعية والفكرية / للإنسان. وهذا يعني أنّ الثقافة ظاهرة ملازمة للإنسان، باعتباره يمتلك اللغة، واللغة وعاء الفكر، والفكر ينتج عن تفاعل العمليات العقلية والنفسية التي يتمتّع بها الإنسان دون غيره من الكائنات الحيّة. فالعناصر الثقافية وجدت معه مذ أحسّ بوجوده الشخصي / الاجتماعي، وأخذ مفهومها يتطوّر ويتّسع، وتتحدّد معالمها مع تطوّر الإنسان، إلى أن وصلت إلى ما هي عليه الآن .
فموضوع الأنثروبولوجيا النفسية، يتحدّد إذن، في العلاقة بين الثقافة والشخصيّة، هذه العلاقة التي تسير في اتّجاهين متكاملين : اتّجاه يأخذ أثر الثقافة في الشخصيّة، واتّجاه يأخذ أثر الشخصيّة في الثقافة. ومن هنا، فقد ساعد ظهور الأنثروبولوجيا النفسيّة، علماء النفس في الوصول إلى فهم أفضل للمبادىء التي تحكم تشكيل الشخصيّة، وأثار في الوقت ذاته اهتمام علماء الأنثروبولوجيا لدراسة الأنماط الأساسسيبة للشخصيّة في المجتمعات المختلفة، قديمها وحديثها.
أولاً-مفهوم الشخصيّة وطبيعتها
احتلّت الشخصيّة الإنسانية والعوامل المؤثّرة في تكوينها، مكانة هامة في الدراسات النفسيّة والاجتماعية، وذلك بقصد التعرّف إلى مكوّنات هذه الشخصيّة، وكيفيّة تكيّفها وتفاعلها مع البيئة المحيطة، وبما يتيح نمو الشخصيّة وتطوّرها.
وعلى الرغم من الاتفاق على وحدة هذه الشخصيّة وتكاملها كنتاج اجتماعي من جهة، وكمحرّك لتصرّفات الفرد ومواقفه الحياتية من جهة أخرى، فقد تعدّدت تعريفاتها تبعاً للنظر إليها من جوانب متعدّدة.
فانطلاقاً من أنّ الشخصيّة تعبّر عن الجوهر الاجتماعي / الحقيقي للإنسان، فقد عرّفها رالف لينتون، بأنّها : " المجموعة المتكاملة من صفات الفرد العقلية والنفسية. أي المجموع الإجمالي لقدرات الفرد العقلية وإحساسا ته ومعتقداته وعاداته، واستجاباته العاطفية المشروطة " (لينتون، 1964، 607)
كما عرّفها /فيكتور بارنوا / بأنّها : " تنظيم ثابت لدرجة ما، للقوى الداخلية للفرد. وترتبط تلك القوى بكلّ مركّب من الاتجاهات والقيم والنماذج الثابتة بعض الشيء، والخاصة بالإدراك الحسّي، والتي تفسّر – إلى حدّ ما – ثبات السلوك الفردي " .( Barnouw, 1972, p 8)
واتفاقاً مع التعريفين السابقين، يرى / أفلويد ليورت / أنّ الشخصيّة : هي استجابات الفرد المميّزة للمثيرات الاجتماعية، وكيفيّة توافقه مع المظاهر الاجتماعية المحيطة به. (محمد غنيم، 1997، ص 44)
وهكذا، يعبّر مفهوم الشخصيّة عن الوصف الاجتماعي للإنسان، والذي يشمل الصفات التي تتكوّن عند الكائن البشري من خلال التفاعل مع المؤثّرات البيئية، والتعامل مع أفراد المجتمع بصورة عامة. وهذا ما يعبّر عنه بـ (الجوهر الاجتماعي للإنسان) . أي أنّها مجموعة الخصائص (الصفات) التي تميّز فرداّ / إنساناً بذاته، من غيره في البنية الجسدية العامة، وفي الذكاء والطبع والسلوك العام .
فالعمليات الفيزيولوجية لدى الإنسان، ترتبط بالأفعال السلوكية المصاحبة، وتتعدّل هذه الأفعال عن طريق الخبرة التي يكتسبها من المجتمع. فالطعام كاستجابة للحاجة الفيزيزلوجية الغذائية، يصاحبها سلوك معيّن يتمثّل في طريقة تناول الطعام، بصورها المتعدّدة.. فهي تتضمّن كلّ أفعال الفرد ومناشطه الجسمانية والسيكولوجية، وأيضاً التعلّم والتفكير، وكلّ شيء يدخل في محتوى السلوك، حتى العمليات العقلية فهي تندرج تحت مفهوم هذا المصطلح.
وتتميّز نتائج السلوك بخاصتين أساسيتين : الأولى : العمليات المادية، والثانية : العمليات السيكولوجية. ويندرج تحت العمليات السيكولوجية، ما يعرف بأنساق القيم والمعرفة. ويشير تصنيف نتائج السلوك إلى تفاعل الفرد مع البيئة، فالفرد عندما يواجه نظاماً جديداً، يحدث لديه ردّ فعل، ليس فقط في موضوعيته، ولكن أيضاً في اتجاهاته وقيمه ومعارفه التي اكتسبها من خبراته الماضية.. ولذلك، يؤيّد بعض العلماء الأنثروبولوجيين تأثير العناصر السيكولوجية في محتوى الصيغة الثقافية، في دراستهم للثقافة والشخصيّة، وذلك لاعتقادهم بأنّ الشخصيّة هي نتاج الصيغة الثقافية التي تسود مجتمعاً ما. (الغامري، 1989، ص 42)
إنّ شخصيّة كلّ فرد متميّزة ومتفرّدة بسماتها وخصائصها، ولكنّه في الوقت ذاته يشترك مع الآخرين من أبناء جنسه، في الكثير من المظاهر التي تجعله وإياهم من جنس واحد. ولذلك تتّصف الشخصيّة الإنسانية بنوع من الثبات، يبدو في مواقفها واتّجاهاتها وأساليب تعاملها، وشعورها بهويّتها. وفي المقابل، تخضع هذه الشخصيّة للتغيّر والتطوّر. وهذا ما تحدّده مكونات الشخصيّة من جهة، والبيئة التي تنشأ فيها وتنمو من جهة أخرى.
فكون الإنسان يتميّز بشخصيّته ولا يشبه أحداً، فهذا يعني أنّ لكلّ فرد مكوّناته الجسدية الخاصة، وله طريقته وأسلوبه في الشعور والإدراك والسلوك، بما يطبعه بطابع مميّز لا يتكرّر عند أي شخص آخر بالصورة ذاتها.
أمّا كون الإنسان يشبه الناس الآخرين، فثمّة مظهران لذلك :
الأوّل : أنّه يشبه الناس كلّهم من حيث السمات المشتركة في الإرث البيولوجي، والبيئة التي يعيشون فيها، والمجتمعات والثقافات التي ينتمون إليها. فلكلّ فرد هنا، التكوين العضوي / البيولوجي ذاته، بوصفه كائناً حيّاً اجتماعياً .
الثاني : أنّه يشبه بعض الناس، فهذا ما يلاحظ في تشابه سمات شخصيّة الفرد مع سمات أعضاء الجماعة التي ينتمي إليها، أو بعض الأفراد الذين ينشأ – أو يتعامل – معهم. (المصري، 1990،
ص 61)
وبناء على ما تقدّم، يمكن القول : إنّ الشخصيّة الإنسانية تتّسم بالخصائص التالية: (ميلاد، 1997، 30)
1- النمو والتكامل : فالشخصيّة تنمو وتتطوّر في وحدة متكاملة، من خلال تآزر سمات هذه الشخصيّة وقدراتها، وعملها بصورة مستمرّة ومتفاعلة مع مواقف الحياة المختلفة، ولا سيّما تفاعل الإنسان مع بيئته وأنماط التنشئة الاجتماعية المتعددة التي يتعرّض لها، وبالتالي استجابة هذه الشخصيّة بعناصرها الكاملة، في أثناء التعامل مع هذه المواقف المتنوّعة.
2- الهويّة الشخصيّة (الذاتية) : وتعني شعور الفرد بأنّه هو ذاته، وإن حدثت لـه تغيّرات جسدية ونفسيّة، عبر مراحله النمائية. فمن طبيعة الإنسان أن يتغيّر ويتبدّل من يوم إلى آخر، بحكم قانون التطوّر، والذي يشمل جوانب الشخصيّة كافة، من بداية الحياة وحتى نهايتها. غير أنّ هويته الأساسيّة تبقى هي ذاتها، على الرغم من التغيّرات الجسدية أو الوجدانية، التي تحدث بفعل عاملي : (العمر والثقافة) .
3- الثبات والتغيّر : أي أنّ خاصية الثبات في الشخصيّة الإنسانية، مستمرّة ما دام الشخص على قيد الحياة، وفي المقابل فهذه الشخصيّة تابعة لخاصية التغيّر والتطوّر، التي تحدث بفعل المؤثّرات المحيطة بالشخص، والتي تتفاوت في شدّة فاعليتها لإحداث التغيّرات التطوّرية.
وهذا الثبات الذي يتجلّى في : (الأعمال وأسلوب التعامل مع الآخرين، وفي البناء الداخلي والخارجي للشخص، بما في ذلك الدوافع والاهتمامات والاتجاهات، والخبرات) هو الذي يسمح – أحياناً – بالتنبّؤ المستقبلي لهذه الشخصيّة.
والخلاصة، أنّ الشخصيّة تنمو وتتطّور من خلال التفاعل المستمرّ مع ما يحيط بها. وكما أنّ الثبات سمة أساسية للشخصيّة، فالتغيّر والتطوّر أيضاً سمتان ملازمتان للشخصيّة. وإذا كان الاهتمام بدراسة الشخصيّة قليلاً في المجتمعات القديمة، نظراً لعدم النظر إلى الفرد كوحدة متكاملة، فإنّ تعقّد المشكلات الاجتماعية / الإنسانية، وتطوّر النظرة إلى دور الإنسان فيها، أدّى إلى زيادة الاهتمام بدراسة طبيعة الشخصيّة الإنسانية، لاكتشافها وإيجاد أفضل الطرائق للتعامل معها وتوظيف قدراتها.
ثانياً-مفهوم الثقافة وخصائصها
تعدّ الثقافة عاملاً هامّاً في تصنيف المجتمعات والأمم، وتمييز بعضها من بعض، وذلك بالنظر لما تحمله مضمونات الثقافة من خصائص ودلالات ذات أبعاد فردية واجتماعية، وإنسانية أيضاً.
ولذلك، تعدّدت تعريفات الثقافة ومفهوماتها، وظهرت عشرات التعريفات ما بين (1871-1963) منها ما أخذ بالجوانب المعنوية / الفكرية، أو بالجوانب الموضوعية / المادية، أو بكليهما معاً، باعتبار الثقافة- في إطارها العام- تمثّل سيرورة المجتمع الإنساني وإبداعاته الفكرية والعلميّة .
وهذا التنوّع في التعريفات، حدا بـ / إدجار موران / أن يقول بعد مرور قرن على أول تعريف أنثروبولوجي للثقافة : " كلمة الثقافة بداهة خاطئة، كلمة تبدو وكأنّها كلمة ثابتة، حازمة، والحال أنّها كلمة فخّ، خاوية، منوّمة، ملغّمة، خائنة.. الواقع أنّ مفهوم الثقافة ليس أقلّ غموضاً وتشكّكاً وتعدّداً، في علوم الإنسان منه في علوم التعبير اليومي " .( Morin, 1969, p.5)
1- مفهوم الثقافة :
ولعلّ أقدم تعريف للثقافة، وأكثرها شيوعاً، ذلك التعريف الذي وضعه / ادوارد تايلور / والذي يفيد بأنّ الثقافة : هي ذلك الكلّ المركّب الذي يشتمل على المعرفة والعقائد، والفن والأخلاق والقانون، والعادات وغيرها من القدرات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع. (مجموعة من الكتّاب، 1997، ص 9)
وعرّفها عالم الاجتماع الحديث / روبرت بيرستيد / بقوله : " إنّ الثقافة هي ذلك الكلّ المركّب الذي يتألف من كلّ ما نفكّر فيه، أو نقوم بعمله أو نمتلكه، كأعضاء في مجتمع " .
وضمن هذا المفهوم، يرى / جيمس سبرادلي J. Spradley) أنّ ثقافة المجتمع، تتكوّن من كلّ ما يجب على الفرد أن يعرفه أو يعتقده، بحيث يعمل بطريقة يقبلها أعضاء المجتمع .. إنّ الثقافة ليست ظاهرة ماديّة فحسب، أي أنّها لا تتكوّن من الأشياء أو الناس أو السلوك أو الانفعالات، وإنّما هي تنظيم لهذه الأشياء في شخصيّة الإنسان. فهي ما يوجد في عقول الناس من أشكال لهذه الأشياء. Spradley, 1972, p.p. 6-7) )
وهذا يتّفق إلى حدّ بعيد مع التعريف الذي يفيد بأن مصطلح الثقافة Culture في اللغة الإنكليزية، على معنى الحضارة Civilization كما في اللغة الألمانية ،له وجهان:
وجه ذاتي : هو ثقافة العقل .. ووجه موضوعي : هو مجموعة العادات والأوضاع الاجتماعية، والآثار الفكرية والأساليب الفنيّة والأدبية، والطرق العلمية والتقنية، وأنماط التفكير والإحساس، والقيم الذائعة في مجتمع معيّن .فالثقافة هي طريق حياة الناس، وكلّ ما يملكون ويتداولون، اجتماعياً وبيولوجياً. (صليبا، 1971، 378)
وربّما يكون أحدث مفهوم للثقافة، هو ما جاء في التعريف الذي اتّفق عليه في إعلان مكسيكو (6 آب 1982 )، والذي ينصّ على أنّ الثقافة – بمعناها الواسع – يمكن النظر إليها على أنّها : " جميع السمات الروحية والمادية والعاطفية، التي تميّز مجتمعاً بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها. وهي تشمل : الفنون والآداب وطرائق الحياة .. كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان، ونظم القيم والمعتقدات والتقاليد " .
ويعتقد معظم علماء الأنثروبولوجيا أنّ الحضارة ما هي إلاّ مجرّد نوع خاص من الثقافة، أو بالأحرى، شكل معقّد أو " راقٍ " من أشكال الثقافة. ولذلك لم يعتمدوا قطّ، التمييز الذي وضعه علماء الاجتماع بين الثقافة والحضارة .. فمن المعروف أنّ بعض علماء الاجتماع يميّزون بين الحضارة بوصفها " المجموع الإجمالي للوسائل البشرية " وبين الثقافة بوصفها " المجموع الإجمالي للغايات البشرية ". (لينتون، 1967، ص 143 )
وتأسيساً على ذلك، اعتمد كثير من الباحثين في دراسة الأنثربولوجيا الثقافية / النفسيّة والاجتماعية / على ثلاثة مفهومات أساسية، هي :
- التحيّزات الثقافية : وتشمل القيم والمعتقدات المشتركة بين الناس .
- العلاقات الاجتماعية : وتشمل العلاقات الشخصيّة التي تربط الناس بعضهم مع بعض .
- أنماط أساليب الحياة التي تعدّ الناتج الكلّي المركّب من التحيّزات الثقافية والعلاقات الاجتماعية (مجموعة من الكتّاب، 1977،
ص10)
وهذا يعني أنّ الثقافة تهدي الإنسان إلى القيم، حيث يمارس الاختيار ويعبّر عن نفسه بالطريقة التي يرغبها، وبالتالي يتعرّف إلى ذاته ويعيد النظر في إنجازاته وسلوكاته. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ أية ثقافة لا تؤلّف نظاماً مغلقاً، أو قوالب جامدة يجب أن يتطابق معها سلوك أعضاء المجتمع جميعهم. ويتبيّن من التأكيد على حقيقة الثقافة السيكولوجية، أنّ الثقافة بهذه الصفة، لا تستطيع أن تعمل أي شيء، لأنّها ليست سوى مجموع من سلوكات وأنماط وعادات تفكير، عند الأشخاص الذين يؤلّفون مجتمعاً خاصاً، في وقت محدّد ومكان معيّن. (هرسكوفيتز1974، ص 65)
وهكذا يمكن القول : إنّ الثقافة –في إطارها العام – ليست إلاّ مفهوماً مجرّداً يستخدم في الدراسات الأنثروبولوجية للتعميم الثقافي، وأنّ ضرورة الثقافة لفهم الأحداث في العالم البشري، والتنبّؤ بإمكانية وجودها أو وقوعها، لا تقلّ أهميّة عن ضرورة استخدام مبدأ( الجاذبية) لفهم أحداث العالم الطبيعي وإمكانية التنبّؤ بها .
2- خصائص الثقافة :
تعدّ الحياة الاجتماعية في أي مجتمع، نسيجاً متكاملاً من الأفكار والنظم والسلوكات التي لا يجوز الفصل فيما بينها، باعتبارها تشكّل التركيبة الثقافية في المجتمع، وإلى درجة تحدّد مستوى تطوّره الحضاري.
وإذا كان التأثير البيولوجي للإنسان في الثقافة معدوماً على المستوى الاجتماعي، باستثناء بعض الحالات الفردية الاستثنائية (الشاذة )، فإنّ تأثير العامل الثقافي على الوجود البيولوجي، هو تأثير فاعل ومحسوس، ليس على مستوى الفرد فحسب، بل على مستوى المجتمع بوجه عام. ولذلك، فكما يتمّ اصطفاء النوع، يتمّ اصطفاء الثقافة على أساس تكيّفها مع البيئة. وبمقدار ما تساعد الثقافة أعضاءها في الحصول على ما يحتاجونه، وفي تجنّب ما هو خطر، فإنّها تساعدهم على البقاء. (سكينر، 1980، ص130 )
وهذا يؤكّد أنّ النموذج العام لأيّ ثقافة، يأتي منسجماّ مع الإطار الاجتماعي الذي أنتجها، ويرسم بالتالي السمات والمظاهر الاجتماعية لدى الأفراد الذين يتشرّبون هذه الثقافة، ويعملون ما بوسعهم للحفاظ على هذا النموذج الثقافي واستمراريته وتطويره.
واستناداً إلى هذه المعطيات، فإنّ ثمّة خصائص تتّسم بها الثقافة، بحسب مفهومها وطبيعتها، ومن أبرز خصائص هذه الثقافة أنّها :
2 /1- إنسانية : فالإنسان هو الحيوان الوحيد المزوّد بجهاز عصبي خاص، وبقدرات عقلية فريدة تتيح لـه ابتكار أفكار جديدة، وأعمال جديدة. . فالإنسان – على سبيل المثال – انتقل من المناطق الدافئة إلى المناطق الاستوائية، وتكيّف معها باختراع أعمال جديدة، وملابس ومساكن تخفّف من الحرارة والرطوبة .. وانتقل من طور (مرحلة) جمع القوت إلى طور الصيد، ومن ثمّ إلى طور الرعي والزراعة، من دون أن تظهر عنده أيّة تغيّرات عضوية تذكر، وإنّما الذي تغيّر هو ثقافته، أي مجموع أفكاره وأعماله وسلوكاته .
2/2- مكتسبة : يكتسب الإنسان الثقافة من مجتمعه، منذ ولادته وعبر مسيرة حياته، وذلك من خلال الخبرات الشخصيّة. وبما أنّ كلّ مجتمع إنساني يتميّز بثقافة معيّنة، محدّدة الزمان والمكان، فإنّ الإنسان يكتسب ثقافة المجتمع الذي يعيش فيه منذ الصغر، ولا تؤثّر العوامل الفيزيولوجية في عملية الاكتساب. أي أنّ عملية التنشئة الاجتماعية الثقافية، هي العملية التي تقوم بنقل ثقافة المجتمع إلى الطفل. ومهما كانت السلالة التي ينتمي إليها الفرد، فإنّه يستطيع أن يلتقط ثقافة أي مجتمع بشري، إذا ما عاش فيه فترة زمنية كافية .
2/3- اجتماعية : بما أنّ الثقافة هي نتاج اجتماعي أبدعته جماعة معيّنة، فإنّ دراسة الثقافة لا تتمّ إلاّ من خلال الجماعات (المجتمعات )، وذلك لأنّ هذه الثقافة تمثّل عادات المجتمعات وقيمهم، وليست عادات الأفراد كأفراد. وإن كانت النظم الثقافية تختلف في مدى شموليتها الاجتماعية. فهناك نظم تطبّق على أفراد المجتمع جميعهم، وفي المقابل هناك نظم كثيرة، ولا سيّما في الثقافات المتمدّنة، لا تطبّق إلاّ على جماعة معيّنة داخل المجتمع الواحد، ولا تطبّق على الجماعات الأخرى. وهذا ما يدخل في الثقافات الفرعية. (وصفي، 1981، ص 81-84)
2/4- تطوّرية / تكاملية : على الرغم من أنّ لكلّ جماعة بشرية معيّنة ثقافة خاصة بها، إلاّ أنّ هذه الثقافة ليست جامدة، بل هي متطوّرة مع تطوّر المجتمع من حال إلى حال أفضل وأرقى. ولا يتمّ التطوّر في جوهر الثقافة ومحتواها فحسب، وإنّما أيضاً في الممارسة والطريقة العملية لسلوكات الإنسان الذي يعيش في المجتمع المتطوّر.
وهذا التطوّر لا يعنى أنّ كلّ مرحلة ثقافية منعزلة عن الأخرى، بل ثمّة تكامل ثقافي في ثقافة المجتمع الواحد. وذلك لأنّ الثقافة بتكاملها، تشبع حاجات الإنسان المادية والمعنوية، وهي تجمع بين المسائل المتّصلة بالروح والفكر، وبين المسائل المتّصلة بحاجات الجسد. أي أنّه تحقّق التكامل بين الحاجات البيولوجية والنفسية والاجتماعية والفكرية والبيئية.
2/5- استمرارية / انتقالية : بما أنّ الثقافة تنبع من وجود الجماعة ورضاهم عنها، وتمسّكهم بها، فهي بذلك ليست ملكاً لفرد معيّن، ولا تنحصر في مرحلة محدّدة .. لذا لا تموت الثقافة بموت الفرد، لأنّها ملك جماعي وتراث يرثه أفراد المجتمع جميعهم. كما أنّه لا يمكن القضاء على ثقافة ما، إلاّ بالقضاء على أفراد المجتمع الذي يتبعها، أو بتذويب تلك الجماعة التي تمارس هذه الثقافة، بجماعة أكبر أو أقوى، تفرض ثقافة جديدة بالقوّة. (ناصر، 1985، ص 103-
104)
وإذا كانت الثقافة تشكّل إرثاً اجتماعياً، فإنّها إذن قابلة للانتقال من جيل الكبار إلى جيل الصغار بواسطة عملية التثقيف أو التنشئة الثقافية / الاجتماعية، أي العملية التربوية التي تعني في بعض جوانبها : (نقل ثقافة الراشدين إلى الذين لم يرشدوا بعد ). كما يمكن أن يتمّ هذا الانتقال (الانتشار) إلى جماعات إنسانية أخرى من خلال وسائل الاتّصال المختلفة .
فالثقافة لا توجد إلاّ بوجود المجتمع، والمجتمع من جهته لا يقوم ويبقى إلاّ بالثقافة، لأنّ الثقافة طريق متميّز لحياة الجماعة ونمط متكامل لحياة أفرادها، وهي التي تمدّ هذه الجماعة الأدوات اللازمة لاطراد الحياة فيها، وإن كانت ثمّة آثار في ذلك لبعض العوامل البيولوجية والجغرافية .
ثالثاً- الثقافة والشخصيّة
إنّ شخصيّة الفرد تنمو وتتطوّر، من جوانبها المختلفة، داخل الإطار الثقافي الذي تنشأ فيه وتعيش، وتتفاعل معه حتى تتكامل وتكتسب الأنماط الفكرية والسلوكية التي تسهّل تكيّف الفرد، وعلاقاته بمحيطه الاجتماعي العام .
وليس ثمّة شكّ في أنّ الثقافة مسؤولة عن الجزء الأكبر من محتوى أية شخصيّة، وكذلك عن جانب مهمّ من التنظيم السطحي للشخصيّات، وذلك عن طريق تشديدها على اهتمامات أو أهداف معيّنة. ويكمن سرّ مشكلة العلاقة بين الثقافة والشخصيّة في السؤال التالي : " إلى أي مدى يمكن اعتبار الثقافة مسؤولة عن التنظيم المركزي للشخصيّات؟ أي عن الأنماط السيكولوجية؟ وبعبارة أخرى : هل يمكن للتأثيرات الثقافية أن تنفذ إلى لباب الشخصيّة وتعدّلها؟ " (لينتون، 1964، ص 609)
إنّ الجواب على هذا التساؤل، يكمن في أنّ عملية تكوين الشخصيّة هي عملية تربوية / تعلمية – تثقيفية، حيث يجري فيها اندماج خبرات الفرد التي يحصل عليها من البيئة المحيطة ،مع صفاته التكوينية، لتشكّل معاً وحدة وظيفيّة متكاملة تكيّفت عناصرها، بعضها مع بعض تكيّفاً متبادلا ً، وإن كانت أكثر فاعلية في مراحل النمو الأولى من حياة الفرد .
ويمكن أن نطلق اسم التثقيف أو المثاقفة Enculturation، على جوانب تجربة التعليم التي يتميّز بها الإنسان عن غيره من المخلوقات، ويوصّل بها إلى إتقان معرفة ثقافته. والتثقيف في جوهره، سياق تشريط شعوري أو لا شعوري، يجري ضمن الحدود التي تعيّنها مجموعة من العادات. ولا ينجم عن هذه العملية التلاؤم مع الحياة الاجتماعية القائمة فحسب، بل ينجم أيضاً الرضى، وهو نفسه جزء من التجربة الاجتماعية، ينجم عن التعبير الفردي وليس عن الترابط مع الآخرين في الجماعة. (هرسكوفيتز، 1974، ص 34 )
وإذا كان / هرسكو فيتز/ ركّز على الاستمرارية التاريخية في الثقافة، من خلال عملية (المثاقفة )، فإنّ / سابير / يشدّد على العلاقة بين الثقافة والشخصية، استناداً إلى الأساس اللغوي الذي كان لـه التأثير الكبير في الأنثروبولوجيا البنيوية. يقول سابير: " هناك علاقة أساسية بين الثقافة والشخصيّة. فلا شكّ في أنّ أنماط الشخصيّة المختلفة، تؤثّر تأثيراً عميقاً في تفكير عمل المجموعة بكاملها، وعملها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، تترسّخ بعض أشكال السلوك الاجتماعي، في بعض الأنماط المحدّدة من أنماط الشخصيّة ،حتى وإن لم يتلاءم الفرد معها إلاّ بصورة نسبيّة " Sapir, 1967), p.75 )
وإذا كانت المفاهيم العلمية الأولى، تصف سلوك الإنسان وتربطه بعدد من الدوافع والسمات العامة، فإنّ العلم الحديث يؤكّد أهميّة العوامل النفسية والاجتماعية والقيم السائدة في المجتمع، التي تظهر في هذا السلوك .
فالثقافة إذن ترتبط بالشخصيّة، حيث تكوّن رافداً أساسياً من روافد هذه الشخصيّة وتحدّد سماتها. ولذلك، فإنّ دراسة الثقافة والشخصيّة، تمثّل نقطة التقاء بين علم النفس وعلم الإنسان (الأنثربولوجيا ). فلا يمكن فهم أي شخص فهماً جيّداً، من دون الأخذ في الاعتبارات الثقافية التي نشأ عليها. كما لا يمكن فهم أي ثقافة إلاّ بمعرفة الأفراد الذين ينتمون إليها ويشاركون فيها، وتتجلّى بالتالي في سلوكاتهم الملحوظة، حيث تبدو تأثيرات الثقافة على الفرد في النواحي التالية :
1- الناحية الجسمية : إنّ الثقافة السائدة لدى شعب من الشعوب، كثيراً ما تجبر الفرد – بما لها من قوّة جبرية وإلزام، وسيطرة مستمدّة من العادات والقيم والتقاليد- على أعمال وممارسات قد تضرّ بالناحية الجسمية ضرراً كبيراً. فعلى سبيل المثال : كانت العادات لدى بعض الطبقات المرفهّة في الصين، أن تثنى أصابع الطفلة الأنثى، وتطوى تحت القدم، وتلبس حذاء يساعد في إيقاف نموّ قدمها ويجعلها تمشي مشية خاصة. فعلى الرغم من التشوّه الذي يحصل للقدم، فقد كانت تلك المشية بالإضافة إلى صغر القدم، من أهم دلائل الجمال .
2- الناحية العقلية : لا شكّ في أنّ الثقافة بأبعادها المادية والمعنوية، تؤثّر تأثيراً فاعلاً في الناحية العقلية للشخصيّة، ولا سيّما من الجانب المعرفي / الفكري. فالفرد الذي يعيش في جماعة (مجتمع) تسود ثقافتها العقائد الدينية أو الأفكار السحرية، تنشأ عقليته وأفكاره متأثّرة بذلك. فالمعتقدات التي تسود في المجتمع الهندي أو الصيني، غير تلك المعتقدات التي تسود في المجتمع الأمريكي أو العربي، وبالتالي فإنّه من الطبيعي أن يتأثّر الفرد سواء في المجتمع البدائي، أو في المجتمع المتحضّر، بثقافة مجتمعه، ولا سيّما عن طريق الأسرة، باعتبار أنّ من أهمّ وظائف الأسرة، مساندة التركيب الاجتماعي وتأييده .
3- الناحية الانفعالية : يتضمّن الجانب الانفعالي، ما لدى الشخص من الاستعدادات والدوافع الغريزية الثابتة نسبياً، والتي يزوّد بها منذ تكوينه وطفولته. وتعتمد على التكوين الكيميائي والغددي والدموي، وتتّصل اتصالاً وثيقاً بالنواحي الفيزيولوجية والعصبية. وتؤكّد الدراسات الأنثروبولوجية، أنّ للثقافة دوراً كبيراً في تربية مزاج الشخص وتهذيب انفعالاته، وإن لم يكن لها الدور الحاسم في ذلك. فكثيراً ما نجد شخصاً قد ورث في تكوينه البيولوجي، عوامل (استعدادات) تثير لديه الغضب، لكنّ التنشئة الاجتماعية / الثقافية، ونبذ المجتمع لتلك الصفة، يجعله يعدّل من سلوكه.
4- الناحية الخُلُقية : تستند إلى الناحيتين العقلية والانفعالية، باعتبارهما المواد الخام التي تبنى عليها الصفات الخُلُقية. ولذا فإنّ الأخلاق السائدة في المجتمع، هي الحصيلة الناتجة من تفاعل القوى العقلية والانفعالية، مع عوامل البيئة. أي أنّ النواحي الأخلاقية أكثر قرباً إلى العوامل البيئية، والوسط الاجتماعي والثقافة المهيمنة على الشخص. فلكلّ ثقافة نسق أخلاقي خاص ينساق فيه الفرد، متأثّراً بالمعايير الأخلاقية السائدة من ناحية الخير والشر، والصواب والخطأ، وما يجوز وما لا يجوز، وإن كانت هذه المعايير نسبيّة تختلف في معانيها ودلالاتها من مجتمع إلى مجتمع آخر. ولذلك، فالجنوح عن تلك المعايير، أمر نسبي .. والسلوك الشاذ في ثقافة ما، قد يكون سلوكاً عادياً بالنسبة لمعايير وقيم ثقافة أخرى. فالسرقة مثلاً : تعدّ من الجرائم في المجتمعات الحديثة، ولكنّها كانت مباحة عند كثير من الشعوب البدائية والقديمة، حتى أنّها كانت نوعاً من أنواع البطولة. (الساعاتي، 1983، ص 213-218)
ويتّفق الأنثروبولوجيون النفسيون على حدوث تغيّرات في الشخصيّة العامة للمجتمع عبر الزمان، ولكن معدّلات تلك التغيّرات تختلف تبعاً لتأثير عوامل متنوّعة ومتشابكة، ومن أهمّها التغيير الثقافي .. ويتّجه الرأي العام إلى التعميم، بأنّ تغيّر شخصيّة المجتمع يسير بمعدّل أبطأ من معدّل التعيير الثقافي، وهذا ما يتّضح عبر الأجيال.
