لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > قسم الارشيف والمواضيع القديمة > الارشيف
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

الارشيف يحتوي على مواضيع قديمة او مواضيع مكررة او محتوى روابط غير عاملة لقدمها


حصاد العاصفة ...

الرواية على شكل رابط الياس أنيس خوري حصاد العاصفة - روايــــة -

 
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 28-10-09, 04:10 PM   المشاركة رقم: 1
المعلومات
الكاتب:

البيانات
التسجيل: Sep 2009
العضوية: 149707
المشاركات: 654
الجنس ذكر
معدل التقييم: جيرمون111 عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدPalestine
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
جيرمون111 غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

المنتدى : الارشيف
Deal حصاد العاصفة ...

 

الرواية على شكل رابط
http://www.awu-dam.org/book/98/novel...a-n/161A-N.zip


الياس أنيس خوري







حصاد العاصفة

- روايــــة -






من منشورات اتحاد الكتاب العرب
1998

















تصميم الغلاف للفنان : عبد المعطي أبو زيد










الإهــداء..


إلـى ســـــلوى خــوري هاشم







-1-

أشعلت سيكارة واتكأت بمرفقيها على سور الشرفة الغربية مفلته نظراتها في ظلمة الوادي الخرساء.. إلى أقصى الجنوب ناصت آخر امتدادات أضواء خليج العقبة المتراقصة كفراشات كسلى. فتحت عينيها على وسعهما وحدقت بقوة محاولة اختراق حجب الظلام إلى الشاطىء المقابل لكن لم تكن هناك سوى كتلة سوداء ابتلعت الأفق وغيبته في عتمة سرمدية. مجت من السيجارة بشراهة ثم نفثت الدخان مترافقا بتنهيدة طويلة.
لم يعد ثمة معنى لمزيد من الانتظار. لقد اتخذت قرارها وحزمت أمرها فماذا أصابها الآن؟ لم تعهد في نفسها مثل هذا القلق والاضطراب من قبل.. حتى في أسوأ الأزمات لم تفارقها ثقتها بنفسها. اعتادت أن تمضي قدماً ما إن تدرك أنه ليس ثمة خيار آخر أمامها.. أهو التقدم في العمر؟ لاشك في ذلك.. حسابات المرأة في الخامسة والأربعين هي بالتأكيد غير حساباتها في الخامسة والعشرين، عهد الجسارة والعنفوان والإقدام! الآن صار عليها أن تعد للعشرة قبل أن تقدم على أية مجازفة.. لكنها عدت للألف هذه المرة.
لم يكن طارق يخفي اعتزازة "بجسارتها الطائشة" حين أنقذته من يد الشرطي في مظاهرة باب العمود. أو حين هددّت الخوري أنطوان بأنها ستذهب لتتكلل عند الكاثوليك إن لم يكللهما هو. لكنه لم ينس في الوقت نفسه بأن يحذرها من أن تودي بها تلك الجسارة إلى منزلقات لا تحمد عقباها. فليس في كل مرة تسلم الجرة..وانكسرت الجرة بأسرع مما توقع. تفتتت وتبعثرت شظاياها مع رافايل.
وهزت رأسها بعد تلك الأفكار ثم شدت جذعها ورمت السيكارة ليست الشجاعة ما ينقصها بل الثقة بقدرتها على مواجهة ما بعد الزلزال الذي سيفاجئهم دون سابق إنذار كما فاجأها هي.. ما زالت حتى الآن تشعر بالعجز عن استيعاب المسألة بعقلانية.. لكنه طارق.. كل ما فيه طارق. حركاته.. نظراته.. صوته.. أنفاسه.. لمساته.
بإمكانها كتم الأمر وكأن شيئاً لم يكن ولن يكون هناك شيء إن أرادت.. لكن إلى متى؟ ستكذب على نفسها إن تصورت أن حياتها يمكن أن تستأنف مسيرتها المعتادة وكأن شيئاً لم يكن.. ولكنها إن تكلمت فلن يتبقى شيء كما كان سابقاً.. خياران أحلاهما مر!. فإلام ترددها؟ منذ أسبوع وهي تهيئ نفسها لتلك الساعة. خططت لكل شيء بدقة واحتكام.. حفظت عن ظهر قلب كل كلمة ستقولها، وطريقة لفظها. ومتى تصمت، وكيف تواجههم، وردات فعلهم و..
أجفلت على نباح كلب جدّ قريب أحست وكأنه يدوّي في رأسها. شعرت بتنمل في ساقيها وألم في فخذيها نجما عن وقوفها الطويل. فركت فخذيها وحركت ساقيها تنشّط فيهما الدماء. عادت تحدق إلى العتمة اللانهائية وقد غمرتها الرهبة. كل شيء هادىء ساكن ولكأنما اندغمت عناصر الكون جميعها في تلك اللوحة الآخاذة من بحر وسكون وظلام وسماء بعيدة تعكس ظلال عوالم أخرى غير منظورة.
- علي أن أبلغهم مهما كانت النتيجة.. سأنهار إن لم أفعل!
هزت رأسها بتصميم واتجهت إلى المطبخ. لكنها توقفت حين تناهى إليها صوت إبراهيم يسأل مريم عنها. ردت هذه بأنها في الحمام. انتظرت إلى أن ابتعد ثم دخلت وهي تتنحنح بصوت خافت، رفعت مريم إبريق القهوة عن النار والتفتت إليها قائلة:
- إنه ليس على مزاجه الجنرال!. هناك ما يقلقه وكأنه يشك في أمرٍ ما!.القهوة جاهزة فهل أدعوهم إلى المكتب؟
فركت يديها بعصبية وابتسمت بقلق قبل أن تهمس:
- ليس الآن.. إنني ما زلت متوترة..
حدقت إليها مريم بإمعان قبل أن تقول بحدة:
- هذا واضح عليك.. وجهك أصفر كليمونة.. أخائفة أنت؟
- أنا فعلاً خائفة.. ما رأيك لو أؤجل الموضوع عدة أيام؟
- لا.. عليك أن تنهيه الليلة.. هيا تشجعي يا عواطف.
كم هو سهل إسداء النصح وكم تخونها الشجاعة عملياً. لم تشعر بمثل هذا الوجل حتى وهي ذاهبة إلى منزل رافايل. وكأنما قرأت مريم ما يدور في خلدها همهمت وهي تضع فناجين القهوة في الصينية:
- أتذكرين يوم رحت لعند الكلب رافايل ومعك المسدس وأنت مصممة على قتله؟
توفزت أعصاب عواطف فيما مريم تستدير نحوها مبتسمة:
- خذي معك مسدساً الآن فقد يمدك بالشجاعة!.
اغتصبت عواطف ابتسامة صفراء وقالت متجنبة النظر إليها:
- كان ذلك فيما مضى يا مريم.. لا تنسي أننا لم نعد صغارا!.
- بخ بخ.. أنت ما تزالين عواطف كما كنت دائماً.. كفاك تفكيراً ووافيهم قبل أن يفقدوا صبرهم.
قالت مريم بنبرة آمرة وهي تتملاها بقلق. بادلتها عواطف النظر ثم تنهدت باستسلام وخرجت إلى شرفة الصالون حيث سارت بهدوء إلى الأباجور الموارب ونظرت إلى الداخل.
كان الصالون في حالة مزرية من الفوضى حيث لم تعد قطعة أثاث في مكانها. تبعثرت كراسي "لوي كانز" حول الطاولات الصغيرة التي امتلأت بالصحون والكؤوس وزجاجات المشروب وبقايا الطعام. جلس غسان ويوسف حول مائدة السفرة وقد انهمكا في نقاش لا يخلو من حدّة حول بيروسترويكا غورباتشوف، وتوزع الآخرون، نضال وناديا وعطاف وإبراهيم، غير بعيدين عن الرجلين يصغون إليهما وقد سيطرت عليهم حالة من الخمول واللامبالاة.
ضمّت عواطف ساعديها بقبضتيها وراحت تعتصرها بلطف تاركة لطيف ابتسامة أن يرقى إلى شفتيها دلالة رضاها على نفسها. لاشك أن البند الأول من خطتها نجح نجاحاً طيباً. لم يتغيب أحد رغم أنهم جميعاً، باستثناء إبراهيم، حاولوا الاعتذار متذرعين بحجج شتى أبرزها أن الذهاب للعقبة يعني أن عليهم المبيت هناك، وهذا سيؤثر على برامجهم ليوم الجمعة. لكنها أصرّت على حضورهم.. وجاؤوا.
نعم. إنها ما تزال تحظى بطاعتهم جميعاً رغم كل شيء.
ركزت بصرها على غسان.. تكاد لا تصدق أن ستة وعشرين عاماً بالتمام والكمال مرت على تلك اللحظة عظيمة البهجة التي أخذته فيها بين ذراعيها للمرة الأولى فيما طارق ينحني فوقها ليقبلها بحنان.. إنه الصورة الذكورية عنها. يشبهها قلباً وقالباً. ولعل هذا ما يباعد بينهما أكثر مما يقارب. لو أنها سئلت عنه لعجزت عن إعطاء تعريف محدد له.. تبدو شخصيته لها مركبة عسيرة الفهم وطباعه مزاجية يغلب عليها العناد والنزق والغرور بحيث يخيل لمن لا يعرفه أنه لا يقيم وزناً لأحد ولا يؤمن بشيء. لكنه لا يتحرج فجأة عن التصرف بتهور يدفعه للتخلي عن كل شيء كي يذهب إلى بيروت أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان، أو يختفي في غيبات طويلة تمتد لأسابيع ثم يرجع مقطباً ليسألها عن وضع الشركة ملمّحاً أن الوقت حان لتتخلى له عن إدارتها. وهذا بالضبط ما تنوي أن تفعله عندما تتأكد أنه نضج بما يكفي لتطمئن أنها تركت الشركة في يد أمينة ماهرة.
نضال نقيض أخيه. ربع القامة أميل إلى القصر نحيل البنية أجعد الشعر كأبيه. لم يأخذ منها إلا لون العينين والذقن المدببة. مزاجه هادىء وطبعه بارد وهذا ما يجعلها تنسجم معه أكثر من غسان. لكنه يثير غيظها بضعف رأيه وسهولة انقياده. وقع دائماً تحت تأثير غسان وسيطرته. لكن اللواء انتقل بعد زواجه إلى ناديا. هو كالدمية في يديها وهي تحركه كيفما تشاء. لا تنكر أنها على قدر كبير من الجمال، وعلى درجة عالية من الثقافة والذكاء، لكنها ما تزال حتى الآن تستصعب تقبل حقيقة أنها تكبر نضال بثلاث سنوات. وأنها ربيبة دير ما تزال تروي القصص الغامضة عن أمها الراقصة المهاجرة إلى أستراليا منذ عشر سنوات، وتحيط الشكوك بأبيها الذي أمضى آخر أيام حياته مشردا في بيروت يعيش على الصدقات قبل أن يلقى مصرعه في ظروف غامضة.
ولعل ما يزيد من تحاملها على ناديا انسياقها، رغماً عنها وبطريقة تجعلها تشعر بالذنب، إلى المقارنة بينها وبين عطاف. كانت تغصّ وتفيض نفسها بالشفقة وهي ترى إلى خلوها من أية مسحة جمال ؟ لولا عيناها السوداوان الواسعتان؟ تشعان ذكاء وبراءة، وإلى جسمها النحيل الذي يشكو من إعاقة واضحة نتجت عن قصور في نمو ساقها اليسرى في السنوات الأولى من طفولتها. لكنها عوّضت عن ذلك بشخصية لماحة مرحة ودودة تمتاز بالكياسة واللطف والطيبة، وبموهبة أدبية لفتت إليها الأنظار منذ أول قصة نشرتها في أحد الملاحق الثقافية وهي لما تتجاوز السابعة عشرة من عمرها..
فكرت في البدء أن تقصر الأمر على أولادها. فهم المعنيون به، لكنها رأت في إشراك ناديا ويوسف وإبراهيم ما قد يوفر لها شروطاً أكثر ملاءمة. فوجودهم سيساعدها على إدارة دفة الأمور بحزم قد تفتقر إليه إن واجهت أبناءها بمفردها كما سيجبر هؤلاء على ضبط أنفسهم والسيطرة على انفعالاتهم بشكل أكبر.
أخرجها من أفكارها غسان الذي نهض فجأة وسأل عطاف بغضب أين اختفت أمها.. سارعت عواطف تفتح باب الشرفة وتدخل بصخب مفتعل وهي تقول بمرح:
- أرجو أن تغفروا لي تأخري..
التفتوا جميعاً إليها فيما غسان يسألها بنزق:
- أين كنت؟
حدق إليها بدهشة ثم صفّر بإعجاب قبل أن يستدرك برقة:
- ما هذا الجمال يا ست عواطف! من يراك يقول إنك ذاهبة إلى موعد مع حبيب!.
ابتسمت مغتبطة للإطراء متجاهلة السخرية الخفيفة التي أنهى بها كلامه. ومنعها عن الرد عليه إبراهيم الذي نهض وتقدم منها قائلاً بحماسة:
- نعم أنت تزدادين حسناً يوماً بعد يوم يا عواطف.
أربكتها نظرات الإعجاب التي لاحت في عيون الجميع. فأخذت نفساً عميقاً وهي تسترق نظرة خاطفة إلي ناديا قبل أن تقول بلا مبالاة:
- شغلتني سميرة كعادتها. تعرفون أن أقصر تلفون لها نصف ساعة. أصرت على أن تحكي لي عن آخر فضائح..
قاطعها غسان بنفاد صبر:
- لا أحسب أن فضائح سميرة تهمنا الآنأو أنك جلبتنا إلى هذا المنفى لتملي لنا عنها. الوقت يمضي وأنا مضطر للنزول إلى عمان. لوحت بيدها قائلة ببرود:
- لن يغادر أحد قبل أن أسمح له. القهوة تنتظرنا في المكتب فتفضلوا.
تقدمتهم راسمة ابتسامة دون معنى على شفتيها. تبادلوا نظرات تدل على الحيرة الشديدة ثم تبعوها صامتين.
كان المكتب، الملاصق للصالون، عبارة عن ردهة كبيرة مستطيلة تتوسطها طاولة من الأبنوس الأسود ذات نقوش صينية بديعة دقيقة الصنع. أخذوا أماكنهم حولها بصمت وهدوء وكأنهم بدؤوا يدركون أن المسألة جدية جداً. وهذا ما توضح لهم حين جلست بجلال منتصبة الجذع تراقب مريم التي راحت توزع عليهم فناجين القهوة. كانت ترتدي فستاناً أصفر حريرياً يضفي عليها مسحة من الإثارة ولا سيما وهو يكشف عن صدر ناهض مشدود النهدين أقرب إلى صدور الصبايا منه إلى صدور السيدات اللواتي خبرن الحمل والإرضاع. أرخت على كتفيها شالاً كشميريا أبيض انعكس لونه الهادىء على وجهها البيضاوي دقيق التقاطيع يكاد يخلو من الغضون باستثناء خطوط خفيفة متعرجة تحت عينيها وحول فمها. وهذا ما دفع ناديا إلى الجزم أن حماتها أجرت ولابد عملية تجميل لوجهها. لكن نضال، الذي أحرجه تجرؤ امرأته على إصدار ذلك الحكم القاطع أمام صديقات لها،. نفى زعمها بقوة وحذرها من التشنيع على أمه بهذه الافتراءات السخيفة.
حين انتهت مريم وجلست غير بعيد عن عطاف تنحنح غسان وقال بسخرية لم تنجح في إخفاء قلقه:
- لم أعرفك تهوين الإثارة يا أمي!. أرجو أن يكون لديك ما يستأهل كل هذا الغموض!
- ليس هناك أهم مما لدي..
قالت بثقة تاركة لتقطيبة أن تعلو جبينها. أشعلت سيكارة وأردفت بهدوء:
- المسألة أكثر من شائكة ولا أعرف كيف أبدأ. لا أهوّل عليكم إن حذرتكم بأن ما سأقوله خطير وسيكون له تأثير كبير على حيواتنا جميعاً فأنا..
تلعثمت قليلاً فتشاغلت برشف شفة قهوة ثم سحقت السيكارة في المنفضة بيد لم يخف ارتجافها على العيون المحدقة إليها بترقب وحيرة. انتقلت عدوى اضطرابها إلى الآخرين فتسمروا في أماكنهم متطاولين برؤوسهم نحوها باستثناء إبراهيم الذي أطرق مغمضا عينيه نصف إغماضة. حين استأنفت حديثها كان صوتها ثابتا وكأنها حزمت أمرها أخيراً:
- خطر لي أن أكتم الأمر عنكم. لكن هذا سيكون غلطة فادحة لن أغفرها لنفسي أبداً. من واجبي إبلاغكم ومن حقكم أن تعرفوا. المسألة خاصة بنا تحديداً، أنا وأولادي، لكنها تعني الآخرين كما تعنينا تماماً. وبإمكان إبراهيم مساعدتي على توضيح بعض المسائل.
نظرت إلى إبراهيم فرفع رأسه وقال برقة:
- أنا في خدمتك دائماً يا عواطف!.
سارع غسان يقول بحدة:
- كل ما فهمته حتى الآن أن الموضوع خطير وخاص بنا.. قبل أن تفصحي عن أي شيء أريد معرفة مدى خطورته.
التفت حوله بضيق قبل أن يستدرك موجهاً كلامه إلى نضال وعطاف.
- تقول إنها مسألة عائلية خاصة بنا. فإذا كانت ترغب في إشراك الآخرين فمن الأولى أن تستشيرنا مسبقاً.. ليس لي أي اعتراض على أحد لكن يهمني الاطمئنان إلى أن ذلك لن يؤثر علينا بشكل سلبي..
وقاطعته عطاف تقول بحدة وهي تلوح بيديها:
- لا تكن سخيفاً يا غسان.. ليس هناك شيء مما تفكر فيه.
تنحنح إبراهيم كمن يهم بقول شيء، لكنه عدل عن رأيه وعاد إلى الإطراق. ابتسم يوسف بارتباك فيما حافظت ناديا على لامبالاتها وهي ترمق غسان ببرود. وتدخل نضال يقول ببطء وكأنه يزن كلماته:
- لقد قتلنا الفضول لسماع ما لديك يا أمي. أرجو أن يكون مثيراً!.
- هو يفوق الخيال على ما أحسب.
قالت عواطف بمرح مصطنع وكأنها تحاول التخفيف من التوتر الذي سيطر. حاولت الابتسام لكنها فشلت فأردفت مقطبة:
- لا يخطر في بال أحد أنني أخرّف أو أهلوس!. أنا في كامل وعيي وإدراكي ولابد أنكم لاحظتم أنني لم أقرب المشروب أثناء العشاء.
أفلت يوسف ضحكة ساخرة لكنه سرعان ما أطبق فمه إذ حدجته بشزر.
- علينا العودة عشرين سنة إلى وراء لنتذكر بعض الأحداث المؤسفة في حياتنا. جميعاً نعرفها لكن هناك تفاصيل جديدة..
صمتت ما إن رفع إبراهيم رأسه وحدق إليها مضيّقاً ما بين عينيه قبل أن يتساءل بحذر:
- عشرون سنة؟ عام 1967؟ وفاة طارق وحرب حزيران. أيهما تعنين؟
- الاثنين معاً.. فهما مترابطان.
نقلت بصرها بين أولادها الثلاثة وبلّلت شفتيها:
- نعم. الأمر يتعلق بأبيكم. جميعكم تعرفون ماذا حدث. في مثل هذا اليوم من عشرين سنة، أي صباح الخامس من حزيران 1967، غادر طارق، زوجي وأبوكم، القدس متوجهاً إلى عمان للمشاركة في ندوة تنظيمية دعت إلىها المنظمة. بعد سفره بقليل وقعت الحرب. ومنذ ذلك الوقت لم يره أحد على قيد الحياة. انقطعت وسائل الاتصال بين الضفتين وعشت شهراً كاملاً على أمل أن يكون عبر النهر إلى الضفة الشرقية وأقام هناك بانتظار أن تهدأ الأوضاع ليتصل بي. لكن ما إن هدأت حتى تبين لنا أنه قتل على مشارف أريحا. عثروا على سيارته محترقة في وادي الجوز وفيها هويته وجواز سفره وكراساته. لم يعثروا على جثته أو بقاياها رغم عملية التفتيش التي أجروها. وكان التفسير الوحيد لذلك أن ضواري الوادي..
اختنق صوتها واحتقن وجهها فصرخت عطاف بصوت متهدج وقد تقلصت أساريرها:
- ولماذا هذه التفاصيل المؤلمة يا أمي؟.
مدّ نضال يده وأمسك بيدها بحنان:
- نعرف كل هذا يا أمي فلماذا تعذبين نفسك وتعذبيننا؟.
هزت عواطف رأسها بقوة وأخذت نفساً عميقاً وهي تشد جذعها:
- آسفة إن كنت آلمتكم. لكن لابد من ذلك كي تستوعبوا ما سأقول.. إن والدكم. زوجي، طارق مناف، لم يمت كما حسبنا، لم يمت أبداً بل هو حي يرزق..
