فاختلاف شخصيّات الأبناء عن شخصيّات الآباء، من الظواهر النفسيّة التي تبرز بوضوح في المجتمعات المتمدّنة، والتي تميّز بوضوح عملية التغيّر الثقافي. ولذلك ترى / مارغريت ميد / عالمة الاجتماع الأمريكية، أنّ كلّ عضو (فرد) في كلّ جيل يسهم – من الطفولة وحتى الشيخوخة – في إعادة شرح الأشكال الثقافية، وبالتالي يسهم أعضاء المجتمع في عمليّة التغيّر الثقافي. ولكن يجب ملاحظة أنّ التغيّرات الثقافية التي تصطدم بالشخصيّة العامة للمجتمع، يكون مآلها الفشل في أغلب الأحيان. وهكذا، فإنّ التأثير متبادل بين الثقافة والشخصيّة، وذلك بالنظر لحدوث تغيّر في أحدهما أو في بعضهما معاً. (وصفي، 1975، ص 105 )
وإذا كان ثمّة فرق ما بين الشخصيّة والثقافة، فإنّ ذلك يعود إلى الفرق في الأسس التي تقوم عليها كلّ منهما. فالشخصيّة تعتمد على دماغ الفرد وجهازه العصبي، ودورة حياتها ما هي إلاّ مظهر من مظاهر دورة حياة الجسم الإنساني. أمّا الثقافة، فتستند إلى مجموع أدمغة الأفراد الذين يؤلّفون المجتمع ..
وبينما تتطوّر هذه الأدمغة كلّ بمفرده وتستقرّ ثمّ تموت، تتقدّم دوماً أدمغة جديدة لتحلّ محلّها. ومع أنّه توجد حالات كثيرة من المجتمعات والثقافات التي طمستها قوى خارجة عنها، إلاّ أنّه من الصعب أن نتصوّر أن المجتمع أو ثقافته، يمكن أن يموت بسبب الشيخوخة. (لينتون، 1964، ص 387 )
فتأثير الثقافة قوي وفاعل في الحفاظ على النسق الاجتماعي السائد، ويتجلّى ذلك فيما تقدّمه إلى إفراد المجتمع في الجوانب التالية : (عفيفي، 1972، ص 141)
1- توفّر الثقافة للفرد، صور السلوك والتفكير والمشاعر، التي ينبغي أن يكون عليها، ولا سيّما في مراحله الأولى، بحيث ينشأ على قيم وعادات تؤثّر في حياته، بحسب طبيعة ثقافته التي عاش فيها .
2- توفّر الثقافة للأفراد، تفسيرات جاهزة عن الطبيعة والكون وأصل الإنسان ودورة الحياة .
3- توفّر الثقافة للفرد المعاني والمعايير التي يستطيع أن يميّز – في ضوئها- ما هو صحيح من الأمور، وما هو خاطىء.
4- تنمّي الثقافة الضمير الحيّ عند الأفراد، بحيث يصبح هذا الضمير – فيما بعد- الرقيب القوي على سلوكاتهم ومواقفهم .
5- تنمّي الثقافة المشتركة في الفرد، شعوراً بالانتماء والولاء، فتربطه بالآخرين في جماعته بشعور واحد، وتميّزهم من الجماعات الأخرى .
6- وأخيراً، تكسب الثقافة الفرد، الاتجاهات السليمة لسلوكه العام، في إطار السلوك المعترف به من قبل الجماعة.
إنّ ردود فعل الفرد تجاه النظام، هو الذي يؤدّي إلى نموذج السلوك الذي ندعوه " الشخصيّة ". وتصنّف النظم في أنظمة أولية ونظم ثانوية. فالنظم الأولية : تنشأ عن الشروط التي يمكن أن يتحكّم فيها الفرد، (كالغذاء والعادات الجنسية، وأنظمة التعليم المختلفة ). أمّا النظم الثانوية : فتنشأ من إشباع الحاجات وانخفاض التوتّر الناجم عن النظم الأولية. مثال ذلك : اعتقاد بعض الشعوب بآلهة، تطمئن القلق الناجم عن حاجة هذه الشعوب إلى تأمين موارد غذائية دائمة.إنّ ما يميّز هذا الرأي عما سبقه، هو صفته الديناميكية، لأنّ بنيان الشخصيّة الأساسية ينتج عن تحليل النظم الاجتماعية، وتحليل أثرها على الأفراد في ثقافة بعد أخرى. (هرسكوفيتز، 1974، ص51)
ولذلك يلاحظ أنّه عندما تختلف الثقافة يتبعها اختلاف في أنماط السلوك. فإنسان العصر الحجري القديم يختلف عن إنسان العصر الحجري الجديد، ويختلف أيضاً عن إنسان العصر البرونزي والعصر الحديدي. فالإنسان الذي يستخدم الأدوات البدائية كالأحجار والعظام والخشب، ويأكل البذور والجذور والحشرات والطيور، ويخاف من النار، لا يتوافق ثقافياً مع الإنسان الذي يستخدم الكهرباء أو يتحكّم بالآلات عن بعد، ويأكل الطعام من المطبخ ويتفنّن في صنع الأنواع المختلفة منه، وغير ذلك. وحتى في هذا العصر، فالإنسان الذي يعيش في دولة متحضّرة وتختلف ثقافته عن ثقافة الإنسان الذي يعيش في دولة نامية، فإنّ سلوك الأوّل – ولا شكّ – يختلف عن سلوك الثاني، تبعاً للزاد الثقافي الذي تزوّدت به شخصيّته. (غالب، 1991، ص 103 )
وقد أدّى التخلّي عن الفرضيّة التطوّرية التي استغلّها العلماء الأنثروبولوجيون الأوائل ،فيما بعد، إلى تسهيل الدمج بين الأسلوبين : الأنثروبولوجي والسيكولوجي،.. والواقع أنّ الفرضية (النظرية) التطوّرية تلاشت، وحلّ محلّها مفهوم الثقافات بوصفها وحدات وظيفية متكاملة، كما ظهر الاتّجاه إلى دراسة المجتمعات البدائية باعتبارها كيانات قائمة بذاتها، وهذا ما دعا إليه / مالينوفسكي / الرائد الأول لهذه الحركة. (لينتون، 1967، ص 198)
وهكذا يمكن القول : إنّ الثقافة تضفي على حياة الفرد قيمة ومعنى، وتكسب وجوده غرضاً لـه أهميته. وهي بالتالي تمدّ الأفراد بالقيم والآمال والأهداف التي توحّد مشاعرهم وأساليب حياتهم. غير أنّ تشكيل الثقافة للفرد على هذا النحو، لا يعني – بأي حال من الأحوال – إلغاء فرديته، إذ بواسطة الثقافة تنمو إمكانياته وتتحرّر قواه، ويكتسب قدراته المتعدّدة، ويصبح بالتالي قادراً على الاختيار الصحيح والتمييز الواعي. (حسن، 1977، ص 9) هذا مع الأخذ في الحسبان الفروق الفردية بين الأشخاص، من حيث تأثّرهم بالثقافة أو تأثيرهم فيها .
لقد ناقش العلماء طويلاً فيما إذا كان عالم الأنثروبولوجيا، يستطيع دراسة الشخصيّة في المجتمعات البدائية، دون أن يخضع – هو نفسه- للتحليل النفسي. ولم يدر حديث طويل عمّا إذا كان يجب على عالم التحليل النفسي الذي يهتمّ بالدراسة المقارنة للثقافات، أن يحصل على معلومات مستمدّة من خبرة مباشرة بالمجتمعات التي تختلف عن مجتمعه اختلافا ًتاماً، في الجزاء والأهداف وأنظمة الحوافز والضبط الاجتماعي .
فالواقع أنّ القليل من علماء التحليل النفسي، الذين أبدو اهتمامهم بهذه المشكلات، أجروا بأنفسهم أبحاثاً ميدانية لاختبار نظرياتهم بين جماعات، تقع خارج نطاق الثقافات / الأورو- أمريكية /. وهذا ينطبق أيضاً– وإلى حدّ ما- على علماء النفس التقليديين، الذين يتناولون بالبحث سيكولوجية الثقافة، وعلى العلماء الذين يستخدمون طرائق ومفاهيم المدرسة التحليلية .( هرسكوفيتز، 1974، ص 57)
غير أنّ مجرّد الإقرار بأنّ تركيبات الشخصيّة الأساسية تختلف باختلاف المجتمعات، لا يحقّق تقدّماً أكثر من مفهوم النمط الثقافي السيكولوجي .ولا يكتسب هذا الإقرار أهميّة علميّة إلاّ إذا أمكننا تقصّي طريق تكوّن الشخصيّة الأساسية، وإرجاعها إلى أسباب يمكن التعرّف إليها ،.. وإذا أمكننا أيضاً التوصّل إلى تعميمات هامّة بشأن العلاقة بين تكوّن التركيب الأساسي للشخصيّة، وبين الإمكانات الفرديّة الخاصة في مجالات التكيّف. (لينتون، 1967، ص 200)
وممّا يلاحظ أنّ سيكولوجية الشخصيّة، سارت في خطّ تطوّري يكاد يكون مماثلاً لخط تطوّر الأثنولوجيا. فقد وقع هذا الفرع في بادىء الأمر، تحت تأثير العلوم الطبيعية، فحصر اهتمامه في الفرد، وحاول تفسير أوجه التشابه والفروق الفردية على أسس نفسيّة. ومع أنّ علماء النفس سرعان ما أدركوا أهميّة البيئة في تشكيل الشخصيّة، فإنّ فائدتها اقتصرت – في البداية- على استخدامها في تفسير الفروق الفردية.
لقد اعتمد الباحثون النفسيون – في الواقع- على نتائج ملاحظاتهم المحدودة، كما لو أنّها قضايا مسلّم بصحّتها، فافترضوا وجود غرائز عامة متنوّعة لتعليل ما لاحظوه من ظاهرات .. ثمّ تبيّن لهؤلاء العلماء أنّ معايير الشخصيّة تختلف باختلاف المجتمعات والثقافات، فكان هذا الاكتشاف بمنزلة صدمة اضطرّتهم إلى اتّخاذ خطوات جذرية لإعادة تنظيم مفهوماتهم. (لينتون، 1967، ص 30)
ولذلك، فإنّه على الرغم من أنّ الشخصيّة ليست في واقع الحال، إلاّ نتاجاً للعوامل الثقافية في المقام الأول، فإنّ الفرد ينزع – من خلال تجربته الثقافية – إلى تبنّي الشخصيّة النموذجية التي ترغب فيها جماعته. ولكنّ نجاح ذلك لا يتحقّق بالكامل أبداً، لأنّ بعض الأشخاص أكثر مرونة من غيرهم، وبعضهم الآخر يقاوم عملية التثقيف أكثر من غيره .
وهنا يمكن أن نميّز بين ثلاث طرائق في بحث التفاعل بين الفرد وبين وسطه الثقافي.
الطريقة الأولى : هي طريقة "الأشكال الثقافية "، التي تسعى إلى تحديد الأنماط السائدة في الثقافات، والتي تحبّذ نمو بعض نماذج الشخصيّة .
الطريقة الثانية : هي طريقة " الشخصيّة النموذجية " التي تؤكّد ردود فعل الفرد تجاه الوسط الثقافي الذي ولد فيه. وهي طريقة أثنولوجية في أساسها، لأن المرجع فيها دائماً هو النظم الاجتماعية، والأنماط الثقافية، التي تشكّل الأطر التي ينمو بداخلها بنيان الشخصيّة السائد لدى الجماعة. فهي تركّز اهتمامها على الفرد، معتمدة على تطبيق التحليل النفسي على الدراسة المقارنة لمشكلات ٍٍأوسع، تتمثّل في مشكلات التلاؤم الاجتماعي.
الطريقة الثالثة : هي " طريقة الإسقاط Projection" التي تستخدم طرائق الإسقاط المختلفة في التحليل، ولا سيّما مجموعة / رورشاخ / من بقع الحبر، وذلك لتحديد نطاق بنيان الشخصيّة في مجتمع معيّن. وفي هذه الطريقة يتمثّل كل من الفرد والثقافة. ولا شكّ في أنّ استخدام اختبار موحّد ترجع إليه النتائج كلّها، يزوّد بأداة منهجيّة لمعرفة بيان شخصيّة أفراد جماعة ما، في ضوء تثقيفهم على النظم الاجتماعية والقيم في ثقافتهم. (هرسكوفيتز، 1974، ص 47-48)
فالثقافة لا تؤثّر في أفراد المجتمع جميعهم، بطريقة واحدة، ولهذا يمكن أن يقسم تأثير الثقافة في الفرد إلى فئتين أساسيتين :
أولهما – التأثيرات العامة : وهي التأثيرات التي تحدثها الثقافة في الشخصيات المتطوّرة، من جميع أعضاء المجتمع الذي ينتمي إلى هذه الثقافة .
وثانيهما-التأثيرات الخاصة : وهي التأثيرات التي تحدثها الثقافة في أشخاص، ينتمون إلى جماعات أو قطاعات، أو فئات معيّنة من الأفراد، يعترف المجتمع بوجودها. (ناصر، 1985، ص 79)
وعلى الرغم من ذلك، يصبح الجميع – بوجه الإجمال – متشابهين إلى حدّ يكفي لأن يجد المرء – إذا ما طاف حول العالم – أنّ الناس يختلفون بعضهم عن بعض، من مجتمع إلى آخر، تبعاً لاختلاف الثقافات الواحدة عن الأخرى. ولكن بينما يسعى الأفراد إلى نيل الموافقة والحصول على الطمأنينة، ويحاولون الامتثال لأنماط السلوك التي تقرّها الجماعة أو التفوّق على أقرانهم، فإنّ ثقافتهم تحدّد لهم الأهداف التي ينشدونها وطرق الوصول إليها. وهذا هو موضع اهتمام (سيكولوجية الثقافة Psychology of Culture، أو السيكو أثنوغرافيا Psychoethnography، وهو دراسة الفرد من خلال السياق التثقيفي الذي يؤدّي إلى تلاؤمه مع قواعد السلوك القائمة في مجتمعه عندما يصبح عضواً فيه. (هرسكو فيتز، 1974، ص 39و41) وهنا يكمن جوهر إحدى المشكلات الأساسية في دراسة الثقافة، والمتمثّلة في معرفة تأثير السياق التثقيفي في المجتمع، على نمو الشخصيات الفردية وتطوّرها العضوي والفكري والنفسي.
وبما أنّ الثقافة – في جوهرها – ظاهرة اجتماعية نفسيّة، تعيش في عقول الأفراد، ولا تجد تعبيراً عن نفسها إلاّ عن طريقهم، فإنّ دور الشخصيّات الفردية في الإبقاء على الثقافة يتّضح بصورة جلية جدّاً، في الطريقة التي تتمكّن بها أية ثقافة من البقاء على قيد الحياة، حتى بعد انقطاع التعبير عنها في سلوك خارجي ظاهري، وحتى بعد زوال المجتمع الذي كان يحمل هذه الثقافة في الأصل. ولذلك، يستطيع عالم الأثنولوجيا أن يستعيد العناصر الأساسية لثقافة مجتمع منقرض، من آخر رجل من هذا المجتمع بقي على قيد الحياة. كما يستطيع أن يستعيد المهارات الخاصة التي سبق أن تدرّب عليها هذا الرجل. (لينتون، 1964، ص 384 )
وتأسيساً على ما تقدّم، نجد أنّ ثمّة علاقة وثيقة وتفاعلية بين الثقافة وأبنائها، فهي التي توجّههم في جوانب حياتهم المختلفة، لدرجة أنّهم يتصرّفون بطريقة منسجمة وآلية، في معظم الأحيان. والأفراد في المقابل، يؤثّرون في هذه الثقافة ويسهمون في تطويرها وإغنائها، من خلال نتاجاتهم وإبداعاتهم الفكرية والفنيّة والعلمية. ولذلك، نرى اهتمام علماء التربية والاجتماع والأنثروبولوجية، بدراسة الثقافة للتعرّف إلى السمات العامة للفرد أو الجماعة (المجتمع) في إطار مكوّنات هذه الثقافة، والتعرّف بالتالي إلى أنماط الحياة الاجتماعية للناس، وتفسيرها والتمييز فيما بينها .
**
مصادر الفصل ومراجعه
- الساعاتي ،سامي حسن (1983) الثقافة والشخصيّة، دار النهضة،بيروت .
- سكينر، ب. ف (1980) تكنولوجيا السلوك الإنساني، ترجمة : عبد القادر يوسف، عالم المعرفة (32) الكويت .
- صليبا، جميل (1971) المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، بيروت.
- عفيفي، محمد الهادي (1972) في أصول التربية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة .
- غالب، مصطفى (1991) السلوك، دار الهلال، بيروت .
- الغامري، محمد حسن (1989) المدخل الثقافي في دراسة الشخصيّة، المكتب الجامعي الحديث، الاسكندرية .
- كلوكهون، كلايد (1964) الإنسان في المرآة، ترجمة : شاكر سليم، بغداد
- لينتون، رالف (1964) دراسة الإنسان، ترجمة : عبد الملك الناشف، المكتبة العصرية، بيروت .
- لينتون، رالف (1967) الأنثروبولوجيا وأزمة العالم الحديث، ترجمة : عبد الملك الناشف، المكتبة العصرية، بيروت .
- محمد غنيم، سيّد (1997) سيكولوجية الشخصيّة، دار النهضة العربية، القاهرة .
- مجموعة من الكتّاب (1997) نظرية الثقافة، ترجمة : علي الصاوي، عالم المعرفة
(223)، الكويت .
- المصري، علي (1990) نظرية الشخصيّة، المؤسّسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت.
- ميلاد، محمود (1997) علم نفس الاجتماع، وزارة التعليم العالي، دمشق.
- ناصر، ابراهيم (1985) الأنثروبولوجيا الثقافية – علم الإنسان الثقافي، عمّان –
الأردن .
- هرسكوفيتز، ميلفيل. ج (1074) أسس الأنثروبولوجيا الثقافية، ترجمة : رباح النفاخ، وزارة الثقافة، دمشق .
- وصفي، عاطف (1975) الثقافة والشخصيّة، دار المعارف بمصر .
- Barnuow , V. (1972) Cultural Anthropology, Homewood Illiois ,
Irwen Inc.
- Morin , Edgar (1969) De La Culture - Analyse a La politique Culturelle, Communication, No: 14 , Paris .
- Spradley, James (1973) Culture and Cognation, Chandle Publishing Company, san Francisco .
- Sapir, Edward (1967) Anthropologies , Minuit, Col, Points, Paris .
***
الفصل الرابع
الأنثروبولوجية الثقافية
Cultural Anthropology
أولاً- مفهوم الأنثروبولوجيا الثقافية
ثانياً-نشأة الأنثروبولوجيا الثقافية ومراحل تطوّراها
ثالثاً-أقسام الأنثروبولوجيا الثقافية
1- علم اللغويات
2- علم الآثار
3- علم الثقافات المقارن
أولاً-تعريف الأنثروبولوجيا الثقافية
تعرّف الأنثروبولوجيا الثقافية -بوجه عام - بأنّها العلم الذي يدرس الإنسان من حيث هو عضو في مجتمع لـه ثقافة معيّنة. وعلى هذا الإنسان أن يمارس سلوكاً يتوافق مع سلوك الأفراد في المجتمع (الجماعة) المحيط به، يتحلّى بقيمه وعاداته ويدين بنظامه ويتحدّث بلغة قومه .
ولذلك، فإنّ الأنثروبولوجيا الثقافية :هي ذلك العلم الذي يهتمّ بدراسة الثقافة الإنسانية، ويعنى بدراسة أساليب حياة الإنسان وسلوكاته النابعة من ثقافته. وهي تدرس الشعوب القديمة، كما تدرس الشعوب المعاصرة. (بيلز وهويجر، 1976، ص 21)
فالأنثروبولوجيا الثقافية إذن، تهدف إلى فهم الظاهرة الثقافية وتحديد عناصرها. كما تهدف إلى دراسة عمليات التغيير الثقافي والتمازج الثقافي، وتحديد الخصائص المتشابهة بين الثقافات، وتفسّر بالتالي المراحل التطوّرية لثقافة معيّنة في مجتمع معيّن .
ولهذا استطاع علماء الأنثروبولوجيا الثقافية أن ينجحوا في دراساتهم التي أجروها على حياة الإنسان، سواء ما اعتمد منها على التراث المكتوب للإنسان القديم وتحليل آثارها، أو ما كان منها يتعلّق بالإنسان المعاصر ضمن إطاره الاجتماعي المعاش .
وهذا يدخل – إلى حدّ بعيد- فيما يسمّى (علم اجتماع الثقافة) والذي يعني تحليل طبيعة العلاقة بين الموجود من أنماط الإنتاج الفكري، ومعطيات البنية الاجتماعية، وتحديد وظائف هذا الإنتاج في المجتمعات ذات التركيب التنضيدي أو الطبقي. ويتضمنّ هذا التعريف الاعتبارات التالية : (لبيب، 1987، ص24- 26)
1- إنّ الحديث عن أنماط الإنتاج الفكري، يعني أنّ التجانس الثقافي بالمعنيين : الفلسفي والأنثروبولوجي، هو غير عمليات علم الاجتماع. لأنّ هذا التجانس يغطّي وجوداً حقيقياً لأنماط مختلفة من الثقافة، قد تتناقض مضموناً ووظيفة في المجتمع الواحد. فعلى الرغم من وجود بعض العوامل (الأنثروبولوجية) المشتركة، فلا توجد موضوعيّاً في المجتمعات ذات التركيب الطبقي "" ثقافة للجميع "، حتى وإن ادّعت أو أرادت هذه الثقافة لنفسها، أن تكون كذلك. فهناك من وجهة نظر اجتماعية نمطية ثقافية (ربّما في ذلك أنماط الثقافة الجماهيرية) يفضي تصنيفها وتحليلها، إلى إبراز التمايز الاجتماعي الذي تعبّر عنه بالضرورة. وهذا يعني أن اجتماعية الثقافة في نهاية الأمر، هي اجتماعية التباين في الثقافة وعدم مساواة في المجال الثقافي .
2- إنّ الحديث عن المجتمعات المنضّدة (الطبقية) ليس حصراً بقدر ما هو تأكيد على أنّ الإنتاج الفكري هو تعبير عن مرحلة معيّنة من التمايز بين الأصناف الاجتماعية الاقتصادية. وأن استعمال مفهوم التركيب التنضيدي Stratification، على الرغم من غموضه، يقحم في حقل التحليل الاجتماعي مجتمعات تاريخية قبل رأسمالية، قد يكون مضمونها الطبقي محلّ نقاش. وعلى هذا الأساس، تكون المجتمعات الوحيدة التي تخرج من الحقل الاجتماعي، هي تلك التي تسمّى عادة بالمجتمعات (البدائية )، والتي لم تصل فيها أنماط الإنتاج الفكري إلى درجة كافية من التمايز تسمح لها بتصنيف معيّن .
3- ليس المهمّ من وجهة النظر التحليلية إثبات العلاقة بين الإنتاج الفكري والواقع الاجتماعي، بقدر ما هو تحليل أشكال هذه العلاقة في مرحلة معيّنة لمجتمع معيّن. ويعدّ هذا التحليل مصدراً أساسيّاً في المناقشات المتعلّقة بالروابط الموجودة بين البنية التحتية والبنية الفوقية، والتي أفضت إلى تأكيد فكرة التبادل الدياليكتيكي القائم بينهما. وتجدر الإشارة هنا، إلى أنّ اجتماعية الأدب والفن، ساهمت مساهمة متطوّرة في تحليل أشكال العلاقة بين الإنتاج الفكري، ومعطيات البنية الاجتماعية .
4- إن تحديد الكيفية التي يحوّل بها إنتاج فكري، كالقصّ أو المسرح مثلاً، معطيات الواقع، لا يكفي، بل لا بدّ من إبراز الوظيفة الاجتماعية / السياسية لهذا الإنتاج، ولا سيّما أنّ المنتجين ينتمون إلى فئات من المثقّفين يؤدّون أدواراً قد يعونها أو لا يعونها لصالح أصناف أو طبقات اجتماعية معيّنة. وهذه الوظيفة ليست مظهراً ثانوياً أو تكميلياً، بل هي بعدٌ من أبعاد العلاقة بين الثقافة والمجتمع، ولا يمكن تفسير أي حدث فكري من دونها. وهي في الوقت ذاته، توجد حلاًّ لما يسمّى " استقلالية " القيم الفكرية والجمالية، وذلك من خلال اكتشاف وظيفة استمرارية هذه القيم، أو بعثها في ظروف تاريخية محدّدة.
إنّ دراسة الوسط الثقافي، تكشف عن الآلية السيكولوجية التي توجّه سلوك الفرد، وتصرف النزعة العدوانية في مجالات تنفيس مهذّب. والمثال على ذلك في بعض النظم الاجتماعية، كما في طقوس (الآبوApo) التي تمارسها قبائل الآشانتي Ashanti في ساحل الذهب في أفريقيا الغربية .
ففي احتفالات الآبو، لا يسمح فقط، بل يجب، أن يسمع أصحاب السلطة، السخرية واللوم واللعنات من رعاياهم بسبب المظالم التي ارتكبوها. ويعتقد رجال الآشانتي أنّ في هذا ضمانة لكي لا تتعذّب أرواح الحكام بسبب كبت استياء الغاضبين. ولولا ذلك، لأفضى تراكم الاستياء وتعاظم قوّته، إلى إضعاف سلطة الحكام، بل وإلى قتلهم. ولا تتطلّب فعالية هذه الآلية (الفرويدية الجوهر) في التنفيس عن الكبت أي إيضاح. فهي تلقي ضوءاً أكبر على ما تقوم به من أشكال السلوك المنظّمة في نظم اجتماعية، من تصحيح لاختلال التوازن في نمو شخصيات الأفراد الذين تشملهم. (هرسكوفيتز، 1974، ص 59 )
ومن هذا المنطلق تهتمّ الأنثروبولوجيا الثقافية بالتراث والحياة داخل نطاق المجتمع، ويمكن بوساطتها الخوض في جوهر الثقافات المختلفة، ومعرفة كيف تحيا الأمم، من خلال الإجابة عن التساؤلات التالية :
ما هي سبل العيش المتّبع لديهم؟ ما هي الطرائق التي يتبعونها في تربية أبنائهم ؟ كيف يعبّرون عن أنفسهم؟ ما هي طريقتهم في أداء عباداتهم؟ ما هي العلوم والآداب والفنون السائدة عندهم؟ وكيف ينقلون تراثهم إلى أجيالهم الجديدة من بعدهم؟ وغير ذلك من العادات والقيم وأساليب التعامل فيما بينهم .
ثانياً-نشأة الأنثروبولوجيا الثقافية ومراحل تطوّرها :
لم تظهر الأنثروبولوجيا الثقافية كفرع مستقلّ عن الأنثروبولوجيا العامة، إلاّ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر .
وربّما يعود الفضل في ذلك إلى العالم الإنكليزي / إدوارد تايلور / الذي يعدّ من روّاد الأنثروبولوجيا، والذي قدّم أول تعريف شامل للثقافة عام 1871 في كتابه " الثقافة البدائية " .وقد مرّت الأنثروبولوجيا الثقافية بمراحل متعدّدة، منذ ذلك الحين حتى وصلت إلى ما هي عليه في العصر الحاضر.
( Barnouw, 1972, p.7 )
مرحلة البدية : وتمتدّ من ظهور هذه الأنثروبولوجيا وحتى نهاية القرن التاسع عشر. وكانت عبارة عن محاولات لرسم صورة عامة لتطوّر الثقافة منذ القدم، والبحث أيضاً عن نشأة المجتمع الإنساني.
وظهر في هذه الفترة إلى جانب العالم الإنكليزي / تايلور /، العالم الأمريكي / بواز / الذي أخذ بالاتجاه التاريخي في دراسة الثقافات الإنسانية، وذلك من جانبين ؛ أولهما : إجراء دراسات تفصيلية لثقافات مجموعات صغيرة، كالقبائل والعشائر، ومراحل تطوّرها .
وثانيهما : أجراء مقارنة بين تاريخ التطوّر الثقافي، عند مجموعة من القبائل، بغية الوصول إلى قوانين عامة أو مبادىء، تحكم نمو الثقافات الإنسانية وتطوّرها. وهذا ما يعطي أهميّة للأنثروبولوجيا باعتبارها علماً لـه منهجيّته الخاصّة .
المرحلة الثانية : وتقع ما بين (1900- 1915 م)، وتعدّ المرحلة التكوينية، حيث تركّزت الجهود في الأبحاث والدراسات، على مجتمعات صغيرة محدّدة لمعرفة تاريخ ثقافتها ومراحل تطوّرها، وبالتالي تحديد عناصر هذه الثقافة قبل أن تنقرض .
واستناداً إلى ذلك، جرت دراسات عديدة على ثقافة الهنود الحمر في أمريكا، وتوصّل الباحث الأمريكي / وسلر / إلى أسلوب يمكن بوساطته من دراسة أي إقليم أو منطقة في العالم تعيش فيها مجتمعات ذات ثقافات متشابهة، أو ما أصطلح على تسميته بـ (المنطقة الثقافية ). وقد شبّه / وسلر / المنطقة الثقافية بدائرة، تتركّز معظم العناصر الثقافية في مركزها، وتقلّ هذه العناصر كلّما ابتعدت عن المركز.
المرحلة الثالثة : وتقع ما بين (1915- 1930 م) وتعدّ فترة الازدهار، حيث تميّزت بكثرة البحوث والمناقشات في القضايا التي تدخل في صلب علم الأنثربولوجيا الثقافية، ولا سيّما تلك الدراسات التي تركّزت في أمريكا .
ويرجع ازدهار الأنثربولوجيا في تلك الفترة، إلى نضج هذا العلم ووضوح مفاهيمه ومناهجه. وترافق ذلك بازدهار المدرسة التاريخية في أمريكا، وظهور المدرسة الانتشارية في إنكلترا، ولا سيّما بعد الأخذ بمفهوم (المنطقة الثقافية) الذي طرحه / وسلر / كإطار لتحليل المعطيات الثقافية وتفسيرها، والتوصّل إلى العناصر المشتركة بين الثقافات المتشابهة.
المرحلة الرابعة : ومدّتها عشر سنوات فقط، وتقع ما بين (1930- 1940 م). وعلى الرغم من قصر مدّتها، فقد أطلق عليها الفترة التوسّعية، حيث تميّزت باعتراف الجامعات الأمريكية والأوروبية بالأنثروبولوجيا الثقافية كعلم خاص في إطار الأنثروبولوجية العامة، وخصّصت لها فروع ومقرّرات دراسية في أقسام علم الاجتماع في الجامعات.
وظهرت في هذه الفترة النظرية (التكاملية) التي تبنّاها / سابير / عالم الاجتماع الأمريكي، واستطاع من خلالها تحديد مجموعة متناسقة من أنماط السلوك الإنساني، والتي يمكن اعتمادها في دراسة السلوك الفردي، لدى أفراد مجتمع معيّن، حيث أنّ جوهر الثقافة هو في حقيقة الأمر، ليس إلاّ تفاعل الأفراد في المجتمع بعضهم مع بعض، وما ينجم عن هذا التفاعل من علاقات ومشاعر وطرائق حياتية مشتركة .
وقد تأثّرت الأنثروبولوجيا في هذه الفترة- إلى حدّ بعيد- بالأنثروبولوجيا الاجتماعية، ولا سيّما في مفاهيمها ومناهجها، وذلك بفضل الأبحاث التي قام بها كلّ من / مالينوفسكي وبراون / في مجالات الأنثربولوجيا الاجتماعية .
المرحلة الخامسة : وهي الفترة المعاصرة التي بدأت منذ عام 1940، وما زالت حتى الوقت الحاضر. وتمتاز هذه المرحلة بتوسّع نطاق الدراسات الأنثروبولوجية، خارج أوروبا وأمريكا، وانتشار الأنثروبولوجيا الثقافية في العديد من جامعات الدول النامية، في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينينية.
وترافق ذلك مع ظهور اتّجاهات جديدة في الدراسات الأنثربولوجية، كان الاتّجاه القومي في مقدّمة هذه الاتّجاهات الحديثة في الأنثروبولوجيا الثقافية، والذي يهدف إلى تحديد الخصائص الرئيسة للثقافة القوميّة. وقد أخذت بهذا الاتّجاه الباحثة الأمريكية / روث بيندكيت / التي قامت بدراسة الثقافة اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية .
ويسمّى الاتجاه القومي في تقييم الثقافة : " الانطوائية القومية " والتي تعني: أنّ الانسان يفضّل طريقة قومه في الحياة، على طرائق الأقوام الأخرى جميعها. تلك هي النتيجة المنطقية لعملية التثقيف الأولى، والتي يتّفق بها شعور معظم الأفراد نحو ثقافتهم الخاصة، سواء أفصحوا عن هذا الشعور أو لم يفصحوا .
وتتجلّى الانطوائية القومية لدى الشعوب البدائية بأحسن أشكالها ، في الأساطير والقصص الشعبية، والأمثلة والعادات اللغوية .. فأسطورة أصل العروق البشرية لدى هنود (الشيروكي) تعطينا مثالاً حيّاً عن الانطوائية القومية. تقول الأسطورة :
" صوّر الخالق الإنسان بأن صنع أولاً فرناً وأوقد النار فيه، ثمّ صنع من عجينة ثلاثة تماثيل على شكل الإنسان، ووضعها في الفرن وانتظر شيّها (شواءها ). غير أنّ لهفة الخالق إلى رؤية نتيجة عمله الذي يتوّج تجربته في الخلق، كانت من الشدّة بحيث أخرج التمثال الأول مبكراً، فكان – وللأسف- غير ناضج شاحباً باهت اللون، ومن نسله كان العرق الأبيض. أمّا التمثال الثاني، فكان ناضجاً جيّداً لأنّ مدّته في الشواء كانت مضبوطة وكافية، فأعجبه شكله الأسمر الجميل، وكان هذا سلف الهنود. وانصرف الخالق إلى تأمّل صورته، ناسياً أن يسحب التمثال الثالث من الفرن حتى اشتمّ رائحة الاحتراق. فتح باب الفرن فجأة، فوجد هذا التمثال متفحماً أسود اللون .. فكان ذلك مدعاة للأسف، ولكن لم يعد بالإمكان حيلة، وكان هذا أول رجل أسود ." (هرسكوفيتز، 1974، ص 72 )
بهذه الصورة تبدو الانطوائية القومية لدى الكثير من الشعوب .. حيث يصرّ الإنسان / الفرد على التعبير عن صفات قومه الحميدة .. ولهذا يحكم أي إنسان على النظام القيمي/ الاجتماعي لدى أي شعب آخر، من خلال العلاقة التي تربط هذا الشعب بشعبه، وفق درجة الرغبة والقبول في ذلك، والتي قد تصل إلى حدود الرفض المطلق أو القبول المطلق، وفقاً لمعايير عامة .
وكانت من أهمّ الاتجاهات الحديثة أيضاً في الأنثروبولوجيا الثقافية، تلك الدراسات التي عنيت بالمجتمعات المتمدّنة، وما أطلق عليها " دراسة الحالة ". كدراسة أوضاع قرية أو عدد من القرى المتجاورة، أو في منطقة معيّنة، أو دراسة ثقافة خاصة بمجموعة أو بفئة من البشر. إضافة إلى دراسات أكاديمية تتعلّق بخصائص الأنثروبولوجيا الثقافية ومبادئها، ومناهج البحث فيها وطرائقها وأساليبها .. وغيرها ممّا يسهم في إجراء الدراسات على أسس موضوعية وعلمية تحقّق الأهداف المرجوة منها.
ثالثاً-أقسام الأنثروبولوجيا الثقافية :
على الرغم من تعدّد العناصر الثقافية، وتداخل مضموناتها وتفاعلها في النسيج العام لبنية المجتمع الإنساني، فقد اتّفق الأنثروبولوجيون على تقسيم الأنثروبولوجيا الثقافية إلى ثلاثة أقسام أساسيّة، هي : (علم الآثار – علم اللغويات – وعلم الثقافات المقارن) وفيما يلي شرح لكلّ منها :
1-علم اللغويات :
هو العلم الذي يبحث في تركيب اللغات الإنسانية، المنقرضة والحيّة، ولا سيّما المكتوبة منها في السجلاّت التاريخية فحسب، كاللاتينية أو اليونانية القديمة، واللغات الحيّة المستخدمة في الوقت كالعربية والفرنسية والإنكليزية. . ويهتمّ دارسو اللغات بالرموز اللغوية المستعملة، إلى جانب العلاقة القائمة بين لغة شعب ما، والجوانب الأخرى من ثقافته، باعتبار اللغة وعاء ناقلاً للثقافة.
إنّ اللغة من الصفات التي يتميّز بها الكائن الإنساني عن غيره من الكائنات الحيّة الأخرى، فهي طريقة التخاطب والتفاهم بين الأفراد والشعوب، بواسطة رموز صوتية وأشكال كلامية متّفق عليها، ويمكن تعلّمها .. علاوة على أنّها وسيلة لنقل التراث الثقافي / الحضاري، حيث يمكن استخدام معظم اللغات في كتابة هذا التراث .
يحتلّ علم اللغة مكاناً ممتازاً في مجمل العلوم الاجتماعية التي ينتمي إليها ؛ فهو ليس علماً اجتماعياً كالعلوم الأخرى، بل العلم الذي قدّم إنجازات عظيمة، وتوصّل إلى صياغة منهج وضعي ومعرفة الوقائع الخاصة. ولذلك، ارتبط علماء النفس والاجتماع والأثنوغرافيا بالحرص على تعلّم الطريق المؤدّية إلى المعرفة الوضعية للوقائع الاجتماعية، من علم اللغة الحديث .
يدرس علماء الأنثروبولوجيا، اللغة في سياقها الاجتماعي والثقافي، في المكان والزمان. ويقوم بعضهم باستنتاجات تتعلّق بالمقوّمات العامة للغة وربطها بالتماثلات الموجودة في الدماغ الإنساني. ويقوم آخرون بإعادة بناء اللغات القديمة من خلال مقارنتها بالمتحدّرات عنها في الوقت الحاضر، ويحصلون من ذلك على اكتشافات تاريخية عن اللغة.
وما يزال عدد من علماء الأنثروبولوجيا اللغوية، يدرسون اختلافات اللغة ليكتشفوا الادراكات والنماذج الفكرية المختلفة، في عدد وافر من الحضارات. ويدخل في ذلك، دراسة الاختلافات اللغوية في سياقها الاجتماعي، وهو ما يدعى (علم اللغة الاجتماعي) الذي يدرس الاختلاف الموجود في لغة واحدة، ليظهر كيف يعكس الكلام الفروقات الاجتماعية .( Kattak,1994, 10 )
إنّ التشابه المنهجي الشديد بين علم الاجتماع والأنثروبولوجيا من جهة، وعلم اللغة من جهة أخرى، يفترض واجباً خاصاً من التعاون فيما بينها، حيث يستطيع علم اللغة أن يقدّم البراهين المساعدة في دراسة مسائل القرابة، من خلال تقديم أصول الكلمات وما ينتج عنها من علاقات في بعض ألفاظ القرابة التي لم تكن مدركة بصورة مباشرة، من قبل عالم الأنثربولوجيا أو عالم الاجتماع، وبذلك يلتقي علماء الأنثروبولوجيا، بهدف مقارنة الفروع التي ينتجها هذان العلمان. ويقترب اللغويون من علماء الأنثروبولوجيا، آملين في جعل دراساتهم أكثر واقعية، وفي المقابل، يلتمس الأنثروبولوجيون اللغويين كلّما توسّموا فيهم القدرة على إخراجهم من الاضطراب الذي ألقتهم فيه على ما يبدو، أُلفتهم الزائدة مع الظاهرات المادية والتجريبية. (ستروس، 1977، ص 49
و92)
ولذلك، يلاحظ أنّ فرع اللغويات هو حالياً من أكثر فروع الأنثروبولوجيا الثقافية، استقلالاً وانعزالاً عن الفروع الأخرى .فدراسة اللغات يمكن أن تجري دون اهتمام كبير بعلاقاتها مع الجوانب الأخرى في النشاط الإنساني، وهذا هو الواقع في حالات كثيرة .ومما لا شك فيه، أنّ اللغات – بما فيها من تراكيب معقّدة وغريبة، وما تنطوي عليه من تنوّع هائل، ولا سيّما عند الشعوب البدائية، تزوّد الباحث بمادة دراسية غنيّة لا يمكن حصرها .( لينتون، 1967، ص 20)
ولذلك، يعطي / ليفي ستروس / أهميّة بالغة لِلُّغَةِ ويعتبرها أحد الأركان الأساسية في علم الإنسان، إن لم تكن حجر الزاوية في ذلك العلم، وعلى أساس أنّ اللغة هي الخاصية الرئيسة التي تميّز الإنسان عن الكائنات الحيّة الأخرى. ولذلك، يعتبرها الظاهرة الثقافية الأساسية التي يمكن عن طريقها، فهم كلّ صور الحياة الاجتماعية. وهذا ما يؤكّده في كتابه (المناطق المدارية الحزينة) والذي يعرف في العالم العربي باسم (الآفاق الحزينة) وهو نوع من السيرة الذاتية في قالب أنثروبولوجي، حيث يقول : " حين نقول الإنسان .. فإنّنا نعني اللغة. وحين نقول اللغة ... فإنّنا نقصد المجتمع .."
وهذا ما دفعه إلى استخدام مناهج اللغويات الحديثة وأساليبها، في تحليله للمعلومات الثقافية، وكلّ مادة غير لغوية. كما جعله يعطي الكلمة (الدال) من الأهميّة أكثر ممّا يعطي للمعنى (المدلول )، ولا سيّما أنّ الدال الواحد (الكلمة الواحدة) قد يكون لـه مدلولان مختلفان بالنسبة لشخصين مختلفين، وذلك تبعاً لاختلاف تجاربهما. بل أنّ الدال الواحد، قد تكون لـه مدلولات مختلفة بالنسبة للشخص نفسه، وفي أوقات أو ظروف مختلفة. (أبو زيد، 2001، ص 86 )
وعلى الرغم من أنّ علماء اللغة لم يتمكّنوا من تحديد أسبقية لغة على أخرى، فقد توصّلوا من خلال دراساتهم إلى تصنيف اللغات المختلفة بحسب طبيعتها واستخدامها، في ثلاثة أقسام هي :
-اللغات المنعزلة : وهي اللغات التي تتخاطب بها فئات منعزلة عن الفئات الأخرى، ولا تفهمها إلاّ تلك الفئات المتحدّثة بها. وهي لغة لا تكتب وليس لها تاريخ .
-اللغات الملتصقة : وهي اللغات التي تتخاطب بها شعوب كبيرة، ولكنّها ملتصقة بهم وبتراثهم. وهي لغات معروفة، ولكن ليس لها قواعد، وإنّما تعتمد على المقاطع والكلمات، مثل : اللغة الصينيّة .
-اللغات ذات القواعد (النحو والصرف) : وهي اللغات الحديثة التي تستخدمها الأمم المتحضّرة، لها قواعد نحوية وصرفية، تضبط جملها وقوالبها اللغوية، مثل : اللغة العربية، واللغات الأوربية ،( زرقانة، 1958، ص 148)
ومهما يكن هذا التقسيم، فإنّ اللغات المستعملة في العالم، جميعها، شُكّلت من أصوات متناسقة تدلّ على هذه اللغة أو تلك، وفق أصول وقواعد خاصة بها. ولهذا يقسم علم اللغويات إلى أقسام فرعيّة، من أهمّها : علم اللغات الوصفي، وعلم أصول اللغات .
1/1- علم اللغات الوصفي : يهتمّ بتحليل اللغات في زمن محدّد، ويدرس النظم الصوتية، وقواعد اللغة والمفردات. ويعتمد عالم اللغات في دراساته هنا على اللغة الكلامية، ولذلك يستمع إلى الأفراد، ولا سيّما إذا كانت الدراسة متعلّقة بلغات لم تكتب. فيقوم عالم اللغة بكتابة تلك اللغات عن طريق استخدام الرموز المتعارف عليها .
ومهما يكن الأمر، فإنّ عملية تحليل اللغات وتصنيفها، كعملية تحليل الأجناس البشرية وتصنيفها، لا تشكّل إلاّ الخطوة الأولى لغيرها من الدراسات المهمّة .فاللغات، على اختلاف أنواعها، تمثّل أداة قيّمة في يد العالم .. ولا شكّ في أنّها ستساعده في النهاية، على التوصّل إلى فهم أعمق لسيكولوجية الأفراد والمجتمعات.( لينتون، 1967، ص 20 )
وتتركّز معظم تلك الدراسات في المجتمعات البدائية التي تستخدم اللغة الكلامية، ولم تعرف القراءة والكتابة. فلا يوجد مجتمع إنساني – مهما تخلّفت ثقافته – من دون لغة كلامية يتفاهم بها أبناؤه .
1/2-علم أصول اللغات :
يهدف إلى تحديد أصول اللغات الإنسانية. ولذلك، يختصّ بالجانب التاريخي والمقارن، حيث يدرس العلاقات التاريخيّة بين اللغات التي يمكن متابعة تاريخها، عن طريق وثائق مكتوبة. وتكون المشكلة أكثر تعقيداً بالنسبة للغات القديمة التي لم تترك أية وثائق مكتوبة تدلّ عليها. ولكن ثمّة وسائل خاصة يمكن للباحث أن يستخدمها في دراسة تاريخ تلك اللغات.
وهناك علاقات تعاونية بين عالم اللغة، والأنثروبولوجي الثقافي، وذلك لأنهّ على كلّ من الأثنولوجي والأنثروبولوجي الاجتماعي، أن يدرس لغة المجتمع الذي يجري بحثه عليه.
وبناء على ذلك، تقدّم علم اللغويات – في العصر الحاضر – وأصبح يستخدم مناهج علمية وآليات دقيقة، في دراسة لغات العالم .. واستطاع من خلال ذلك أن يتوصّل إلى قوانين أساسية وعامة، لا تقلُّ أهميّة في دقّتها عن قوانين العلوم الطبيعية. (وصفي، 1971، ص 31-32)
ومن المحتم أن تثير (مورفولوجية) أية لغة، أسئلة بعيدة المدى تتّصل بميداني : الفيزياء والقيم .. فاللغة ليست مجرّد أداة للاتّصال أو لاستثارة الانفعالات فحسب، وإنّما هي أيضاً وسيلة لتصنيف الخبرات. والخبرة هي أشبه ما تكون بخطّ متّصل الأجزاء، يمكن تقسيمه بطرق مختلفة .( لينتون، 1967، ص 182)
ولذلك، فإن الدراسات اللغوية المقارنة، توضح أنّ الكائن البشري على الرغم من استخدامه لغة واحدة، فهو يقوم بعملية انتقائية غير واعية للمعاني التي يستخدمها. وذلك لأنّه لا يستطيع الاستجابة الدقيقة للمنبّهات المتنوّعة في محيطه الخارجي .
2- علم الآثار القديمة (الحفريات Archeology):
يعنى بشكل خاص بجمع الآثار والمخلّفات البشرية وتحليلها، بحيث يستدلّ منها على التسلسل التاريخي للأجناس البشرية، في تلك الفترة التي لم تكن فيها كتابة، وليس ثمّة وثائق مدوّنة (مكتوبة) عنها .
ويبحث هذا الفرع من علم الأنثروبولوجيا الثقافية، في الأصول الأولى للثقافات الإنسانية، ولا سيّما الثقافات المنقرضة. ولعلّ علم الآثار القديمة أكثر شيوعاً بين فروع الأنثروبولوجيا، وربّما كانت مكتشفاته مألوفة لدى الشخص العادي أكثر من مكتشفات الفروع الأخرى. ومثال ذلك، أنّ اسم (توت عنخ آمون) أحد ملوك قدماء المصريين، يكاد يكون معروفاً لدى الأوساط الشعبية العامة. (لينتون، 1967، ص 22 )
وعلى الرغم من أنّ الهدف الأوّل من هذه الأبحاث، هو الحصول على معلومات عن الشعوب القديمة، إلاّ أنّ الهدف النهائي يتمثّل في مساعدة القرّاء والدارسين، في تفهّم العمليات المتّصلة بنمو الثقافات أو (الحضارات) وازدهارها أو انهيارها، وبالتالي إدراك العوامل المسؤولة عن تلك التغيّرات .
ومن المعروف لدى علماء الأنثروبولوجيا، أنّ الكتابة ظهرت منذ حوالي أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، وما كتب من ذلك التاريخ معروف لدى الدارسين والباحثين، ويمكن بواسطة هذه الآثار المكتوبة معرفة الكثير عن الإنسان. (ناصر، 1985، ص 62)
فعالم الآثار يعتمد في دراسته، على البقايا التي خلفها الإنسان القديم، والتي تمثّل طبيعة ثقافاته وعناصرها. وقد توصّل علماء الآثار إلى أساليب دقيقة لحفر طبقات الأرض التي يتوقّع وجود بقايا حضارية فيها. كما توصّلوا إلى مناهج دقيقة لفحص تلك البقايا وتحديد مواقعها، وتصنيفها من أجل التعرّف إليها، ومن ثمّ مقارنتها بعضها مع بعض. ويستطيع علماء الآثار باستخدام تلك المناهج، استخلاص الكثير من المعلومات عن الثقافات القديمة، وتغيّراتها، وعلاقة كلّ منها بغيرها.
ويستخدم علماء الأنثروبولوجيا بقايا المواد كمعطيات رئيسة لاستخدام المعرفة العلمية والنظرية، حيث يقوم علماء الآثار بتحليل النماذج الحضارية والتطوّرات التي طرأت عليها، فتكشف النفايات عن الأوضاع الخاصة بالاستهلاك والنشاطات.
فالحبوب البرية والحبوب المنزلية / مثلاً : تمتلك خصائص مختلفة تسمح لعلماء الآثار أن يميّزوا بين النبات الذي تمّ جلبه، وذلك الذي تمّت العناية به محلياً. كما يكشف فحص عظام الحيوانات، عن أعمار هذه الحيوانات التي تمّ ذبحها، ويزوّد بمعلومات أخرى مفيدة، تحدّد فيما إذا كانت هذه الأنواع بريّة أو مدجّنة. ويقوم علماء الآثار من خلال بحثهم في هذه المعلومات، بإعادة بناء نماذج الإنتاج والتجارة والاستهلاك .Kattak, 1994,8))
ومع أنّ الهدف القريب الواضح للأبحاث (الأرخلوجية )، هو استكمال معارفنا ومعلوماتنا عن ماضي الإنسان، فإنّ الهدف النهائي هو مساعدتنا في تفهّم العمليات المتّصلة، بنمو الحضارات وازدهارها وانهيارها، وإدراك العوامل المسؤولة عن هذه الظاهرات التاريخية. وقد أصبحت نتائج الدراسات (الأرخلوجية) المتّصلة بعمليات التطوّر، مألوفة لدى العلماء الأنثروبولوجيين جميعهم، والذين يعنون بدراسة ظاهرات التغيير الثقافي. (لينتون، 1967،
ص24)
ولذلك، يلجأ علماء الآثار – الأنثربولوجيون – إلى الاستفادة من أبحاث علماء الجيولوجيا والمناخ، للتحقّق من (هوية) البقايا التي يكتشفونها، وتاريخ وجودها. كما يتعاون علماء الآثار أيضاً، مع المتخصّصين في الأنثروبولوجيا الطبيعية، وذلك لكثرة وجود( اللُقى) الإنسانية في الحفريات، مع البقايا الثقافية. وقد نجح علماء الآثار المحدثون، في استخدام (الكربون المشعّ) كوسيلة لتحديد عمر " البقايا " بدقّة. (وصفي، 1971، ص 31)
ويمكن القول – بوجه عام - إنّ علماء الآثار القديمة، يحاولون اكتشاف ذلك الجزء من التاريخ الماضي الذي لا تتعرّض لـه السجلاّت المكتوبة. ويقبل عالم الآثار القديمة على ميدان اختصاصه بحماسة، لأنّ عمله يقترن بمجموعة من الدوافع والمثيرات المغرية، كالرغبة في إجراء أبحاث علمية شائقة، واحتمال العثور على كنوز ثمينة ...( لينتون، 1967، ص 23 )
فعلم الآثار إذاً، يدرس تاريخ الإنسان وما رافقه من تغيّرات ثقافية، في محاولة لبناء تصوّر كامل عن الحياة الاجتماعية التي عاشتها المجتمعات القديمة، مجتمعات ما قبل التاريخ. وإذا كان علم الآثار يعتمد – إلى حدّ ما على التاريخ – فإنّه يختلف عن علم التاريخ في أنّه لا يدرس المراحل الحضارية المؤرّخة، وإنّما يدرس تلك الفترات التي عاشها المجتمع الإنساني قبل اختراع الكتابة وتدوين التاريخ.
3-علم الثقافات المقارن (الأثنولوجياEthnology) :
تعتبر الأثنولوجيا من أقرب العلوم إلى طبيعة الأنثروبولوجيا، بالنظر إلى التداخل الكبير فيما بينهما من حيث دراسة الشعوب وتصنيفها على أساس خصائصها، وميزاتها السلالية والثقافية والاقتصادية، بما في ذلك من عادات ومعتقدات، وأنواع المساكن والملابس، والمثل السائدة لدى هذه الشعوب.
ولذلك، تعدّ الأثنولوجيا فرعاً من الأنثروبولوجيا، يختصّ بالبحث والدراسة عن نشأة السلالات البشرية، والأصول الأولى للإنسان. وترجع لفظة (أثنولوجيا) إلى الأصل اليوناني (أثنوس Ethnos) وتعني دراسة الشعوب. ولذلك تدرس الأثنولوجيا، خصائص الشعوب اللغوية و الثقافية والسلالية. (اسماعيل، 1973، ص 460)
وتعتمد الأثنولوجيا في تفسير توزيع الشعوب – في الماضي والحاضر – على أنّه نتيجة لتحرّك هذه الشعوب واختلاطها، وانتشار الثقافات التي ترجع إلى كثرة الحوادث المعقّدة، التي بدأت مع ظهور الإنسان منذ مليون (ملايين) من السنين. فهي تبحث، مسألة المصادر التاريخية للشعوب، من أين أتت قبائل الهنود الحمر؟مثلاً، وأي طريق سلكت؟ ومتى احتلّت هذه الشعوب المناطق الموجودة فيها الآن، وكيف؟ ومن أية جهة تسلّلت إلى أمريكا؟ وكيف انتشرت فيها؟ ومتى ظهرت أجناس الهنود الحمر؟ وما هي الميزات اللغوية والملامح الثقافية التي نشرتها ثقافة الهنود الحمر، قبل احتكاكها بالثقافة الأوروبية؟ وغير ذلك ممّا يفيد في الدراسات الوصفيّة المقارنة للمجتمعات الإنسانية وثقافاتها. (رشوان، 1988، ص 81 )
وتدخل في ذلك دراسة أصول الثقافات والمناطق الثقافية، وهجرة الثقافات وانتشارها والخصائص النوعية لكلّ منها، دراسة حياة المجتمعات في صورها المختلفة. أي أنّه العلم الذي يبحث في السلالات القديمة وأصولها وأنماط حياتها، كما يبحث في الحياة الحديثة في المجتمعات الحاضرة، وتأثّرها بتلك الأصول القديمة.
ولذلك، تعرّف الأثنولوجيا بأنّها : دراسة الثقافة على أسس مقارنة وفي ضوء نظريات وقواعد ثابتة، بقصد استنباط تعميمات عن أصول الثقافات وتطوّرها، وأوجه الاختلاف فيما بينها، وتحليل انتشارها تحليلاً تاريخياً ،( كلوكهون، 1964، ص 31)
وتهتمّ النظرية الأثنولوجية بدراسة الثقافة، عن طريق القوانين المقارنة، ولا سيّما مقارنة قوانين الشعوب البدائية، حيث يهتمّ علماء القانون المقارن بدراسة بعض العادات والنظم والقيم والتقاليد، مثل : النسب الأبوي أو الأمومي، سلطة الأب، الحياة الإباحية، الاختلاط الجنسي، وطرائق الزواج المختلفة. (حمدان، 1989، ص 103)
ويبحث علم الأثنولوجيا في طرائق حياة المجتمعات التي لا تزال موجودة في عصرنا الحاضر، أو المجتمعات التي يعود تاريخ انقراضها إلى عهد قريب، وتتوافر لدينا عنه سجلاّت تكاد تكون كاملة. فلكلّ مجتمع طريقته الخاصة في الحياة، وهي التي يطلق عليها العلماء الأنثروبولوجيون مصطلح " الثقافة ". ويعدّ مفهوم الثقافة من أهمّ الأدوات التي يتعامل معها الباحث الأثنولوجي. (لينتون، 1967، ص 25)
ومن ميزات الأثنولوجيا، أنّها تعتمد عمليتي التحليل والمقارنة ، فتكون عملية التحليل في دراسة ثقافة واحدة، بينما تكون عملية المقارنة في دراسة ثقافتين أو أكثر. وتدرس الأثنولوجيا الثقافات الحيّة (المعاصرة) والتي يمكن التعرّف إليها بالعيش بين أهلها، كما تدرس الثقافات المنقرضة (البائدة) بواسطة مخلّفاتها الأثرية المكتوبة والوثائق المدوّنة. وتهتمّ إلى جانب ذلك، بدراسة ظاهرة التغيير الثقافي من خلال البحث في تاريخ الثقافات وتطوّرها .( وصفي، 1977، ص 30 )
وقد كان هذا الفرع من الأنثروبولوجيا الثقافية، يلقى اهتماما قليلاً قياساً للفروع الأنثروبولوجية الأخرى، حيث قام بعض علماء الأنثروبولوجيا في القرن العشرين، بدراسة الطرائق التي تؤثّر من خلالها المفاهيم الاجتماعية المحدودة في سلوك الأشخاص وأمزجتهم، ومعرفة الحياة الإنسانية للشعوب التي ما زالت تحيا حياة بسيطة، ولا سيّما تلك الشعوب التي تعيش في : أستراليا وأمريكا الجنوبية وأفريقيا، وفي بعض المناطق في آسيا .
وكان علماء الأثنولوجيا، وإلى عهد قريب جدّاً، يقصرون أبحاثهم في الظواهر الاجتماعية والإنسانية للمجتمعات الثقافية. وكانوا يعتبرون الفرد كما لو أنّه مجرّد ناقل للثقافة، أو حلقة من سلسلة من الوحدات المتماثلة التي يمكن أن تستبدل الواحدة منها بأخرى. ولكن، وبعد دراسات عديدة، تبيّن لهؤلاء العلماء أن المعايير الشخصيّة، تختلف باختلاف الأفراد والمجتمعات والثقافات. (ناصر، 1985، ص 66)
فمنذ البدايات الأولى لتطوّر الأبحاث الأثنولوجية، والعلماء يحاولون اكتشاف الأسباب التي تجعل مجتمعات معيّنة، تطوّر محاور اهتمام خاصة بها، وتتقبّل أو تنبذ تجديدات مختلفة من النوع الذي يبدو أنّه لا ينطوي على أيّة عوامل نفعية، وكذلك الأسباب التي تجعل الثقافات المتنوّعة تعكس – بصورة منتظمة – اتّجاهات مختلفة في تطوّرها. وساد الاعتقاد حيناً من الزمن أنّ هذه الظاهرات يمكن عزوها إلى وقائع تاريخيّة عارضة، غير أنّ هذه النظرية هي ضرب من الافتراض الجدلي الذي لا يستند إلى أي برهان أو دليل. (لينتون، 1967، ص 32)
ويتّفق معظم العلماء على أنّ مصطلح (أثنوجرافيا) يطلق على الدراسة التي تعمد إلى وصف ثقافة ما في مجتمع معيّن، بينما يطلق مصطلح (أثنولوجيا) على الدراسات التي تجمع بين الوصف والمقارنة. فالأثنولوجي يهدف من تلك المقارنات الوصول إلى قوانين عامة للعادات الإنسانية، ولظاهرة التغيير الثقافي وآثار الاتصال بين الثقافات المختلفة، كما يهدف الأثنولوجي أيضاً إلى تصنيف الثقافات ضمن مجموعات أو أشكال، على أساس مقاييس (معايير) معيّنة. (وصفي، 1971، ص 25)
وهذا يعني أنّ الأهداف النهائية للعالِم الأثنولوجي، هي في الأساس، مماثلة لأهداف عالِم الاجتماع وعالِم الاقتصاد .. فكلّ عالم من هؤلاء، يحاول أن يفهم كيف تعمل المجتمعات والثقافات؟ وكيف ولماذا تتغيّر الثقافات؟ كما يحاول أن يتوصّل إلى تعميمات معيّنة، أو " قوانين " بحسب المصطلح الدارج للمفهوم، لتساعده في التنبّؤ باتّجاه سير الأحداث، بقصد التحكّم به في النهاية. (لينتون، 1967، ص 27 )
فإذا كان القول بأنّ الأثنولوجيا تدرس الظواهر الثقافية دراسة رأسية، أي دراسة مقارنة زمانية تاريخية لثقافات الماضي، مع متابعة دراسة تلك الثقافات وتطوّرها ومقارنتها عبر التاريخ، فإنّ الأثنوجرافيا تدرس الظواهر الثقافية دراسة أفقية محدّدة المكان، وهكذا تكون الأثنولوجيا دراسة مقارنة في الزمان، بينما تكون الأثنوجرافيا دراسة مقارنة في المكان. (اسماعيل، 1973،
ص 26)
وكان من نتائج الاحتكاك بين علم الاجتماع وعلم الأثنولوجيا، أن تزوّد علم الاجتماع بأساليب جديدة ثبت أنّها ذات قيمة خاصة للباحث الاجتماعي، الذي يعنى بدراسة المجتمعات الحديثة الصغيرة. أضف إلى ذلك، أنّ الاحتكاك بين العلمين وسّع مجال علم الاجتماع، وأدّى بالتالي إلى تغيّر بعض صيغه النظرية. (لينتون، 1967، ص 32 )
لقد تبلورت الأثنولوجيا بعد الحرب العالمية الثانية ، وشكّلت ما يمكن الإشارة إليه بالأنثروبولوجيا المعاصرة. وساعد على هذا الاتجاه ودعمه، ازدياد عدد الأنثوبولوجيين في البلدان النامية، بعد إن كانت هذه المهنة وقفاً على الباحثين الغربيين. ولم تعد الأثنولوجيا تقصر مجال دراستها على المجتمعات الصغيرة الحجم، أو المحليّة ذات الثقافات غير الغربية، وإنّما اتجهت لتوسيع مجالها بحيث تشمل الثقافات والمجتمعات كلّها، وعلى اختلاف حجمها وموقعها. (فهيم، 1986، ص 36)
غير أنّ هذا التنوّع الذي اتصفت به الأثنولوجيا في القرن العشرين، أدّى إلى حدوث بعض التضارب في الدراسات، وهذا ما أفقدها الكثير من الاستقرار الأكاديمي، علاوة على تمسّكها بالنواحي المنهجيّة أكثر من توصّلها إلى نظريات علمية، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات حول كيفيّة دراسة الثقافات الإنسانية وعلميّتها، وصلتها بقضايا الإنسان المعاصر
**
مصـادر الفصل ومراجعـه
- أبو زيد، حامد (2001) الطريق إلى المعرفة، كتاب العربي 46، مجلّـة العربي، الكويت .
- اسماعيل، قباري محمد (1973) الأنثروبولوجيا العامة، منشأة المعارف بالاسكندرية .
- بيلز، رالف ؛ هويجرا، هاري (1977) مقدّمة في الأنثروبولوجيا العامة، ترجمة : محمد الجوهري وآخرون، دار النهضة المصرية، القاهرة .
- حمدان، محمد زياد (1989) الثقافات الاجتماعية المعاصرة، دار التربية الحديثة، عمّان .
- رشوان، حسين عبد الحميد (1988) الأنثروبولوجيا في المجال النظري، الاسكندرية .
- زرقانة، ابراهيم (1958) الأنثروبولوجيا، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة .
- ستروس، كلود ليفي (1977) الأنثروبولوجيا البنيوية، ترجمة : مصطفى صالح، وزارة الثقافة، دمشق .
- فهيم، حسين (1986) قصّة الأنثروبولوجيا – فصول في تاريخ الإنسان، عالم المعرفة (198)، الكويت .
- كلوكهون، كلايد (1964) الإنسان في المرآة، ترجمة : شاكر سليم، بغداد .
- لبيب، الطاهر (1987) سوسيولوجية الثقافة، دار الحوار، اللاذقية .
- لينتون، رالف (1967) الأنثروبولوجيا وأزمة العالم الحديث، ترجمة : عبد الملك الناشف، المكتبة العصرية، بيروت .
- ناصر، ابراهيم (1985) الأنثروبولوجيا الثقافية – علم الإنسان الثقافي -، عمّان.
- هرسكوفيتز، ميلفيل. ج (1974) أسس الأنثروبولوجيا الثقافية، ترجمة : رباح النفاخ، وزارة الثقافة، دمشق .
- وصفي، عاطف (1971) الأنثروبولوجيا الثقافية، دار النهضة العربية، بيروت.
- وصفي، عاطف (1977) الثقافة والشخصيّة، دار المعارف بمصر.
- Barnouw , V. (1972) Cultural Anthropology , Home wood Illinois, Irwen Inc .
***
الفصل الخامس
الأنثروبولوجيا الاجتماعية
Sociology Anthropology
أولاً-تعريف الأنثروبولوجيا الاجتماعية
ثانياً- نشأة الأنثروبولوجيا الاجتماعية وتطوّرها
ثالثاً-أهداف الأنثربولوجيا الاجتماعية
1-تحديد نماذج للأبنية الاجتماعية
2-تحديد مظاهر التداخل والترابط بين النظم الاجتماعية
3-تحديد عمليات التغيير الاجتماعي
أولاً- تعريف الأنثروبولوجيا الاجتماعية
تعرّف الأنثروبولوجيا الاجتماعية بأنّها : دراسة السلوك الاجتماعي الذي يتّخذ في العادة شكل نظم اجتماعية كالعائلة، ونسق القرابة، والتنظيم السياسي، والإجراءات القانونية، والعبادات الدينية، وغيرها. كما تدرس العلاقة بين هذه النظم سواء في المجتمعات المعاصرة أو في المجتمعات التاريخية، التي يوجد لدينا عنها معلومات مناسبة من هذا النوع، يمكن معها القيام بمثل هذه الدراسات. (بريتشارد، 1975، ص13)
ولذلك، فمن الضروري في دراسة الإنسان وأعماله، أن نميّز بين عبارة " ثقافة " وعبارة " مجتمع " المرافقة لها. فالثقافة – كما في تعريفاتها – هي طريقة حياة شعب ما، أمّا المجتمع فهو تكتّل منظّم لعدد من الأفراد، يتفاعلون فيما بينهم ويتبعون طريقة حياة معيّنة .. وبعبارة أبسط : المجتمع مؤلّف من أناس، وطريقة سلوكهم هي ثقافتهم .
وهنا تعدّ تصنيفات المؤسّسات والأنظمة الاجتماعية، أدوات نافعة للأغراض الوصفية، كما أنّ التعميمات بالنسبة للعلاقات المتداخلة والمتبادلة بين النماذج والمؤسّسات، تساعد في الاهتداء إلى نوع من النظام وسط أوضاع تبدو مشوّشة وغامضة، وفي زيادة الفهم الحقيقي للعمليات الاجتماعية. وفي الوقت ذاته، يعتمد هذا الفهم على دراسة النسق الكلّي الذي يؤلّف النظام الاجتماعي جزءاً منه. ويضمّ هذا النسق ثلاثة عناصر متميّزة، هي : شخصيّات الأفراد الذين يؤلّفون المجتمع، والبيئة الطبيعية التي يتعيّن على المجتمع أن يكيّف حياته وثقافته معها، وأخيراً المجموعة الكاملة من الوسائل الفنيّة اللازمة للمعيشة، التي تضمن استمرار بقاء المجتمع عن طريق نقلها من جيل إلى جيل. (لينتون، 1964، ص 357 )
ولكن، هل يمكن أن نفصل على هذا الشكل بين الإنسان كحيوان اجتماعي، والإنسان كمخلوق ذي ثقافة؟ أليس السلوك الاجتماعي في الواقع سلوكاً ثقافياً؟ ألم نرَ أنّ الحقيقة الكبرى في دراسة الإنسان ، هي الإنسان نفسه أكثر ممّا هي مُثُل الإنسان أو نظمه، أو حتى الأشياء المادية التي نجمت عن ارتباطه بتكتّلات نسمّيها " مجتمعات "؟
فالنظام الاجتماعي إذن، هو التعبير التقني الأنثروبولوجي الذي يدلّ على المظهر الأساسي في حياة الجماعة الإنسانية، وهو يشمل النظم التي تؤلّف إطاراً لأنواع السلوك جميعها، سواء كان فردياً أو اجتماعياً. (هرسكوفيتز، 1974، ص 20-21)
إنّ اللغة والحياة الاجتماعية المنظّمة، زوّدتا الإنسان بأدوات لنقل الثقافات، مهما بلغت من التعقيد، والمحافظة على تراثها بصورة غير إيجابية. وعملت الحياة الاجتماعية أيضاً على جعل الإنسان في حاجة إلى إرث اجتماعي، يفوق في ثروته ما تحتاج إليه الحيوانات. وتمّت المحافظة على المجتمعات البشرية، بتدريب أجيال متلاحقة من الأفراد .. ولذا كانت المجتمعات، هي نفسها، حصيلة الثقافة. (لينتون، 1964، ص 119 )
وبناء على ذلك، تهدف دراسة الأنثروبولوجيا الاجتماعية إلى تحديد العلاقات المتبادلة بين هذه النظم، سواء في المجتمعات القديمة التي تدرس من خلال آثارها المادية والفكرية، أو في المجتمعات الحديثة والمعاصرة، التي تدرس من خلال الملاحظة المباشرة لمنجزاتها وتفاعلاتها الخاصة والعامة.
ثانياً-نشأة الأنثروبولوجيا الاجتماعية وتطوّرها
يعدّ اهتمام الأنثروبولوجيا عامة، والأنثروبولوجيا الاجتماعية خاصة، بدراسة المجتمعات الإنسانية، وعلى المستويات الحضارية كافة، منطلقاً أساسيّاً من فلسفة علم الأنثروبولوجيا وأهدافها، ولا سيّما دراسة أساليب حياة المجتمعات المحلية، إلى جانب دراسات ما قبل التاريخ، ودراسات اللغات واللهجات المحلية .. وهذا ما يميّز الأنثروبولوجيا من العلوم الإنسانية / الاجتماعية الأخرى، ولا سيّما علم الاجتماع .
ويوصف علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية بأنّه علم حديث العهد، لا بل من أكثر العلوم الاجتماعية حداثة. فقد استخدم مصطلح (الانثروبولوجيا الاجتماعية) للمرّة الأولى في عام /1980/ عندما كرّمت جامعة ليفربول في بريطانيا السيد / جيمس فريزر/ ومنحته لقب الأستاذ.
ومماّ يدلّ على حداثة هذا العلم الذي يدرس الجانب الطبيعي / التطبيقي، من البنى الاجتماعية، ذلك الاختلاف الذي ما يزال قائماً بين علماء الاجتماع حول هذه التسمية : (الأنثروبولوجيا الاجتماعية ). ولكن على الرغم من حداثة هذا العلم، فقد مرّ بمراحل متعدّدة أسهمت في نشوئه وتطوّره واستكمال عناصره إلى حدّ بعيد، بدءاً من القرن الثامن عشر وحتى الوقت الحاضر.
1_ القرن الثامن عشر :
تعدّ الدراسات التي أجريت في القرن الثامن عشر حول الأبنية الاجتماعية، وأنساق القيم السائدة فيها، من أهمّ الدراسات التي مهّدت لظهور الأنثروبولوجيا الاجتماعية. وكان في مقدّمتها كتاب " روح القوانين " الذي ألّفه / مونتسيكو / عالم الاجتماع الفرنسي، والذي أكّد فيه أنّ المجتمع البشري وما يحيط به، يتكوّن من مجموع نظم مترابطة، بحيث لا يمكن فهم القوانين عند أي شعب من الشعوب، إلاّ إذا درست العلاقات التي تحكم هذا النظام أو ذاك، بما فيها البيئة والحياة الاقتصادية، والسكان والمعتقدات والأخلاق السائدة، حيث ميّز الفيلسوف الفرسي /مونتسيكو/ بين البناء الاجتماعي والنظام القيمي، على الرغم من العلاقة بينهما. وأوضح أنّ المجتمع ذاته وما يحيط به، يتكوّن من نظم يرتبط بعضها ببعض ارتباطاّ وظيفيّاً، وبالتالي لا يمكن فهم القانون العام لدى أي شعب من الشعوب، إلاّ إذا درسنا العلاقات بين هذه القوانين كلّها، ومن ثمّ دراسة علاقة تلك القوانين بالبيئة الطبيعيّة والحياة الاقتصادية، وعدد السكان والأعراف والتقاليد السائدة أو التي كانت سائدة .( الجباوي، 1982، ص101)
ولكن / سان سيمون / عالم الاجتماع الفرنسي أيضاً، يعدّ أول من رأى ضرورة إنشاء علم للمجتمع، واقترح إنشاء علم وضعي للعلاقات الاجتماعية. واعتبر أنّ مهمّة علماء الاجتماع لا تقتصر على دراسة المفاهيم والتصوّرات الاجتماعية فحسب، وإنّما يجب أن تشمل تحليل الوقائع والحقائق التي تعزّزها.
وإذا كان/ سيمون / لم يقصد تماماً إنشاء علم / الأنثروبولوجيا الاجتماعية/ وإنّما قصد إيجاد علم خاص يدرس النظم الاجتماعية وعلاقاتها دراسة موضوعيّة، فإنّ ذلك تحقّق فعلاّ بجهود تلميذه / أوغست كونت / .
هذا في فرنسا .. أمّا في إنكلترا، فقد ظهرت دراسات تمهيدية لعلم الأنثروبولوجيا الاجتماعية، ولا سيّما أبحاث / دافيد هيوم وآدم سميث/ حيث نُظر إلى كلّ مجتمع إنساني على أنّه نسق طبيعي ينشّأ من الطبيعة البشرية، وليس عن طريق التعاقد. ولذلك انتشرت مفاهيم جديدة، مثل : الأخلاق الطبيعية والدين الطبيعي. واعتبر المجتمع (أي مجتمع إنساني) ظاهرة طبيعية، لا بدّ من استخدام المنهج التجريبي والاستقرائي، عند دراسته بدلاّ من المناهج العقلية / الفلسفية .
وظهرت في هذه المرحلة التمهيديّة بوادر الاهتمام بالمجتمع البدائي، اعتماداً على رحلات الاستكشاف للآثار والمتاحف والمصادر المختلفة. وقد نُظر إلى الإنسان البدائي على أنّه متوحّش في مجتمعه، وهمجي في سلوكاته .. يتناقض كليّة مع إنسان المجتمع المتمدّن والمتقدّم. وخير مثال على ذلك، ما كتبه / جون لوك / عن الهنود الحمر في أمريكا، حيث أصدر أحكاماً عامة وغير دقيقة، عن هذه الشعوب البدائية .
والخلاصة، إنّ علماء القرن الثامن عشر وفلاسفته، مهما تكن آراؤهم، مهّدوا بشكل أساسي لظهور علم دراسة الأنثروبولوجيا الاجتماعية، وذلك نتيجة لاهتمامهم بالنظم الاجتماعية من جهة، واعتبارهم المجتمعات الإنسانية أنساقاً طبيعية، في إطار (الطبيعة البشرية) من جهة أخرى يجب أن تدرس من خلال المناهج التجريبية، على الرغم من أنّ دراسات هؤلاء المعنيين كانت بعيدة عن طبيعة هذه المناهج، وكانت تعتمد على التحليل الصوري (الشكلي ).
2-القرن التاسع عشر :
يعدّ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فترة نشوء الأنثروبولوجيا كعلم معترف به .. وقد أسهم في ذلك صدور العديد من الدراسات والكتب التي بحثت في هذا العلم وحدّدت معالمه الأساسية، ولا سيّما مؤلّفات كلّ من (تايلور وماكلينان) في إنكلترا، و (بافوفين) في سويسرا، حيث اهتمّ هؤلاء بجمع المعلومات عن الشعوب البدائية، وأبرزوها بصورة منهجية منظّمة، من خلال دراسة النظم الاجتماعية، وفي حدود الأبنية الاجتماعية لهذه المجتمعات، وليس في حدود الفلسفة وعلم النفس. فوضعوا بذلك أسس علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية.
فقد فسّر / ماكلينان / مثلا : تحريم زواج المحارم في بعض هذه المجتمعات البدائية (نظام الزواج الأكسوجامي )، استناداً إلى ظواهر اجتماعية أو عقائد خاصة بتلك المجتمعات، رافضاً إرجاعه إلى أسباب بيولوجية أو نفسية. كما أنّ طريقة الزواج التي تتمثّل في عملية خطف العروس، لم تستند إلى نظريات نفسية أو فلسفية، وإنّما ترجع إلى عادات مترسّبة من الماضي في ممارسة السبي والاغتصاب. (لطفي، 1979، 82)
ولم يكن رواد الأنثروبولوجيا الاجتماعية في القرن التاسع عشر، يستخدمون الدراسات الميدانية، بل اعتمدوا على أقوال الرحالة والمستكشفين ورجال الإدارة .. ولذلك، تعدّ هذه المرحلة فترة نشوء هذا العلم، وليست فترة كماله ونضجه، لأنّ الدراسات الميدانية / التطبيقية تعدّ من الركائز الأساسية لتكامل هذا العلم، بطبيعته ومنهجيّته .
وقد تميّزت هذه المرحلة بظهور مدرستين متداخلتين، هما : النشوئية والتطوريّة. ويعود تداخلهما إلى أنّ العالِم الأنثروبولوجي، أو العالم الاجتماعي عندما يقوم بتفسير عمليّة التطوّر في أي نظام اجتماعي، من الماضي إلى الحاضر، لا بدّ أن يعمد إلى تحديد نشأة هذا النظام، وذلك بالعودة إلى المجتمعات البدائية لدراستها واستخلاص صفاتها وعلاقاتها، باعتبارها تمثّل التاريخ المبكر للجنس البشري .
مثال ذلك : (نشأة الأسرة وتطورها) من حيث الإباحية الجنسية، وتعدّد الزوجات وصولاً إلى وحدانية الزوجة. وكذلك الانتساب إلى الأم ومن ثمّ إلى الأب. وهذه العودة إلى الشعوب البدائية، لا تقتصر على الأنثروبولوجيا فحسب، بل تشمل سائر فروع المعرفة الخاصة بالعلوم الإنسانية .
وقد تأثّر رواد هذه المدرسة، وفي مقدّمتهم / إدوارد تايلور/ بنظرية / داروين، في تطوّر الحياة الطبيعيّة للكائنات البشرية، وتستند هذه النظرية إلى أنّ العناصر المركبّة في الحضارة الإنسانية، تتطوّر باستمرار من الأشياء البسيطة إلى الأشياء المعقّدة، وهذا ما ينسحب على تطوّر النظم الاجتماعية.
ويرتبط اسم / داروين / على الأقلّ في أذهان عامة المثقفين في العالم، بأنّه الرجل الذي نادى بنظرية التطوّر متحدّيا فكرة الخلق، وذهب في ذلك إلى حدّ القول بانحدار البشر من القردة العليا. ولكنّ الحقيقة أكثر تعقيداً من ذلك، حسب تعبير الأستاذ / كريستوفر بوكر /. فلم يكن داروين هو مؤسّس تلك النظرية، إذ سبقه إليها عدد كبير من العلماء الطبيعيين الذين كانوا يرون أنّ صور الحياة المختلفة، تطوّرت كلّها على شكل واحد بسيط، أي أنّ هذه الأشكال لم تخلق خلقاً مستقلاًّ ومتميّزاً كلّ منها عن الآخر .
وقد انتشرت هذه الأفكار قبل ظهور كتاب داروين عن " أصل الأنواع " بسبعين سنة على الأقلّ. وكان كلّ ما فعله / داروين، هو أنّه قام بتجميع تلك الأفكار والآراء المبعثرة والمتناثرة، وتحليلها بطريقة منهجية، فيها قدر كبير من محاولة الفهم والتعمّق. ومن هنا ساعد كتاب " أصل الأنواع " في توطيد فكرة التطوّر وترسيخها. ولكنّ الأهمّ من ذلك، هو أنّ الكتاب يقدّم نظرية متماسكة عن الطريقة التي حدث فيها التطوّر، ووضع في ذلك مبدأه الشهير عن " الانتخاب الطبيعي " الذي فسّر به استمرار بعض الأنواع في الحياة ، واختفاء بعضها الآخر في معركتها الكبرى وصراعها من اجل الحياة.
وعلى الرغم من أنّه مبدأ بيولوجي في الأصل، إلاّ أنّه كان مفيداً للأنثروبولوجيين. وفي ذلك يقول الأستاذ / ألفريد كروبر/ وهو من أكبر علماء الأنثروبولوجيا المعاصرين : " إنّ هناك نوعاً من عدم التناسب بين الإسهام المحدود الذي أسهم به داروين في العلم، والذي ينحصر في وضع مبدأ الانتخاب الطبيعي وتجسيده، وبين كلّ ذلك التأثير الهائل الذي تركه تأسيس المبدأ البيولوجي على العلم الكلّي ". فقد دفع هذا المبدأ علماء القرن التاسع عشر، إلى البحث عن أصول الأشياء. وظهرت بذلك كتابات كثيرة تتناول أصل اللغة وأصل الحضارة، وأصل المجتمع والعائلة والدين، وما إلى ذلك بالطريقة نفسها التي تناول بها داروين مشكلة أصل الأنواع. (أبو زيد، 2001، 23-24 )
ولذلك ركّز العلماء التطوّريون، على موضوعات معيّنة : كالدين والعائلة، والنسب، واعتبروا أنّ الحضارات البدائية المعاصرة، تمثّل شواهد دالّة على مراحل التطوّر الاجتماعي التي مرّت بها الحضارة الحالية المتقدّمة .
ولكن ثمّة صعوبات قابلتهم، في دراسة التطوّر في العصور القديمة جدّاً، ولا سيّما عصور ما قبل التاريخ، فعمدوا إلى دراسة علم الآثار أو التخمين والافتراض من أجل إثبات نظريتهم. (Nicholson , 1968, p.7)
وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر، استكمل الأنثروبولوجيون وضع العناصر الأساسيّة لعلم الأنثروبوجيا الاجتماعية، عندما قام بعضهم بتصنيف المجتمعات البشرية على أسس أبنيتها الاجتماعية، وليس على أسس ثقافاتها فحسب. وهذا ما أدّى إلى تميّز الأنثروبولوجيا الاجتماعية عن الأنواع الأنثروبولوجية الأخرى، وأصبح موضوعها بالتالي، يختصّ بالعلاقات الاجتماعية وليس بالظواهر الثقافية .
واستناداً إلى ذلك، امتدّ منهج دراسة الأنثروبولوجيا إلى الدراسات الميدانية. واعتبرت الدراسة التي قام بها العالم الانكيزي / هادون /على منطقة مضائق (تورليس) مع بعثة علمية، نقطة تحوّل أساسية في تاريخ الأنثروبولوجيا الاجتماعية، حيث رسّخت أمرين أساسيين :
أولهما :النظر إلى الأنثروبولوجيا الاجتماعية، على أنّها علم يحتاج إلى تخصّص كامل .
وثانيهما:اعتماد الدراسة الميدانية منهجاً رئيسيّاً في هذا العلم .
ومع أنّ / مورغان و بواز / سبقا / هادون/ في دراسة بعض قبائل الهنود الحمر، وبعض قبائل الأسكيمو، فقد استطاع / هادون / أن يحدّد أساسيات منهج الأنثروبولوجيا الاجتماعية، ويجذب بعض العلماء إلى ميدان هذا العلم الجديد، بعدما تخلّوا عن اختصاصاتهم الأصلية وأصبحوا من أئمّة الأنثروبولوجيا الاجتماعية في القرن العشرين، من أمثال : العالم / ريفر/ الذي كان متخصّصاً في علم النفس، والعالم / سليجمان / الذي كان متخصّصاً في علم الأمراض. بل أنّ / هادون / نفسه، تخلّى عن تخصّصه الأصلي في (الحيوانات البحرية) وتحوّل إلى الأنثروبولوجيا الاجتماعية .( لطفي، 1979، ص 96)
وهكذا، مثّل القرن التاسع عشر نشأة الأنثربولوجيا الاجتماعية، وإن كانت صورتها غير ناضجة وتحتاج إلى الكثير من جهود العلماء ولفترة من الوقت ليست قصيرة، حيث بدأت عناصر صورتها تستكمل وتزدهر في نهاية هذا القرن والنصف الأول من القرن العشرين.
3- القرن العشرون :
وصلت الأنثروبولوجيا مع بداية القرن العشرين إلى مرحلة التخصّص بدراسة البنى الاجتماعية للمجتمعات، ولا سيّما المجتمعات القديمة، حيث ازدادت الدراسات الميدانية، وفي مقدّمتها الدراسة التي قام بها الأنكليزي / رادكيف براون / على سكان خليج البنغال، والتي اعتبرت المحاولة الأولى لفحص النظريات الاجتماعية بالعودة إلى مجتمع بدائي. وكذلك دراسة / مالينوفسكي / لسكان جزر (التروبوبرياند) لمدّة أربع سنوات، واستخدم فيها لغة أهالي هذه الجزر. فكان بذلك أوّل أنثروبولوجي يتمكّن من فهم حياة الناس وعلاقاتهم الاجتماعية، من خلال تتبّع عاداتهم وتقاليدهم، وتحليل مدلولاتها الاجتماعية .
فخلال الربع الأوّل من هذا القرن، عكف الباحثون الأنثروبولوجيون على جمع الوثائق التي يحتاجون إليها من أجل إثبات ظاهرة الاقتباس بين الثقافات المختلفة. ويلاحظ أنّ العامل التاريخي، من وجهة نظر تاريخ الطريقة الأنثروبولوجية، احتلّ مكان الصدارة في دراسة المجتمعات، حتى في المحاولات المبذولة لإثبات ظاهرة الانتشار الثقافي، الناجمة عن الاحتكاك بين الشعوب. ويعود ذلك إلى أنّ هؤلاء الباحثين، كانوا يدركون جيّداً أهميّة البيانات التاريخيّة في فهم العوامل الثقافية الدينامية. (لينتون، 1967، ص 259 )
أمّا في الربع الثاني من القرن العشرين، فقد أصبحت للأنثروبولوجيا الاجتماعية فروع مستقلّة تدرّس في الجامعات الأوروبية، ولا سيّما في الجامعات البريطانية .. وانتشر تطبيق منهج الدراسة الميدانية نتيجة لتأثير علم / مالينوفسكي / الذي بدأ منذ عام 1924، بتدريب الأنثروبولوجيين على القيام بالدراسات الميدانية .
وفي عام 1937، أعاد / براون / تنظيم معهد الأنثروبولوجيا في جامعة أكسفورد، وطوّر مناهجه. وبفضل جهود / مالينوسكي وبراون / وتلامذتهما من ذوي الخبرة في الدراسات الأنثروبولوجية الميدانية، أجريت دراسات متعدّدة على مجتمعات صغيرة في أفريقيا (دراسة نظم القرابة والطقوس والسياسة )، وأحدث المعهد الدولي الأفريقي في جامعة أكسفورد، تصدر عنه مجلّة متخصّصة في علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية .
وتابعت الأنثروبولوجيا الاجتماعية دراساتها المتقدّمة، في النصف الثاني من القرن العشرين، مماّ أدى إلى اتّساع هذه الدراسات وازدهارها، وبالتالي إلى التقارب بين الأنثروبولوجيا الاجتماعية والأنثروبولوجيا الثقافية .. وتمّ اعتماد تطبيق المنهج التجريبي بدلاً من المنهج المقارن، حيث يستند كلّ باحث أنثروبولوجي – في تطبيق المنهج التجريبي – إلى نتائج دراسة باحث آخر لمجتمع معيّن، ويقوم بدوره بالتأكّد من صحّة هذه النتائج من خلال قيامه بدراسة مجتمعات أخرى. وبذلك، تصبح الفرضيّات المتفق عليها مبادئاً عامة في نهاية الأمر، أو معارف متداولة في مجال الأنثروبولوجيا الاجتماعية .. وهذا ما عزّز من علم الأنثروبولوجيا في العصر الحديث .
ثالثاُ- أهداف الأنثروبولوجيا الاجتماعية
تحديد نماذج عالية للأبنية الاجتماعية :
إنّ التوصّل إلى نوع من التصنيفات والنماذج للأبنية الاجتماعية، يعدّ أمراً صعباً بالنظر إلى عدم اتّفاق العلماء على هذه النماذج من جهة، ولعدم وجود مصطلحات عالمية لمفاهيم الأنثروبولوجيا الاجتماعية من جهة أخرى. هذا بالإضافة إلى المشكلة الأساسيّة، التي تتمثّل في عدم وجود الدراسات الميدانية الشاملة للمجتمعات الإنسانية جميعها، على الرغم من محاولات الكثير من العلماء الوصول إلى ذلك الهدف .
فالإنسان وحده -من بين المخلوقات – يتمتّع بإمكانية تطوير سلوكه المكتسب ونقله بالتعلّم، وأنّ نظمه ومؤسّساته الاجتماعية، تتّصف بالتنوّع وبدرجة من التعقيد أكبر ممّا تتّصف به الأشكال الاجتماعية لأي نوع آخر من أنواع الحيوان .
ولذلك نجد أنّ المنطلق المنطقي لما يجرى من أبحاث حول المجتمع، هو دراسة أنظمة اجتماعية معيّنة واعتبار كلّ منها وحدة متكاملة. وممّا يسهل المشكلة بعض الشيء، اعتبار الأنظمة كيانات متميّزة عن المجتمعات، إذ يمكّننا ذلك من تجاهل المدى الواسع للاختلافات الفردية في التعبير عن نماذج النظام، ومن التركيز على النماذج نفسها وعلاقاتها المتبادلة .بيد أنّ المشكلة تظلّ معقّدة بما فيه الكفاية، وأوّل مهمّة للباحث هي التحقّق من النماذج وطبيعتها.
إنّ الصورة التي يرسمها باحث النظام الاجتماعي كلّه، يتكوّن من عناصر يجمعها واحدة واحدة، أي من النماذج الداخلة في تركيب النظام، ومن الملاحظات التي تتجمّع لديه عن تكيّفها وعلاقاتها المتبادلة، كما تتكشّف لـه في أثناء ممارسة الناس الفعلية لها. ولا يستطيع العضو العادي في أي مجتمع، أن يساعد الباحث في هذا العمل، إذ ما من أحد يدرك أنّ النماذج التي تنظّم التفاعلات الاجتماعية، تشكّل نظاماً إلاّ في حالة المجتمعات التي بلغت درجة عالية من التعقيد والتزمّت، كالمجتمعات في الصين وبلاد الإغريق في العصور القديمة، وأوروبا الحديثة. (لينتون، 1964، ص 345-346)
ولمّا كان الإنسان قادراً على التفاهم مع أمثاله بواسطة أشكال اللغة الرمزية والمفاهيم، فهو وحده الذي استطاع أن يوجد أنواعاً لا تحصى من المباني الاجتماعية الأساسية كبنيان الأسرة. وإذا نظرنا إلى حياة الجماعة في أي نوع من أنواع ما دون الإنسان من الكائنات الحيوانية، وجدنا أنّ مبانيها الاجتماعية أكثر رتابة من المباني الإنسانية، وبالتالي يمكن توقّعها لأنّ كل جيل من أجيالها يتعلّم السلوك المشترك بين معاصريه جميعهم، بينما يبني الإنسان على تجارب كلّ من سبقه. (هرسكوفيتز، 1974، ص 32 )
وقد أنفق العالم / رادكليف براون / ثلاثين عاماً في الدراسة، للوصول إلى بعض النماذج العامة للأبنية الاجتماعية. وبفضل جهوده وجهود علماء آخرين، أصبح هناك اتفاق شبه عام على بعض النماذج الأساسية للبناء الاجتماعي، مثال: ( العشيرة - القبيلة - الدولة – الأمّة –المجتمع) .
واستطاع هؤلاء العلماء تحديد الأشكال الأسرية الرئيسة، في المجتمعات الإنسانية. ويعدّ ذلك خطوة هامة نحو الوصول إلى القوانين الاجتماعية، التي يترتّب عليها ذلك التنوّع الملحوظ في الأبنية الاجتماعية المختلفة، وما أطلق عليه اصطلاحاً : (الدراسات المورفولوجية ).
2-تحديد مظاهر التداخل والترابط بين النظم الاجتماعية :
تبدو أهميّة استخدام المنهج الكلّي / المتكامل في الدراسات الأنثروبولوجية، في تحقيق ذلك الهدف الذي يتمثّل في تحديد التأثير المتبادل بين النظم الاجتماعية، التي تدخل في نطاق البناء الاجتماعي الواحد. ويهتمّ العلماء اليوم، بهذا الهدف، إذ لا يوافقون على اقتصار الدراسة الأنثروبولوجية على الجانب الوصفي فحسب، وإنّما لا بدّ من التحليل للكشف عن الوظائف الاجتماعية للنظم الاجتماعية، عن طريق تحديد التأثير المتبادل فيما بينها.
وقد عرضت أمثلة كثيرة عن هذا الموضوع، حيث يطلق العالم / براون / على الدراسة التي ترمي إلى تحقيق ذلك الهدف اصطلاحاً : (الدراسة الفيزيولوجية) تمييزاً لها عن الدراسات الخاصة بالهدف السابق (الدراسات المورفولوجية ).
إنّ مشكلة حقيقة الأنظمة الاجتماعية، هي مشكلة فلسفية أكثر منها مشكلة عملية. والمهمّ في الأمر هو أنّ مركّب النماذج الاجتماعية التي تتكيّف بعضها مع بعض تكيّفاً متبادلاً _ وهو ما اصطلح على تسميته بالنظام الاجتماعي – يتطوّر ويعمل بارتباط مستمر مع سائر عناصر الثقافة، وأنّ النماذج يجب أن تتكيّف مع هذا النسق تماماً كما تتكيّف بعضها مع بعض. أمّا المجموع الكلّي للثقافة، فيجب أن يتكيّف بدوره أيضاً، مع البيئة الطبيعية للمجتمع، لأنّ الإنسان قد يطوّر وسائل كثيرة ومتنوّعة للسيطرة على البيئة واستغلالها، ولكنّه لا يستطيع أبداً أن يتحرّر من أثرها .
ولذلك، يمكن القول : إنّ كل نظام اجتماعي، هو جزء من وحدة متناسقة متكاملة، أوسع جدّاً في مداها من النظام نفسه، أمّا العناصر التي تتكوّن منها هذه الوحدة، فهي متشابكة ومتداخلة. ولا يمكن فهم النظام الاجتماعي، إلاّ إذا درس في ضوء علاقته بالوحدة المتناسقة الكبيرة، التي تضمّ عناصر أخرى تظلّ تفرض باستمرار حدوداً على نموّه وعمله. (لينتون، 1964، ص 348)
وبذلك يكون على الباحث – من وجهة النظر الوظيفية -أن يأخذ في الحسبان عاملين أساسيين يلعبان دوراً تبادلياً وفاعلاً في هذا النظام الاجتماعي أو ذاك، وهما: النموذج الذي يعرفه الأفراد ويؤثّر في سلوكاتهم من جهة، والثقافة التي ينشأ عليه هؤلاء الأفراد، والتي تعنى بتلبية الحاجات الكليّة للمجتمع من جهة أخرى، وذلك لأنّ الأنظمة الاجتماعية لا يمكن أن تؤدّي وظيفتها، إلاّ كجزء من المجموع الكلّي للثقافة .
3-تحديد عمليات التغيير الاجتماعي :
تهدف الدراسات الأنثروبولوجية الاجتماعية، إلى تحديد خصائص التغيير الاجتماعي وعملياته، والتي تحدث في الأبنية الاجتماعية، سواء ذات المعدّل السريع في التغيير أو المعدّل المتوسّط أو المعدّل البطيء .