- 2 -
تطلب الأمر أكثر من نصف ساعة إلى أن نجحت عواطف، أو هكذا خيل إليها، في السيطرة على الوضع واقناعهم بضبط أعصابهم والعودة إلى مقاعدهم. كانت مشوّشة الذهن فما عادت تذكر إن كانت توقعت أن تكون ردود فعلهم على هذا النحو أم في شكل آخر.. أطبق صمت خانق بعد أن ألقت قنبلتها وراحوا يحملقون إليها بذهول بين مصدق ومكذب، متصلب ومتشنج. مكفهر وشاحب. ولكن ما إن انفجرت القنبلة، واستوعبوا ما قالت، حتى دبت الفوضى واختلط الحابل بالنابل. قفز غسان كمن لدغه عقرب ونهض نضال ببطء وقد فرت الدماء من وجهه وراحت عطاف ترتجف وقد جحظت عيناها. تفرست فيها ناديا بوجوم وابتسم يوسف بغباء وهو يهرش رأسه بأصابعه أما إبراهيم فاكتفى بالتحديق إليها بغموض.
راحوا كلهم يتكلمون ويصرخون ويدمدمون معاً. وتجهل إلى متى كانوا سيستمرون على هذه الحال لولا عطاف التي سارعت تمد لها يد العون. أصابتها نوبة تشنج عصبي أفقدتها الوعي فاستقطبت اهتمام الجميع. انهمكت عواطف، تساعدها مريم وناديا، في إنعاشها صامّة أذنيها عن كل ما يدور حولها. حين عادت عطاف إلى وعيها وقد اكتسى وجهها شحوباً جثثياً ملأ الفزع قلب عواطف وسألتها بقلق إن كانت على ما يرام أم يجب استدعاء طبيب . رسمت عطاف شبح ابتسامة على فمها وهزت رأسها تطمئنها. فاجأها غسان حينئذ يقول بهياج:
- دعينا الآن من عطاف وتطلعي إليّ. أأنت في كامل وعيك؟.
والتفت يسأل إبراهيم الذي اقترب من عواطف بارتباك:
- ماذا دهاها؟ هل شربت كثيراً فالتاث عليها الأمر؟.
انتفضت عواطف وزعقت فيه:
- صن لسانك يا غسان وحافظ على أدبك!.
أجهشت عطاف في نحيب خافت ونفخ نضال بحيرة فيما حط إبراهيم يده على كتف عواطف قائلاً برجاء:
- أرجوكم اهدؤوا قليلاً ودعونا نستوعب ما قالت.. أعيدي ما قلته يا عواطف.
نقلت عواطف نظراتها بقلق بين عطاف وغسان ثم قالت بإصرار:
- سمعتم بوضوح ما قلت. طارق، زوجي وأبوكم، حي يرزق، حذرتكم أن المسألة ليست عادية وأعرف أن الخبر صعقكم وأنا أعذركم.
حشرجت عطاف وهي تغمغم باضطراب:
- غير معقول.. غير معقول..
وزعق غسان بغيظ.
- أي أب هذا الذي تتحدثين عنه؟.
- قام من بين الأموات!.
علقت ناديا بجدية مفرطة بلغت حد التهكم فأطلق يوسف ضحكة ذاهلة، حدجه إبراهيم بغيظ قبل أن يقول بصوت حمّله كل ما استطاع من رقة:
- ما تقولينه أمر خيالي يا عواطف. عليك أن توضحي..
دهمها إحساس بالإحباط وهي تطرق متفادية نظراتهم الناكرة الحانقة تحيك حولها شبكة عنكبوتية خانقة. ودت لو تهرب.. لو يختفون من أمامها. برز وجه رافايل مؤطراً بهالة سوداء وقد جحظت عيناه وتورمت شفتاه وبرزت أنيابه وهو يصرخ بشماته... أن طارق مات.. وتشفطها دوامة عنيفة تدور في محورها متمزقة إلى أشلاء متناهية في الصغر.
بذلت مجهوداً خارقاً حتى نجحت في التخلص من حبائل تلك الرؤية. رفعت رأسها وأجالت فيهم نظرات غائمة. حين وجدت صوتها كان خاوياً ذا رنين غريب على أذنيها:
- نعم. إنه خيال.. كابوس.. هكذا هو.. من شهرين وأنا أتخبط كالمجنونة بين مصدقة ومكذبة. قلت لكم إنني أعذركم. فالأمر لا يقبله عقل ومنطق.. لو كنا في عصر المعجزات لقلت أنه معجزة. لكننا في أواخر القرن العشرين وأنا..
صمتت وأشعلت سيكارة مجت منها بشراهة.
- المهم؟
تساءل غسان بنفاد صبر. نفخت الدخان بقوة:
- بدأ كل شيء في اليوم الأخير من آذار. كنت أزور سميرة لتهنئتها بعودتها من كندا. جلسنا في الصالون واستلمت هي دفة الحديث طيلة الوقت كعادتها. كان التلفزيون يشتغل دون صوت.. في نهاية الأخبار بُث ريبورتاج مصوّر عن حادث سير بين سيارة سياحية وباص للنقل العام. راح المذيع يجري مقابلات مع بعض الأشخاص حين ظهر ذلك الرجل على الشاشة. حسبت أنني شردت فتذكرت طارق أو أن شيئاً ما أصاب عيني. أغمضتهما وفتحتهما لكن ما شاهدته كان حقيقياً. الرجل هو طارق بلحمه ودمه.. كيف لي أن أصف مشاعري وأعبر عن انفعالاتي؟ ليست هناك كلمات قادرة على ذلك.. إنه طارق.. طارق فقط.. عرفته فوراً بالرغم من مرور عشرين سنة، وبإمكاني أن أعرفه بعد عشرين سنة أخرى!. الأمر أشبه بضوء ساطع ينير عقل الإنسان على حين غرة ودون أية مقدمات. بالطبع هو تقدم في العمر خف شعر رأسه وشاب ونحل جسده وظهرت التجاعيد في وجهه و.. لكنه طارق...
تلعثمت وصمتت تأخذ نفساً قبل أن تستطرد:
- لم أستوعب الأمر للوهلة الأولى. حين استعدت توازني وقفزت لأرفع صوت التلفزيون كانت المقابلة انتهت. ستقولون إنه ليس بطارق وإنما هو يشبه طارق.. لا.. منذ وقعت عيني عليه عرفت أنه طارق. رؤيته فجرت شيئاً ما في كياني ووضعتني في مواجهة واقع غير منطقي لكنه حقيقي. إنه ذلك الإحساس الإنساني الذي لا يخطىء. الحدس الخاص بكل فرد منا والذي يسمونه الحاسة السادسة. هكذا تبدو لي الأمور الآن.. شعرت وكأن العشرين سنة التي عشت فيها على واقع، أو وهم، أنه ميت، لم تكن إلا باطلا، تلاشت ووجدت نفسي ثانية أمام طارق بكل أحاسيسي وحواسي.
لم أعرف كيف خرجت من عند سميرة لأهيم على وجهي حتى الصباح كامرأة فقدت عقلها. في السادسة صباحاً أيقظت طلعت وطلبت منه أن يدبّر لي نسخة من الريبورتاج. شاهدته ألف مرة مفتشة عن فارق واحد بين الرجل وبين طارق لأضع حداً لشكوكي وأقتنع بأنه مجرد شبيه. لكن دون فائدة. كلما شاهدته ازددت اقتناعاً إنه طارق. هل جهزت الشريط يا مريم؟.
خرجت هذه الأخيرة لبرهة ثم عادت وهي تدفع طاولة التلفزيون ووضعتها قرب عواطف. أشعلت هذه جهازي التلفزيون والفيديو قائلة:
- أعتقد أن مشاهدة ا لشريط ستوفر علي الكثير من الكلام.
ظهرت على الشاشة لقطة صامتة لسيارة سياحية من نوع بيجو مقلوبة على جانبها وباص محطم المقدمة. تشوشت الصورة لحظة ثم ظهر مذيع يقول:
- تسنّى لنا الالتقاء مع بعض ركاب الباص. الحمد لله على سلامتك يا أخ..
بدا الاضطراب على الرجل الذي اقتربت منه الكاميرا. كان مصاباً بجرح طفيف في جبهته. شهق إبراهيم فالتفتت عواطف إليه بانتصار وكأنها رأت في حركته شهادة قوية لصالحها. حين ظل الرجل صامتاً تابع المذيع:
- هل لك أن تحدثنا كيف وقع الحادث يا أخ.. الاسم؟.
قطب الرجل وبدت عليه الحيرة قبل أن يتشجع ويقول:
- عامر كمال.. كان راكبا السيارة شابين في مقتبل العمر.. رحمهما الله. كان السائق يقودها وكأنه في حلبة سباق. أراد تجاوز السيارة التي تتقدمه معتقداً أنه يستطيع أن يمرق. لكنه أخطأ الحساب. كان حادثاً أليماً.. رحمهما الله..
أوقفت عواطف الصورة على وجه الرجل الذي احتل معظم الشاشة. كان في أواخر عقده الخامس. واضح الشبه بنضال ولاسيما في الجبين العريض والحاجبين الكثيفين.
رن صوت عطاف ممتلئاً بالثقة وهي تلتفت إلى إبراهيم:
- حتى الصوت صوته.. ماذا تقول يا إبراهيم؟
تفرس فيها بإمعان ثم قطب قائلاً
- إنه يشبهه بشكل غريب.. ولكن..
ونهض غسان يقول بعصبية:
- إنه يشبهه ولكنه ليس هو.. أليس هذا ما تريد قوله؟.
وتدخل نضال يقول ببرود:
- لا داعي للتعصيب يا غسان. إن كان هو أو لم يكن هو فكيف يكون اسمه عامر كمال لا طارق مناف؟ ثم أين كان كل هذه السنوات مختفياً عن الأنظار ولماذا لم يسأل عنا و..و..؟ هناك ألف سؤال وسؤال في رأسي.. في رؤوسنا جميعاً..
- لدي أجوبة لكل أسئلتكم، لكني أريد أولاً سماع رأي إبراهيم الصريح!.
نظرت عواطف إلى إبراهيم بصرامة وكأنه تأمره بالإجابة.. تضاحك بارتباك:
- للوهلة الأولى سأقول إنه طارق. الشبه مذهل فعلاً. الوجه.. الشكل.. ولو افترضت أن طارق ما يزال حياً فإنه سيكون في عمر هذا الرجل تقريباً.. وهو لم يتغير كثيراً رغم مرور كل تلك السنوات.. إنني.. لا أعرف ماذا أقول يا عواطف.. أجيبي أنت على السؤال.. حول.. حول الاسم...
رمته بنظرة غاضبة قبل أن تقول وهي تجيل بصرها بين أولادها:
- لقد فقد أبوكم ذاكرته لهذا اختفى أو ضاع من حياتنا.. وهذا يجيب على الكثير من أسئلتكم على ما أحسب.
مرت فترة غير قصيرة قبل أن يستوعبوا ما سمعوا. حدقوا إليها بغباء وقد أسقط في يدهم. كان يوسف أول من تمالك نفسه فأطلق ضحكة مبتسرة أشبه بالحشرجة عبرت عن حالة الذهول التي أطبقت عليهم. وتلته ناديا مدمدمة:
- يا يسوع المسيح.
تبادل غسان ونضال النظر بحيرة فيما ازداد انكماش عطاف.. أطفأت عواطف التلفزيون وقالت بمزيد من الثقة وهي تجلس مركزة نظراتها على عطاف.
- نعم.. لم يمت أبوكم حين قصفت الطائرات الإسرائيلية سيارته وإنما فقد ذاكرته. هذا بالتأكيد ما حدث. لم يصب بجروح بليغة وإلا لبقي في مكانه ولكان الناس عثروا عليه وأسعفوه إلى أقرب منطقة. الأرجح أنه فقد وعيه لفترة. ولما عاد إلىرشده، فاقد الذاكرة من هو وأين وليس معه مايدل على شخصيته ، فأوراقه احترقت بالتأكيد في السيارة، لم يكن أمامه إلا أن يتجه إلى أريحا. كانت المدينة في فوضى الحرب والناس يهربون منها إلى الضفة الشرقية فانضم إليهم ولجأ إلى الأردن..
شملتهم بنظرة حادة تتقصى تأثير كلامها عليهم.. فلما ظلوا صامتين أردفت:
- أول سؤال يتبادر إلى الذهن هو ماذا يمكن لامرىء في مثل وضعه أن يعمل هناك؟ لا هوية معه، ولا صديق أو قريب ليمد له يد المساعدة ويتعرف إليه. ومن سوء حظه أن الظروف كلها تكاتفت ضده. فالحرب قائمة والأوضاع منهارة والناس مذعورون يائسون وكل واحد غارق في همومه ومصائبه ولا وقت لديه للاهتمام برجل غريب مهما تكن حالته صعبة ومثيرة للشفقة. بل لا أستبعد أن يكون أثار شكوك من التقى بهم ودفعهم إلى الارتياب في أنه قد يكون جاسوساً أو عميلا!. إزاء تلك الوقائع لم يجد مفرا من انتحال أي اسم للاحتماء به. ولو أن الأوضاع استتبت بعد الحرب لربما توفرت له الفرصة ليتعالج ويشفى من إصابته، لكنها ظلت مضطربة إلى ما بعد أحداث أيلول، أي أكثر من أربع سنوات. فاضطر إلى التأقلم، بطريقة من الطرق، مع واقعه الجديد والعيش كعامر كمال لينسى نهائياً، كما تدل الظواهر، طارق مناف. وهو انساق مع ظروف حياته الجديدة إلى حد فقد معه القدرة، والفرصة، على إعادة وصل حاضره بماضيه..
سكتت تشعل سيكارة ثم احتست شفة قهوة واستطردت بصوت حاولت أن تضفي عليه بعض المرح:
- يبدو أنني أحلل الوقائع بشكل منطقي ومقنع طالما أنكم تستمعون دون تعليق أو مقاطعة. أعتقد أن ما قلته يشكل الإطار العام لقضية طارق مناف، ويقوم على عنصرين جوهريين، الأول أنه حي يرزق، والثاني أنه فاقد الذاكرة..
- أتقدمين لنا أدلة دامغة أم افتراضات يا عواطف؟.
قاطعها يوسف بهدوء وهو يجيل بصره فيما حوله قبل أن يستدرك بلطف:
- إن ما عرضته حتى الآن ليس إلا افتراضات نظرية لا ترتكز إلى الواقع..
لوحت بيدها تقاطعه:
- إنها وقائع يا يوسف. لقد أمضيت الشهرين الماضيين أبحث وأفتش وأدرس وأحلل كل شاردة وواردة في الموضوع. ولم أقرر إبلاغكم به إلا بعد أن اقتنعت بأنه طارق واقتنعت مريم معي.
التفتوا نحو هذه الأخيرة. بدت مريم واثقة من نفسها وهي تبادلهم النظر مضفية على محياها إمارات الجد والصرامة المتناقضة مع طبعها اللين وأسلوبها السلس في التعامل مع أفراد الأسرة. كانت قصيرة مكتنزة القامة، قروية التقاطيع ما تزال تحتفظ بآثار وشم أزرق في جانب ذقنها، رشيقة الحركة تحكي التجاعيد العميقة التي زرعت وجهها قصة حياة حافلة بالشقاء والتجارب لامرأة فطرية الذكاء، قوية الشكيمة.. تنحنحت قبل أن تقول بثقة:
- ذهبت إليه في عمله بحجة طلب مساعدته في توظيف ابني!. إنه طارق.. زوج عواطف وأبوكم.. وسأعرفه ولو كان بين ألف رجل يشبهونه. لم أفهم لحد الآن معنى أنه من دون ذاكرة.. لكنه طارق وإن لم يتذكرني أو يتذكر عواطف.. إنني مؤمنة بهذا تماماً.!..