وقد لا حظ / براون / أنّ الدراسات الخاصة بذلك الهدف، اهتمّت بدراسة أثر الحروب الاستعمارية على النظام القبائلي في أفريقيا وآسيا. ولكنّ التغيير الاجتماعي عملية معقّدة، متعدّدة الجوانب ومختلفة العوامل. ولذلك، فهي أعمق في دراستها من حيث الجمع بين عناصر حضارتين مختلفتين. فعملية التغيير أو التطوّر، تستلزم ظهور أشكال جديدة من الأنماط والأبنية الاجتماعية، كما تستلزم أيضاً، الانتقال من الأشكال البسيطة إلى الأشكال المركّبة. (وصفي، 1995، ص 174)
فلكلّ مجتمع طريقته الخاصة في الحياة، والتي يطلق عليها العلماء الأنثروبولوجيون مصطلح " الثقافة ". ويعتبر مفهوم الثقافة من أهمّ الأدوات التي يتعامل معها الباحث الأنثروبولوجي. وكما هي الحال في الأبحاث العلمية الأخرى، تنحصر الخطوة الأولى في جمع الحقائق عن الأنماط الثقافية المختلفة، ويتطلّب هذا من العالم الأثنولوجي، القيام بأبحاث ميدانية في أماكن نائية، وإلى العمل في أنوع مختلفة من المجتمعات. (لينتون، 1986، ص 25 )
وبما أنّ الكائنات البشرية تعيش في تجمّعات (مجتمعات) وتطوّر طرقها الخاصة في الحياة بما يتلاءم مع أوضاعها الخاصة والعامة، فإنّ للثقافة هنا دوراً كبيراً في عمليات التغيير الاجتماعي، الفكري والسلوكي .
ومن هنا يتعيّن على الدراسات الأنثروبولوجية أن تحدّد عمليات التغيير الاجتماعي، بطريقة الكشف عن الأنماط والأبنية الاجتماعية الجديدة، وكذلك تحديد كيفيّة تطوّر الظواهر الاجتماعية البسيطة، إلى ظواهر اجتماعية مركّبة.. وهذا يتطلّب الدراسات الميدانية المركّزة، والمعمّقة.
**
مصادر الفصل ومراجعه
- أبو زيد، حامد (2001) الطريق إلى المعرفة، كتاب العربي 46، مجلـة العربي، الكويت.
- بريتشارد، إدوارد (1975) الأنثربولوجيا الاجتماعية، ط 5، ترجمة : أحمد أبو زيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الاسكندرية .
- الجباوي، علي (1996 /1997) الأنثروبولوجيا – علم الإناسة، جامعة دمشق .
- لطفي، عبد الحميد، (1979) الأنثروبولوجيا الاجتماعية، دار المعارف بمصر، القاهرة.
- لينتون، رالف (1964) دراسة الإنسان، ترجمة : عبد الملك الناشف، المكتبة العصرية، بيروت.
- لينتون، رالف (1967) الأنثروبولوجيا وأزمة العالم الحديث، ترجمة : عبد الملك الناشف، المكتبة العصرية، بيروت.
- هرسكوفيتز، ميليفل. ج (1974) أسس الأنثروبولوجيا الاجتماعية، ترجمة : رباح النفاخ، وزارة الثقافة، دمشق .
- وصفي، عاطف (1977) الثقافة والشخصيّة، دار المعارف بمصر .
- Nigholson , C (1968) Anthropology Development and Personality , 2 nd Ed , New York, Harper .
***
الفصل السادس
المنهج الأنثروبولوجي والدراسات الميدانية
مقــدّمـة
أولاً- الأنثروبولوجيا بين النظرية والتطبيق
ثانياً- الباحث الأنثروبولوجي والميدان
ثالثاً- طرائق البحث الأنثروبولوجي الميداني وأدواته
مقــدّمـة
قد يكون من المفيد أن نبدأ بالسؤال التالي : هل يعدّ علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) علماً؟ والإجابة عن هذا السؤال تبدو إيجابية في ظاهرها، وسلبية في ضمنيتها. فثمّة ممثّلون للعلوم (الحقيقية) يرون أنّ هناك ثغرة (عائقاً) تحول دون عضوية علم الإنسان في زمرة العلوم، وتتمثّل في تخلّفه عن ذلك العالم المهيب المسمّى بـ(العلوم الإنسانية ).
إنّ الواجب الذي يقع على عاتق العلوم جميعها، يتمثّل في دراسة الثوابت والمتغيّرات التي تبثّ الحياة في مجالاتها ؛ فعلم الأحياء، يدرس أشكال الحياة ومكوّناتها في العالم. وعلم الاجتماع، يركّز على دراسة اللامتغيرات، وثمّة تنافس في هذا المجال بينه وبين علم الأعراق.
وعندما نبدأ بالفكرة القائلة بأنّ علم الإنسان، لـه مهمّة محدّدة عليه إنجازها، وأنّ هذه المهمّة حيوية، وأنّها قابلة للتبرير عملياً، وأنّه ليس في مستطاع أي مجال من العلوم الأخرى الاضطلاع بها، حتى وإن كان ذلك مؤقّتاً. وأنّ هذا القطاع أو ذاك من علم الأحياء، يعلن اكتشافه لطريقة تمكّنه من فعل كذا وكذا – يوماً ما - فإنّ ذلك يغيّر بشكل جذري الأسلوب الذي نرى به المشكلة .
ومن هذا المنطلق يتمّ تمييز النزعة العلمية لعلم الإنسان، فيما يتّصل بالعلاقة بين الغاية التي يضعها علم الإنسان ذاته، وبين الوسائل التي يكتسبها في طريقه لأداء مهامه. ولكي نقترب من جوهر المشكلة، لا بدّ من مقارنة النزعة العلمية المفترضة عند (علم الإنسان) بحقيقة علمية معلومة، وذلك بغية تحديد أوجه التوافق والاختلاف، أو بالأحرى أوجه النقص التي تمنع علم الإنسان من أن يتوافق مع نموذج (علمي ). وهذا ما سنحاول مناقشته في هذا الفصل.
أولاً- الأنثروبولوجيا بين النظرية والتطبيق
إذا كان علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) ليس علماً، ولا يشبه أبداً أي علم من العلوم الطبيعية (التطبيقية )، فإنّ النقاش في طبيعة هذا العلم سرعان ما ينتهي لأنّه لن يكون مجدياّ، وبالتالي لا يحقّ للأنثربولوجيا أن تدّعي بالمنهجية العلمية.
لكنّ الميدان هو مخبر عالم الأنثربولوجيا الثقافية - كما يقول / هرسكوفيتز /، حيث يذهب الأنثربولوجي لكي يقوم بعمله إلى موطن الشعب الذي اختاره موضوعاً للدراسة، فيستمع إلى أحاديثهم ويزور بيوتهم، ويحضر طقوسهم ويلاحظ سلوكهم العادي .. ويسألهم عن تقاليدهم، ويتآلف مع طريقة حياتهم حتى تصبح لديه فكرة شاملة عن ثقافتهم، أو يحلّل جانباً خاصاً من جوانبها. فعالم الأنثروبولوجيا، في عمله هذا، أثنوغرافي وجامع للمعلومات، يحلّلها ويربطها بمعلومات أخرى، عندما يرجع من الميدان .( هرسكوفيتز ،1974، ص 85) وفي ذلك جانب علمي تطبيقي.
فالأنثروبولوجيا في جانبها الميداني / التطبيقي إذن، تشكّل فرعاً من فروع الأثنولوجيا، حيث يدرس التطبيق العملي للمعلومات والأساليب الفنيّة الأنثروبولوجيا، على الشعوب التي تعيش حياة بدائية بسيطة، والتي يحتكّ بها الإنسان المتحضّر، سواء عن طريق الدراسة، أو عن طريق الاستعمار أو الاحتلال الخارجي . (كلوكهون، 1964، ص 360)
ولذلك، يلاحظ أنّ الدراسات الأنثروبولوجية الميدانية، نشطت بشكل واسع وازدهرت، في أعقاب الحرب العالمية الثانية حيث لجأت الدول المستعمِرة، ولا سيّما (أمريكا وبريطانيا وفرنسا) إلى تشجيع هذه الدراسات على الشعوب التي تستعمرها، بغية التوصّل إلى معارف دقيقة عن الأنظمة السياسية والاجتماعية السائدة عند هذه الشعوب، والتي تنعكس في أحوالها الشخصيّة والمعيشية، بما في ذلك من طقوس دينية وعادات وتقاليد، وأساليب تعاملية بين أفراد المجتمع .
وهذا كلّه يسهّل على الدول المستعمِرة إدارة الحكم في مجتمعات الشعوب المستعمَرة، واستغلال مواردها الاقتصادية ونهب خيراتها، بذريعة تنميتها وتطويرها.
وهكذا، برزت الأنثروبولوجيا الميدانية / التطبيقية، علماً يساعد في تحقيق أمرين أساسيين، في المجتمعات المدروسة :
1- حلّ المشكلات الناتجة عن الإدارة والحكم المحلّي، في المجتمعات البدائية والمحلية .
2- معالجة مشكلات التغيير الحضاري السريع في هذه المجتمعات، والمساعدة في التكيّف المناسب. (ناصر، 1985، ص 82 )
ولكي يحقّق عالم الأنثروبولوجيا النجاح لأهدافه وبحوثه ودراساته، فقد جرى التقليد أن يقوم بأبحاثه الميدانية لدى الشعوب (البدائية) التي تعيش خارج التيار التاريخي للثقافة الأورو- أمريكية، أو الثقافات الأخرى المتحضّرة التي تعرف الكتابة، وذلك بغية المقارنة وإيجاد أوجه التشابه والاختلاف في السياقات التاريخية التطوّرية للثقافات الإنسانية المختلفة.
ثانياً- الباحث الأنثربولوجي والميدان
يدرس عالم الأنثربولوجيا، الشعوب التي يعمل في ربوعها، لأنّه يستطيع أن يحصل منها على المعلومات التي تلقي الضوء على المشكلات الرئيسة، في طبيعة الثقافة وعملها، وفي سلوك الإنسان الاجتماعي. وبهذا النوع من التقاط المعلومات، نتمكن من دراسة بعض المشكلات العامة، مثل : أثر المناخ أو العرق أو الاستعدادات السيكولوجية الفطرية، أو غيرها من العوامل المؤثرّة في ثقافة الإنسان، وتنوعّ أشكالها وسياق تاريخها. (هرسكوفيتز، 1974، ص86)
وهذا يعني، ألاّ يغفل الباحث الأنثروبولوجي أحداث التاريخ التي تعتبر بالنسبة لـه مصدراً مهمّاً للتجارب التي يمكنه الإفادة منها في محاولته الكشف عن الحتمي اللاشعوري للظواهر. ونظراً لعدم إمكان التنبؤ في التاريخ، فإنّه يصبح من الضروري الاحتفاظ بسجلّ دقيق ومضبوط للأحداث التاريخية، وإلى حدّ بعيد. وإذا كان /ستروس / يشير في كتابه " الأنثروبولوجيا البنائية " إلى عبارة / ماركس / الشهيرة : " إن البشر هم الذين يصنعون تاريخهم، ولكنّهم لا يدركون هذه الحقيقة "، فإنّ هذه العبارة التي تبرز التاريخ، تبرز أيضاً الأنثروبولوجيا. (أبو زيد، 2001، ص 84 )
وقد أدّت الحاجة إلى تقصّي المعلومات في السنوات الأخيرة –أينما وجدت، إلى زيادة استخدام مناهج علم الأنثروبولوجيا الميدانية، في دراسة الشعوب، ليس البدائية فحسب، بل والشعوب المتعلّمة أيضا ً، وفي أماكن متعدّدة من العالم .
ولذلك، ينتهج الباحث الأنثروبولوجي منهجاً محدّداً في بحثه، ويستخدم مجموعة من الوسائل والأدوات للحصول على بياناته .. ويتبع مجموعة من الخطوات قبل القيام بالبحث وفي أثنائه، كما يواجه بعض الصعوبات والمشكلات، عليه أن يتعامل معها ببدائل مناسبة. فقدكان اهتمام الباحث الأنثروبولوجي الأوّل، منصبّاً على ملاحظة القوانين الرئيسة العامة التي تحكم المجتمعات الإنسانية، أو الكشف عنها، وواجهته مجموعة من الصعوبات، لكنّه لم ييأس من إنجاز بحثه كاملاً، ولا سيّما أنّ نموذج الثقافة الإنسانية ليس بسيطاً وليس سهلاً. (جابر، 1991، ص 17 )
إنّ من الميزات الأساسية للمنهج العلمي / الميداني، ذلك الارتباط الوثيق بين النموذج النظري والنموذج المنهجي، والمنطوي بالتالي على استخدام التقنيات الكميّة في الدراسات الأنثروبولوجية، والذي يشبه – إلى حدّ بعيد- ذلك الارتباط بين النظرية والمنهج في العلوم الجديدة، التي ما زالت موضع نقاشات حادة .
ولكنّ الأسس الهامة في الدراسات الأنثروبولوجية بميادينها المختلفة، تتمثّل في إقامة الباحث في مكان دراسته، يعايش الجماعة كما هي في الواقع، ويحصل على كلّ ما يريده من علاقات وقيم وعادات وأنماط حياة، تحدّد طبيعة هذا المجتمع وهويته الثقافية. ولذلك، فإنّ ثمّة مبادىء أساسية – كما يرى مالينوفسكي- لا بدّ أن يستند إليها الأنثروبولوجي في بحثه الميداني، وهي :
1- أن يكون الباحث الميداني ملمّاً إلماماً تامّاً بالمعلومات الأنثروبولوجية، وأن يكون لديه هدف علمي واضح لموضوع بحثه .
2- أن يعيش الباحث (الأنثروبولوجي) الميداني، في المجتمع الذي يدرسه، ويقطع اتصاله بالعالم الخارجي بصورة تامّة، ويحصر اهتمامه بالجماعة التي يدرسها .
3- أن يطبّق عدداً من الأساليب، في جمع المعلومات وتبويبها وتفسيرها.. أي أنّ عليه أن يستخدم طرائق عدّة مختلفة من طرائق البحث الميداني، لأنّ بعض الطرائق التي يمكن أن تصلح لدراسة ظاهرة أنثروبولوجية محدّدة، قد لا يصلح تطبيقها في دراسة ظاهرة أخرى. (ناصر، 1985، ص 83)
ولكن بما أنّ الأنثربولوجي عامل واحد فحسب، في الحالة الميدانية، فإنّ الطريقة المثلى ليست دائماً، هي الطريقة التي يحسن استخدامها، إذ يجب إن يأخذ الجماعة التي يدرسها في الحسبان، لأنّ تصوراتها وأحكامها المسبقة ومخاوفها، هي التي قد تهيمن على الميدان. وهذا الموقف العام الذي لا يلقى الاهتمام الكافي من الباحث الأنثروبولوجي، هو من صميم العنصر الإنساني الذي تجب دراسته بعناية فائقة .
وإذا كان الاعتقاد السائد لسنوات عديدة في مجال البحث الأنثروبولوجي الميداني، هو أنّ الأشخاص الراشدين هم وحدهم القادرون على إعطاء الباحث صور حقيقية عن الثقافة .. ، فإنّ هذا الاعتقاد لا يصحّ اليوم، لأنّ الثقافة هي ما تصنعه الثقافة، وتنوّع السلوك المقبول لدى الجماعة، يسمح بأن يتّخذ الرجال سلوكاً مغايراً لسلوك النساء. وأن يتّخذ سلوك الأحداث سلوكاً مغايراً لسلوك الراشدين .. ولذلك، فإنّ أفضل طريقة يتبعها العالم الأنثروبولوجي في البحث عن الثقافة، هي أن يتحدّث إلى الرجال والنساء، والأحداث والراشدين، وملاحظة أكبر عدد من الأفراد، وفي أكثر ما يمكن من الأوضاع. (هرسكوفيتز، 1974، ص 99)
وبما أنّ علم الأنثروبولوجيا، يتضمّن في بعض فروع دراسته، المنهج المقارن، كما في (الأثنولوجيا )، فإنّ التجريب هو شكل فرعي للمقارنة ، طالما أنّه يدلّ على نوع من الطرائق التي تهدف إلى التوصّل إلى مقارنات. وتسعى التجربة إلى إنشاء اتصال منتظم بين احتمالات عدّة، تكون مقارنة بعضها قبل التجربة، وبعضها الآخر بعد التجربة .. وباختصار، تتمّ مقارنة المواقف التي تحاول الطريقة تنفيذها بإتقان، إلاّ فيما يتّصل بمشكلة محدّدة على نطاق ضيّق .
وإذا كان علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) الوصفي، قد حقّق تقدّما كبيراً في بضعة عقود من نشأته، فإنّ ذلك لم يعد كافياً لدراسة ثقافة ما بمظاهرها وأبعادها وتأثيراتها النفسية والسلوكية، في الناس الذين يعيشون في ظلّ هذه الثقافة، ما لم تقترن هذه الدراسات الوصفية بالشواهد الواقعية، الحيّة .. وهذه من المهمّات الأساسية للباحث الأنثروبولوجي، لكي يقدّم نتائج علميّة ودقيقة عن المجتمع الذي يدرسه .
وبناء على ذلك، يعدّ التمسّك الشديد بالمنهجية، شرطاً أساسياً للأنثروبولوجي الذي يريد النجاح في أبحاثه الميدانية. وهناك ضرورة أساسية في البحث الأنثروبولوجي (الأثنوغرافي )، وهي التحلّي بالتجرّد العلمي الذي يتطلّب طرحاّ قاطعاّ لكلّ أحكام القيمة. إذ يجب على الباحث في الثقافة الإنسانية أن يلاحظ تقاليد الشعب الذي يدرسها ويصفها، شأنه في ذلك شأن العالِم الكيميائي الذي يكرّس نفسه، لفهم العناصر التي يحلّلها وفهم سلوك كلّ منها في علاقته مع العناصر الأخرى. (هرسكوفيتز، 1974، ص 87)
وباختصار، يجب على الأنثروبولوجي، بوصفه عالماً، أن يتحلّى بالتجرّد تجاه معطياته. وهذا ما يتّصف به الباحث العلمي عن الحقيقة .. ويجب في هذا المجال البحث أن يتأكّد الباحث : أنّ البحث عن الحقيقة يجب أن يسبق أي شيء آخر، وبالتالي فإنّ الإسهام في الدراسات الأنثروبولوجية، يجب أن يوجّه لحلّ المشكلات الأساسية في المجتمعات المدروسة .
وهذا كلّه يتطلّب من الباحث الأنثروبولوجي، أن يعدّ نفسه لطرائق الدراسة الميدانية، التي تؤهّله للخوض في هذا العلم الذي لم يعد بالإمكان تجاهله، في الدراسات الاجتماعية / الثقافية. وإن كانت الدراسات النظرية حول طرائق البحث الأنثروبولوجي الميداني، ما زالت قليلة قياساً بالاهتمام بالمشكلات التقنية للمنهج.
ثالثاً- طرائق البحث الأنثربولوجي الميداني وأدواته
إنّ أهمّ إسهامات الأنثروبولوجيا بوجه عام، والأنثروبولوجيا الثقافية بوجه خاص، يتمثّل في منهجها البحثي .. وبما أنّ أحد الشروط الأساسية في منهج البحث العلمي، هو أن يعرض العالِم بوضوح، الوسائل التي حصل بوساطتها على مجموعة من المعلومات، فإنّ من المهمّ أن يتلافى أسباب نقص هذه الوسائل في الدراسات الأنثروبولوجية.
فالصعوبة التي يواجهها الباحث الأنثربولوجي، تنشأ في وصف الطرائق التي يتّبعها في الدراسة الميدانية، عن الاختلاف بين المواد التي يدرسها، وبين العالم الذي يعمل في مختبر. فلم تكن لدى الباحث في الثقافة الإنسانية –سابقاً- سوى القليل من الأدوات التي يصفها، ولذلك فإنّ نجاحه يتوقّف – وإلى حدّ بعيد – على درجة تحسّسه بالحالات الإنسانية التي يجابهها، أكثر ممّا يتوقّف على مهارته في استعمال أنابيب الاختبار أو الموازين، أو الحاضنات. (هرسكوفيتز، 1974، ص 88)
ولكنّ العلاقات التي كوّنتها الأنثروبولوجيا مع العلوم الأخرى، الإنسانية والتطبيقية، أدخلت عنصراً حيوياً على النظريات والتقنيات الميدانية، التي أصبحت تؤدّي دوراً في الدراسات الأنثروبولوجية، ولا سيّما من حيث فرض المشكلات ووضع التساؤلات، التي أثمرت بفاعلية في المكتشفات الأنثروبولوجية.
وعندما ينظر المرء إلى تاريخ الأنثروبولوجيا، ولا سيّما سير حياة بعض رواده المرموقين، يجد أنّ المؤرّخين ومصنّفي هذا الفرع من العلوم، يذكرون بصفة عامة الفترات الزمنية المتعلّقة بمجال العمل، ومكانه ... ولكن حدثت في فترة الستينات من القرن العشرين، أن أثيرت فجأة مسألة " الأنثروبولوجيين في الحقل الميداني " ودخلت حيّز النقاش والجدل.
ومنذ ذلك الحين، أصبحت أشكال العلاقات والمشاركات المختلفة، بين الأنثروبولوجيين والناس الذين هم موضع الدراسة، تشكّل نقطة هامة لدى مراجع العلم الأنثروبولوجي، وتتعلّق بما يثيره عالم الأنثروبولوجيا من تساؤلات،باعتبارها وسائل وأدوات لا بد منها لتفسير تلك الألغاز الأنثروبولوجية .
فالدراسة الميدانية (الحقلية) تتطلّب ما هو أكثر من وجود الباحث ومراقبته السلبية لما هم عليه الناس. وذلك، لأنّ الباحث يحتاج – غالباً- في ملاحظته، إلى التحرّي عن أكثر ما يظهر في أوّل الملاحظة، والإطار المرجعي (النظري) يمدّه بمجموعة من التساؤلات والموضوعات، وعندما يشاهد واقعة ما، يحاول أن يكتشف العلاقة بينها وبين الإطار المرجعي كلّه. (غانم ورفيقاه، 1989، ص 228)
واستناداً إلى المنطلقات السابقة، فقد أقرّ علماء الأنثروبولوجيا بعض الطرائق الميدانية التي يمكن اعتبارها أيضاً أدوات عمل فاعلة في العمل الميداني، ومنها : طريقة الملاحظة المباشرة، وطريقة الاستمارة، وطريقة المشاركة وطريقة الحالة الفرضية.
وإذا كان كلّ مفهوم نظري لـه بدائل إجرائية Proceduresing Alternative، تستخدم للملاحظة والإجراء العلمي، فإنّ الفكرة ذاتها نجدها مطبّقة في الدراسة الأنثروبولوجية، حيث يستخدم الباحث أكثر من مقياس، وأكثر من طريقة للملاحظة، في دراسة النظم الثقافية / الاجتماعية.
Pretti, 1970, p 89 ))
وهكذا، تختلف وسائل كلّ طريقة وفائدتها عن الأخرى، باختلاف الوضع الذي يجد الباحث نفسه فيه، وباختلاف نمط الثقافة التي يدرسها، أو اختلاف المشكلة الخاصة التي يدرسها.
1- طريقة الملاحظة (المشاهدة) المباشرة Direct Observation:
هي أحد الأساليب التي يستخدمها الباحث المقيم، في دراسة الشعوب البدائية. ويقوم هذا الأسلوب على مراقبة أو معاينة أفراد الشعب الذي تجري عليه الدراسة، في أثناء تأدية أعمالهم اليوميّة المعتادة. وكذلك حضور المناسبات العامة التي يقيمها أبناء هذا الشعب، كالحفلات والاجتماعات (الدينية أو الشعبية) وحلقات الرقص، ومراسم دفن الموتى، وغيرها .. ورصد الحركات والتصرّفات، وتسجيل ما يجدر تسجيله من حوارات وأغان وتراتيل، وما إلى ذلك من التعبيرات التي يبديها الأفراد في هذه المناسبات. (كلوكهون، 1964، ص 28 )
وهذا يقتضي من الباحث الأنثروبولوجي أن يقيم فترة لا تقلّ عن (7-8) أشهر، في المجتمع المدروس، وتفهّم ما يدور فيه. فالباحث المحترف لا بدّ وأن يغرق نفسه في حياة الناس، وذلك لأنّ البحث لا يتمّ إلاّ بالإقامة الطويلة لشهور عديدة في المجتمع المحلّي. كما يجب أن يحسن الباحث لغة التخاطب بلغة الأهالي، حتى وإن كان السلوك الذي يشاهده غير لفظي. والإقامة في مجتمع البحث، تعني ملاحظة دقائق الحياة اليوميّة كما تجري بين الناس .. وهكذا يرى الباحث عناصر الحياة اليومية تتكرّر مرّات ومرّات أمامه، وتصبح من الأمور العادية بالنسبة له. (غانم ورفيقاه، 1989، ص 227 )
وتحتاج هذه الطريقة، إلى أن يكون الباحث ملمّاً بأهداف بحثه وبطبيعة المجموعة المدروسة. وأن يتمتّع بقدر كبير من الاهتمام والوعي، بأبعاد الظاهرة التي يقوم بدراستها، وكيفيّة رصد هذه الأبعاد بدقّة وموضوعية، حيث يتوقّف على ذلك صدق المعلومات، وفائدتها العلميّة .
2- طريقة المشاركة Participation :
وهي الطريقة التي يتبعها الباحث الأنثروبولوجي، أي أن يقوم بأعمال تقوم بها الجماعة المدروسة، وذلك تقرّباً منها وكسباًً لودّها، والدخول بالتالي إلى أدقّ التفاصيل في ممارسات أفراد هذه الجماعة، الخاصة والعامة. كأن يمارس الباحث بعض الطقوس الدينية أو الاجتماعية، أو يقوم ببعض الأعمال التي تعدّ من النشاط اليومي للجماعة، ولا سيّما الأعمال اليدوية، الفردية والجماعية .( كلوكهون، 1964، ص 28)
والمعلومات التي تأتي من الملاحظة بالمشاركة، مهمّة بالنسبة للوسائل الأخرى، حيث أنّ المعلومات الأوّلية الناتجة عن الملاحظة بالمشاركة، تمدّ الباحث باستبصارات لازمة لتصميم الاستمارات والاختبارات السيكولوجية، وغيرها من الوسائل البحثيّة الأخرى المتخصّصة. كما أنّ الملاحظة بالمشاركة مهمّة لاختيار المعلومات الحقلية اللازمة لتقييم الشواهد التي جمعت بالوسائل الأخرى. فالجدول الزمني للبحث الحقلي، يتضمّن التداخل بين الملاحظة بالمشاركة، والأساليب الأخرى لجمع المادة. (غانم ورفيقاه، 1989، ص228)
ومن خلال هذه المعايشة الحيّة للمجتمع المدروس، والمشاركة الفاعلة في مناشطه، يكتسب الباحث مهارة في أداء هذه الأعمال، وقدرة على كتابة تجربته الشخصيّة فيها وممارسته لها. وهذا ما يؤدّي في النهاية إلى تصوير واقع الشعب المدروس، بتفصيلات تتّسم بالشمولية والدقّة.
3-طريقة الاستمارة (الاستبانةQuestionnaire ) :
هي من أقدم الطرائق البحثية، وما زالت مستخدمة على نطاق واسع في كثير من الدراسات المسحية / الميدانية. وقد أخذت هذا الاسم من عنوان نشرة أصدرتها لجنة من المعهد الأنثروبولوجي الملكي، التابع لرابطة( تقدّم العلم البريطانية) عام 1875، ثمّ جرت عليها خمس تنقيحات، إلى أن ظهرت الطبعة السادسة منها عام 1951 .
قامت فكرة إعداد استمارة شاملة تغطي جوانب الثقافة المادية، وغير المادية، على ادّعاء الباحثين بأنّ ثقافات الشعوب البدائية جميعها، مهدّدة بالزوال، ولذلك، يجب الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات، طالما هذه الشعوب موجودة. وتؤدّي هذه الطريقة إذا استعملها ملاحظ غير مؤهّل للبحث الأنثروبولوجي، إلى جمع الكثير من الوقائع، ولكنّها تعطي القليل من المعلومات، سواء عن كيفيّة ارتباط هذه الوقائع كلّ منها في الكلّ الذي يؤلّف الثقافة، أو العنصر الإنساني في الحياة اليومية لدى شعب من الشعوب .
ولكنها – في المقابل – تساعد الأنثروبولوجي المختص، في التحقّق من النقاط التي يكون قد أهملها. وهذا ما دعا ناشري الطبعة السادسة إلى وصفها بأنّها " مذكرة يدوية للأنثروبولوجي المختص الذي يقوم ببحث ميداني". (هرسكوفيتز،1974، ص 102 )
وهذه الطريقة شبيهة بطرائق البحث في العلوم الاجتماعية. ففي الدراسات الأنثروبولوجية على المجتمعات المتقدّمة، يوزّع الباحث الاستمارة (الاستبانة) على الأفراد المدروسين، ويترك كلاًّ منهم يجيب عن الأسئلة بطريقته. غير أنّ أسلوب التنفيذ والتطبيق يختلف في دراسة الشعوب البسيطة (البدائية) التي لا تعرف الكتابة، حيث يقوم الباحث بطرح السؤال ويدوّن الجواب الذي يسمعه، وكذا الحال في الحوارات والمناقشات .
4- طريقة الحالة الفرضيّة Hypothesis Case :
تقوم هذه الطريقة على بناء افتراضات حول عناصر لظاهرة اجتماعية/ ثقافية، يسعى البحث إلى إثباتها والتحقّق منها، حيث لا تظهر جماعة ما هذه العناصر إلاّ في حوادث أو حالات معيّنة.
وبناء على ذلك، تسعى هذه الطريقة إلى " فصل حالات في حياة الناس تبعاً لأشخاص وعلاقات وحوادث فرضية تتّفق مع النماذج السائدة في ثقافة الجماعة، والتي يستخدمها الباحث لإدارة المناقشات وتوجيهها، مع أفراد الجماعة الموضوعة تحت الدراسة ." ولذلك، فعندما تكون الحوادث مصطبغة بمعنى غيبي سحري مشؤوم، مثل الولادة، أو عندما تتضمّن المسائل الاقتصادية وقائع، لا يريد الفرد أن يكشف عنها إذا كانت تعنيه أو تعني شخصاً آخر، يمكن أن تجري المناقشة بحرية إذا لم يكن الشخص المعني موجوداً .
إنّه لمن المدهش أن يتحوّل الحديث – في أغلب الأحيان - عن حالات وأشخاص فرضيين، إلى مناقشة حالات وأشخاص حقيقيين، ولا سيّما في حالة وصف الحوادث التي مرّت في تجربة المُخبِر نفسه، وتتبيّن قيم الثقافة وأهدافها، في آرائهم حول تقييم المعضلات الفرَضيّة، التي يطرحها أحد أفراد الجماعة . (هرسكوفيتز، 1974 ،ص 104 )
إنّ النظام في ميدان الأنثروبولوجيا عامة، وفي الميدان الثقافي منها خاصة، يحتفظ بقيمته في الدراسة طالما يقوم بوظيفته، في حياة أولئك الذين يستخدمونه بصورة مُرضيَة .. وهذا يقود إلى النقاط التالية : (هرسكوفيتز، 1974، ص282)
1- يعدّ التصنيف خطوة أولى هامة في دراسة المعلومات، ولكن لا ينبغي أن يؤخذ غاية بحدّ ذاته.
2- يجب أن يؤخذ في الحسبان عامل التنوّع عند تصنيف المعلومات، بحيث تتمتّع التصنيفات بمرونة لا تتمتّع بها التصنيفات المبنيّة على مفهوم (النموذج) .
3- إنّ تشكيل (اختراع) مجموعة زمر لظاهرة معقّدة، مبنية على معيار وحيد، يعدّ مبالغة في تبسيط المعلومات، تؤدّي إلى تشويه قيمة الأصناف التي تنشأ عنه .
4- إنّ بناء التصنيف على أحكام قيمة، إنّما هو استخدام معيار لا يصمد أمام اختبار التحليل العلمي، الذي يأخذ الوقائع جميعها في الحسبان .
5- وأخيراً، تعتبر هذه النقاط، الحدود التي يمكن الحصول – من خلالها- على تصنيف مقبول للظواهر الثقافية.
والخلاصة، إنّ الأنثروبولوجيا، علم منهجي والبحث الميداني من أهمّ مقومات نجاحه. وهذا يتطلّب من الباحث معرفة الطريقة التي عليه أن يستخدمها، واضعاً نصب عينيه أنّ المشكلة التي يدرسها، هي في الأساس مشكلة إنسانية. كما أنّ الواجب البحثي يقتضي أن يتمتّع الباحث، بدرجة عالية من الحساسية تجاه قيم الناس الذين يتعامل معهم، ومعرفة القوانين التي تحكم سلوكاتهم وأساليب التعامل معهم، وهذا ما يتيح لـه بناء علاقة وديّة معهم، وتسهّل بالتالي الحصول على ما يريده من معلومات .
**
مصادر الفصل ومراجعه
- أبو زيد، حامد (2001) الطريق إلى المعرفة، كتاب العربي 46، مجلّـة العربي، الكويت.
- غانم، عبد الله عبد الغني ورفيقاه (1989) المدخل إلى علم الإنسان ، المكتب الجامعي الحديث، الاسكندرية .
- كلوكهون، كلايد (1964) الإنسان في المرآة، ترجمة : سليم شاكر، بغداد .
- ناصر، ابراهيم (1985) الأنثروبولوجيا الثقافية – علم الإنسان الثقافي، عمّان .
- هرسكوفيتز، ميلفيل. ج (1974) أسس الأنثروبولوجيا الثقاقية، ترجمة : رباح النفاخ، وزارة الثقافة، دمشق .
- Pretti , Pelto (1970) Anthropology Research , London .
***
الباب الثالث
المنظور الأنثروبولوجي
للنظم الاجتماعية
الفصل الأوّل- البناء الاجتماعي ووظيفته
أولاً- مفهوم البناء الاجتماعي وخواصه
ثانياً- الوظيفة في الأنثروبولوجيا الاجتماعية
الفصل الثاني- الأنثروبولوجيا في المجتمع الحديث
الفصل الثالث- نحو أنثروبولوجيا عربية
الفصل الأوّل
البناء الاجتماعي ووظيفته
مقــدّمة
أولاً- مفهوم البناء الاجتماعي وخواصه
ثانياً- الوظيفة في الأنثروبولوجيا الاجتماعية
مقــدّمة
أصبح واضحاً أنّ الأنثروبولوجيا، تدرس الإنسان / الفرد وأعماله ضمن النوع البشري، وما طرأ عليه من تغيير أو تطوّر نحو الأفضل، سواء في عضويته أو في مظهره الخارجي، وذلك بتأثير الظروف الطبيعية والاجتماعية المحيطة به.. إضافة إلى دراسة الإنسان من طبيعته الاجتماعية بصفته عضواً في جماعة بشرية (مجتمع بشري )، حيث يشارك علم الأنثروبولوجيا العلوم الإنسانية الأخرى. وهذا ما أدىّ إلى ظهور ما سمّي بعلم (الأنثروبولوجيا الاجتماعية) .
أي أنّ الأنثروبولوجيا الاجتماعية، تدرس المجتمعات الصغيرة وشبه البدائية التي تشكّل نسيجاً اجتماعياً بسيطاً ومحدوداً، بفنونها واقتصادها، وحيث تسود الأميّة والأعمال اليدوية الأولية، وتتابع تطوّرها، وصولاً إلى دراسة المجتمعات الحديثة والمعقّدة في نسيجها الاجتماعي والثقافي والاقتصادي .
أولاً-مفهوم البناء الاجتماعي وخواصه :
يتكوّن البناء الاجتماعي من عناصر متشابكة، يتمّ التفاعل فيما بينها بشكل إيجابي (تبادلي وتكاملي ). ولذلك يرتبط البناء الاجتماعي بالأسس التي تعمل على تنظيم الحياة الاجتماعية والبيولوجية .
يعرّف / إيفانز بريتشارد / البناء الاجتماعي بأنّه : " نسق اجتماعي يتميّز بدرجة معيّنة من الثبات والاستقرار .. ويتألّف من جماعات وزمر، مثل : العشائر والقبائل والأمم، تقوم كلّ منها بتنظيم علاقات الأفراد الذين ينتمون إليها".
ووافق / براون / على تعريف / بريتشارد /، ولكنّه أضاف إليه بعض العناصر، كالعلاقات التي تجمع بين شخصين أو أكثر، مثال : (نظام القرابة – العلاقات الثنائية كعلاقة الأب بابنه والأخ بأخته) وكذلك عمليات التمييز بين الأفراد على أساس الدور الاجتماعي، كأدوار النساء أو الرجال أو الزعماء .
وقد ركّز / براون / على العلاقات الاجتماعية العامة التي تتكرّر فيها الأنماط الاجتماعية باستمرار، والتي يتكوّن منها البناء الاجتماعي. وربط ذلك كلّه بموضوع ثبات البناء الاجتماعي واستمراره، من خلال الاستقرار الديناميكي الذي يتغيّر بدرجات متفاوتة .
ويؤكّد / براون / : أنّ الحالات الفردية التي تتجسّد فيها تلك العلاقات الاجتماعية، ليست هي موضوع الدراسة العملية للبناء الاجتماعي، إنّما هو السلوك المتكرّر لعدد من الأفراد، والذي يمثّل نمطاً اجتماعياً معيّناً، وبالتالي يتكوّن البناء الاجتماعي من هذه الأنماط مجتمعة. (لطفي، 1979، ص87 )
أمّا قاموس العلوم الاجتماعية، فيطرح ثلاثة تعريفات للبناء الاجتماعي، كما يلي :
التعريف الأول : يحدّد البناء الاجتماعي بأنّه النموذج المستقرّ للتنظيم الداخلي لجماعة ما. أي أنّه يتضمّن مجموعة العلاقات الموجودة بين أفراد الجماعة، بعضهم مع بعض من جهة، والعلاقات الموجودة بين الجماعة وجماعة أخرى من جهة ثانية .
التعريف الثاني : يرتبط بخصائص الجماعات ونماذج الثقافات. ويتكوّن من أجزاء يعتمد بعضها على بعضها الآخر اعتماداً متبادلاً .
التعريف الثالث : يميّز بين نوعين من البناء الاجتماعي، حيث يقسم إلى :
- الزمر الاجتماعية : التي تنقسم بدورها إلى زميرات صغيرة، ومنها إلى وحدات أصغر منها. وتقسم تلك الزميرات (الوحدات) إلى أفراد أو أعضاء، يتميّز كلّ منهم عن الآخر بوظائف اجتماعية يعمل على تحقيقها. وبوضع اجتماعي معيّن يحتلّه بين الأفراد الآخرين .
- النموذج الثقافي : أي أنّ كل نموذج من النماذج الثقافية، يقسم إلى العناصر المكوّنة له، كالثقافة المرتبطة بالعادات الشعبية، أو النماذج الثقافية المرتبطة بالقيم والأعراف وأساليب التعامل المختلفة. (الأخرس ،1984، ص 39 )
واستناداً إلى ما تقدّم، يمكن القول : إنّ البناء الاجتماعي يتّسم بالخصائص التالية :
1/1- يتكوّن البناء الاجتماعي من أنماط العلاقات الاجتماعية، ولذلك، لا يمكن ملاحظته بشكل مباشر، إلاّ من خلال الصورة المحسوسة للعلاقات الاجتماعية بين الأفراد أو الجماعات، في مجتمع معيّن .
1 /2-البناء الاجتماعي، كلّ متكامل أو نسيج متشابك الأجزاء . وتعدّ دراسة أجزاء البناء الاجتماعي كلّها، من أهمّ خصائص الأنثروبولوجيا الاجتماعية، والتي تميزها من العلوم الاجتماعية الأخرى. وذلك بالكشف عن العلاقات المباشرة وغير المباشرة، التي توجد بين أي عنصر وأجزاء البناء الاجتماعي .
1/3-البناء الاجتماعي مستقرّ وثابت نسبيّاً، إذ إنّ من أهمّ شروطه، الحفاظ على تماسكه واستمراريته فترات طويلة من الزمن. ولكن هذا الاستمرار لا يقصد به الجمود، بل الاستمرار المتغيّر كما هي الحال في استمرار البناء العضوي للجسم الحي.
وإذا كان علماء الأنثروبولوجيا في الجيل الماضي، قد بهرهم التنوّع الغريب في الثقافات التي تعرّفوا إليها، فخامرهم الشكّ في إمكان التوصّل إلى تعميمات صحيحة بشأنها، فلا بدّ من الإقرار، في هذا المقام، أنّه يكاد يكون من المستحيل، صوغ تعميمات عن سلوك الجماعات البشرية، أي عن الظاهرات الاجتماعية والثقافية، دون أن تكون هناك بعض الاستثناءات الواضحة التي تشذّ عن القاعدة العامة. (لينتون، 1967، ص 38 )
ثانياً-الوظيفة في الأنثروبولوجيا الاجتماعية :
يرى عالم الاجتماع / إميل دوركهايم / أنّ فكرة تطبيق الوظيفة في دراسة المجتمعات الإنسانية، تقوم على المماثلة بين الحياة الاجتماعية والحياة العضوية، حيث يتعذّر أن نطرح أسئلة تتعلّق بالطبيعة أو بالأصل، قبل تحديد هويات الظاهرات وتحليلها، والكشف عن مدى كفاية العلاقات التي تربط فيما بينها، من أجل شرحها. (ستروس، 1983، ص 21 )
واستناداً إلى هذه الفكرة، ثمّة اتجاهان في تفسير نشأة الوظيفية في علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية :
الاتّجاه الأول : يرى أنّ هذه الوظيفيّة نشأت في ظلّ التكالب الأوروبي بعد الثورة الصناعية، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، على شعوب العالم ولا سيّما الضعيفة منها، من أجل تأمين الأسواق لتصريف منتجاته الصناعية الآخذة في النمو من جهة، وتأمين مواد الخام الأولية لتغذية صناعاته المختلفة من جهة أخرى .
فقد سخّر الاستعمار علم الأنثروبولوجيا في الأبحاث العلمية من أجل تهيئة المناخات الملائمة للمنفّذين الفعليين لأهدافه ، وبأقلّ الخسائر المادية والبشرية الممكنة. وذلك عن طريق دراسة المؤسّسات الاجتماعية القائمة في المجتمع الذي يراد استعماره واستغلاله، ومعرفة المكانة التي تحتلّها هذه المؤسّسات الاجتماعية في نفسيّة أفراد ذلك المجتمع، وبالتالي الوقوف على نقاط القوّة والضعف عند الشعب المراد إخضاعه .
أمّا الاتجاه الثاني : فيرى أنّ نشوء الوظيفية في علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية، كانت ردّة فعل تجاه الدراسات التي امتاز بها القرن التاسع عشر والتي لا تخلو من عيوب كثيرة، تتمثّل في :
1- الاعتماد على جمع المعلومات عن مجتمع ما، عن طريق المبشرين الدينيين أو هواة الرحلات، وأحياناً تجمع البيانات عن طريق الأصدقاء الذين يوجدون في المناطق المستعمرة أو المراد استعمارها.
2- تحليل الدراسات الأنثروبولوجية لظاهرة اجتماعية معيّنة، كالمعتقدات الروحية مثلاً، من دون ربطها بوشائج التأثير والتأثّر المتبادلين مع المظاهر الاجتماعية الأخرى، كنظام القرابة أو العادات والتقاليد .. وغيرها.(لطفي، 1979، ص 85)
وعلى الرغم من هذا التقارب الملحوظ بين علم الأنثروبولوجيا واجتماعية الثقافة (سوسيولوجية الثقافة )، فثمّة تمايز فيما بينهما ذو معايير ثلاثة، يتحدّد معياره الأوّل في طبيعة المجتمعات التي اهتمّت بها كلّ منهما. ففي حين اهتمّت الأنثروبولوجيا عملياً، بالمجتمعات الموصوفة بالبدائية، مع أنّ ثمّة مشاريع نظرية وبعض المحاولات الفرعية المتعلّقة بالمجتمعات الحديثة، فقد اهتمّ علم اجتماع الثقافة، بالظواهر الاجتماعية ذات التركيب الطبقي.
وكان من الطبيعي أن تنتج عن هذا التمايز، مشكلة التحويل المفهومي والمنهجي، من حقل إلى آخر .هذا التمايز الأساسي، يجعل من مفهوم الثقافة نفسه، نقطة اختلاف بين الاختصاصيين. فالثقافة لا تصبح مفهوماً عملياً في علم الاجتماع، إلاّ بعد تجريدها من الانسجامية التي أضفاها عليها الاستعمال الأنثروبولوجي.
ويشير التمايز (المعيار) الثاني، إلى أنّ هناك انتقالاً من مفهوم موسّع وشامل للثقافة (لولاه لم تظهر نظريات بأكملها، كالتطوّرية والانتشارية) إلى مفهوم تصنيفي حسب معطيات التركيب الاجتماعي الموجود. أمّا النوع الثالث من التمايز، فمصدره التباين المنهجي بين العلمين. (لبيب، 1987، ط3،
ص 18)
ويرى / براون / أنّ فكرة الوظيفة التي تطبّق على النظم الاجتمٍاعية، تستند إلى التماثل (المماثلة) بين الحياة الاجتماعية والحياة البيولوجية .. وبذلك تكون وظيفة أي نظام اجتماعي، هي ذلك الدور الذي يؤدّيه هذا النظام في البناء الاجتماعي المؤلّف من أفراد مرتبطين بعضهم مع بعض، في وحدة متماسكة من العلاقات الاجتماعية.
وهذا يعني أنّ لكلّ ظاهرة اجتماعية مهمّة محدّدة، تؤدّيها ضمن إطار البنية الاجتماعية لأي مجتمع ما، وشكل متناسق ومتكامل مع الظواهر الأخرى في هذا المجتمع. ومن دون الإطار الشامل للبنية الاجتماعية، لا يتحقّق الوجود الوظيفي لأية ظاهرة اجتماعية .( الجباوي، 1982، ص 104)
ويتحقّق استمرار هذا البناء، من خلال الحياة الاجتماعية ذاتها، لأنّ أي نظام اجتماعي يفقد طبيعته إذا ما نزع من النسق الاجتماعي الذي ينتمي إليه. فالنظام الاجتماعي لا يحقّق وجوده، إلاّ ضمن النسق الاجتماعي الشامل الذي ينبغي دراسته (ميدانيّاً) من أجل تحديد الوظائف التي يقوم بها .
وعلى هذا الأساس، تهتمّ المدرسة الوظيفية / الأنثروبولوجية، بواقع النظم الاجتماعية وحاضرها من دون العودة إلى ماضيها، وذلك لعدم وجود سجلاّت دقيقة تحدّد تاريخ هذه النظم، وتعطي تصوّراً واضحاً عن أبنيتها .
إلاّ أنّ بعض الأنثروبولوجيين خالفوا هذا الاتّجاه، ورأوا أنّ دراسة تاريخ النظم الاجتماعية، تساعد في فهم طبيعة أي مجتمع قديم وعناصر حضارته. ويتّفق أنصار المدرسة الوظيفية / الاجتماعية، على أنّ الأنثروبولوجيا الاجتماعية لا تستهدف الوصول إلى قوانين عامة مثل قوانين العلوم الطبيعية، لأنّ ذلك من الصعوبة بمكان، وإنّما يمكن الوصول إلى نوع من التصنيفات أو النماذج والأنماط العامة .. ولذلك، تصنّف الأنثروبولوجيا الاجتماعية كفرع من العلوم الاجتماعية / الإنسانية، لأنّ تعميماتها لم تصل بعد إلى مستوى الدقّة كما هي الحال في العلوم الطبيعية .
ومهما يكن الأمر، فإنّ لهذا العلم أهميته في دراسة تكوين المجتمعات البشرية وطبيعتها، كما أنّ لهذا العلم دوره في تحديد العلاقات الاجتماعية التي تربط الإنسان، باعتباره حيواناً اجتماعياً بطبعه، بأفراد الجماعة التي ينتظم فيها ويتفاعل معها .
**
مصادر الفصل ومراجعه
- الأخرس، صفوح (1984) الأنثروبولوجيا الاجتماعية، دمشق .
- الجباوي، علي (1982) الأنثروبولوجيا الاجتماعية، جامعة دمشق .
- ستروس، كلود ليفي (1983) الأنثروبولوجيا البنيوية، ترجمة : صالح مصطفى، دمشق.
- لبيب، الطاهر (1987) سوسيولوجيا الثقافة، دار الحوار، اللاذقية .
- لطفي، عبد الحميد (1979) الأنثروبولوجيا الاجتماعية، دار المعارف بمصر.
- لينتون، رالف (1967) الأنثروبولوجيا وأزمة العالم الحديث، ترجمة : عبد الملك الناشف، المكتبة العصرية، بيروت .
***
الفصل الثاني
الأنثروبولوجيا في المجتمع الحديث
مقــدّمة
أولاً- نظرية الاتّصال الثقافي
ثانياً- النظرية التطوّرية الجديدة
1-الاتجاه التغييري (الموجّه )
2-الاتّجاه التثقيفي
ثالثاً- النظرية الماركسية
رابعاً- النظرية المعرفية
1-المدرسة البنائية
2-المدرسة الأثنولوجية الجديدة
مقــدّمة
انتقل الفكر الأنثروبولوجي مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، في الدراسات الثقافية / الاجتماعية، من البحوث التاريخية والتطوّرية، إلى البحوث الميدانية، حيث تتمّ دراسة الثقافة كما هي في واقعها الراهن أثناء فترة الدراسة.
يقول / بريتشارد / إنّ أحب موضوعين للبحث كانا : موضوع العائلة وموضع الدين، وعلماء القرن التاسع عشر، لم يملّوا أبداً من الكتابة في هذين الموضوعين، وقد وصلوا فيهما إلى نتائج كانت محلّ نقاش بينهم لفترة طويلة. ولكن على الرغم من اختلاف هؤلاء العلماء اختلافاً شديداً، على ما يمكن استخلاصه من وقائع وبينات كانت تحت أيديهم، فقد كانوا يتّفقون على الأهداف التي يرمون إليها، وهي إثبات التطوّر. (وصفي، 1981، ص 29 )
فقد كانت المشكلات التي درسها علماء الأنثروبولوجيا، حتى وقت قريب، بعيدة عن مجالات الحياة اليومية، وكان من الصعب التوفيق بين المشكلات النظرية حول تطوّر الثقافة أو الانتشار الثقافي أو وصف الطرائق الثقافية، وبين مشكلات الصراع والتلاؤم التي كانت تجذب الانتباه، سواء داخل الثقافات الآخذة بالنمو، أو في مناطق الاحتكاك بين الثقافات .
فرغبة علماء الأنثروبولوجيا في دراسة أنماط حياة ،( غير مصابة بالعدوى) وما ينجم عنها من نسيان مظاهر التغيير الثقافي، كانت تضفي على أعمالهم صفة تختلف عن صفة الأبحاث المخبرية في العلوم الصحيحة والعلوم الطبيعيّة .( هرسكوفيتز، 1974، ص 305)
ولذلك انتقلت الأنثروبولوجيا إلى موضوع جديد يتعلّق بما يسمّى ب (الدراسة المتزامنة لمكوّنات الثقافة وعناصرها الأساسيّة والعلاقات المتبادلة فيما بينها ). وبرزت نتيجة ذلك النظريتان التاليتان في دراسة الثقافة الإنسانية: نظرية الاتّصال الثقافي، والنظرية التطوّرية الجديدة .
أولاً-نظرية الاتصال الثقافي (التثاقف والمثاقفة) :
احتلّت مسألة تعريف كلمة التثاقف (المثاقفة )، وتحديد نطاق العمل الذي تنطبق عليه، مكان الصدارة منذ عام 1935، حيث قدّمت لجنة " مجلس البحث الاجتماعي" تعريفاً لها كجزء من مذكرة أعدتها لتكون دليلاً في البحث عن التثاقف. وينصّ التعريف على أنّ : " التثاقف يشمل الظواهر التي تنجم عن الاحتكاك المباشر والمستمرّ، بين جماعتين من الأفراد مختلفتين في الثقافة، مع ما تجرّه هذه الظواهر من تغيّرات في نماذج الثقافة الأصلية، لدى إحدى المجموعتين أو كلتيهما ". (هرسكوفيتز، 1974، ص 221)
وهذا التعريف يعني أنّ التثاقف (المثاقفة) هو تأثّر الثقافات بعضها ببعض، نتيجة الاتّصال بين الشعوب والمجتمعات، مهما كانت طبيعة هذا الاتّصال وأهدافه، وإن كانت معظم دراسات الاتصال الثقافي ركّزت بالدرجة الأولى، على نوع معيّن من عمليات التغيير، وهو التغيير الاجتماعي أو تغيير الحياة الاجتماعية، وانعكاس ذلك التغيير على الثقافة .
وثمةّ مفهوم آخر مرادف لكلمة (المثاقفة) وهو (المناقلة الثقافية Transculturation) الذي ظهر للمرّة الأولى في عام 1940. ويعلّل الباحث الكوبي / أورتيزOrtiz / استعمال هذا المفهوم بقوله : " إنّني أؤيّد الرأي بأن كلمة المناقلة الثقافية، تعبّر بشكل أفضل من مراحل سياق الانتقال المختلفة، من ثقافة إلى ثقافة أخرى. لأنّ هذا السياق لا يشتمل فقط على اكتساب ثقافة أخرى، بل يتضمّن أيضاً بالضرورة، فقدان مقدار ما من ثقافة سابقة، أي الانتزاع منها. وهو ما يمكن تعريفه :( بالتجريد الثقافي Deculturation) أضف إلى ذلك، أنّه يقود بالتالي إلى فكرة ظاهرة نشأة ثقافة جديدة، وهو ما يمكن تسميته " التثقيف الجديد " .( هرسكوفيتز، ص227)
وأيّا كان المفهوم (المثاقفة أو الانتقال الثقافي )، فقد مهّد لدراسة الأنثروبولوجيا وفق هذا الاتّجاه عدد من الباحثين في أمريكا وأوروبا، أسهموا إلى حدّ بعيد في وضع أسس الأنثروبولوجيا الحديثة .
1- في أمريكا : تعدّ الباحثة الأمريكية / ماغريت ميد / الرائدة الأولى في تبنّي الاتجاه التواصلي (التثاقفي) في دراسة التغيير الاجتماعي / الثقافي. فقد أجرت / ميد/ في أوائل الثلاثينات من القرن العشرين دراسة على مجتمع من الهنود الحمر في أمريكا، ومدى تأثّره بالمستعمرين البيض، من خلال احتكاكه بهم، ولاحظت الاضطرابات التي حصلت في الحياة الاجتماعية التقليدية عند الهنود الحمر نتيجة لذلك. فقد كان مجتمع الهنود الحمر في فترة الدراسة، يعيش حالة من الصراع الشديد، بين الأخذ بالثقافة الجديدة الوافدة، وبن الثقافة القديمة التي اعتاد عليها، ولا سيّما أنّه لم يكن قد تكيّف بعد مع الأوضاع الجديدة.
وفي المقابل، وجدت / ميد / أيضاً، أنّ المستعمرين البيض لم يهدفوا إلى التبادل (التفاعل) بين الثقافتين، وإنّما أرادوا للهنود الحمر أن يندمجوا في ثقافتهم بصورة كاملة. وعلى الرغم من موقف البيض هذا، فلم يسمحوا للهنود الحمر أن يشاركوا في أنشطتهم، أو أن يتعاملوا وإياهم على قدم المساواة .
(Freidle, 1977, p.491)
وقد تمّ اللجوء إلى الطرق المقرّرة التي استطاع علماء الأنثروبولوجيا بوساطتها، النفاذ إلى العناصر الثقافية الكامنة تحت الأشكال الثقافية، لكي تزوّدهم بأساس لتقريب السياسة التي ستضع إدارة شؤون الهنود في أيدي الهنود أنفسهم. وعهد للمكتب الخاص بالهنود، إلى علماء الأنثروبولوجيا المحترفين الذين قاموا بتغطية الدراسات الاقتصادية والسياسية، التي يهتمّ بها الحاكم بالدرجة الأولى، وميادين الدين والفن والقيم، وبنيان الشخصيّة ونظم التربية، وأنماط الضبط الاجتماعي الأخرى. (هرسكوفيتز، 1974، ص 307)
وبهذا، لم يعد تطبيق مكتشفات علم الأنثروبولوجيا في أمريكا، مقتصراً على استخدام المفهومات والأساليب ووجهات النظر الأنثروبولوجية، في معالجة المشكلة الهندية فحسب، بل امتّدت طرائق دراسة القضايا العملية لتشمل مشكلات الجماعات المتمدّنة أيضاً، والتي أصبحت تمثّل غالبية سكان أمريكا .
2-في أوروبا : ففي إنكلترا، ركّز معظم الباحثين جلّ اهتماماتهم على دراسة عمليات التواصل الثقافي (التثاقف) عند الشعوب الأفريقية، وما أحدثه من تغيير ثقافي. وفي هذا الإطار، دعمت دراسات / هرسكو فيتز/ فكرة النسبية الثقافية، حيث تساءل : كيف يمكن أن نطلق أحكاماً تقييميّة على الثقافة البدائية، تلك الثقافة التي لا تعرف الكتابة؟ وأنّ كل فرد ينتمي إلى هذه الثقافة، يفسّر الحياة الإنسانية في حدود ثقافته الخاصة؟
ولذلك، فمن الخطأ أن تسعى الثقافة الغربية (الأمريكية أو الأوروبية) لإطلاق أحكام مسبقة على الثقافات الأخرى، وتتّخذ من هذه الأحكام مبرّراً أساسيّاً للممارسات الاستعمارية، على أهل تلك الثقافات. (فهيم، 1986، ص 149)
وكذلك الحال في فرنسا، حيث اتّخذ العديد من الباحثين الفرنسيين مواقف مشابهة لموقف / هرسكوفتز / في دعم تبنّي مفهوم النسبية الثقافية ومناهضة النزعة الاستعمارية، التي تنظر إلى التثاقف على أنّه عملية تقوم على أساس من السيطرة، ورفضوا بالتالي الفوارق التثاقفية والاستعلاء الغربي على الشعوب الأخرى .
وفي هذا الاتّجاه الفرنسي التحرّري، كتب / جيرار لكلرك / : إنّ الاستعمار قد أتاح للأنثروبولوجيا شروط عمل وتسهيلات لم تتح للباحثين من قبل، وبذلك أسهم التقدّم الحاصل في العلوم الإنسانية في نشر فكرة تجدّد العلوم الإنسانية الفرنسية. فالإنسانية لم تعد مميّزة بتبعيتها للزمان، بل بتنوّعها المكاني على مرّ الزمن، وبتعدد المدنيات التي لا يحقّ لواحدة منها أن تكون الوحيدة أو الفريدة. ولذلك، يجب أن نتناول حالة الثقافة النسبية، تلك المدرسة التي تعتبر نفسها بالأساس، محصّلة طبيعيّة لنتائج علم الأنثروبولوجيا .( فهيم، 1986،
ص 157)
وإذا كان مفهوم النسبية الثقافية عكس اتجاهاً أيديولوجياً خاصاً، وارتبط بمرحلة تاريخية معيّنة، فإن الظروف التي رافقته، تغيّرت بعد الحرب العالمية الثانية، حيث بدأت الشعوب في المجتمعات المستعمَرة تنال استقلالها وتقرّر مصيرها بنفسها، ولم تعد بحاجة إلى دفاع الأنثروبولوجيين للدفاع عنها وإثبات وجودها في إطار النسبية الثقافية.
ولذلك، كان من الضروري إيجاد فكر انثروبولوجي جديد ينسجم مع هذه المستجدّات الاجتماعية والسياسية والثقافية. فكان أن تخلّى عدد من الأنثروبولوجيين عن النسبية الثقافية، واتّجهوا مرّة أخرى إلى إحياء الفكرة التطوّرية، تحت اسم (النظرية التطوّرية الجديدة) .
ثانياً-النظرية التطوّرية الجديدة :
ظهر في نهاية النصف الأول وبداية النصف الثاني من القرن العشرين، عدد من الأنثروبولوجيين الذين بدأوا يضعون نظرية خاصة لدراسة المجتمعات الإنسانية ومراحل تطوّرها، وموقع التغيير الثقافي في ذلك. وكان من أبرز هؤلاء، عالم الآثار الإنكليزي (جوردن تشايلد )، والأميريكيان : (جوليان ستيوارد) و (ليزلي هوايت) الذي دعا إلى عدم استخدام النظم الأوروبية كأساس لقياس التطوّر، وضرورة إيجاد محكّات أخرى يمكن قياسها وتقليل الأحكام التقديرية بشأنها .
فقد أكّد / هوايت / في كتابه " علم الثقافة " المنشور عام 1949، أنّ من المهمّ ألاّ تقتصر النظرية التطوريّة على تحديد مراحل معيّنة لتسلسل النمو الثقافي، وإنّما لا بدّ من إبراز العامل أو العوامل التي تحدّد هذا التطوّر. ويمثّل عامل " الطاقة " في رأيه، المحك الرئيس لتقدّم الشعوب. أي أنّ المضمون التكنولوجي في ثقافة ما، يحدّد كيانها الاجتماعي واتّجاهاتها الأيديولوجية. (فهيم، 1986، ص203)
وقد انقسم هذا الاتّجاه الثقافي التطوّري، إلى ثلاث مدارس تنادي كلّ منها بمجموعة من القضايا العامة : (وصفي، 1971، ص 455)
المدرسة الأولى : تأخذ بالمسلّمة القائلة بأن التاريخ إنّما يتجه في تتابع وحيد حين تتطوّر النظم والعقائد، استناداً إلى مبدأ الوحدة السيكولوجية لبني البشر. ومن هنا تتطوّر الثقافة في العالم الإنساني، حيث تتشابه الظروف العقلية والتاريخيّة .
المدرسة الثانية : تأخذ بالمنهج المقارن حين تعالج هذا التتابع التطوّري للنظم والمعتقدات الإنسانية، بعقد المقارنات المنهجيّة المنظّمة بين الشعوب والثقافات، في سائر المراحل المبكرة لأطوار الثقافة، بحثاً عن المصادر الأثنولوجية للسمات الثقافية.
المدرسة الثالثة : تأخذ بفكرة البقايا أو المخلّفات والرواسب الثقافية، على اعتبار أنّ هذه البقايا القائمة في المجتمع، إنّما هي شواهد من الناحية المنطقيّة، وأنّ المجتمع قد مرّ في مراحل أقلّ تطوّراً ومراحل أكثر تركيباً وتطوّراً.
وقد مهّدت أفكار التطوّرية الجديدة، إلى نشوء تخصّص أثنولوجي جديد يبحث في العلاقات المتبادلة بين البيئة الطبيعية والثقافة، وعرف فيما بعد باسم الأيكولوجيا الثقافية ((Cultural Ecology-. والتي تستند إلى النظرية البيئية التي يعود تاريخها إلى / هيبوقراط / اليوناني، ومن ثمّ إلى / مونتسيكو / الذي وضع أسس هذه النظرية (المدرسة) والتي يتبعها بعض علماء الأنثروبولوجيا في العصر الحديث. وتتلخّص آراء هذه المدرسة، بأنّ العوامل الطبيعيّة للمنطقة، ولا سيّما الظروف المناخيّة، قد كوّنت المظهر الخارجي للأفراد، وعيّنت طراز حياتهم. وقضت على كلّ فرد لا يملك الصفات التي تتّفق وتلك البيئة (حمدان ،1989، ص 101 )
ويعتمد الأيكولوجيون الثقافيون في تفسير التباين بين ثقافات الشعوب المختلفة، على ظاهرة التنوّع البيئي كما يهتمّون بالكشف عن كيفيّة تأثير الثقافة مع ما يحدث في البيئة من تغيرات جذرية، على تكيّف الفرد وتفاعله الاجتماعي. (Freidle, 1977, p307)
وتتلخّص وجهة نظرهم هذه، في جملة (التأثير القوي / الطاغي للبيئة) وأنّ أثر البيئة كبير على الثقافة في مجالات كثيرة. ويستشهدون على ذلك، بسكان الأسكيمو، وسكان أوستراليا الأصليين، وتأثّر ثقافة كلّ من هذه الشعوب بالبيئة المحيطة. ولكنّ ثمّة معارضون في العصر الحديث لهذه النظرية، لأنّهم يرون أنّ كثيراً من البيئات المتشابهة، تضمّ ثقافات وحضارات مختلفة. (حمدان،
ص 101 )
وهكذا بدأت الأنثروبولوجيا تأخذ مساراً جديداً لتأكيد النسبية الثقافية والاتّجاه العلمي / الموضوعي في الدراسات الأثنولوجية، حيث بذلت محاولات جادة للنظر إلى الثقافة من خلال مفهومات أفراد المجتمع وتصوّراتهم، وليس من منطلق الباحث الأثنولوجي ونظرته الخاصة .