- إيمانك هذا مثل إيمانك بأن شفيعتك العذراء تظهر لك في أحلامك!
علق غسان بسخرية أثارتها فنبرت فيه بحدة فاجأت الجميع:
- لا تجدّف يا غسان.. نعم. العذراء عليها السلام تتذكرني بين وقت وآخر.. وهي تظهر للمؤمنين الطبيين لا للكافرين الملاعين!.
تدخلت عطاف تقول بنفاد صبر:
- لا تهتمي به يا مريم.. وماذا بعد يا أمي؟ كيف قابلته أنت؟
- دعوته إلى الشركة لأعرض عليه العمل عندي. قابلته أول مرة في الساعة العاشرة من يوم الأربعاء /17/ نيسان. كان من أصعب الأيام في حياتي، مررت على الكنيسة في الصباح لأطلب من الله العون. منذ زمن طويل لم أصل بمثل هذا الإيمان العميق. كنت بحاجة إلى الله ليقف إلى جانبي. وأظن أنه فعل. حين أبلغني طلعت بوصوله شعرت بأعصابي تهدأ وشملتني سكينة اندهشت لها. بدت عليه الحيرة ما إن دخل ورآني. تسمر في مكانه وتفرس بي حتى خلت أنه يوشك أن يتذكرني وسرعان ما سينده باسمي. لكن تلك النظرة لم تدم أكثر من لحظات خاطفة استعاد بعدها طبيعته وصافحني بحرارة قائلاً إن له الشرف في مقابلة السيدة عواطف بشارة.. لم تدم المقابلة طويلاً.. قلت له إنني بحاجة إلى خبير حسابات جيد مثله، فهو محاسب في شركة الهندسيات المحددة. وعرضت عليه راتباً مغرياً، لكنه لم يبد كثير تحمس للعرض في البدء ووعدني بأن يدرسه. ولا داعي لأن أؤكد من جديد على ما اعتبره أمراً مفروغاً منه وهو أنه طارق. ولو كان الأمر متعلقاً بي وحدي كنت صارحته بالحقيقة فوراً وأعلنت على الملأ أنه طارق..
- وكيف عرفت أنه فاقد الذاكرة؟.
سألها إبراهيم ببرود أدهشها فنظرت إليه بحيرة قبل أن تجيب بجفاء:
- بعد عذاب طويل.. كانت هذه هي الحلقة المفقودة.. كيف ولماذا انتقل من طارق مناف إلى عامر كمال؟ معضلة حيّرتني وكادت تفقدني صوابي. اشتط بي الخيال إلى حد التفكير بأنهما توأمان وقد باعدت بينهما الظروف منذ مولدهما!. لكن حتى التوأمين لا يتشابهان بهذا الشكل.. بل إن أسخف ما خطر لي إنه ربما غير اسمه ليتمكن من الارتباط بامرأة غيري بعد أن تقطعت الروابط بين الضفتين!
ضحكت باستهجان واستدركت:
- كم يصغر عقل ابن آدم أحياناً!.
- وكأنكما لم تكونا على وئام؟.
سأل يوسف بحذر وقد سيطرت عليه حيرة شديدة. لكنها سارعت تجزم:
- أبداً.. أبداً.. كنا على أحسن حال.. كانت كما قلت مجرد وساوس راودتني في ساعات الضعف والسوداوية التي لفتني حينذاك. لقد كدت أهستر بسبب عقدة الاسم.. لكن الله لم يطل عذابي.. هبط عليّ الحل كالوحي. استيقظت ذات ليلة على صوت يهمس في أذني بأنه فاقد الذاكرة!. هذا هو الأمر دون أي شك. في اليوم التالي زرت الدكتور جلال صادق الاختصاصي المعروف في الأمراض العصبية وشرحت له الأمر فقال إن ذلك ممكن لكنه لا يستطيع الجزم إلا بعد الفحص السريري الشامل.
- وهل فحصه؟
سألها نضال فردت بامتعاض:
- لا.. فبأية حجة سأطلب منه أن يذهب معي لإجراء الفحص؟.
- تذكرت الآن أن أحد زملائي في المقاومة فقد ذاكرته بعد أن فجع بزوجته وطفليه في حادث تفجير في الفاكهاني. لكنه صار مجنوناً و..
ضاع كلام يوسف في ضوضاء زمجرة غسان الذي زعق بشراسة:
- حسناً يا ست عواطف. لقد استمتعنا بالإصغاء إلى قصة الخيال المبتكرة التي طلعت بها علينا بأسلوب بوليسي مشوق.. ولنقل أننا
شابك أصابع يديه وطقطهما بحنق قبل أن يستدرك وقد انتفخت عروق رقبته:
- لنقل إننا سايرناك على أنه طارق مناف علماً أن عقلي، بل عقولنا كلنا، ما تزال عاجزة عن الاستيعاب والفهم.. فماذا تبتغين.. ما هي نواياك؟.
أخذ نفساً عميقاً وأردف مخففاً من حدته وجاهداً لضبط نفسه:
- قلت لو أن الأمر متعلق بك وحدك لكنت صارحته بالحقيقة فوراً ولأعلنت على الملأ أنه زوجك الميت، الحي فاقد الذاكرة الذي عثرت عليه بعد عشرين سنة. وقد سمحت لنفسي بأن أفهم من كلامك أنك حرصت على عدم اتخاذ أي إجراء قبل استشارتنا واستمزاج رأينا كي يكون القرار جماعياً.. هل أنا مصيب؟.
أجالت بصرها بقلق في الوجوه المحملقة فيها وقد تصلبت أطرافها، بللت شفتيها بلسانها ثم غمغمت بصوت أقرب إلى الهمس وكأنها تحدث نفسها:
- كلما أوغلت في الأمر ازدادت عقده وصعوباته.. لقد صعقني في البدء حتى كدت أفقد عقلي وعشت أياماً طويلة فريسة للشكوك والآلام والهواجس، ثم فرحت، فرحت فرحاً عظيماً لا تتسع له الدنيا، لكن فرحتي لم تطل، عادت المخاوف تطل برأسها تشعرني أنني مقدمة على تعاسة كبيرة. أتخيل أحياناً أنني كأهل الكهف خارجة من بيات طويل إلى دنيا لم تعد كما عهدتها ولا محل لي فيها.
صمتت متشاغلة بعضِّ شفتها السفلى وكأنها تبحث عن الكلمات المناسبة للإفصاح عما في ذهنها. أبعدت خصلة شعرها عن عينيها وأردفت:
- نعم. الأمر ليس أمري والقرار ليس قراري. ولا هو أمرنا وقرارنا وحدنا.. طارق لم يعد زوجي وحدي ولا والدكم وحدكم. ألم أٌقل لكم أن المشكلة معقدة أكثر مما نتوقع!. إنه رب أسرة ثانية. فهو متزوج منذ عام /75/ وعنده ثلاثة أطفال.. صمتت تنتظر ردة فعلهم لكنهم، لدهشتها الكبيرة، حافظوا على هدوئهم باستثناء عطاف التي
أطلعت شهقة قصيرة. تحرك غسان قليلاً قبل أن يقول بسخرية:
- ليس هذا مستغرباً بعد كل ما سمعناه تلك الليلة منك.. فإن كان لديك مفاجآت أخرى أطلعينا عليها كلها دفعة واحدة. قابلتهم أيضاً أليس كذلك، أعني أفراد أسرته!.
هزت عطاف رأسها بالإيجاب ثم غمغمت:
- إنها تركيبة شيطانية.. كأنما هي هلوسات.. أليس كذلك؟.
سارع غسان هو يجيب بلؤم:
- للأسف يا أمي. نعم..
وقاطعه إبراهيم متسائلاً:
- ومن هي زوجته؟.
أثار السؤال دهشة الجميع. وحدقت إليه عواطف بضيق قبل أن تقول:
- إنها سيدة لطيفة ودودة. وهي معلمة في مدرسة الوكالة في مخيم الوحدات.
- وكم عمرها؟.
- بين الخامسة والثلاثين والأربعين.
- أهي على علم بحالته؟ أعني أنه فاقد الذاكرة.
ضايقتها أسئلة إبراهيم لكنها لم تجد بداً من الإجابة بجفاء:
- لم أسألها لكن لا ريب أنها تعرف. ليس من المعقول أن تتزوج رجلاً وتعيش معه ولا تكتشف أنه فاقد الذاكرة..
- هذا إذا آمنا أنه طارق. أرى أن العنصر الجديد الذي دخل على قصتك زادها تعقيداً وغرائبية بدل أن يزيدنا اقتناعاً. هل يعقل لمثل تلك المرأة المتعلمة أن تتزوج رجلاً يكبرها بأكثر من عشر سنوات، وفاقد الذاكرة؟.
بذلت عواطف جهداً كبيراً لتضبط أعصابها وقد بدت عليها الدهشة العارمة لموقف إبراهيم العدائي. وإذ نجحت قالت وهي تنظر إليه بغضب:
- هذا ممكن إن أحبته..
سكتت وساعة الحائط الجدارية تعلن انتصاف الليل. انساب صوت دقاتها الرتيب أشبه بصراخ أجوف في فراغ نظراتهم فارضة عليهم لحظات صمت وكأنهم يحاولون جمع شتاتهم. لاحقت إبراهيم الذي هز كتفيه واتجه إلى النافذة يرسل نظراته في ظلمة الوادي الحالكة. وفجأة يتجدد كل حذرها منه، تتشابك في مخيلتها صورته المعكوسة في البللور مع انعكاس نور الثريا على شعره الأبيض مع قبضتيه القويتين تطيحان بها وتمزقان ثيابها فتنهار عاجزة مستسلمة شاعرهةوكأن نصلاً نارياً يخترق أحشاءها قبل أن تسقط في قبضة رؤى مرعبة. يزعق فيها أبوها بغضب وقد أبلغته أنها لن ترضى بإبراهيم زوجاً بأي شكل من الأشكال.
- من سوء حظك يا عواطف أنك ورثت عن أمك وعني أسوأ ما فينا.. عنها الجمال الذي لا يحمل لأصحابه وضحاياه إلا الألم والشقاء. وعني التجبر والعناد اللذين يقودان صاحبهما إلى تدمير نفسه معتقداً أنه يبني أمجاداً لا تزول. إبراهيم هو الرجل الذي يناسبك وهو القادر على إسعادك ولن تكوني لغيره حتى لو اضطررت إلى أخذك إلى الكنيسة مخفورة.
لم تتصور أبداً أن تصل المواجهة بينهما إلى حافة الهاوية. كان الموت أهون عليها من أن تسبب له العذاب والهوان. لكن وعيده لم يترك لها أي خيار. بعد أسبوعين تكللت وطارق سراً في بيت جالا وعادت في المساء لتبلغه بما فعلت طالبة صفحه وغفرانه. تبرأ منها وطردها قائلاً إنه سيعتبرها من الآن وصاعداً في عداد الأموات.. رضخت لرغبته وأبلغته أنها ستقيم وطارق في بيروت بانتظار صفحه.
أجفلت على صوت إبراهيم يفح غير بعيد عن وجهها:
- أين أنت سارحة يا عواطف؟.
نظرت إليه بخواء وهو يدير بصره في الحاضرين قبل أن يردف:
- القرار قرارك أنت وأولادك. وأنتم أحرار في أي اتفاق تصلون إليه. لكن هناك ما أريد قوله. إن قرابتنا وصداقتنا تمنحاني الحق في اعتبار نفسي كبير العائلة بغياب أي كبير آخر.. سأزيح عواطفي جانباً للتعامل مع القضية بعقلانية إن كان ذلك بمقدوري!
أشعل سيكاراً وقلبه بين يديه بهدوء ثم دمدم:
- منذ سنة وأنا أفكر بالإقلاع عن التدخين لكن إرادتي تزداد ضعفاً..
مج عدة مرات بشراهة مشكلاً حوله سحابة دخانية كثيفة نشرت رائحة الدخان العطرة:
- لا أحد كان يتصور أن تتمخض سهرتنا التي بدأت هادئة لطيفة عن تلك الدراما العنيفة التي توشك أن تزلزل حتى ثقتنا بأننا موجودون.. في أكثر أفكارنا شططاً لن يخطر في أذهاننا أن طارق حي يرزق.. ولكن عواطف تؤكد أنه حي! كيف؟ بصراحة لا أعرف.. لقد شهدت في حياتي من الغرائب والعجائب ما شكل لدي قناعة بأن المستحيل قد يكون ممكناً في كثير من الأحيان. قال المسيح مرة أنه يستحيل على الغني أن يدخل الجنة كما يستحيل على الجمل الدخول في خرم الإبرة. لكن إن صنعنا إبرة كبيرة بخرم كبير فإن الجمل سيدخل منها. وهكذا يدبر الأغنياء أمورهم ليكونوا أول من يدخل الجنة!.
خنخن بسخرية ولوّح بالسيكار:
- رغم تلك السفسطة فإن ما نواجهه ليس سهلاً أبداً. لدينا، حسب قصة عواطف، رجل كان قبل عشرين سنة طارق مناف زوجها ووالد أبنائها الثلاثة، أما الآن فهو عامر كمال زوج امرأة أخرى.. ما اسمها؟.
- عايدة..
ردت عواطف فهز رأسه بسخرية:
- عايدة.. اسمك واسمها يبدأ بحرف العين.. ليس مهماً.. هو الآن زوج تلك العايدة ووالد أطفالها الثلاثة أيضاً.. فهل سيصدقنا لو قلنا له أنت مخطىء يا رجل. أنت لست عامر كمال، وإنما أنت طارق مناف فاقد الذاكرة. أعتقد أنه سينظر إلينا شزراً معتبراً أننا زمرة من المهووسين الخطرين..
- هذا إن كان طارق..
قاطعه غسان محتداً.. نهضت عواطف وقالت بهدوء:
- قلت لكم وأعيد أنه طارق.. عليكم أن تؤمنوا بي وتصدقوني. لقد عشت مع طارق، حبيبة وزوجة، عشر سنوات وأنجبت منه ثلاثة أبناء وهذا يكفي لأعرف إن كان هذا الرجل طارق أم شخصاً آخر.. لقد أمضيت الشهرين الفائتين وأنا أفكر بالموضوع.. لست عالمة أجناس وسلالات لكنني توصلت إلى حقيقة بسيطة مفادها أن ثمة عناصر وسمات وخصائص تميز كل فرد إنساني عن غيره وتصوغ قالبه المتفرد بواسطة تفاعلات تتم بين الجسد والنفس في ظروف معينة ومسارات حياتية محددة. ومن هذه التفاعلات ينشأ ما يمكن أن أسميه البصمات الإنسانية الخاصة بكل مخلوق، من طبع ومزاج وذكاء وأهواء وقدرات عقلية وجسدية وغيرها. وكما يستحيل أن تتشابه بصمات الأصابع بين كائنين، يستحيل أن تتشابه البصمات الجسدية والنفسية بين كائنين اثنين حتى لو كانا توأماً. وهذه البصمات متطابقة بشكل كامل بين طارق مناف وعامر كمال. لهذا فالاثنان شخص واحد.
نقلت نظراتها بين غسان وعطاف وناديا:
- أريد استعادة زوجي وأبوكم. فهو لنا قبل أن يكون لغيرنا.. لكنني مثلكم أعرف أن العقبات أمامي كثيرة وتثبط أكبر الهمم.. من حقكم أن تشكّوا وترتابوا وتنكروا، لكن من حقي أن تقفوا معي وتساعدوني. إنني لا أطالبكم بالمستحيل..
أخذت نفساً عميقاً وأردفت:
- غرفكم مهيأة.. بإمكان من يشاء أن يخلد إلى الراحة.
غادرت الغرفة بخطوات ثابتة:
- أرغب في فنجان قهوة يا مريم وسأشربه في البلكون..