وكان من نتيجة ذلك، ظهور أربعة اتّجاهات في الدراسة الأثنولوجية، استمرّت حتى نهاية السبعينات من القرن العشرين، استطاع الأنثروبولوجيون بعدها أن يوحّدوا اهتماماتهم ويوجّهوا دراساتهم الاجتماعية / الثقافية، من أجل تحرّر الإنسان وتقدّمه .
وفيما يلي عرض موجز لهذه الاتّجاهات الأربعة :
1- الاتّجاه التغييري الموجّه :
بعد تلاشي الاستعمار وحصول معظم المجتمعات المستعمرَة على استقلالها، قلّ اهتمام الأنثروبولوجيين بدراسة عملية المثاقفة، واتّجهوا إلى دراسة طبيعة التغيّرات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن استخدام التكنولوجية الغربية الحديثة إلى المجتمعات التي خضعت للاستعمار، بقصد تنميتها وتطويرها. وشجّعتهم على ذلك، الحكومات الغربية المنتجة لهذه التكنولوجية، والهادفة من ورائها إلى تحقيق تغيّرات أيديولوجية معيّنة / سياسية وثقافية واجتماعية /.
لقد أعطت الظروف السياسية الجديدة ، دفعة كبيرة لدراسة حركية التغييرات الناجمة عن عمليات نقل التكنولوجية الحديثة إلى الثقافات التقليدية في المجتمعات المتخلّفة. وقدّ قدّم العالم الأنثروبولوجي الأمريكي / جورج فوستر/ في كتابه " الثقافات التقليدية والتغيير التكنولوجي – عام 1963" تحليلاً للعوامل التي تساعد في قبول التغيير، والعوامل التي تحبطه، وركّز في مناقشة هذه العوامل على المضمونات الاقتصادية والثقافية والنفسيّة .( فهيم، 1986، ص 207)
إلاّ أنّ الأهداف التي كانت وراء نقل التكنولوجية إلى المجتمعات التقليدية تحت مصطلح " التنمية"، أثارت الكثير من القضايا الأخلاقية، ولا سيّما تلك الأضرار التي قد تصيب الإنسان وبيئته، وذلك بسبب عدم حاجة المجتمعات النامية إلى هذه التكنولوجية، أو عدم مناسبة استخدامها في تلك المجتمعات. وعلى الرغم من ذلك، فقد كان لهذا الاتّجاه أثر كبير وواضح في الأنثروبولوجيا التطبيقية .
2- الاتّجاه التطبيقي :
أدّى تنامي الاتجاهات التحرّرية في الفكر الأنثروبولوجي، في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، إلى تراجع توظيف الأثنولوجيا لخدمة الأهداف السياسية، أيّاً كانت طبيعة دراساتها وأنواعها. ونشأ بدلاّ من ذلك تخصّص جديد يعرف بـ " الأنثروبولوجيا التنموية " حيث يقوم الباحثون الأنثروبولوجيون بتقديم خبراتهم المعرفية / النظرية والميدانية / التطبيقية، في خدمة المشروعات الاقتصادية والاجتماعية. أي أنّ نتائج الدراسات الأنثروبولوجية التطبيقية، أصبحت توظّف لخدمة الدول النامية في عمليات التغيير التنموي المخطّط.
واستناداً إلى ذلك، أصبحت مسألة استخدام المعرفة الأنثربولوجية (إيجاباً أو سلباً) من القضايا الهامة التي أثارت اهتمام الباحثين والمسؤولين على حدّ سواء. وهذا ما دفع الجمعية الأنثربولوجية الأمريكية إلى تشكيل لجنة في عام 1968، لبحث المسؤوليات الأخلاقية التي يجب أن يتحمّلها الباحثون الأنثروبولوجيون، تجاه المجتمعات التي يقومون بدراستها، ولا سيّما تلك المصلحة التي تستخدم نتائج البحوث الأنثروبولوجية من أجلها.
وانتهى ذلك إلى إصدار بيان " وثيقة الأخلاقيات الأنثروبولوجية " عام 1973، حدّدت بموجبها علاقة الأنثروبولوجيين بالأفراد (الجماعات) المدروسين من جهة، ومسؤولياتهم تجاه الدول في المجتمعات المضيفة من جهة أخرى .وهذا كلّه يدخل في مسؤوليات الباحث الأنثروبولوجي، ولا سيّما الأمانة المهنية والأخلاقية، وحماية الأفراد الذين يتعامل معهم. وكان من نتيجة ذلك، ظهور ثلاثة اتّجاهات فرعية بشأن إجراء الدراسات الأنثروبولوجية واستخداماتها .
الاتجاه الأول : ذو نزعة تقليدية، يرى أنّ القيم العامة والسياسة، لا علاقة لهما بالعلوم الاجتماعية، وما على الباحث الأنثروبولوجي إلاّ تقديم الحقائق التي يحصل عليها كما هي ومن دون الاهتمام بنتائجها، على اعتبار أنّ العلم منفصل عن القيم الأخلاقية .
وهنا يقترح / جورج غيرفيتش/ تعريفاً لاجتماعية المعرفة يشمل موضوع هذا الاختصاص مع اعتبارات منهجية أساسية. وإذا اقتصرنا على الحدّ الأدنى منه، كانت اجتماعية المعرفة (سوسيولوجيا المعرفة) هي أولاً دراسة الترابطات الوظيفية التي يمكن إيجادها بين جانبين :
أولها : أنواع المعرفة المختلفة، ودرجة تبلور الأشكال المختلفة داخل هذه الأنواع من المعرفة وأنظمتها المختلفة، أي (تراتب هذه الأنواع) .
وثانيهما : الأطر الاجتماعية، بما فيها المجتمعات الشاملة، والطبقات الاجتماعية، والمجموعات الخاصة، والتعبيرات المجتمعية المختلفة (العناصر الميكرو اجتماعية ).
وهذا المشروع لا يتمّ إلاّ بدراسة مدقّقة لجوانب أخرى، تتلخّص في :
1- العلاقة بين تراتب أنواع المعرفة، وتراتب المستحدثات الأخرى للحضارة.
2- دور المعرفة وممثّليها، والأنماط المختلفة للتعبير والتواصل، ونشر المعرفة .
3- مظاهر الاقتراب والابتعاد بين أنواع المعرفة المختلفة، وذلك بحسب ارتباطاتها بأطر اجتماعية معيّنة .
4- الحالات الخاصة من التباعد بين الأطر الاجتماعية والمعرفة .( لبيب، 1987، ط3، ص21-22)
ويتضمّن عمل / غيرفيتش / هذا محاولتين أساسيتين ؛ تصنيف أنواع المعرفة وأشكالها من جهة، وتحديد العلاقة بين المعرفة والأطر الاجتماعية من جهة أخرى.
الاتجاه الثاني : ركّز على فكرة مبدأ النسبية الثقافية الذي يتناول في جوهره، مشكلة طبيعية ودور القيم في الثقافة. ويمثّل معالجة علمية استقرائية لمشكلة فلسفية قديمة، مستخدماً معطيات حديثة عن شعوب عديدة، لم تكن من قبل في متناول الباحثين، وهي مستمدّة من دراسة أنظمة القيم في مجتمعات ذات تقاليد وعادات وأعراف مختلفة .
ويعبّر عن مبدأ النسبية الثقافية باختصار : على أنّ الأحكام فيها تبنى على التجربة، ويفسّر كلّ فرد التجربة حسب ثقافته الخاصة. فثمّة أمثلة توضح لنا تأثير المفاهيم لدى شعب ما، على نظرة هذا الشعب إلى العالم الطبيعي .. فالهنود في الجنوب الغربي من الولايات المتّحدة الأمريكية، يقولون بوجود ستة اتّجاهات رئيسية بدلاً من أربعة، فهم يضيفون (الأعلى والأسفل) إلى الشمال والجنوب والشرق والغرب، وذلك انطلاقاً من وجهة النظر القائلة بأنّ الكون ذو ثلاثة أبعاد. وهم في ذلك واقعيون تماماً.
وإنّ من يقول بوجود قيم ثابتة، سيرى أنّ لدى بعض المجتمعات أنظمة تجعله يؤمن بضرورة إعادة التحقّق من صحّة نظريته. فهل ثمّة قيم أخلاقية ثابتة؟ أم أنّ القيم الأخلاقية تكون ثابتة طالما اتّفقت مع اتجاهات شعب ما، في فترة زمنية معيّنة من تاريخه؟ والإجابة عن هكذا أسئلة، تؤلّف إحدى إسهامات علم الأثروبولوجيا الكبرى في تحديد مكان الإنسان في العالم وتحليل مقوّماته. (هرسكوفيتز، 1974، ص65-66)
وهذا يتطلّب عدم التدخّل في شؤون الآخرين، وضرورة وضع قواعد أخلاقية تضبط استخدام النتائج التي تتوصّل إليها الدراسات الأثنولوجية. إلاّ أنّ بعض الأنثروبولوجيين يرى أنّه من الصعوبة أن يكون الباحث محايداً تماماً تجاه ما يجري أمامه أو حوله. ولذلك ، فإنّ مسؤولية الباحث الأنثروبولوجي، توجب أن يطلع الأفراد الذين يتعامل معهم على نتائج بحثه، واختيار أفضل السبل لتغيير واقعهم، وبما يتناسب مع إمكاناتهم المادية والبشرية من جهة، وأوضاعهم الثقافية من جهة أخرى .
الاتّجاه الثالث : يرى أنّه يتوجّب على الباحث الأنثروبولوجي، أن يتّخذ موقفاً أيديولوجياً محدّداً قبل القيام بالدراسة. وقد أكّدت الأنثروبولوجية البريطانية (كاتلين جوف) رائدة هذا الاتجاه، في كتابها " ثورة العالم وعلم الإنسان " الصادر عام 1968، أنّ على الأنثروبولوجيين أن يحدّدوا موقفهم تجاه أمرين : إمّا خدمة الاستعمار أو مناهضته. وذلك من خلال تبنّي أيديولوجية غربية واضحة المبادىء والأهداف، ولا سيّما تجاه مصالح المجتمعات النامية .
وإذا كانت الثقافات تقيّم أحياناً، بعبارتي : (متمدّن و بدائي )، فإنّ هاتين العبارتين بسيطتان بساطة خادعة، إذ دلّت المحاولات لتحديد الفرق بينهما، على وجود صعوبات غير متوقّعة. غير أنّ التمييز بين هاتين العبارتين المتضادتين، هام بالنسبة للأنثروبولوجيين، بشكل خاص. فكلمة (بدائي) تستخدم عادة، لوصف الشعوب التي جرى التقليد على أنّ يهتمّ بها – غالباً- علم الأنثروبولوجيا، وهي الشعوب التي منحت دراستها عالم الأنثروبولوجيا معظم المعطيات الأولية اللازمة له.
ويؤثّر المفهوم الذي يتضمّنه مثل هذا الاستعمال في الكثير من الأحكام، على طرائق حياة الشعوب. وتدلّ آثار الماضي التي يكشف عنها التنقيب في الأرض، أنّ التبدّل المستمرّ – وإن كان بطيئاً – هو القاعدة العامة. وبالتالي، يمكن أن نستخلص أنّه ما من شعب حيّ يعيش اليوم، كما كان يعيش أجداده أو أجدادنا. (هرسكوفيتز، 1974، ص74)
ثالثاً-النظرية الماركسية
تعدّ النظرية (المادية التاريخية) الركيزة الأساسية للفكر الماركسي ولكنّها لم تجد طريقها إلى الفكر الغربي، إلاّ بعد انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا عام 1917، حيث بدأت أعمال (فلادميير لينين) قائد هذه الثورة، تترجم إلى اللغات الأوروبية الرئيسة.
وهذا ما أدّى إلى النهوض الثوري في العديد من البلدان الأوروبية، ومن ثمّ تأسيس الأحزاب الشيوعية، ردّاً على الفكر الفاشي (الألماني والإيطالي) من جهة، وإيجاد الحلول للأزمة الاقتصادية العالمية التي خلقتها الرأسمالية – آنذاك – من جهة أخرى.
فقد أصبحت المادية الجدلية المنهج الأساس في العلوم الإنسانية، ولا سيّما في تفسير جوهر المجتمع الإنساني ومبادىء تطوّره. وهذا ما أظهر قيمة المادية التاريخي كفلسفة مؤثّرة وفاعلة، في دراسة الظواهر الطبيعية والاجتماعية والفكر الإنساني، وفق منهج فلسفي يعتمد على الفكرة الثورية العلمية في تحليل الواقع وتفسيره .
وتنطلق الماركسية من طريقة الحصول على العيش في كلّ مجتمع، باعتبارها أساس بنيته. وذلك من خلال إقامة الصلة بين هذه الطريقة، وبين العلاقات التي يدخل فيها الناس ضمن عملية الإنتاج. فالعلاقات الإنتاجية إذن، تشكّل الأساس الرئيس والقاعدة الحقيقية لكلّ مجتمع. (رونتال ويودين،
1984، ص 431-433)
فقد جاء في الموسوعة الفلسفية (السوفيتية) أنّ الماركسية تنظر إلى الإنسان : " على أنّه موجود اجتماعي. ويعتبر من وجهة النظر البيولوجية، أعلى مرحلة في مراحل تطوّر الحيوانات على الأرض. وبينما يكيّف الحيوان نفسه مع الطبيعة، فإنّ الإنسان يكيّف الطبيعة مع نفسه من خلال ما يقوم به من نشاط إنتاجي. والإنسان أيضاً، لا يمكن أن يعيش بمعزل عن الناس الآخرين، وبالتالي فهو منصهر في ظروف اجتماعية محدّدة ".
وهكذا يرى ماركس، أنّ جوهر الإنسان ليس شيئاً مجرّداً وكامناً في نفس كلّ فرد، بل هو في حقيقته نتاج العلاقات الاجتماعية التي يعيش في إطارها. فهو نتاج تطوّر الجنس البشري كلّه، يستوعب (يمتلك) المعرفة التي حصل عليها الجنس البشري عبر تاريخه الطويل. ولذلك، تعدّ التشكيلة الاجتماعية / الاقتصادية، مرحلة تاريخيّة معيّنة في تطوّر المجتمع، وأنّ أساسها هو أسلوب الإنتاج الذي تتميّز به وحدها.
إنّ هذا المفهوم في الفكر الماركسي، يتيح للأنثروبولوجيين أن يكشفوا عن الظواهر العامة للأنظمة الاجتماعية في عدد من البلدان . كما يتيح في الوقت ذاته، التمييز بين الاختلافات السائدة فيما بينها داخل نطاق التشكيلة ذاتها، إذ تأخذ كلّ تشكيلة من التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية، كياناً اجتماعياً خاصاً لـه قوانينه من حيث النشوء والتطوّر، والتحوّل إلى تشكيلة أخرى .( برمان، 1983، ص 200-201)
لقد وجّه الأنثروبولوجيون المعاصرون اهتمامهم إلى دراسة التباين القائم بين نظرية ماركس عن المادية التاريخية، ونظرية المادية الثقافية التي وضعها الأنثروبولوجي الأمريكي المعاصر / مارفيل هاريس /. فالماركسيون الحديثون يتّفقون مع دعاة نظرية المادية الثقافية، على أنّ الأوضاع المادية للحياة الإنسانية، لها الأولوية في الدراسات الأنثروبولوجية، وتتفوّق في أهميّتها على النظم الاجتماعية والأنساق الفكرية والمعتقداتية .
إلاّ أنّ هؤلاء الماركسيين الحديثين، يركّزون على الاقتصاد كنسق متكامل من العلاقات الاجتماعية والقيمية والتكنولوجية، في حين يركّز الماديون الثقافيون على الأوضاع الأيكولوجية (البيئيّة) ويعتبرونها نسقاً من العلاقات البيولوجية.Kessing, 1981, p.170))
وعلى الرغم من ذلك، يرى / هاريس / أنّ الماديين الثقافيين كالماديين الدياليكتيكيين، من حيث الهدف الذي يمكن تحقيقه من خلال دراسة التحدّيات (المحدّدات) التي يتعرّض لها الجنس البشري، ولا سيّما متطلّبات الغذاء والسكن وأدوات الاستعمالات المختلفة. يضاف إلى ذلك تأثيرات البيئة، وما يتعلّق بالقضايا البيولوجية / الوراثية، على التكاثر البشري .
ولذلك يؤكّد / هاريس / أيضاً، أنّ على الماديين الثقافيين الأخذ بتنوّع وجهات النظر السياسيّة عند الأنثروبولوجيين، شريطة أن يكون الهدف النهائي الذي يجمع فيما بينهم هو " العمل على تطوير الثقافة الإنسانية "
Harris, 1968, p.325))
رابعاً-النظرية المعرفيّة
إنّ الانتقادات التي وجّهت إلى الاتجاه البنائي / الوظيفي، بسبب اعتماده على سلوكات الأفراد الظاهرة وما يقوم بينهم من علاقات على أرض الواقع، وإغفاله الجانب الحركي (الديناميكي) في دراسة الثقافة الإنسانية، أدّت إلى تبنّي نظرية جديدة في الدراسة تتناسب مع التغييرات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. ومن هنا برزت فكرة النظرية المعرفية في دراسة الثقافة الإنسانية، والتي تبحث في طرائق تفكير الناس وأساليب إدراكهم للأشياء، والمبادىء التي تكمن وراء هذا التفكير والإدراك، ومن ثمّ الوسائل التي يصلون بوساطتها إلى كلّ منهما .. فهم أصحاب المجتمع، ومن العدل أن نتعرّف إلى آرائهم فيها .
كما جاءت النظرية المعرفية ردّاً على الماركسية، التي يقول فيها عالم الاجتماع الفرنسي المعاصر / ميشيل فوكو / : أنّها أثارت في نفسه الكثير من الاهتمامات، ولكنها أخفقت في إشباع هذه الاهتمامات إخفاقاً شنيعاً. بل إنّه ذهب إلى حدّ القول : " إنّ الماركسية كانت تجتذب إليها الشباب، ولكنّهم كانوا يدركون بسرعة أنّها مجرّد نوع من أحلام المراهقة، التي تدور حول إمكان وجود عالم آخر أفضل من هذا العالم الذي نعيش فيه ."
ولذلك، ابتكر / فوكو/ تخصّصاً جديداً أضفى عليه " تاريخ أنساق الفكر " في إطار ما أطلق عليه مصطلح " إبستيمة Episteme " والمستمد من أصل الكلمة اليونانية التي تشير إلى العلم والمعرفة. ولذا يمكن ترجمتها بعبارة " إطار المعرفة ". ويحدّد فوكو ثلاثة (انقطاعات) أساسية يتميّز كلّ منها بإطار معرفي خاص :
الانقطاع الأوّل : حدث في أواسط القرن السابع عشر وأدّى إلى القضاء على الاتجاه الذي كان سائداً من قبل، نحو إبراز و (توكيد) أوجه الشبه بين الأشياء المختلفة، أو بين (مخلوقات الله كلّها) حسب ما يقول / أوتو فريدريش Otto Friedrich / وظهور الميل الذي ساعد (عصر العقل) نحو إبراز و توكيد أوجه التفاوت والاختلاف والتفاضل بين الأشياء. وهو ميل سيطر على تفكير القرن الثامن عشر بوجه خاص.
الانقطاع الثاني : حدث بعد الثورة الفرنسية بقليل، ويتمثّل في ظهور فكرة الثقدّم التطوّري في المجالين : الاجتماعي والعلمي، على السواء. وتعتبر هذه الفكرة بمنزلة الإطار المعرفي الذي يميّز العصر الحديث ويسيطر عليه سيطرة تكاد تكون تامة.
أمّا القطع الثالث : هو ما يمكن أن يتبلور فيما يمرّ به العالم الآن، ويصبح قطعاً في مجرى التاريخ. وعلى الرغم ممّا كتبه حول هذه النقطة، فإنّه لم يقدّم أي تحديد دقيق واضح المعالم لذلك (القطع ). كما أنّه لم يقدّم أي تفسير مقنع عن الطريقة التي تتمّ بها هذه التوقّعات والانكسارات، أو الانقطاعات وأسباب حدوثها.
ولكن، إذا كانت المعرفة قوّة، كما يقول / فوكو / فإنّه انتهى من ذلك إلى الاعتقاد بأنّ القوّة والمعرفة تتضمّن إحداهما الأخرى بالضرورة، وأنّ كلاًّ منهما تتطلّب الأخرى وتؤدّي إليها. وعلى هذا الأساس، فإذا كان كلّ عصر من العصور التي تكلّم عنها، قد أفلح في تكوين صور وأشكال معرفية جديدة وتطويرها وإبرازها، بما يعبّر عن ذلك العصر ومقوّمات الحياة فيه، ويمكن عن طريقها التعرّف إليه، فهذا يعني في نهاية الأمر أنّ كلّ عصر من هذه العصور، إنّما كان يمارس في حقيقة الأمر، أشكالاً جديدة من القوّة .( أبو زيد، 2001،ص94)
وقد أعطى هذا الاتّجاه المعرفي مفهوماّ جديداً للثقافة وطبيعتها الفكرية الثقافية، باعتبارها تشكّل (خريطة معرفية إدراكية) كما قال / جيمس داونز / في كتابه " الطبيعة الإنسانية ". فالخريطة الإدراكية لأي شعب من الشعوب، تحتفظ بملامح عامة ومقوّمات أساسية وثابتة، ولكنها – مع ذلك – لا تخلو من بعض الاختلافات والتفاصيل الدقيقة من جيل إلى آخر، لا بل من فئة اجتماعية إلى فئة أخرى، وفي المرحلة الزمنية الواحدة. وهذا يعني أنّ لكلّ مجتمع، تصوّراته الخاصة عن العالم والكون، تختلف عن تصوّر غيره من المجتمعات الأخرى (أبو زيد، 1977، 249 )
تبلورت النظرية المعرفية في الدراسات الأنثروبولوجية / الثقافية، في الستينات من القرن العشرين، ومن خلال مدرستين رئيسيتين : المدرسة البنائية في فرنسا، والمدرسة الأثنوجرافية الجديدة في أمريكا .
1- المدرسة البنائية :
يعدّ / كلود ليفي ستروس / مؤسّس المدرسة البنائية في الدراسات الثقافية / الأنثروبولوجية. فهو يعرّف النظرية البنائية (البنيوية) بأنّها تقوم على التمييز بين الصورة والمضمون، بحيث تكمن أصالتها في طريق تصوّرها للارتباط بينهما. ولكن ما أخذ على / ستروس / هو أنّه أدرك المجتمع كقواعد لا كتصرّفات .. أي أنّه يصطنع لنفسه معقولية كاملة على أساس يردّ البشر والزمر الاجتماعية إلى وظيفة محدّدة، بدلاّ من أن يبني هذه الوظيفة على علامات مشخّصة، يعتقدونها فيما بينهم. (أوزياس، 1973، ص 46 )
ويأخذ مفهوم البنية عند/ ستروس / طابع النسق (النظام)، حيث تتألّف البنية من مجموعة عناصر، يمكن لأي تحوّل في أحدها أن يحدث تحوّلاً ما في العناصر الأخرى.ولذلك يقول / ستروس / إنّ العبرة في دراسة الظواهر (النظم) الاجتماعية، إنّما هي للوصول إلى العلاقات القائمة فيما بينها. والدافع إلى ذلك، هو أنّ حقيقة الظواهر الاجتماعية ليست في ظاهرها كما تبدو عياناً للملاحظ، بل تكمن في مستوى أعمق من ذلك بكثير، ألا وهو مستوى دلالتها. (ابراهيم، 1976، ص 35)
ومن هنا فإنّ مهمّة الباحث الأساسية، في العلوم الإنسانية عامة والأنثربولوجية خاصة، تكمن في التصدّي للظواهر الإنسانية الأكثر تعقيداً، أو الأكثر تفكّكاً وعدم اتسّاق. وذلك بقصد الكشف عن عوامل هذا التعقيد أو هذا الاضطراب. والوصول بالتالي إلى البنية أو (البنى) التي تحدّد العلاقات الكامنة في الظواهر والأشياء .
وإذا كان / ستروس / يعتبر (البنائية) منهجاً وليست نظرية أو فلسفة خاصة، فإنّه من جهة أخرى يحدّد هدف الأثنولوجيا بالكشف عن العمليات المعرفية (العقلية والإدراكية) عند الأفراد داخل المجتمعات الإنسانية، بغية الوصول إلى تفسير حول تعدّد الثقافات واختلاف بعضها عن بعض. وهذه العمليات تنشأ وتتبلور داخل العقل الإنساني من خلال التعلم، حيث يتعلّمها الفرد منذ الصغر عن طريق اللغة، وتكوّن ما أطلق عليه (الأبنية العقلية، التي تشكَّل الثقافات على أساسها. ولذلك، يمكن أن تتّخذ هذه البناءات الشكلية للتركيب اللغوي، نماذج يقتدي بها الباحثون في العلوم الإنسانية والاجتماعية، كما يمكن أن تتحقّق معها الدقّة العلمية عند دراسة الإنسان. (زكريا، 1980، ص 9)
لقد سعى / ستروس / إلى أن يربط بشكل منهجي ، بين الدراسات اللغوية والاجتماعية والأثنولوجية، وكان لهذه المحاولة أصداء كبيرة وعميقة في الفكر الأنثروبولوجي التقليدي الخاص بالعلوم الاجتماعية المختلفة، بل وفي الدراسات الأدبية والإنسانية بوجه عام .( حجازي، 1972، ص 180)
إنّ العلاقات الاجتماعية في أي نظام اجتماعي، لا يمكن أن تفهم إلاّ في إطار عملية التواصل والتبادل بين الأفراد الذين يشكّلون هذا النظام الاجتماعي. وذلك عن طريق دراسة العمليات العقلية التي تحكم تفكير هؤلاء الأفراد، وتوجّه سلوكاتهم وعلاقاتهم ضمن البنية التي تؤلّف ثقافتهم .
2-المدرسة الأثنوجرافية الجديدة :
ظهرت هذه المدرسة في أمريكا مع بدايات الستينات من القرن العشرين، مترافقة مع المدرسة البنائية سابقة الذكر. وتستند هذه النظرية إلى نتائج علم اللغة، والعلاقة المتبادلة بين علم اللغة والأثنولوجيا، والاستفادة بالتالي من هذين العلمين في تبنّي منهج متكامل للبحث في العلوم الاجتماعية .
وقد برز اهتمام الأمريكيين بالصلة بين اللغة والثقافة، منذ عام 1964 حين اقترح / ديل هايمز / مصطلحاً جديداً لتلك الصلة، يتمثّل في (الأنثروبولوجيا اللغوية) والذي يعتمد على دراسة اللغّة في إطارها الاجتماعي . (حجازي، 1972، ص 154).
وانطلاقاً من هذا المصطلح، بدأ الأنثروبولوجيون اللغويون المعاصرون يهتمون بتطوير المدخل اللغوي في دراسة الثقافة، بحيث تؤدّي دراساته عن أصل اللغة ومراحل تطوّرها، إلى مجالات دراسيّة جديدة حول تطوير الأسس الاجتماعية والإعلامية، التي تقوم عليها الحياة الإنسانية الحاضرة والمستقبلية .
(Freidle,1977,p.280) ولذلك قام عدد من الباحثين الأنثروبولوجيين في أمريكا، بإجراء دراسات لغوية بقصد تأكيد علمية دراسة الثقافة الإنسانية، وذلك من خلال وصف الثقافة وتحليلها وفقاً لتصوّرات الأفراد ومفاهيمهم، التي تتجلّى في سلوكاتهم اللغوية .
واستناداً إلى هذا المنهج التحليلي، أظهرت نتائج دراسات أثنوجرافية متعدّدة، اختلافات الأسس والمعايير بين الشعوب، والتي يصنّف الأفراد بموجبها في المجتمعات المختلفة مفاهيمهم واتّجاهاتهم، فيما يتعلّق بتصنيف الأشياء المختلفة، كالألوان أو الطعام أو الحيوان أو النبات، وغيرها من مكوّنات البيئة المحيطة. وهذا يعني أنّ الأثنوجرافيا الجديدة، تسعى إلى دراسة الثقافة من خلال وصفها وتحليلها، كما يراها أصحابها، وليس كما يراها الباحث الأنثروبولوجي، وذلك بالاعتماد على تحليل اللغة التي يستخدمها أفراد المجتمع.
لقد برز اهتمام الأثنوجرافيين الجدد منذ بداية السبعينات من القرن العشرين، بالدراسات الميدانية لجمع المعلومات عن اللغات والثقافات المرتبطة بها، ونشرت كتب كثيرة حول ذلك. إلاّ أنّ هذا الاتجاه – على الرغم من أهميته في دراسة الثقافة –واجه نقداً من بعض الأنثروبولوجيين الأمريكيين ذاتهم،
ولا سيّما / جيلفورد جيرتز/ الذي دعا إلى ما يسمّى الآن بـ (الأنثروبولوجيا الرمزية )، وطالب أن يهتمّ الباحث بالمعنى والرمز المصاحبين للممارسات الثقافية، بدلاً من الاعتماد على ما يقوله الأفراد عن ثقافتهم. ورأى أنّه ليس من المهمّ مطلقاً أن نسعى إلى تأكيد تكامل العناصر الثقافية، لأنّها ليست إلاّ مجموعة منفصلة من العواطف والمعتقدات والقواعد، التي يتناقض بعضها مع بعض في أحيان كثيرة .( فهيم، 1986، ص 234)
وتأسيساً على ما تقدّم، نجد أنّ فروع الدراسات الأنثربولوجية المعاصرة، تعدّدت وتنوّعت تحت مظلّة علم الأنثروبولوجية العامة .، مماّ أدّى إلى زيادة المشتغلين في هذا الميدان، من الباحثين والأكادميين، في العالم عامة، وفي أوروبا وأمريكا خاصة. ومع ذلك، فإنّ الأنثروبولوجيا ما زالت تعاني من التشتت وعدم إثبات هويتها وشرعيتها كعلم من العلوم الإنسانية / الاجتماعية، وثمّة محاولات جادة من الأنثروبولوجيين المحدثين لإنقاذه ورسم معالم مستقبلية له، تكون واضحة وثابتة تتناسب مع معطيات العصر، ومتغيّراته السريعة والمتلاحقة.
وهذا ما يعطي للأنثروبولوجيا المعاصرة دوراً هاماً في تعزيز السلام العالمي وتأكيد إنسانية الإنسان، وذلك من خلال المواقف التي يتبنّاها الأنثروبولوجيون في مناهضة التفرقة والتمييز، واستعمار الشعوب الأخرى والسيطرة على مقدّراتها. وتعزيز دور الدراسات الأنثروبولوجية، الإيجابي والفعّال في خدمة القضايا الإنسانية، وفي مقدّمتها التحرّر بأشكاله المختلفة، والبناء والتنمية الشاملة، ولا سيّما في البلدان التي تسعى إلى ذلك.
**
مصادر الفصل ومراجعه :
- ابراهيم، زكريا (1976) مشكلة البنية – أضواء على البنيوية، مكتبة مصر، القاهرة .
- أبو زيد، أحمد (1977) ماذا يحدث في علوم الإنسان والمجتمع، مجلّة عالم الفكر، الكويت، مجلّد 8، العدد (1) .
- أبو زيد، أحمد (2001) الطريق إلى المعرفة، كتاب العربي 46، مجلّة العربي،
الكويت .
- برمان، غليز (1983) قوانين التطوّر الاجتماعي – طبيعتها واستخداماتها، دار التقدّم، موسكو .
- حجازي، محمود فهمي (1972) أصول البنيوية في علم اللغة والدراسات الأنثروبولوجية، مجلّة عالم الفكر، عدد حزيران (يونيو)، الكويت.