- 3 -
استلقت عواطف على الأرجوحة مطلقة لجسدها العنان في الارتجاف بغير قليل من المتعة مع كل نسمة باردة تحف بها بنعومة، راحت العتمة الحالكة واهتزازات الأرجوحة الرتيبة بأزيزها الخافت وحفيف أوراق شجرة الجوز الباسقة التي عانقت بعض فروعها عمود الشرفة الرخامي، واستراحت بكسل على إطار الدرابزين، والنداءات الملحاح لصرصور ليل خيل إليها أنه يكمن في مكان ما فوق رأسها، والصدى البعيد للمناجاة الغامضة بين الموج وصخور الشاطىء، راح كل ذلك يثير في جوانحها أحاسيس متضاربة من الوحشة واللذة والخمول والفراغ. أغمضت عينيها المحروقتين وادة لو تسقط في أحضان إغفاءة عميقة تحررها من أفكارها الصاخبة وتخفف عنها ألاماً جسدية شعرت معها أنها عاجزة عن الصمود اكثر مما فعلت.. زنّر صداع ثقيل قوس رأسها وضغط بقوة على صدغيها متنقلاً بدبيب مرهق في عروق وجنتيها وعنقها متحدراً إلى كتفيها. كان صدرها مطبقاً لكثرة ما دخنت وأعصابها متوفزة تستجيب بجفول لأقل حركة تصدر قربها.
راحت مجريات الأمسية تتوالى دون ترتيب أمام ناظريها متداخلة مع صور تتفاوت قرباً وبعداً مخلفة فيها إحساساً قاهراً بالكآبة استسلمت له بخنوع.. تمردها على أبيها والزواج من طارق.. هزيمة حزيران. وسقوط القدس وموت طارق. رافايل. الإبعاد.. عمان وإبراهيم.. أكرم- الزواج والموت- غسان وبيروت. سمير.. هو ذلك الكابوس ينبعث مجدداً بكل تفاصيله.
دهمها الهلع والتوجس ومريم تبلغها أن عسكرياً إسرائيلياً يطلب مقابلتها، كانت أعصابها مشدودة حتى الانقطاع. الشهر الذي مر على الحرب أمضت معظمه في الفراش بسبب نزيف عزاه الدكتور زياد إلى الصدمة القوية التي أصابتها نتيجة التطورات الأخيرة وقلقها الشديد على طارق. أمرها أن تلازم الفراش خشية حدوث مضاعفات قد تهدد حياة جنينها خاصة وقد دخلت شهرها الأخير.
جلست بصعوبة وهي تسألها بغيظ لماذا لم تبلغه أنها متوعكة وغير قادرة على استقبال أحد. ردت مريم بأنها فعلت لكنه مصر على رؤيتها. زمجرت باستهجان ونهضت متحاملة على نفسها لتساعدها مريم على ارتداء الروب دوشامبر. واجهتها في المرآة صورتها الشاحبة بوجه متغضّن مرهق وعينين غائرتين أحاقت بهما هالتان سوداوان دميمتان. كان حرّ تموز القائظ يزيد من تبرمها وسوداويتها وإحساسها بالانحطاط العام. سألت عن غسان ونضال فطمأنتها مريم بأنهما عند الجيران. أردفت بعصبية:
- أتعتقدين أن دورنا حان؟ قال راديو عمان في الصباح أنهم يخلون القدس من سكانها العرب بالجملة.
ردت مريم باستنكار:
- ما بك فقدت أعصابك؟ لم نفعل شيئاً ليبعدونا، تماسكي ولا تسمحي له بتخويفك.
شدت جذعها وهي تدلف إلى الصالون جارّة رجليها بصعوبة. قفز الرجل من مقعده برشاقة وقال باحترام:
- الرائد رافايل لومي. آسف يا سيدة مناف إن كنت أقلقت راحتك. آسف جداً. تأكدي أنني لست مرتاحاً أبداً للمهمة التي جئت بها.
نقل سيدارته إلى يده اليسرى ومدّ اليمنى يعرض أن تتكىء عليها لكنها تجاهلتها ومشت بتثاقل إلى الكنبة وجلست كاتمة تأوهاتها. كانت مضطربة إلى حد أنها لم تنتبه إلى جملته الأخيرة، فهي أول مرة تلتقي فيها ضابطاً إسرائيلياً بهذه الرتبة وجهاً لوجه. كان في منتصف عقده الرابع. تدل ملامحه على أصول شرق أوربية. يتكلم العربية الفصحى بطلاقة تشوبها اللهجة الشمال إفريقية. وجهه حنطي جذاب وعيناه السوداوان الصغيرتان تنمان عن دهاء. فارع القامة رشيق الجسم تبرز عضلاته المفتولة من كم قميصه الأزرق الأنيق، وتدل حركاته على اعتداد كبير بالنفس. راح يتملاها بنظرات جمعت بين العطف والغموض. إذ لم تدعه إلى الجلوس ظل وافقاً:
- لم أكن أعلم أن حالتك الصحية على هذه الدرجة من السوء. أكرر اعتذاري الشديد لكن لابد مما ليس منه بد. فضلت الحضور بنفسي مراعاة لحالتك وقدرك. من الواضح أنك امرأة قوية ثابتة الجنان يا سيدة مناف. وعليك أن تضبطي أعصابك وتتماسكي من أجل جنينك.
صمت لحظات متشاغلاً بتقليب سيدارته فيما انتابها فزع جامح واشتعلت الحمّى في أحشائها وتصلبت أطرافها ما إن فهمت أنه يحمل لها خبراً سيئاً. جاءها صوته خاوياً وكأنه آت من عالم آخر:
- عثرنا على سيارة زوجك محترقة قرب أريحا. وجدنا فيها أوراقه الشخصية لكننا لم نعثر..
عندما صحت مبلّلة بالعرق مقرورة مخنوقة الأنفاس على نداءات مريم وعويل غسان ونضال وجلبة أم سهام حسبت أنها كانت في قبضة كابوس مفزع. لكن وجه مريم المكفهر والهلع المطبق على وجهي الولدين والضوضاء المتناهية من الصالون أعادتها إلى واقعها فأطلقت صرخة هستيرية دخل على أثرها الدكتور زياد وهو يشتم بغضب:
- إنهم حيوانات. ما كان عليك استقباله. الحمد لله أن الصدمة مرت على خير. المهم أن تطمئني فليس هناك دليل على أن طارق أصيب بسوء. لا أشك أنه في عمان وهو يبذل جهده للاتصال بك. أصبح بإمكاننا الآن الاستفسار عنه بواسطة الصليب الأحمر. وهذا أول ما سأفعله ما إن أخرج. والآن عليك أن تخلدي إلى الراحة التامة وتأخذي هذا الدواء بانتظام. لا أفهم لماذا أصر هذا اللعين على إبلاغ الخبر إليك بالذات وليس لمريم؟ وكأنه يتقصد إيذاءك!. النذل. على كل حال حافظي على هدوئك وكوني شجاعة كعهدي بك دائماً..
بدت لها تلك النصيحة سخيفة لا معنى لها. أيحسبها امرأة خارقة؟ من أين لها الشجاعة وهي تشعر بضعف مريع تفقد معه حتى الرغبة في الحياة. وتحاول جاهدة تجنب السقوط في لجة اليأس والاستسلام. تقاوم بشراسة وساوس ومخاوف غرزت أظافرها فيها. ترفض تصديق أن طارقها يمكن أن يكون ذهب في رحلة اللاعودة!. تتمسك بأوهى الآمال. وتؤكد لنفسها أنه في الضفة الأخرى حي سالم ينتظر الظروف المواتية للاتصال بها. لكن الدقائق تمر بطيئة كدهور. والساعات كعصور, ويوهن الأمل. يوهن حتى يتلاشى.
أفاقت على نحنحة مريم ففتحت عينيها بصعوبة وسارعت ترسم ابتسامة باهتة على شفتيها وهي تهز رأسها بقوة طاردة الرؤى عنه. وضعت مريم دلة القهوة على حرف النافذة وقدمت لها فنجان القهوة قائلة بسخرية:
- قال البريغادير جنرال إنه سينضم إليك بعد أن يغير ثيابه.
سألني إن كنت متأكدة أنه طارق. إنهم يحسبوننا مجنونتين!
حست عواطف عدة حسوات من الفنجان ثم وضعته على ركبتها بحذر وقالت بهدوء:
- لا ألومهم. كيف هو الوضع في الداخل؟.
- نزل غسان ونضال إلى الملعب. أرادت ناديا أن ترافقهما لكن غسان قال إنه يريد التحدث مع نضال على انفراد. تضايقت لكنها رضخت. نصح يوسف غسان أن يضع أعصابه في ثلاجة وقال له إن الوضع ليس أسوأ من أيام بيروت. تركت عطاف في المطبخ تعد فنجان شاي ليوسف الذي اشتكى من مغص.
- والآن ما رأيك؟.
قطبت مريم ثم همست وهي تتثاءب:
- لا أعرف. يبدون لي مثل الماشين في نومهم. إنهم يستاهلون الشفقة. كان غسان على حق حين قال إنه كان عليك أن تحصري الأمر بينك وبينهم وحدهم. أعتقد أن المسألة تعقدت بوجود الجنرال ويوسف وحتى ناديا. هم ليسوا من أفراد العائلة كما يجب. والمشكلة عائلية جداً. كيف تسمينها؟.
- عائلية صرف!
- نعم. صرف. التفاهم بينك وبين الأولاد سيكون أسهل دون وجود الآخرين.
هزت عواطف رأسها سلباً دلالة اعتراضها. قالت من ثم بهدوء وبطء:
- سبق واتفقنا أن الأمر يعني الجميع. ليست المسألة أنني فقدت طارق من عشرين سنة ولقيته الآن بل ماذا أفعل؟ مصائر الكثيرين تتعلق به، فهل تتصورين أن يمقدوري أن أتجاهل الجميع، بمن فيهم امرأته وأولاده؟ أتعرفين بماذا أفكر يا مريم؟ إنها أشبه بالحرب على عدة جبهات. وها هي الجبهة الأولى تفاجئني بأنها أصعب بكثير مما حسبت.
- لكنه زوجك قبل أن يكون زوج الآخرى؟.
علقت مريم باستهجان فتضاحكت عواطف قبل أن تقول بصوت مفعم بالتحدي وهي تشدد على مخارج الحروف:
- إنني أتكلم بصوت المنطق لا بصوت العواطف. نعم. إنها حرب ضروس تتطلب الحنكة لا التهور. المناورة لا الشجاعة. الخديعة لا الشرف. النفس الطويل لا الاندفاع الأهوج. لا أريد أن أتسرع فأخسر أو أبالغ في تقدير قوتي فأقع في مطب غير محسوب حسابه. معركة اليوم طويلة وصعبة، لكنها سهلة بالمقارنة مع ما سيأتي. المعركة الحاسمة ستكون مع امرأته.. لا أظنها ستتخلى عنه بسهولة.
- معك حق في هذا..
شهقتا بفزع والتفتتا إلى إبراهيم الذي سد بجسمه الفارع باب الشرفة وبدا في دشداشته البيضاء وشعره الشائب كأحد أشباح أفلام الكرتون.. فرقع بلسانه وأردف بخبث:
- لا تدعي أنني فأجأتك يا عزيزتي.. فبعد الذي سمعناه اليوم يجب أن تتحسبي لكل مفاجآتي.. أما زلت محتفظة ببعض همتك يا مريم بحيث أرجو منك فنجان قهوة مرّة علّ رأسي يستعيد بعض صفائه؟.
نفخت مريم بغيظ قبل أن تهز رأسها بالإيجاب. تنحى إبراهيم عن الباب مفسحاً لها الطريق لتمر. تفرست فيه عواطف بصمت وهو يقترب منها ويستند إلى عمود الأرجوحة قائلاً:
- حاولت أن أصلي طالباً من الله العون والقوة. لكنني نسيت كيف يصلون!. آخر مرة دخلت فيها إلى كنيسة كانت يوم تزوجت. مهما استقوى المرء واستكبر وحسب أنه قادر على إكفاء نفسه بنفسه فإنه يحتاج في النهاية، وبخاصة في الملمات، إلى قوة أقوى منه يلجأ إليها. إله أو زعيم أو جمهور أو عقيدة يؤمن بها. يستحيل على المرء أن يكون فرداً مطلقاً وأن يتخلص من كل ما فيه من عقد واتكالية ووساوس.
مصمص شفتيه واستدرك بحنان:
- إننا لسنا مجرد أقرباء.. أو أصدقاء. إننا.. إن علاقتنا قديمة جداً بحيث يبدو لي وكأنها بدأت منذ جئنا إلى هذا العالم. ورغم كل ما شابها من اضطرابات وأزمات وعقد وعداء وسوء تفاهم فقد بقينا قريبين من بعضنا وتحاشينا القطيعة الكاملة وكأن هناك حبلاً سرياً يربط بيننا. لاشك أن لكل منا نواقصه وأخطاءه وعيوبه. بل إننا نمتلك كمية لابأس بها من الحقارة والنذالة!. لكن ما يميزنا، أنت وأنا، أننا ذكيان وواقعيان ونجحنا دائماً في الفصل بين عواطفنا وعقلينا.لنقل مصالحنا، وهذا ما ساعدنا على تجاوز كل أزماتنا. لقد أردت أن أكون رجلك وحبيبك وزوجك، لكنني كنت كل شيء في حياتك إلا هذا.
قاطعته تقول بحدة وهي تطفىء السيكارة في فنجان القهوة:
- ليس هذا وقت العتاب يا إبراهيم. لا فائدة من فتح الدفاتر القديمة من جديد.
ارتبك وحدق إليها بحيرة ثم تمتم ببرود:
- لا أريد فتح الدفاتر القديمة ولانك جراح الماضي يا عواطف.. سقت هذه المقدمة لأتحدث بصراحة وأحسب أن ذلك من حقي. لقد أردتني أن أشهد مسرحيتك الليلة ليس باعتباري فرداً من العائلة بل لأدعم قصتك وأساند موقفك. لهذا فاجأك تحفظي وأثار غيظك. مشكلتي معك يا عواطف هي أنك لا تولين مشاعري أي اهتمام واعتبار. لاشيء يمنعك من استغلال ضعفي إزاءك لخدمة مصالحك ومآربك مهما سبب لي ذلك من عذاب وقهر.
- أرجوك أن تكف عن هذا الهراء وتتخلى عن أوهامك المريضة. قلت لك أكثر من مرة إنني أمقت أسلوبك الرخيص في الشكوى والتباكي. حسبت أننا نظمنا علاقتنا نهائياً وطوينا صفحة الماضي..
- أي ماضٍ تعنين؟ لا أعتقد أنه الماضي الخرافي الذي تحاولين النفخ في رماده؟. طارق حي!؟ ليس هناك أسخف من هذا القول.
خبطت الأرض بقدمها وهدرت بحنق:
- ما معنى هذا الحديث الآن؟ أين أنا وأين أنت؟.
زمجر بغيظ ولطم الأرجوحة بقبضته:
- أنا هنا مليء بالحياة أما أنت فعند ميتك الميت..
أجفلت عواطف وشدت جذعها فيما توهجت عيناها بنظرة ضارية حين اقترب منها وهو يلوح بقبضته مهدداً. سارع يسبل يده ويسيطر على أعصابه قبل أن يقول:
- آسف. آسف.. أتسمحين لي بالجلوس..
تلكأت لحظة ثم تحركت قليلاً مفسحة له مكاناً. جلس واستطرد مطرق الرأس:
- في إحدى دورات التأهيل القيادية درسنا أن الكذبة كلما كانت كبيرة وغير معقولة كلما مال الناس إلى تصديقها لأن أول ما يتبادر إلى أذهانهم أنه ليس من المعقول أن تكون كذبة!. من ذلك مثلاً الإشاعة التي راجت حول المطران الياس من أنه خلع رداء الكهنوت وتزوج راهبة!. لقد صدقها الناس وصارت حديث البلد قبل أن يظهر أن لا صحة لها إطلاقاً وأن المطران المسكين معتكف في صومعته يتعبد ربه!. قد تصح هذه النظرية على مستوى القضايا الكبرى. في الحروب والثورات والاضطرابات الاجتماعية والسياسية وصراع الدول، لكنها من الصعب أن تنطبق على حالة فردية مثل حالة طارق.
- أفهم من ذلك أنك تعتبرني كاذبة؟.
سألت ببرود دون أن يشي صوتها بأي انفعال. راحا يحدقان إلى بعض بحدة قبل أن يغض إبراهيم نظره ويغمغم بسخرية:
- إنها كذبة كبيرة جداً لكنها لم تقنع أحداً.
- لم تجب على سؤالي؟.
- قلت إنها كذبة، ولم أقل أنك كاذبة!. ربما شبه لك، كل إنسان معرض للخطأ.
- أنا لست مخطئة. أنه طارق.
ضرب عمود الأرجوحة بقوة فدوى رنينه المعدني كطلقة في السكون تلاه تهويم فزع لطيور الليل.
- لا تحاولي بناء قصور من أوهامك. طارق انتهى من الوجود يا عواطف. أما هذا الرجل فشبيه ليس إلا.
- إنها مشكلتك إن كنت لا تريد تصديقي.
سكتت على همهمة مريم التي قدمت حاملة دلّة القهوة:
- غسان ينتظرك في المكتب.. وعطاف سألتني عنك، يبدو أن ليلتنا طويلة!.
علّق إبراهيم بسخرية:
- أرى أن كل واحد يريد مقابلتك على انفراد. حددي لكل منهم نصف ساعة!.
هزت كتفيها باستياء وهي تنهض وتبتعد دون تعليق. ناولته مريم فنجان القهوة وهي مقطبة قبل أن تقول بجفاء:
- عواطف ما قالت إلا الحقيقة يا جنرال.. إنه طارق أعجبك ذلك أم لا!.
فاجأته لهجتها الاستفزازية والاستهتار الذي أبدته في مخاطبته.
حدق إليها بغضب ثم زمجر:
- ماذا تقولين يا امرأة؟.
ردت بمزيد من الجفاء:
- إنه طارق يا جنرال.
تنامى غضبه إلى درجة ود معها لو ينهال عليها بالضرب. لكنها سارعت تبتعد دون أن تترك له الفرصة لقول أو فعل أي شيء. لاحقها بوجوم وهي تختفي وقد تملكه إحساس بالهوان كاد يخنقه. اكتفى بأن لكم ساقه بقوة متمتماً بشتيمة بذيئة.
ماذا يفعل هنا وإلى متى سيظل قابعاً كمراهق آخرق في ظل عواطف متعلقاً بحبال أمل واه يدرك، بثقة، أنه لن يتحقق؟ أهو حقاً عقيد متقاعد بلغ ذروة ما يطمح إليه المرء من نجاح وجاه وسطوة أم مجرد رجل تافه أفقده الحب رشده ودمرت حياته تلك المرأة القاسية التي يكرهها أحياناً إلى درجة التفكير في قتلها؟ ما هو هذا العشق الأهوج الذي استعبده ولم يهن أو يضعف رغم كل ما لقيه من صد وإهمال ولا مبالاة بلغت درجة الاحتقار؟ تخلى عن كل شيء من أجلها، عن الكرامة والكبرياء والحياء وأخيراً، وليس آخراً، عن امرأته وابنته! تنسك في محرابها كاهناً مسلوب الإرادة يقدم لها فروض العبادة والولاء وكأنها الحواء الوحيدة في هذا العالم. حاول جاهداً التحرر من أسرها والنجاة من شراكها. لكن لا طارق ولا الاحتلال ولا أكرم ولا لمياء، ولا حتى ابنته المسكينة، قدروا على نزعها من فكره ودمه وروحه. مر في حياته كثير من النساء. لكنهن لم يزدن عن محطات عابرة يترجل فيها لإشباع شهواته بفتور واستعجال قبل أن يغادرها غير آسف راكضاً وراء سراب عواطف كالبحار المتنقل بين جزر مهجورة باحثاً عن مرفأ آمن يحط مرساته فيه إلى الأبد. لكن عواطف لم تكن إلا القدر الملعون المجبول بالعذابات والخيبات والهزائم. أهو حقاً مازوشي كما صرخت في وجهه الصيف الماضي حين سألها مجدداً الزواج؟ أصغت له بهدوء وهي تأخذ حماماً شمسياً في مسبح الكارلتونون. أثاره حتى التمزق عريها المسفوح أمام ناظريه بالمايوه الأصفر ذي القطعتين اللتين تكشفان أكثر مما تستران. كان جسدها البرونزي نضراً مشدود الجلد لا يوحي أبداً أن صاحبته امرأة في منتصف عقدها الخامس. راح ينهشه بعينيه بشبق رجل لم يعرف الجنس الحقيقي بعد:
- أسأل نفسي من أية طينة مصنوعة أنت يا عواطف؟ الزمن لا يزيدك إلا تألقاً حتى ليخيل إليّ أنك تمتلكين الشباب الدائم.
- ألا تكف عن مراهقاتك الفاجرة؟.
قالت بخمول دون أن تنجح في إخفاء مشاعر الغبطة التي أثارها تملقه في نفسها. استدارت تستلقي على بطنها كأنها تتقصد تسعير نيران أحشائه بحركات شيطانية تتظاهر بأنها عفوية. نفخ بشهوانية وعيناه تتمرغان في زورق ظهرها السحري:
- أنا عاجز عن التعبير. أتعلمين ماذا قال العميد رمزي حين رآك في حفل النادي الخيري؟ أنت الأعجوبة الثامنة.!. لم يصدق أنك أم لأولاد بلغوا مبلغ الرجال. ما رأيك في أن ننسى كل ما فات ونفكر بأنفسنا. إنني ما زلت صالحاً للزواج!.
- متى تنضج يا إبراهيم؟ إنني الآن مشغولة بتزويج أولادي فلا وقت عندي لغيرهم.
قالت مازحة مما شجعه على المتابعة:
- باستطاعتي الانتظار قدر ما تشائين.
هدرت فجأة بغضب وهي تستدير برأسها نحوه:
- أنت لا تحبني بقدر ما تحب تعذيب نفسك أيها المازوشي. لا تعد إلى هذا الموضوع ثانية.
صمت محنقاً وقد أسقط في يده. كان جسدها المشبع بالزيت والمضمخ برائحة الكريم والكلور يتوهج تحت أشعة الشمس مستفزاً رجولته وكبرياءه. جسد مغرٍ فيه من النبل قدر ما فيه من الحقارة، وقد تبذله لأي رجل كان لكنها تمسكه عنه إمساك العفة لنفسها أمام الرذيلة. وهو لا يشك في أنها بذلته لكثيرين دون أن يطرف لها جفن!.
صعقته وهي تؤكد في سهرة صاخبة ضمتهما وبعض زبائن الشركة المهمين أن رجل الأعمال والسياسي متشابهان في إيمانهما بالمكيافيليه. لهذا يحق للأول، مثله في ذلك مثل الثاني، أن يستغل جميع إمكانياته ومواهبه الطبيعية والمكتسبة في خدمة غاياته. حين سألتها إحدى الحاضرات إن كان ذلك ينطبق عليها، ويعني أنها لن تمانع، على سبيل المثال، في استغلال مواهبها الطبيعية، أي جسدها، لتحقيق مصالحها، ردت باستهتار صارخ ألهب وجنتيه سخطاً وذهولاً:
- الجسد ملك صاحبه. هكذا افترضت الطبيعة أمنا عندما كوّنتنا، لكن الذي حصل أن هذا الحق اقتصر على الرجل وحده الذي تطبع على ممارسة حريته مع جسده وبه. أما المرأة فقد فقدت هذا الحق حين صادره الرجل منها بالقوة ووضع لها سلسلة غير متناهية من القوانين والمحرمات التي حولت جسدها إلى ملكية خاصة له يعامله وفق رغباته ومصالحه. فهو تارة حكر له وحده، وبقدر ما ملكت يمينه، وهو تارة سلعة وتجارة وخدمات عامة. ولا تنسوا أن البغاء من ابتكار الرجل وهو المستفيد الأكبر، بل الأوحد منه سواء للحصول على المتعة أو لتحقيق الأرباح الطائلة، فلماذا تنكر المرأة على نفسها استعادة حقوقها في جسدها، ولماذا تخشى تحريره؟.
كانت تتكلم بثقة مفرطة بالنفس مازجة المجون بالجد وقد دبت فيها نشوة نبيذ البورغوندي الفاخر فاحمر خداها احمرار تفاحتين من ثمار الجنة وتلألأت عيناها الذابلتان ببريق يضاهي في توهجه انعكاس ضوء الشموع في الكؤوس الكريستالية. شعر بالخبل حين أردفت بعد أن أفرغت في جوفها كأسها نصف الممتلىء بجرعة واحدة:
- قد تصدمنا كشرقيين هذه الحقيقة. لكن الفترة التي عشتها في فرنسا فتحت عيني على حقائق لم يكن بإمكاني رؤيتها بوضوح من هنا، بل لم أكن أعلم أنها موجودة.. ويبدو أن الإنسان كلما تقدم خطوة في درب الحضارة وصعد في درجات السلم الطبقي كلما ازداد جرأة في التحرر من إسار القيم والمبادىء وفي الخروج على المفاهيم والقوالب الجامدة لما يسمّى الأخلاق والشرف والفضيلة!..
ضاعت بقية لغوها في دوشة التعليقات الماجنة والنكات البذيئة والضحكات العربيدة والصداع القوي الذي أمسك برأسه. فكر أن ما قالته ليس سوى سفسطة لتزجيه الوقت والمزاح. لكنه ظل بقية السهرة قلقاً محتاراً. قبل أن تترجل من السيارة أمسك بيدها:
- أكنت تعنين حقاً ما قلته يا عواطف!.
لم تفهم معنى سؤاله إلى أن أوضح:
- أعني عن الغاية والوسيلة والأخلاق والشرف!.
ضحكت بسخرية.
- ولماذا لا أكون؟.
- ألا تجدين أي حرج إذن في استغلال جسدك لخدمة مآربك؟!.
دبت القشعريرة في ظهره وهي تقول بخبث:
- برغبتي ومزاجي! نعم! إن جسدي ريان فاتن لكنه فان. ومن العار أن أتركه يذوي دون فائدة. الجسد كالشجرة إن سقيته أعطاك ثمراً وإن أهملته وحرمته الماء يبس ومات.