- حمدان، زياد (1989) الثقافات الاجتماعية المعاصرة، دار التربية الحديثة، عمّان .
- رونتال و يودين (1984) الموسوعة الفلسفيّة، ترجمة : سمير كرم، دار الطليعة،
بيروت .
- زكريا، فؤاد (1980) الجذور الفلسفية البنائية، مجلّة كليّة الآداب، العدد الأوّل، جامعة الكويت .
- فهيم، حسين (1986) قصّة الأنثروبولوجيا- فصول في تاريخ الإنسان، عالم المعرفة
(198)، الكويت .
- لبيب، الطاهر (1987) سوسيولوجية الثقافة، دار الحوار، اللاذقية .
- هرسكوفيتز، مليفيل. ج (1974)، أسس الأنثروبولوجيا الثقافية، ترجمة : رباح النفاخ، وزارة الثقافة، دمشق .
- Freidle , John (1977) Anthropology , Harper and Row Publishers , New York .
- Harris, Marvin (1968) A History of Theories of Culture, Thomas Crowell Company , New York .
- Kessing ,Roger (1981) Culture Anthropology : A Contemporary perspective , Holt Rinehart and Winston , 2 th Edition
***
الفصل الثـالث
نحـو أنثروبولوجيا عربية
مقــدّمـة
أولاً- واقع الأنثروبولوجيا العربية
ثانيا- نحو أنثروبولوجيا عربية معاصرة
مقــدّمـة
بعد هذا العرض المسهب لنشأة الأنثروبولوجيا وتطوّرها، وفروعها ومجالات دراستها، ألا يحقّ لنا أن نتساءل : أين هو المجتمع العربي من الدراسات الأنثروبولوجية، بل أين الأنثربولوجيا العربية ذاتها، إذا كان ثمّة أنثروبولوجيا عربية خاصة بطبيعة الأمّة العربية وثقافتها التاريخية / الحضارية؟
قد تكون الإجابة عن هذا السؤال من الصعوبة بمكان، حيث لا توجد معطيات جاهزة وكاملة لهكذا إجابة، على الرغم من وجود محاولات لأنثربولوجيا عربية، سواء في الماضي أو في الحاضر. وهذا ما سنحاول تبيانه والوصول من خلاله إلى تصوّر – إن أمكن – لأنثروبولوجيا عربية معاصرة .
إنّ كون الأنثروبولوجيا كعلم لـه خصوصيته وطرائقه، غربي المنشأ والتطوّر، فهذا لا يعني تجاهل أو إنكار، أنّ العرب كانوا أسبق من الغرب (الأوروبيين) في دراسة الثقافات الأخرى، وصفاً ومقارنة، وفي وضع المبادىء والأسس المنهجيّة للبحث والدراسة في العلوم الاجتماعية والطبيعيّة.
وإذا ما عدنا إلى الفترة الممتدّة من منتصف القرن الثامن الميلادي إلى نهاية القرن الحادي عشر الميلادي، نجد أنّ العرب كانوا – على مدى أربعة قرون ونصف القرن " عباقرة الشرق " في علوم الفلك والطبّ والاجتماع والفلسفة وغيرها، بينما كانت اللغة العربية، هي اللغة الأساسية في العلوم الإنسانية .
ولكنّ هذه العلوم كلّها ذهبت إلى الغرب بعد سقوط الدولة العربية (العباسية) وتتالي الغزوات الاحتلالية والاستعمارية على الوطن العربي، والتي أسهمت في إضعافه اجتماعياً وثقافياً وعلمياً، بينما راح الغرب يستفيد من علوم العرب ويطوّرها، منذ فجر نهضته وحتى يومنا هذا.
أولاً-واقع الأنثروبولوجيا العربية :
يقول المؤرّخ العربي / جمال الدين الشيّال / : " انقلب الأوروبيون إلى ديارهم بعدما منوا بالهزيمة في الحروب الصليبية، وقد بهرتهم أنوار الحضارة العربية / الإسلامية، وأخذوا مفاتيح تلك الحضارة، فتفرّغوا لها ... يقتبسون من لآلئها وينقلون آثارها، ويدرسون توليفاتها. وقد ساعدتهم عوامل أخرى ،جغرافية وتاريخية واجتماعية واقتصادية، على أن يسيروا بالحضارة في طورها الجديد، على طريقة جديدة تعتمد أكثر ما تعتمد، على التفكير الحرّ أوّلاً وعلى الملاحظة والتجربة والاستقراء ثانياً. فمهّد هذا كلّه لهم السبيل إلى كشوف علمية جديدة شكّلت الطلائع لحضارة القرنين، التاسع عشر والعشرين."
ويتابع / الشيّال / : كان الأوروبيون يفعلون هذا كلّه، في حين كان الشرق – بما فيه العالم العربي- قد اتّخذ لنفسه، أو اتّخذ لـه القَدَر، أسلوباً آخر من الحياة، يختلف كلّ الاختلاف عن هذا الأسلوب الذي اصطنعته أوروبا لنفسها، أو اصطنعه القدر لها." (الشيّال، 1958، ص 5)
وعلى الرغم من اعتراف بعض مفكري أوروبا بتأثير التراث الحضاري العربي على الحضارة الغربية الحديثة، فقد ساد اتّجاه ناكر ومتنكّر لهذه الحقيقة التاريخية، من خلال السعي نحو طمسها، أو التقليل من شأنها. وقد دعم هذا الاتّجاه، حركة الاستعمار الأوروبي للعالمين : العربي والإسلامي، مؤكّدا عجز العرب والمسلمين عن الابتكار والإبداع، والإسهام في ركب الحضارة الإنسانية، الأمر الذي يجعل من " التغريب " أمراً ضرورياً لمواكبة تطوّرات العصر الحديث.
ولهذا، فمن الضروري العمل على فحص التراث العربي / الإسلامي، بتنوّعه وغزارته،ودراسته دراسة متأنية ومتعمّقة، ولا سيّما تلك الأعمال ذات الصلة المباشرة بالأنثروبولوجيا، من أمثال : مؤلّفات أخوان الصفا، وكتاب " الحيوان " للجاحظ، وكتابا ت / أحمد ابن مسكويه/ الخاصة بآرائه عن النشوء وتحوّل الأحياء بعضها من بعض، وغيرها كثير.
فقد تؤدّي هذه الدراسات إلى إعادة تاريخ الأنثروبولوجيا من جديد، أو على الأقلّ، إعادة أصولها المعرفيّة والمنهجيّة، بحيث لا تردّ جميعها إلى عصر النهضة (التنوير) في أوروبا فحسب، بل قد يوجد في هذا التراث الحضاري العربي، الكثير من المفهومات والنظريات عن الجنس البشري والحضارة الإنسانية، وأوجه الحياة اليوميّة ومشكلاتها، ممّا لا يزال يشغل بال الباحثين الأنثروبولوجيين المعاصرين. (فهيم، 1986، ص 259)
وعلى الرغم من غنى العلوم في هذا التراث العربي، فإنّ علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) لم يلقَ الاهتمام في الدوائر العلمية والبحثية العربية، كما هي الحال في المؤسسّات العلمية الغربية وباحثيها، سواء في البحوث الميدانية / التطبيقية، أو في الدراسات الأكاديمية، كالدراسات الفلسفية والنفسية والتربوية..
وثمّة بعض الباحثين (الأكاديميين) العرب يشيرون إلى أنّ الأنثروبولوجيا، دخلت إلى العالم العربي، في الثلاثينات من القرن العشرين تحت اسم " علم الاجتماع المقارن" وذلك على أيدي عدد كبير من علماء الأنثروبولوجيا البريطانيين، مثل : (إيفانز بريتشارد – هو كارت – وبريستافي) ممّن تولّوا التدريس في الجامعة المصرية (جامعة القاهرة الآن ). ثمّ جاء بعدهم في الأربعينات، عميد الأنثروبولوجيين في ذلك الحين، الأستاذ / رادكليف براون / الذي قام بتدريس الأنثروبولوجيا في جامعة الإسكندرية، تحت اسم (علم الاجتماع المقارن) أيضاً، وذلك لعدم احتواء برامج التدريس الجامعي – في ذلك الحين – على مادة الأنثربولوجيا .( فهيم، 1986، ص260)
إنّ التوقّف قليلاً عند التصويرات التي تمّ تشييدها مثلاّ، عن الثقافة والمجتمع العربي في الفكر الأنثروبولوجي، ولا سيّما تلك التصويرات الناتجة عن علاقة الأنثروبولوجيا بالمجتمعات العربية، لهو أمر على غاية من الأهمية.
ولذلك، فإذا أردنا القيام بمحاولة تأريخ لعلاقة الفكر الأنثروبولوجي الغربي، بالمجتمع والثقافة في العالم العربي، فإنّ إيفانز بريتشارد وإرنست غيلنر، سيتصدّران ليس فقط قائمة عدد من الأنثروبولوجيين الذين تعاملوا مع ثقافات ومجتمعات العالم العربي والإسلامي، وإنّما أيضاً لأنّ تجربة الاثنين معاً تعبّر عن أحد أشكال تجليات هذه العلاقة، في جانبها الأوروبي على الأقل.
فقد حاول كلّ من بريتشارد و غيلنر، ومن واقع انتمائهما للثقافة الأوربية المعاصرة، أي باعتبارهما مثقفين قبل أن يكونا أكاديميين، فهم هذا الواقع الاجتماعي والثقافي ذي الخاصية العربية الإسلامية، هذا الواقع الذي يقع في مقابل الغرب الثقافي والاجتماعي. وكان الهاجس الأهم الذي يشكّل صلب اهتمام غيلنر في هذا الجانب – وما زال -، ليس التفصيلات الأثنوغرافية المميّزة للثقافة العربية والمجتمع العربي، وإنّما هي البحث في الآليات والقوانين المنطقية، التي يعمل وفقها النظام الاجتماعي في هذه البقعة من العالم. (يتيم، 2001، ص 125)
لقد قام / إرنست غيلنر / الأنثروبولوجي والفيلسوف، وعبر دراساته الإثنولوجية أولاً والأنثروبولوجية ثانياً ، بتحليل جانبين على غاية من الأهميّة، يكوّنان من الثوابت الرئيسة البارزة في البنى الاجتماعية العربية ، ألا وهما: الإسلام والقبلية. فقد قادته محاولته الاستقرائية إلى عمله الحقلي (الميداني) الأنثروبولوجي في جبال الأطلس في الغرب العربي، بقصد اختبار مفهوم " الانقسامية " مثال :الأسرة / العشيرة، البداوة / الحضر، الشعبي / الرسمي ، وغيرها من الثنائيات. وذلك باعتبار أنّ الانقسامية هي السنة البنيوية البارزة للنظم القرابية والسياسية في المجتمعات العربية القبلية .
ومثلما ذهب المعلّم / إيفانز بريتشارد / إلى البحث في العوامل المحليّة المساعدة في إعادة التوازن في الانقسامية القبلية، أي فيما رآه المعلّم من دور للإسلام باعتباره نظاماً أيديولوجياً، تجسّد في التنظيم الاجتماعي لأبناء برقة (في ليبيا) وفي الحركة الصوفية السنوسية، هكذا أيضاً سعى / غيلنر / . وهذا ما أوضحه في كتابه " أولياء الأطلس " حين حاول إيضاح كيف كان التصوّف الإسلامي، يؤدّي عبر نظام الزوايا والأولياء، أدواراً تعتبر مفصلية في إعادة التوازن إلى بنى اجتماعية، يدفع بها نظامها الإيكولوجي (البيئي) نحو الانقسام المتتالي. (يتيم، ص 126 )
هذا من جهة، أمّا من الجهة الأخرى، فقد عزا معظم الباحثين العرب عدم الترحيب بالأنثروبولوجيا وانتشارها في العالم العربي، إلى سببين أساسيين :
أولهما : عدم تقبّل فكرة التطوّر الحيوي عند الإنسان، بالنظر لتعارضها مع الفكر الديني وتفسيراته التي تؤكّد أنّ الإنسان مخلوق من عمل الله، وليس نتاج حلقة تطوّرية ذات أصل حيواني .ولكن ثمّة بعض المفكّرين العرب من دعا إلى التوفيق بين الفكرتين، والأخذ منهما ما يفيد العلم.
فبينما يقول الباحث الجيولوجي الدكتور / عبد الله نصيف / في كتاب " العلوم الاجتماعية والطبيعيّة " : ليس ثمّة تعارض – مطلقاً-بين الإيمان ومعرفة الإنسان عن الكون، واستخدامه هذه المعرفة للخير .. نجد أنّ المفكّر / زكي نجيب محمود / يقول في كتابه " هذا العصر وثقافته ": ليست الشطارة في تخريج المعاني التي تجعلنا نتصوّر أنّ ما جاء به الدين، هو نفسه ما يجيء به العلم في عصرنا .. وإنّما المهارة كلّ المهارة، هي في أن تبصرني بالطريق الذي أعرف منه كيف آخذ من الدين حافزاً، يحرّك الإرادة إلى (صنع) علم جديد أقدّمه لنفسي وللإنسانية جمعاء .(محمود، 1980، ص 242 )
وثانيهما : ارتباط نشأة الأنثربولوجيا وبداياتها التاريخية بالاستعمار، حيث كانت الدراسات تتمّ على المجتمعات البدائية والمتخلّفة، بهدف معرفة بنيتها التركيبية وطبيعتها الثقافية، ممّا يسهّل استعمارها، في الوقت الذي كان فيه المجتمع العربي يعاني من الاحتلال والاستعمار، ويسعى للتحرّر والتقدّم .
فكما ارتبطت الجغرافيا مثلاً، بمشاريع علمية كانت تهدف إلى تحقيق كشوفات جديدة تتعلّق بتحديد طبيعة الكرة الأرضية، أي التخوم اليابسة منها وأقاليمها وبيئاتها والجغرافية، وكذلك توزيع البحار والمحيطات، وكذلك ارتبطت الأنثروبولوجيا واهتماماتها (البيولوجية والثقافية والاجتماعية) بمشاريع استكمال معارفها حول الإنسان، وبيئاته الاجتماعية والثقافية، أي بتلك المشاريع الأنثروبولوجية التي بدأت في الغرب، والتي آن الأوان لاستكمالها خارج أوروبا. وقد أتت ظروف الاستعمار في القرن التاسع عشر، لتمهّد الطريق لتلك المشاريع العلمية، وبذلك ارتبط تاريخ الفكر الجغرافي والأنثربولوجي بالخبرة الاستعمارية، وبأقاليم ومجتمعات وثقافات غير غربية. (يتيم، 2001، ص134)
وكان أن أدّت هذه العقلية الاختزالية والروح المتحاملة، إلى سيادة ميل هائل نحو تسييس المعارف والعلوم، وكذلك المؤسّسات والعلاقات الناتجة عنها. وكان من أبرز ضحايا تلك العلوم : الجغرافيا والأنثروبولوجيا. وإذا كانت الجغرافيا قد سلمت بجلدها، لأسباب تعود مثلاً إلى ترسّخ هذا العلم في الأكاديميات العربية، منذ الأربعينات من القرن العشرين، وإلى إسهام العرب المسلمين، البارز في هذا العلم منذ القدم، الأمر الذي جعل العرب المعاصرين أكثر ألفة معه، فإنّ الأنثروبولوجيا لم تحظَ بهذا القبول، حيث كان نصيب الأنثروبولوجيين العرب الأوائل، أقلّ بكثير – إن لم يكن معدوماً- عند مجاراتهم بالأوروبيين.
وهكذا تمّ التعاطي مع أي اهتمام أوروبي أو غربي، بالمجتمعات العربية أو الإسلامية وثقافاتها، على أنّه يقع في دائرة الأطماع الاستعمارية أو التآمر على العرب والإسلام. وأصبح كلّ إنسان غربي (يبدي شيئاً من الاهتمام بهذه الموضوعات) موضع شبهة وريبة في العالم العربي. (يتيم، ص 136)
وعلى الرغم من اتساع الدراسات الأنثربولوجية لتشمل المجتمعات البشرية المختلفة، سواء في تكوينها أو في درجة تطوّرها، فما زالت ثمّة رواسب تعوّق اعتمادها كعلم يبحث في مشكلات المجتمع العربي وإيجاد الحلول المناسبة لها، ولا سيّما القضايا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
ثانياً- نحو أنثروبولوجيا عربية معاصرة :
إنّ توافر المناخات الأساسية لحرية الفكر والجدل والمناقشة الموضوعية، تعدّ من الضروريات اللازمة للانطلاق بالدراسات الأنثروبولوجية العربية، وذلك لأنّ العرب يحتاجون إلى دراسة معمّقة لثقافتهم، كما أنّهم في الوقت ذاته، يحتاجون إلى دراسة ثقافات الشعوب الأخرى .
فمفهوم الثقافة – بحدّ ذاته – ربّما يعدّ من أهمّ المداخل والإسهامات التي قدّمتها الأنثروبولوجيا للفكر والعمل الإنسانيين. فمن خلال الثقافة – وعلى حدّ تعبير كلايد كلوكهون- تضع الأنثروبولوجيا أمام الإنسان، مرآة تمنحه صورة أوضح لنفسه وأقرانه، وتسهم في نشأة المجتمع وطبيعة وظائفه ومنظّماته. كما توضح دوافعنا وسلوكاتنا، فضلاً عن دوافع الآخرين وسلوكاتهم .. ويزداد تأثير الأنثروبولوجيا وضوحاً في ميادين الفلسفة والآداب والسياسة .
وفي إطار الاتّجاه الحالي، في كثير من البلدان العربية نحو التحديث والارتقاء، بالمستوى الاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي، دون إحداث أضرار بالقيم والتعاليم الدينية، وأسس التراث الاجتماعي والتقاليد الأصيلة، فإنّ للأنثروبولوجيا دوراً كبيراً في إبراز هذا التراث، ودراسة تلك التقاليد وإحياء الحضارة العربية. ويتضح كذلك، الدور الفعّال الذي يمكن أن يؤدّيه الأنثربولوجيون العرب، في مجال مشروعات التنمية، وذلك من خلال تحليل مفهومات الأنثروبولوجيا الثقافية ودراستها دراسة (حقلية) ميدانية . (فهيم، 1986، ص 268 )
فإذا تفحصنا مفهوم القبيلة – مثلاً- نجده يحتلّ موقعاً مركزياً في الأنثروبولوجيا الإسلامية التي يطرحها / إرنست غيلنر /، ويستخدمه الكثيرون من كتّاب (الشرق الأوسط) للإشارة إلى كينونات اجتماعية ذات بنىً وأشكال عيش مختلفة.
وانطلاقاً من الرؤى لتصوّر أنثروبولوجيا عربية، فإنّ ثمّة أسئلة مطروحة أمام الأنثروبولوجيين العرب، لا بدّ من الإجابة عنها وتطويرها، من خلال تفهّم النقاط التالية المترابطة : (أسد، 2001، ص149)
1- أن تعمل الروايات الأنثروبولوجية المتعلّقة بالمثقفين الفاعلين، على ترجمة الخطابات التاريخية لهؤلاء المثقّفين، وتمثيلها على أنّها استجابات لخطابات الآخرين، بدلاً من محاولة التخطيط والانتزاع التاريخي لأفعالهم .
2- ألاّ تركّز التحليلات الأنثروبولوجية للبنية الاجتماعية على الفاعلين النموذجيين، بل على النماذج المتغيّرة للعلاقات والظروف المجتمعيّة، ولا سيّما ما يدعى (بالاقتصاديات السياسية ).
3- إنّ تحليل الاقتصاديات السياسية (الشرق أوسطية) وتمثيل الواقع الإسلامي، هما نوعان من الممارسة المتعدّدة الأوجه، وهما مختلفان جوهرياً، ولا يمكن استبدال أحدهما بالآخر، على الرغم من إمكانية تجسيدهما بصورة معقولة في البحث نفسه، إذا ما أخذا – بدقّة – على أنّهما خطابان.
4- إنّه لمن الخطأ تمثيل نماذج الإسلام، على أنّها مترابطة مع نماذج البنية الاجتماعية، عبر قياس ضمني على البنية الفوقية (الأيديولوجية) والأساس الاجتماعي .
5- وأخيراً، يجب أن يدرس الإسلام في المجتمع العربي، باعتباره موضوعاً للمعرفة الأنثروبولوجية، وأنّه تراث متعدّد الأوجه، يرتبط بترسيخ الأخلاق في النفوس، وبتلاؤم الناس أو معارضتهم، وبإنتاج معارف مناسبة.
إنّ من بين مهام الأنثروبولوجيين العرب إذن، في الوقت الحاضر، ألاّ تقتصر جهودهم على إبراز النسق العربي على الغرب بصدد بعض المفاهيم النظرية فحسب، أو جمع المادة الأثنوجرافية، وإنّما لا بدّ أن تتضمّن دراساتهم أيضاً، الفحص الدقيق للأعمال التراثية بهدف الكشف عن الجوانب المنهجيّة المشتركة بين الكتّاب، والتي يكونون قد استمدّوا من معارفهم وتربيتهم الدينية أساساً لها. وذلك لأنّ الحياة العقلية عند الشرقيين – كما يقول توفيق الطويل – كانت أوثق اتصالاً بحياتهم الدينية منها بالتفكير الفلسفي الخالص . فقد امتزج هذا التفسير بالتفكير الديني في شتى العصور الإنسانية، حتى ليمكن القول بأنّ كل محاولة تهدف إلى الفصل بينها، تنتهي –لا محالة- إلى العجز عن فهم كليهما. (فهيم، 1986، ص 72 )
إنّ مجال الأنثروبولوجيا واسع سعة الحياة، ويشمل الكثير من مظاهر الحياة الفكرية باتّجاهاتها وتياراتها ومذاهبها العديدة، وهو الأمر الذي لم يفهمه الكثيرون من الأنثروبولوجيين في العالم العربي، ممّن ضاقت آفاق أفكارهم بحيث انحصرت في عدد من الموضوعات التقليدية، لا يكادون يخرجون عنها، دون أن يجدوا في أنفسهم الجرأة الكافية على ارتياد ميادين المعرفة المختلفة، المتنوّعة والمتباينة .. وقد يكون ذلك راجع إلى ضعف في الإعداد العلمي والتكوين الثقافي، وعدم إدراك مدى اتساع البحث .. ولكنّه يرجع – بلا شك – وفي المقام الأوّل، إلى قصور في ملكة التخيّل وإلى الخوف من الانطلاق والمبادرة. (أبو زيد، 2001، ص 7 )
ومهما كان واقع الأنثروبولوجيا في العالم العربي، فقد اكتسبت أرضيّة جديدة منذ الستينات من القرن العشرين، حيث حظيت بتفهّم أفضل لإمكانيات استخدامها، لما يحقّق أهداف العالم العربي في التقدّم والازدهار. وقد تجلّى الاهتمام العربي بالأنثروبولوجيا، من خلال اعتمادها كتخصّصات ومقرّرات دراسية في الجامعات العربية (جامعة القاهرة، جامعة الاسكندرية، جامعة دمشق، الجامعة اللبنانية ،جامعة البحرين ... وغيرها)
وتتجلىّ أيضاً في قيام الكثير من الباحثين الأنثروبولوجيين العرب، بتأليف الكتب حول الإنسان وأصوله وحضارته، مفاهيم الأنثروبولوجيا وتطبيقاتها في الدراسات الثقافية والاجتماعية، منها على سبيل المثال : كتاب (الأنثروبولوجيا) تأليف ابراهيم زرقانة، عام 1958. وكتاب (الإنسان – دراسة في النوع والحضارة) تأليف محمد رياض، عام 1974. وكتاب (الحضارة- دراسة في أصولها وقيامها، وعوامل تدهورها) تأليف حسين مؤنس عام
1978. وكتاب (البناء الاجتماعي – مدخل لدراسة المجتمع) تأليف أحمد أبو زيد، عام 1980. وكتاب (الأنثروبولوجيا الاجتماعية) تأليف صفوح الأخرس، عام 1984. وكتاب (الأنثروبولوجيا- علم الإناسة) تأليف علي الجباوي، عام 1997. وغيرها .
وثمّة بعض الدراسات الميدانية التي قام بها عدد من الباحثين العرب، في مناطق متعدّدة من الوطن العربي، ونشرت هذه الدراسات في الدوريات (المجلات) العلمية العربية، ومنها على سبيل المثال : (مجلّة عالم الفكر، التي تصدرها وزارة الإعلام الكويتية، ومجلّة المستقبل العربي، التي تصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، ومجلة الفكر العربي المعاصر، التي تصدر عن مركز الإنماء العربي في بيروت وباريس، إضافة إلى المجلاَت التي تصدر عن كليّات الآداب والعلوم الإنسانية، في الجامعات العربية. إلى الندوات والاجتماعات، على غرار الاجتماع التحضيري الذي عقده الاتحاد الدولي للعلوم الأنثروبولوجية في مصر، (كانون الثاني / 1986)
إنّ هذه التوجّهات، تبشّر – دون شك – بأن للأنثروبولوجيا العربية مستقبلاً زاهراً، شريطة أن تعمّق هويتها العربية، سواء في منطلقاتها النظرية، أو في أهدافها التطبيقيّة، وأن تبتعد مادتها عن النقل من دون نقد أو تطوير. وإذا ما تمّ لها ذلك، يمكن أن تتعزّز أصالتها العربية وإسهاماتها العالمية، في هذا الميدان. وهذا ما أكّده / كارلتون كوون / منذ عام 1953، في مقالة لـه بعنوان " أنثروبولوجيا العرب " حيث قال :
" من الأمور الحيوية، أن تقوم الشعوب التي تقطن البلاد العربية بالمشروعات الخاصة بها، وأن تجد الوسائل التي ترفع مستويات المعيشة لسكان جميعهم، لا لمصلحة هذه الشعوب فحسب، ولكن لصالح العالم كلّه ... فعلى العرب أن يعنوا بالأنثروبولوجيا ويدرسوها أكثر ممّا درسوها، مدركين تلك الحقيقة التي تتلخّص في أنّ خير طريق يتبعه أي إنسان أو أي شعب، إذا أراد أن يصنع أي شيء من الأشياء، هو أن يحزم أمره ويصنعه بنفسه " (نقلاً عن : فهيم، 1986، ص 269)
لا شكّ إنّ في ذلك تحفيزاً على إيجاد أنثروبولوجيا عربية، تتّجه دراساتها نحو مشكلات المجتمع العربي، وتسهم في تقدّمه بما يتناسب مع معطيات العلوم الإنسانية المختلفة، لأنّ الجهل بهذه العلوم، ولا سيّما علم الأنثروبولوجيا، ما زال سائداً – إلى حدّ ما – ويعوّق الدراسات الجديّة والموضوعية لطبيعة الثقافات الأخرى وإسهاماته الإنسانية، التي تؤدّي بالتالي إلى فهم حقيقي لطبيعة المساهمة العربية في الثقافة الإنسانية، وحجم هذه المساهمة .
وفي ذلك دعوة إلى فتح النوافذ الثقافية العربية على الثقافات الأخرى، ولا سيّما تلك الثقافات التي يمكن الاستفادة منها في التعرّف إلى ثقافة العصر ودراستها والاقتداء بها، بما ينسجم مع جوهر الشخصيّة العربية المتمايزة، ومع مقوّمات الثقافة العربية، بما في ذلك التيارات الفكرية والاتجاهات والمذاهب الأدبية والفنية، والانتقاء منها والإغضاء عن أسطورة الغزو الثقافي. فالثقافات كلّها – ومنها الثقافة العربية – تنمو وتزدهر وتتقدّم، بالاتّصال والاحتكاك والتأثير المتبادل، والاستعارة والاستيعاب. (أبو زيد، 2001، ص10)
وهذا ما يجب أن تؤسّس لـه الدراسات الأنثروبولوجية العربية المعاصرة، بحيث تظهر بجلاء تلك العلاقة بين الحضارة العربية والحضارة الإنسانية، ومن جوانبها المختلفة، بعيداً عن الأحكام المسبقة، والأخذ بالفكر الأنثروبولوجي النقدي والمقارن، وتطبيق ما يمكن تطبيقه من نظريات الأنثروبولوجيا، بما يتناسب مع طبيعة المجتمع العربي، وتركيبته التاريخية (الديمغرافية والثقافية ).
**
مصادر الفصل ومراجعه :
- أبو زيد، أحمد (2001) الطريق إلى المعرفة، كتاب العربي 46، مجلّـة العربي، الكويت .
- أسد، طلال (2001) فكرة أنثروبولوجيا الإسلام، تعريب : سامــر رشواني، مجلّة الاجتهاد، عدد 55، السنة 13، بيروت.
- الشيال، جمال الدين (1958) رفاعة الطهطاوي، دار المعرف بمصر .
- فهيم، حسين (1986) قصّة الأنثروبولوجيا – فصول في تاريخ الإنسان، عالم المعرفة
(198 )، الكويت
- محمود، عبد الحليم (1968) التفكير الفلسفي في الإسلام، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة .
- يتيم، عبد الله عبد الرحمن (2001) من المحراث إلى الكتاب، مجلّة الاجتهاد، عدد 55، السنة 13، بيروت .
***
المصطلحـات العلميّـة
A
تكيّـف Adaptation
بديـل Alternative
علم التشريح Anatomy
علم دراسة الإنسان Anthropology
الأنثروبولوجيا التطبيقية Applied Anthropology
علم دراسة حضارات ما قبل التاريخ Archeology
السلوك الآلي Automatic Behavior
B
سلوك Behavior
علوم سلوكيّة Behavioral Sciences
الأنثروبولوجيا البيولوجية Biological Anthropology
C
حالـة Case
دراسة الحالة Case Study
تغيّر – تبدّل Change
حضارة Civilization
معرفـة Cognation
معرفيّ Cog native
تواصل – اتّصال Communication
مقارنـة Comparative
دراسة مقارنة Comparative Study
تكييف Condition
بنــاء – بنية Construction
ثقـافة Culture
البيئة الثقافية Cultural Ecology
الأنثروبولوجيا الثقافية Culture Anthropology
الانتكاس الثقافي Cultural Degeneration
المادية الثقافية Cultural Materialism
D
تطوّر Development
جدل – جدلية Dialectic- al
المادية الجدلية Dialectical Materialism
انتشار Diffusions
النظرية الانتشارية Diffusions Theory
اتّجاه – توجيه Directed
التغيير الموجّه Directed Change
E
التثقيف Enculturation
الدراسة التحليلية المقارنة للثقافة Ethnology
الدراسة الوصفيّة للثقافة Ethnography
تطوّر – تقدّم Evolution
F
أسرة – عائلة Family
إنجـاز Fulfillment
وظيفـة Function
G
جيل Generation
مجمـوعة Group
H
تـاريخ History
النظرية التاريخية Historical Theory
الاتجاه التاريخي التخصّصي Historical Particularism
الماديّة التاريخيّة Historical Materialism
إنسـان Human
الطبيعة الإنسانية Humanity- Nature
التطوّر الإنساني Humanity Development
I
صنـاعي Industrial
تطوّر صناعي Industrial Development
تفاعـل Interactive
K
قـرابة Kinship
نسق (نظام) القرابة Kinship System
L
علم اللغويات Linguistics
M
نمـوذج Model
دراسة الأشكال Monography
N
طبيعـة Nature
طبيعي Naturalism
O
تطوّر مفرط Over Development
أصـل Origin
أصلي riginal
P
مشاركة Participation
شبيه بالبدائي Para Primitivism
شخصيّة Personality
الأنثروبولوجية الجسميّة Physical Anthropology
عنصـر Principle
سياسة Political
أنساق سياسيّة Political Systems
ما قبل التاريخ Pre-History
المجتمعات البدائية Primitive Societies
Q
استبيان (استمارة) Questionnaire
S
علـم Science
الأنثروبولوجيا الاجتماعية Social Anthropology
البيولوجيا الاجتماعية Sociobiology
علوم اجتماعية Social Science
أنساق اجتماعية Social Systems
علم الاجتماع Sociology
الدور الاجتماعي Social Role
الأشكال الاجتماعية Social Morphology
خصوصيات Specialties
تصنيف (تنضيد ) Stratification
الاتجاه البنائي الوظيفي FunctionalStructural
نسق – نظام System
T
نظريّة Theory
نظري Theoretical
قبيـلة Tribe
U
العمران الحضري Urbanization
عام – عمومي Universal
***
لا تنسوني من دعائكم ...