ضيقت عينيها وأردفت بإغراء نافثة رائحة فمها المشبعة بالكحول في أنفه وفمه:
- لا أحسبك تظن أنني قررت الترهب والخضوع لمفاهيم عالمكم الذكوري يا إبراهيم! عواطف اليوم غير عوطف الأمس. إنني امرأة في ذروة نضجها محبة للحياة جياشة بالرغبات التي لا أرى حرجاً في إشباعها. ثم إنني اسم على مسمّى. عواطف قلباً وقالباً. لا تقل لي إن أفكاري أدهشتك وفاجأتك، أو أنك تريدني أن أقمع غرائزي الطبيعية لأصون جسدي لا أعرف لماذا ولمن. أنا امرأة حرة الآن.
صر على أسنانه حانقاً وقال باحتقار:
- هذا عهر. أنت سكرانه ولا تعنين ما تقولين. رغم ثروتك ومصالحك ومهما ادعيت علو مرتبك في السلم الاجتماعي وإعجابك بالمفاهيم والقيم الغربية فأنت لست سوى مسيحية شرقية متزمتة متشبّعة بتقاليدنا وأعرافنا ومنغرسة فيك حتى مخ عظامك محرماتنا التي لا تمسّ. أنت أجبن من أن تتمردي على كل ذلك لتكوين راحاب ثانية، وأنا أعرفك بما يكفي لأفرق بين صدقك وكذبك.
ضحكت من منخريها وردت بسخط:
- أنت آخر من يحق له أن يعظني في الأخلاق والفضيلة أيها العاهر.
قالت كلمتها الأخيرة بازدراء وفتحت باب السيارة بعصبية وهمت بالخروج. لكنه أمسكها من كتفها يمنعها واغتصب ابتسامة شاحبة قبل أن يغمغم بارتباك:
- كم أنت حقودة يا عواطف!. كانت غلطة فادحة لكني كفّرت عنها ألف كفّارة. انسي واغفري ولنبدأ من جديد. إنني أريدك. أريدك أكثر من أي وقت مضى.
- لقد نسيت لكني لن أصفح، خلّ هذه الحقيقة في بالك دائماً واغسل يديك مني لمرة وإلى الأبد. ثم أنت تنسى أنك متزوج وعندك ابنة!
- لا يهم. سأطلق لمياء مهما كلفني الأمر. ونحن في حكم المنفصلين عملياً منذ أكثر من سنة. وافقي فقط. لقد حاولت نسيانك دون فائدة. لا أستطيع نزعك من قلبي. الأمر فوق طاقتي. تخليت عن كل شيء من أجلك. عن أسرتي وأعمالي ووقفت على بابك كالياوران لأدير شركتك وأرعى مصالحك وأجهد لتزدادي نجاحاً وثراء وتألقاً وتريدينني بعد كل ذلك أن أتخلى عنك؟.
أسبلت على وجهها قناعاً من الصرامة ونفخت بنفاد صبر:
- سارت علاقتنا على ما يرام منذ عودتي من فرنسا لأنه ليس هناك أفضل وأدوم من رابطة المصالح. لا أنكر جميلك وجهودك المشكورة في إدارة الشركة وتدريبي على الأعمال. لكنك بدورك استفدت مني وحققت أكثر مما كنت تحلم به!.. عندما عرضت عليك، بإلحاح من غسان، العمل معي كانت الشروط التي تعاقدنا عليها واضحة ورضينا بها نحن الاثنين، فلا تحاول تمنيني يا إبراهيم بتضحيات وهمية لم أطلبها منك أبداً. أما فيما يخص أسرتك التعيسة الحظ فأنت هجرت زوجتك المسكينة، أو هي التي هجرتك، لأن حياتكما معاً أصبحت مستحيلة، ولا أستطيع إلا أن أرثي لها وأشفق عليها لأنها هي التي تدفع ثمن حبك المريض لي. لهذا أرجوك أن تنزعني من فكرك نهائياً وأن تنزع معي كل أوهامك. وإن لم تستطع فليس أسهل من أن نفك ارتباطنا في أي وقت. فأنا لا أحتفظ بك غصبا عنك!.
تبخّر غضبه تحت وطأة إحساسه بأنها تعذبه بلؤم حقير. لكنه لم يستسلم فتمتم بإصرار:
- لماذا كل هذا الحقد يا عواطف؟.
- السذاجة لا تليق بعقيد متقاعد. أم أنك تحب أن تسمع السبب مني؟.
نبرت بتحد وهي تحدق إليه بعينين حمراوين استطاع رغم خفوت الإنارة رؤية عروقهما نافرة:
- قلت لك إنني كفرت ألف مرة وآن للجرح أن يندمل.
- وقلت لك إن الجرح اندمل لكن الندبة لن تزول حتى لو مسحها المسيح نفسه!.
- أتريدين أن أركع أمامك وأزحف نادماً مستغفراً؟ ماذا يشفي غليلك؟
- كف عن هذا الهراء يا إبراهيم. إن تذللك المهين يقززني!.
كان قد انصرم زهاء العام على إقامتها في ضيافته عندما قرر أن الوقت حان لمفاتحتها برغبته. كان مطمئناً إلى أنها ستوافق بامتنان. فهي حرة من أي قيد. وليس ثمة طارق مناف يقف في طريقه كما حدث قبل خمسة عشر عاماً. إلى ذلك فإن الظروف كلها تصب في صالحه. فهو في عنفوان رجولته وذروة مجده المهني بعد نيله وسام الفارس تقديراً لخدماته العسكرية. كما أنه مطمح عشرات الفتيات الأجمل والأصغر من عواطف. وهي أرملة مطرودة من وطنها تجرجر وراءها ثلاثة أطفال أكبرهم في العاشرة، ولا تملك سوى الإعانة الحكومية الشهرية التافهة التي لا تكفيها ثمن خبز لإطعام أطفالها، وليس لها في عمان أي شخص غيره يمكن أن تلجأ إليه. ثم أنها أذكى من أن تنسى أن امرأة في مثل وضعها ليس لها أن تفلت من يدها تلك الفرصة، الأولى والأخيرة، للعثور على شريك لحياتها يرضى بتحمل مسؤولية أولادها.
- أنت رجل شهم يا إبراهيم ولن أنسى أبداً العطف الذي غمرتني به وأبنائي. لقد كنت أكثر من أخ لي وأب لهم. ولولاك فإن الله وحده يعلم ماذا كان حل بنا في هذه الظروف الصعبة. إن طلبك الزواج بي يملأني فخراً وغبطة ويزيد تقديري لك خاصة وأنا أدرك التضحية الكبيرة التي تقدم عليها بقرارك تحمل مسؤوليتي وأطفالي. لكن تقديري وامتناني هما اللذان يغلاّن يدي ويدفعانني لمطالبتك بالتروي وإعادة النظر في قرارك. ليس هناك أي اعتراض لي على أن أصبح زوجتك. لكن الظروف التي مرت عليّ بعد وفاة طارق، سواء في القدس أو هنا، أبعدتني شوطاً طويلاً عن فكرة الزواج والارتباط من جديد برجل يجد نفسه مجبراً على إعالة أبناء رجل آخر. لقد قررت التفرغ لتربية أولادي ومحاولة تعويضهم عن فقدان الأب والوطن، ولا أطمح بأي شيء آخر.
- ولكنني أعتبرهم بمثابة أبنائي يا عواطف. أحب كل ما له علاقة بك كما أحبك وأكثر. سأجعلهم يعتبرونني والدهم لا كوالدهم، ولا شك أنك لاحظت أنهم متعلقون بي. البارحة سألتني عطاف لماذا لا أكون والدها فوعدتها أن أكون. وهذا يتحقق بكلمة منك. وافقي وسأكون كلي لك ولهم!..
تفرست فيه بنظرات حائرة بحيث تصور أنها توشك أن تومىء برأسها بالإيجاب. أمسك بيدها يشجعها على حزم أمرها، لكنها سارعت تسحبها بلطف قبل أن تهز رأسها سلباً قائلة بصلابة:
- آسفة. آسفة جداً. أعلم أنني الخاسرة. لكنهم ثلاثة أطفال والأمر ليس سهلاً أبداً. ضميري لا يسمح لي بتحميلك مسؤوليتهم. مهما أحببتني فإنهم ليسوا من صلبك ولن يكونوا، ومهما أحببتهم فسيظلون أبناء رجل آخر ولن يتأخر اليوم الذي تندم فيه وتشعر بأنك تورطت.. لا أريد أن أكون السبب في الإساءة إليك وإليهم، أنت بحاجة إلى امرأة تكون كلها لك وتنجب لك أطفالك أنت.
بدأ يفقد أعصابه وهو يقاطعها بانفعال:
- الأولاد ليسوا إلا حجة. المسألة باختصار أنك لا تريدين الارتباط بي. فقوليها دون لف ودوران.
نهض ودمدم بغيظ:
- لقد اعتقدت أنك نضجت وبدأت تفهمين الحياة. لكني مخطىء على ما يبدو. أنت لم تتغيري أبداً. لا تزالين تلك الحمقاء الرعناء التي تظن أن الدنيا ملك يمينها والناس طوع أمرها.
- اضبط أعصابك يا إبراهيم وتذكر أنني ضيفتك!.
قضى هدوؤها البارد على بقية أعصابه فانفجر في ثورة غضب هوجاء:
- كيف أتذكر وأنت تعاملينني بازدراء وكأنني مرابع عند أبيك؟ عليك أنت أن تتذكري حقيقتك وتفتحي عينيك على واقعك وتنزلي من برج أوهامك. من أنت الآن؟ شقفة لاجئة مبعدة عن وطنك لا تملكين إلا الثوب الذي جئت لعندي فيه! فتحت لك قلبي وبيتي وأويت أولادك وشيطانتك مريم وحميتك من التشرد والذل وجعلتك سيدة منزلي والآمرة الناهية في حياتي وفضّلتك على نساء أجمل وأصغر منك. فمن تحسبين نفسك؟ ابنة الملك؟!
- لقد خرجت عن طورك وسأعذرك، فأنت ما كنت أبداً إلا وغداً وضيعاً.. راحت تحملق إليه باستخفاف وقد وسّعت فتحتي أنفها وعلقت على شفتيها ابتسامة شاحبة مفعمة بالشفقة. كانت كما عهدها دائماً. قاسية مغرورة واثقة بنفسها إلا حد الاستهتار، جميلة وفاتنة وشهية إلى حد غير محتمل، تتحداه في عقر داره مستخفّة بعواطفه وكرامته وجميله.
لم يعرف كيف فعل ذلك، هو هدوؤها الملعون الذي أفقده صوابه وحوّله إلى كتلة من الرغبات البدائية انطلقت من عقالها محطمة كل قيودها ومتحررة من كل مخاوفها ومحرماتها وحساباتها، فانساق وراءها مسلوب الإرادة واضعاً نصب عينه هدفاً محدداً، أن يمتلك تلك المتعجرفة الوقحة ويسحق كبرياءها ويمرغ أنفها في التراب مرة وإلى الأبد.
قاومته باستماتة ودافعت عن نفسها بشراسة حتى كادت تتغلب عليه، هو العسكري المحترف القوي. أثخنته عضا وخدشاً ورفساً ولكماً وضرباً فاضطر إلى استخدام كل قوته للسيطرة عليها. ضربها حتى أنهكها وما امتلكها إلا بعد أن فقدت وعيها.
وهو ينزلق عنها مرتمياً إلى جانبها منهوك القوى أدرك هول ما اقترف. استعاد رشده مرعوباً على مذاق دمها اللزج في فمه ووخزات جروحه المحرقة وصورتها وهي مستلقية عارية فوق مزق ثيابها دامية الجسد متورمة الوجه متشققة الشفتين وقد فتحت عينيها الساكنتين على وسعهما وخمدت حركتها فبدت كالأموات لولا تردد أنفاسها البطيء ووجيب قلبها الخافت. لاحظ وجود شامة سوداء على نهدها الأيمن وأخرى بشكل كرزة قرب صرتها ثم سارع يغمض عينيه وقد دبت فيه رجفة قوية كأنما أصابته حمّى. أهو في كابوس أم في واقع؟ ماذا فعل؟ أهذه هي عواطف، عواطفه، المرأة التي أحب مرمية أشلاء مدماة؟ أهذا هو الجسد الذي اشتهاه حتى الفناء فمزقه تحت وطأة شهوة عمياء؟.
شعر بالاختناق فشخر كحيوان يحتضر فيما الغثيان يصطخب في حلقه. أطلق صرخة متحشرجة وراح ينشج بحرقة وهو يناشدها الصفح والغفران. لقد أخطأ خطأ شنيعاً لا يغتفر، وسيفعل أي شيء تكفيراً عن جريمته. هو نادم ندماً عظيماً ويحبها حتى الموت. سيقتل نفسه إن كان ذلك يرضيها ويريحها. بل لتقتله بيدها إن رغبت. إنه يستحق الموت، بل عليه أن يموت كالكلب! قفز إلى الخزانة ولقم مسدسه ورماه إليها طالباً منها أن تفرغ رصاصاته فيه. قد يسيء إلى الناس جميعهم إلا عواطف، عواطفه، طفلته، حبيبته، أمله..
لكنها ظلت صامتة صمت الأموات متكوّمة على السجادة فوق ثيابها الممزقة كالطير الذبيح مبعثرة العري دامية الجسد منهوكة القوى زرقاء الوجه متشققة الشفتين فيما أنفاسها تتردد ببطء في صدرها المنكمش النهدين.














- 4 -
أشارت ساعة الصالون إلى الواحدة ودقيقة حين دخلت عواطف إلى المكتب وردت الباب وراءها بهدوء. وقف غسان قرب المكتب مسلطاً ضوء اللمبادير على ملف أحمر راح يقلب صفحاته ببطء وقد انعكس ظله مضخّماً على المكتبة وراءه. بدا عليه الهدوء مما جعلها تشعر بالارتياح فنفخت بخفوت وتقدمت من المنضدة وتناولت سيكارة. رفع عينيه نحوها وقال بثبات:
- كنت أتساءل لماذا تأخرت. أرجو ألا يكون الجنرال أثقل عليك!.
تملاّها بإمعان وهي تشعل السيكارة ثم مط شفتيه دلالة الإعجاب وأردف بلطف:
- جمالك حزين الليلة. من المؤسف أن تكوني أمي فهذا يحول بيني وبين متعة التفكير فيك كامرأة!.
عبست في إشارة تأنيب صارمة وجلست على المقعد الأقرب إلى المكتب باحتشام متجنبة التقاء نظراتهما. كانت قد استعادت غير قليل من رونقها ونضارتها بالاغتسال وتصفيف شعرها ومكيجة وجهها فيما فاحت رائحة عطرها المفضلة، أراميس، نفاذة قوية.
دفع غسان المقعد وجلس في مواجهتها مسلّطاً عليها نظرات ثاقبة أربكتها لكنها واجهتها بغير قليل من التحدي. بدا لها تحت الضوء شاحب الوجه واجماً فيما اكتست تعابيره بمسحة من القلق ترجمها بعض طرف شفته السفلى. نفخت دخان سيكارتها بعصبية حين شعرت أن الصمت قد يستمر إلى ما لا نهاية وتمتمت بنفاد صبر:
- ماذا دار بينك وبين نضال؟
تجاهل سؤالها وقال بلطف وكأنه يحاول تهدئة خاطرها:
- السيكارة ما عادت تفارقك يا عواطف. الإفراط بدأ يؤثر عليك ويمتص عافيتك، لم أرك بهذا الشحوب منذ خرجنا من القدس. يبدو لي أن دهراً مرّ على تلك الحادثة. عهدي بل أنك معتدلة في كل الأمور. لكن يبدو أن هناك أوقاتاً يفلت فيها زمام واحدنا من يده.
حدجته بدهشة، انحنى برأسه نحوها واستطرد بصوت رتيب الجرس:
- كثير من ذكرياتي القديمة ضاع أو بهت. لكني لن أنسى أبداً شكلك ونحن نعبر الجسر. كان وجهك أصفر كليمونة، وعيناك ساكنتين خاليتين من الحياة حتى خفت أن تموتي. ارتبط اصفرار الوجه في ذهني آنذاك بالموت بعد أن رأيت بالصدفة جثة والد أحد رفاقي في المدرسة. كان أصفر كامداً أفزعني حتى الغثيان. عندما رأيتك بهذا المنظر قلت لنفسي إننا ذاهبون إلى الموت ولسنا نغادر بلدنا فقط. وعيت على اليهود وهم يحتلون مدينتنا ويضطهدون شعبنا، فخفتهم وتحاشيتهم دون أية مشاعر أخرى، فهم لم يكونوا سوى بشر من لحم ودم مثلنا، أما يومئذ فقد بدوا لي أشبه بالوحوش المرعبة وامتلأت نفسي بالحقد عليهم حتى تمنيت لو أستطيع قتلهم جميعاً!.
سكت يتبادل وأمه نظرة تعاطف وقد افتر ثغره عن ابتسامة كئيبة. همت بأن تتكلم لكنه سبقها يقول مغيّراً فجأة مسار الحديث:
- لا أزال عند رأيي في أنك أخطأت بإبلاغنا الأمر على هذا النحو. ليس لي اعتراض شخصي على أحد. فناديا ويوسف وإبراهيم ينضوون تحت لواء العائلة بطريقة من الطرق. لكني كنت أفضل تأجيل إشراكهم في تلك المسألة إلى مرحلة لاحقة. كان يجب أن تبحثي الموضوع معي في البدء.
أطفأت السيكارة وقالت بتفهم:
- لا تهول الأمر يا غسان أو تفسره على هواك، أمر طبيعي أن يشاركونا في شؤوننا العائلية ولولا انفعالك الذي لا مبرر له لانتهت المسألة ببساطة ولما وجدت أي ضير في وجودهم. إن حجتك غير مقنعة إلا إن كنت تعتبر العثور على أبيك مصيبة! لقد تصورت أنني أزف لكم بشرى وأنك ستكون أول السعداء.
دارى غسان ارتباكه بضحكة مفتعلة ولوح بيده:
- ألا تعتقدين أنك تبالغين قليلاً يا أمي! أتفاجئينني بأن أبي الميت من عشرين سنة حي وتنتظرين مني أن أطير من الفرح وأركض باحثاً عنه؟ هكذا بكل بساطة! إنني لم أصح من الصدمة بعد.. ها..
عاد يضحك دون معنى ثم أردف بتهذيب:
- لنضرب صفحا عما جرى.. لقد أخذت عهداً على نفسي أن أضبط أعصابي وأناقش القضية معك بهدوء وتعقل دون أية مواقف مسبقة فآمل أن تتحمليني وتستمعي إليّ برحابة صدر.
احتوى رأسه بين يديه وضغط على صدغيه بقوة:
- الصداع لا يحل عني رغم أنني أخذت حبتي أسبرو، لا أعرف أهو ألم جسدي أم نفسي؟.
نفخ بقوة واستدرك:
- تعرفين حقيقة مشاعري نحوك، لا أنكر أن علاقتنا تعرضت لأكثر من هزة بسبب ظروف معينة أقوى مني ومنك، ولأننا تسرّعنا في إصدار أحكام منفعلة ناتجة عن سوء تفاهم لم ننجح في تلافيه. لكن ذلك لم يؤثر أبداً على مشاعري نحوك ولم يزعزع إيماني وثقتي بك. أنت لست مجرد أمي فقط، بل تعنين لي ما هو أوسع وأعمق. إنك مثالي ونموذجي في الصلابة والقوة والقدرة على مواجهة العالم بعزيمة وتصميم. فتحت عيني على الحياة معك وبك فوجدت فيك الأم المتفانية التي تمنحني الحب والثقة والقوة في وقت حرمتني فيه الحياة أبي وأطبق الاحتلال على خناقي بكل أثقاله وضغوطه. والظروف التي مرت بنا رسخت هذه القناعة في نفسي بحيث آمنت أنك أقوى من الاحتلال نفسه، فهل ثمة امرأة غيرك تجرؤ على إخفاء فدائي مطارد في بيتها ثلاثة أيام دون أن يعرف بذلك حتى أولادها؟.
تركت للانفعالات أن تتوالى على محياها دون قيد. أصغت له بصمت مضمومة اليدين وقد تألقت عيناها واحمر وجهها وأسلمت نفسها لأطياف ذكريات رهيفة راحت تتقافز من ذلك الصندوق الخشبي العتيق المفضّض الذي اعتادت أن تتحين فرصة غياب أبيها وانشغال مريم فتتسلل إلى العلية لتنبش محتوياته الغريبة العجيبة. تفرد الأوراق المصفرّة والعلب المذهبة والتحف الخشبية والنحاسية والسماور المسود وقطع ثياب أكلها العت لتعبق في أنفها وجوارحها روائح السنين المتخمّرة والأوراق الذابلة والخشب المتآكل. تبحث بلهفة عن خاتم ذهبي أو فانوس قديم صدىء يخرج منه جني تمتد قامته إلى السماء ليطأطىء أمامها بخشوع صارخاً بصوت يصم الآذان شبيك لبيك يا سيدتي الصغيرة فتطلب منه أن يضع العالم في يدها الصغيرة!.
هزت رأسها وأمسكت يده تضغط عليها بود قبل أن تقول بصوت متهدج وقد رسمت على فمها ابتسامة عذبة:
- ها هو ذا غسان الذي أحب. إن الكلمة الطيبة قادرة على إزالة أي سوء تفاهم يقع بيننا. كنت واثقة أنك ستتفهم موقفي وتدرك أن عثوري على أبيك..
تصلّبت يده ثم سحبها بخشونة وهو يقاطعها قائلاً بفتور:
- لا تليق بك السذاجة يا أمي. أن أحبك وأحترمك لا يعني أن أفقد حسن إدراكي وقدرتي على التمييز بين الخطأ والصواب.
اشرأبت برأسها وغمغمت بقلق:
- حسبت أنك بدأت تتفهم!.
تضاحك ببلاهة قبل أن يقول:
- المسالة ليست دعوة على العشاء ألبيها أو أعتذر منها حسب رغبتي. إنها قضية.. قضية مصير.. أوه. تعرفين تماماً أنني أكره استخدام الكلمات الكبيرة لكنك لا تتركين لي الخيار.. لا أستطيع الاقتناع بأن ذلك الرجل قد يكون أبي.. إنه.. مستحيل.. إنه..
سكت وكأنه يتحاشى قول ما يثير غضبها، لكنه سرعان ما استدرك:
- ليس هناك مخلوق يملك ذرة عقل يمكن أن يقبل قصتك..
حافظت على هدوئها وهي تسأله:
- لماذا؟ هل هناك ما يمنع حدوث ما حدث لأبيك؟.
- لا. لا شيء يمنع حدوثه. رجل يفقد ذاكرته في حادثة فيواصل حياته بشخصية جديدة وكأن شيئاً لم يكن، بل إنه يتزوج وينشىء أسرة جديدة ويعيش بالطول والعرض!. لكنه رغم ذلك مستحيل.
- ما هذا التناقض؟ ممكن ومستحيل في الوقت نفسه؟ لا أفهم لماذا أنت متشبث بهذا الموقف الغريب. إننا لا نتكلم عن أي كان. إنه أبوك.
- وهنا الطاقة الكبرى. لو أن المسألة تعلقت بأي شخص آخر لتقبلت الأمر بسهولة. أما وأنها تخصني شخصياً. وفي ضوء الثغرات الكثيرة فيها، فإنني عاجز عن تقبلها.
رمقها بطرف عينيه وكأنه يحاول تخمين المدى الذي يمكن أن يصل إليه في صراحته. بدت مكتئبة أكثر مما هي غاضبة أو منفعلة. ضيّقت عينيها وزمت شفتيها وحافظت على صرامة ملامحها بحيث استحال عليه استشفاف ما يدور في ذهنها. بلل شفتيه بلسانه ورفع رأسه إلى الأعلى كأنه يستمد العون من الله ثم أردف:
- ثقي بأنني لا أرفض لمجرد الرفض، ولا أعارض في أن يكون أبي على قيد الحياة، لكنني أعتقد أن هذا الرجل ليس أبي ولا يمكن أن يكون.
- اصبر على الأقل إلى أن تراه قبل أن تجزم.
- ليست المسألة أن أراه أو لا أراه. وإنما.. أوه يا أمي إن أفكاري مبلبلة مشوشة.
وقف ولوح بيديه بعجز واتجه إلى المكتبة حيث تناول صورة طارق وتفرس فيها بإمعان قبل أن يعيدها إلى مكانها ويستدير قائلاً:
- سأضع كل شكوكي واعتراضاتي جانباً وأفترض أنه طارق مناف. فماذا يعني ذلك لك الآن؟.
حدقت إليه بدهشة ثم قالت بحنق:
- سؤالك يكشف عن قسوة قلب غير معقولة. أنت تصدمني..
قاطعها يقول بنزق:
- لاتنسي أن المسألة في النتيجة هي إما أبيض وإما أسود ولا لون ثالث بينهما، فلا داعي للنرفزة حيال وقائع محددة تعتقدين أن لاحق لأحد في مساءلتك عنها. ما زلت في انتظار جوابك.
خبطت الأرض بقدمها ونهضت مقتربة منه قائلة بانفعال.
- إنه زوجي قبل أن يكون والدك. زوجي ورجلي وحبيبي.
- لكنك حسب علمي أحببت وتزوجت بعد وفاته. وإن كان الأمر يتعلق بالرجال والحب فقط فليس هناك أهون من العثور عليهم. إنهم يملأون الشوارع وما عليك إلا أن تختاري.
لم ينتبه إلى فداحة ما قال إلا وهي ترفع يدها هامة بصفعه. لكنها توقفت في اللحظة الأخيرة وأسبلت يدها بقوة وقد ارتسمت على وجهها تعابير غضب شديد ممتزجة بألم عميق. اتكأت بيديها على المكتب مديرة له ظهرها قبل أن تقول بصوت مرتجف:
- لقد أخذت عهداً على نفسي أن أضبط أعصابي ولا أسمح لشيء أن يخرجني عن طوري. لكنك تتسافل أحياناً إلى درجة أنك تنسى أنني أمك.
- آسف جداً. لم أقصد.
- لا يهمني أسفك وقصدك. لقد أوشكت أصدق أن ما قلته قبل قليل صادر عن قلبك وأنني استعدت مودتك وصداقتك.. لكن يبدو أنني مخطئة.
عاد يناشدها برجاء:
- أكرر أسفي يا أمي.. لم أعن ما فهمته أبداً. كان مجرد كلام صدر مني في سورة انفعال ودون تفكير.
كان صوتها مفعماً بالسخرية وهي تلتفت إليه:
- أخشى أن يكون كلامك كله دون تفكير.
رمقها بيأس ثم غمغم بحدة:
- أنا آسف سواء قبلت اعتذاري أو رفضته. وأرجو أن نتجاوز هذه المسألة ونبقى في موضوعنا الأساسي..
أخذ نفساً عميقاً نفخه بقوة قبل أن يردف:
- عنيت من سؤالي أن أبي لم يعد يعني لك، ولنا جميعاً، أكثر من ذكرى ماضية. لا أناقشك في حبك له لكن الحب لا يعيش دون محبوب! إنني أشعر بحرج كبير لاضطراري إلى التكلم معك في مثل هذا الموضوع الحساس. لكني مرغم على ذلك وأرجو ألا أكون أزعجك..
- لابأس عليك، فأنت تتكلم عن حب أمك وأبيك، وأنا كنت وما أزال فخورة بذلك الحب
تفرست فيه بإمعان ثم استدركت:
- كنت أنت أول ثمار هذا الحب. ولا تعرف كم قاسينا لحماية حبنا ومواجهة الضغوط التي تعرضنا لها.
استعادت هدوءها وسارعت تردف حين هم بالتكلم:
- أراد جدك أن أتزوج إبراهيم. لكني رفضت واضطررت لعصيانه. لقد غضب عليّ وتعذبت كثيراً إلى أن أصلحت الأمور معه.
- لكنه لم يغفر لك فعلتك ومات مقهوراً!
حدقت إليه بذهول قبل أن تنبر فيه بحنق:
- ما هذا الهراء؟ من أين جئت بهذه الافتراءات؟ إبراهيم أليس كذلك؟.
حافظ على رباطة جأشه وهو يقول:
- لاتتسرعي في إطلاق التهم. أظنها افتراءات كما قلت.
رمته بنظرة ضارية وقد انتفخت عروق رقبتها حتى خيل إليه أنه يراها تنبض. تشاغلت من ثم بسحب سيكارة من العلبة ورفعتها إلى فمها لكنها غيرت رأيها فجأة وكسرتها في المنفضة وانهمكت في تفتيت التبغ منها, حين انتهت قالت بصوت استعادت سيطرتها عليه:
- إبراهيم! لم أعلم أن له هذا التأثير عليك.
- ليس لأحد تأثير عليّ ولا علاقة لإبراهيم بما قلت.
رد بغيظ لكنها لم تبال به:
- يبدو أن الأمور تتداعى رغماً عنا. وما دمت قد طرحت الأمر بهذه الصورة فلابد لي من توضيح ما قد يكون خافياً عليك. ليس هناك غير إبراهيم ينشر عني تلك الأكاذيب. إنه مفتر وغد وسيظل هكذا طول عمره. لست أول ولا آخر بنت تطيع نداء قلبها وتتمرد على أسرتها، ولم أقترف أي ذنب بزواجي ممن أحببته، كما لم يكن موقف والدي مبرراً أو منطقياً. لقد تشبث برأيه دون مبرر وأرادني أن أرتبط بشخص لا أحمل له أية عاطفة، بل أنفر منه، كنت أحب أبي وأرغب في أن أكون بارة به مطيعة له، خاصة وأنني ابنته الوحيدة. لكن طاعته كانت تعني شقائي وتعاستي. ولا أشك في أنه أدرك هذه الحقيقة لاحقاً وصفح عني. وهو لم يمت قهراً كما يدعي إبراهيم، بل قتله السرطان.
أخذت نفساً عميقاً وزفرته ببطء:
- كان رحمه الله صعباً بعض الشيء وصاحب عقلية خاصة متعصبة لأعراف وتقاليد عصره. فقد كان متمسكاً بحقوقه الموروثة باعتباره رب الأسرة وسيدها ومقرر مصائر أفرادها حتى لو كانوا شخصاً واحداً هو أنا!. فهو مثلاً لم يكن قوي الإيمان، لكنه كان حريصاً على ألا يفوته قداس الأحد بحكم العادة وليتبرع بمبلغ كبير يفوق ما يتبرع به أي وجيه آخر ليلفت انتباه الآخرين ويثير تقديرهم وإعجابهم. كان يعتبر ذلك واجباً تفرضه عليه مكانته وعراقة محتده. وكنت أرى الزهو في عينيه وهو يتقبل شكر وثناء الرهبان والمطارنة والبطرك أحياناً. كذلك كان تقليدياً جداً تجاه المرأة. فمجالها الحيوي برأيه محصور في نطاق البيت والأسرة ولا يجب أن تكون لها اهتمامات أخرى. رغم ذلك لا أذكر أبداً أنه عاملني بتلك المفاهيم أو أشعرني أنه يفضل لو كان وحيده صبياً. فقشرته الخارجية الصلبة والجافة كانت تخفي قلباً طيباً ومشاعر إنسانية عميقة وروحاً حساسة. نعم. كنت أحبه وأحترمه ولم أتمرد عليه إلا بعد أن استنفذت كل وسائل الإقناع معه. فعلت ما فعلته وقلبي يتقطع ألماً وينزف دماً..
حدقت إلى غسان بإمعان ثم أردفت بهدوء:
- وتسألني بعد ذلك كله ماذا يعني لي طارق الآن؟ لقد عاديت أبي من أجله وناضلت بكل قواي ليكون لي. وأنا علي استعداد لمواجهة العالم كله لاستعادته. إنني لم أكف عن حبه حياً وميتاً وحياً من جديد. بل إن حبي له اليوم أقوى من الأول وحاجتي إليه وأنا في خريف العمر أكثر من حاجتي إليه حين كنت صبية أحلق في ربيع الحياة!.
بدت الحيرة على غسان ما إن أنهت أمه بيانها العاطفي المشبوب. بلع ريقه وهمس بلطف متحاشياً التقاء نظراتهما..
- لا أريد التحدث عنه، وإنما عنك يا أمي. أريد أن أسألك بأية صفة ستقابلينه.. باعتبارك أرملته المفترضة أم بكونك أرملة أكرم النحاس الميت حقاً؟ .لقد نسي الناس أنك كنت ذات مرة زوجة طارق ثم أرملته، ولا يعرفون إلا أنك أرملة النحاس.
شحب وجهها ونظرت إليه بعينين نديتين حزينتين. هرب من عينيها وغمغم بنظرة أقرب إلى الاعتذار:
- لا تغضبي مني يا أمي. لا أريد الإساءة إليك بأي شكل. لكن الحقيقة تزعج وتؤلم أحياناً، وعلينا مواجهتها مهما كانت قاسية والرضوخ لأحكامها مهما كانت كريهة وجارحة. لا أعتقد أنني أخطىء إن قلت إن أبي لم يعد يعني لك أكثر من ذكرى لمرحلة مضت من عمرك، وإلا فكيف أفسر واقعة زواجك بأكرم؟ لولا أنك نسيت طارق لما ارتبطت برجل آخر.
- أنت مخطىء..
صمتت هنيهة ثم أردفت بحزن..
- زواجي بأكرم لم يعن أنني نسيت طارق أو أخطأت بحقه، وإنما يعني أنني مارست حقي في أن أعيش حياتي الطبيعية. الإساءة الوحيدة التي نتجت عن ذلك الزواج، كما تبين لي لاحقاً، لحقت بك تحديداً!. لا تقاطعني ودعني أكمل حديثي.. لقد تزوجت أكرم لأنه كان الرجل الوحيد الذي فتح لي طاقة أمل في تلك الفترة من حياتي. جسد لي القوة والأمان الذي أنشده والمستقبل الذي أردته لكم ولي. وثق يا غسان أنني لست نادمة أبداً على ذلك. كان رجلاً نبيلاً رائعاً وعظيماً، لقد سعدت معه. وحقق لي كل ما أردت.. ولكن ذلك لم يكن دون ثمن.. ولقد دفعته حتى آخر قرش!.
صمتت والساعة تدق معلنة النصف بعد الواحدة. تثاءبت بصوت مكتوم ثم نهضت قائلة بحزم:
- لا أريد الخوض في هذا الموضوع أكثر مما فعلت.
قطب متفاجئاً فأردفت قبل أن تترك له الفرصة لقول شيء:
- نشف ريقي من الحكي والتدخين. ما رأيك في فنجان قهوة؟ منذ زمن طويل لم أذق قهوتك!.
حدق إليها بحيرة ثم تمالك نفسه:
- أتريدين التخلص مني؟.
تضاحكت ببرود وسارعت تهز رأسها نفياً:
- أبداً.. إننا ما نزال في البداية!
تلكأ هنيهة ثم نهض مرغماً وغادر الغرفة. نفخت بقوة وجلست متكئة برأسها على مسند المقعد ورفعت قدميها على المقعد المقابل لها ثم أغمضت عينيها شاعرة بأنها تحررت قليلاً من وطأة قبضة كانت تضيّق عليها أنفاسها.
***
حين طرقت باب بيت سميرة الحسيني في اللويبدة ذلك العصر الكئيب بجوه المكفهر وسمائه الملبدة لم يكن ليخطر لها، ولو في الخيال، أن سعيها للحصول على مساعدتها في العثور على عمل سينتهي بأن تصبح زوجة أكرم النحاس، ذلك الثري الغامض الذي سمعت باسمه لأول مرة قبل عدة أشهر في سياق حديث عن ثرائه الفاحش وأطواره الغريبة وتصرفاته الشاذة وحياته الماجنة.
ما إن عرفت سميرة برغبتها حتى قالت راسمة على شفتيها ابتسامة غامضة:
- لا أعلم إن كنت تصلحين لأي عمل يا عواطف سوى أن تكوني عواطف! فليس من السهل سؤال أحد توظيف امرأة لا تتقن سوى الجمال والعفة!. لكن كما تشائين. وأعتقد أن الصدفة الطيبة هي التي جاءت بك لعندي الآن. فهناك من هو قادر على مساعدتك أكثر مني. أنت سمعت برجل الأعمال المعروف أكرم النحاس. إنه يلعب الطاولة في الصالون مع صادق. إن كان رابحاً فسنلقاه في أحسن حالاته أما إن كان خاسراً فإن الشيطان نفسه يتحاشاه!. تعالي لأعرفك عليه.
كانت على استعداد لأن تطلب من الشيطان نفسه المساعدة على أمل التخلص من أسر إبراهيم وحصاره. عندما دلفت إلى الصالون بوجل وراء سميرة لم تصدق أن هذا الكهل البسيط الثياب النابت اللحية المشعث الشعر الذي يناكد صادق بسذاجة الأطفال حول براعته في اللعب يمكن أن يكون الثري الذي يتحدث عنه الناس في مجالسهم بغير قليل من الحسد والاستهجان. بل لم تصدق أنه يمكن أن يكون ثرياً بأي حال من الأحوال! وهي لو التقته في الشارع، برأسه الكبير وجلد وجهه المترهل وأنفه الضخم الأحمر وذقنه المدبّبة وعينيه الواسعتين الفاحمتين اللتين تنطلق منهما نظرات ثاقبة ذكية وقحة ويظللهما حاجبان كثيفان شائبان، لما خطر لها سوى أنه موظف درجة خامسة ورب أسرة فقيرة الحال ينوء تحت ثقل هموم كبيرة!.
ما إن وقع بصره عليها حتى توقف عن اللعب ونهض يتملاها بثبات ووقاحة دون أن يخفي نظرة الإعجاب التي طوّفت في عينيه. أبقى يدها في يده الخشنة الدافئة فيما سميرة تقدمهما إلى بعضهما بعضاً ثم هز رأسه بحبور وقال بصوت أجش أليف النبرة:
- أنت ابنة المحامي رياض بشارة إذن؟ لم تسنح لي الفرصة للتعرف إليه شخصيا، لكني كنت أتابع باهتمام نشاطاته وجهوده الوطنية قبل النكبة، وقد حاولت الالتقاء به أثناء إحدى زياراته إلى لندن عام /45/ أو /46/ إن لم تخنّي الذاكرة. كنت شاباً متحمساً أتطلع إلى المساهمة في أي مجهود يخدم الوطن.لكن انشغال الوفد في المفاوضات آنذاك حرمني تلك الأمنية . على كل إن كان الحظ قد عاكس الأستاذ رياض في جهوده لإنقاذ فلسطين فقد حالفه في وهب العالم جوهره مثلك!
لم تستطع تمييز مزاحه من جده ولا عرفت إن كان عليها أن تغتبط أو تمتعض لتباسطه معها بهذا الشكل. فاكتفت بأن هربت من نظراته وقد تخضب وجهها خجلاً مستسلمة لسطوته الطاغية بغير قليل من المتعة. أرجعت اضطرابها، فيما بعد، إلى التناقض الكبير الذي وجدته بين الصورة التي تخيلتها عنه وبين حقيقته. وهو تناقض قائم في شخصيته ذاتها التي تجمع المتناقضات في مزيج غريب ساحر، فهو قادر على بث الطمأنينة المطلقة في نفسها بنفس قدرته على حقنها بمشاعر خوف غامضة. وهو تارة قاس ومغرور وصلب يبدو لها وكأنه خارج من عصر حجري، وطورا رجل مرهف مرح منفتح على الحياة مقبل عليها إقبال الفراشة على الرحيق.
عاد يقلبها بإمعان وسميرة تسأله إن كان بإمكانه مساعدة عواطف في العثور على عمل. مط شفته السفلى قبل أن يقول بلهجة مبطنة بالتهكم:
- مما يؤسف له أن يجور الدهر على عوائلنا الكريمة فتضطر حسناء مثلك إلى العمل. لكن الدهر جار على كل عوائل شعبنا الكريمة وغير الكريمة. ماذا تجيدين؟
- أي شيء.
سارعت تجيب باضطراب فابتسم بخبث:
- يعني لا شيء. على كل لا تحملي هما يا سيدتي الجميلة. إن عندي دائماً وظائف احتياطية تنتظر الشخص المناسب لها. سأنتظرك في العاشرة من صباح غد في مكتبي في الدوار الثالث واحذري أن تتأخري .إن تقييمي لمن يعمل معي يقوم في الدرجة الأولى على احترامه لمواعيده. وحاولي أن تقللي من جمالك فإنني لم أعتد العمل مع الفاتنات!.
أغاظتها وقاحته وأقلقتها نظراته الحادة التي شعرت بها تعريها حتى من ورقة التوت. لكنها لم تستطع التخلص من تأثيره الطاغي. أرقت حتى الفجر وهي تفكر فيه وفي مصير مقابلتها معه. انتابها إحساس مبهم، ومقلق بأن القدر يهيء لها ترتيباً خاصاً مع هذا الرجل الاستثنائي، كما وصفته سميرة وهي تحذرها من الوقوع في شراكه. لم ترو سميرة غليلها بمعلومات وافية عنه. كل ما خرجت به أنه ثري إلى درجة مصادقة كبار الشخصيات في الشرق والغرب. وثمة إشاعات أنه يعمل في تجارة السلاح. إلا أن الغموض الذي يحيط نفسه به وتجنبه الأضواء وزهده في المظاهر تجعل من الصعب إصدار أحكام قاطعة عليه، فهو غير مستقر في مكان محدد ويمضي معظم وقته متنقلاً بين دول الشرق الأوسط وأوربا.
لكن كل الأفكار التي راودتها والأحلام التي دغدغتها كانت دون المفاجأة التي بادرها بها وهو يستقبلها في مكتبه الواسع البسيط شبه الخالي من الأثاث:
- أمضيت الليلة الماضية كلها أفكر فيك يا سيدة عواطف. وبعد تقليب الأمر على أوجهه كافة وجدت أنك لا تصلحين لأي عمل. فلا أنت مؤهلة لتكوني رئيسة تقودين مرؤوسين، ولا يناسبك دور المرؤوسة الخاضعة لرئيس قد لا يقدر حقيقة مواهبك!.
شعرت بالقلق لكنها حافظت على جمود ملامحها بانتظار أن يفصح عن نيته الحقيقية. أشعل سيكاراً فاخراً ضخما عبقت رائحته الزكية في أنفها وصب لها فنجان قهوة مرة ثم أشعل لها سيكارة قبل أن يجلس في مواجهتها مركزاً عينيه الوقحتين الفائرتين بالشهوة على جسدها مما أربكها ودفع بالاحمرار إلى وجنتيها. سارعت تشد جذعها وتحتشم في جلستها هاربة من نظراته وقد بدا الخوف يساورها من مآربه. لقد اعتادت على واقع أنها تشكل هدفاً مغرياً يسيل له لعاب أي رجل، وكانت قادرة على مواجهة أصعب المواقف بثقة وحنكة، لكنها لم تشعر سابقاً بمثل هذا الوجل الذي يبعثه في جوانحها وجودها مع هذا الرجل. وتأكدت ظنونها وهو يردف ببرود:
- إن العمل الوحيد الذي يليق بك هو أن تكوني رفيقتي في حلي وترحالي!
حدقت إليه بذهول ثم التهبت وجنتاها حتى الاحتراق ونهضت متوفزة الأعصاب وقد اجتاحتها سورة غضب ودت معها لو تصفعه عقاباً له على وقاحته المرعبة. لكنه سارع يلوح بيده قائلاً بسخرية:
- رويدك.. رويدك. أرى أن كلامي التبس عليك فأسأت فهمي. الرفيقة التي أعنيها هي رفيقة العمر. أو ما تبقى منه!.
صعقت وشعرت بساقيها تنحلان لكنها بذلت مجهوداً خارقاً حتى استطاعت البقاء واقفة. صبر هنيهة تاركاً لها المجال لاستيعاب عرضه ثم ضيّق حدقتيه ونفث الدخان إلى الأعلى بشكل حلقات قبل أن يردف:
اجلسي وتمالكي أعصابك. نعم هكذا أفضل . أنا - ولا أعوذ بالله من أنا لأنني أعرف تماماً من أنا وأقدر نفسي حق قدرها ، وهذا كما ستكتشفين بنفسك واحد من أكبر عيوبي والأساس الذي رفعت عليه امبراطوريتي الصغيرة، أنا رجل عملي وصريح حتى الجلافة اعتدت الذهاب في خط مستقيم نحو هدفي، فلا شيء يجبرني على اللف والدوران لهذا أعرض عليك أن تصبحي زوجتي . لاأستطيع الادعاء أنني وقعت صريع هواك من النظرة الأولى ، فقد تقدمت في العمر بما يكفي لأنسى هذه الأهواء المتقدة بحيث أن الحب لم يعد يعني لي شيئاً، لأقل إنني أردتك من النظرة الأولى ، ليس الأمر مجرد رغبة جنسية فقط ، فهناك العشرات من اللواتي يفقنك جمالاً وإغراء ولايطمحن بأكثر من أن يكن عشيقات عابرات في حياتي .
أحنقها غروره إلى درجة الهياج لكنها كظمت غيظها وارتخت في مقعدها الوثير سامحة لطيف ابتسامة أن يتسلل إلى زاوية فمها وهو يردف:
- أعترف بمتعة أن فيك سحراً سيطر عليّ بل واستلبني بحيث أمضيت الساعات القليلة الماضية أسير هاجسك عاجزاً عن التخلص من طيفك رغم أن تجاربي وخبراتي وعمري تحضني، أو يجب، من سهولة السقوط في حبائل الإغواء. لكن الذي حدث أنك أدرت رأسي حتى الدوخان ولكأنني مراهق غر يدخل خدر حسناء لأول مرة في حياته. وهذا إحساس لذيذ فاتن افتقدته من قرن!
لم تستطع كبح الابتسامة من الارتقاء إلى شفتيها شاعرة بغبطة نادرة فيما توهجت عيناها بقوة اضطرتها لإغماضهما. نهض ونظر إليها من علٍ فبان لها عملاقاً يبعث على الرهبة بصدره العريض ورقبته الثخينة، وخطر لها أنه قوي إلى درجة هرس عظام المرأة التي يعانقها:
- أعتقد، وأنا نادراً ما أخطىء، أنك المرأة التي رغبت فيها دائماً دون أن أعثر عليها قطعة واحدة. ففيك نسب عالية من الجمال والجاذبية والذكاء والاعتداد بالنفس والطيبة والمكر والكآبة والإحساس بالظلم والرغبة في الحياة. و.. الشبق.. ولاحظت، وأنا شديد الملاحظة، وآمل أن تعوّدي نفسك على تحمل غروري، إنني بدوري أثرت فيك مشاعر إيجابية حرمتك النوم ليلة البارحة، وهذا واضح في عينيك اللتين زادهما الذبول والنعاس سحراً. لعلك أعجبت بي أو أثارك ثرائي، فلا شيء يدير رأس حواء كالمال. أو ربما دغدغت فيك عقدة الكترا، فأنا في عمر أبيك وإحدى ميزاتي قدرتي الكبيرة على خلق شعور بالاطمئنان والثقة والوداعة والعطف في نفوس النساء يساعدني على ذلك ضخامة قامتي وبراءة ملامحي!
كان يتكلم بهدوء وثقة ملونا نبراته كممثل تمرن طويلاً على إلقاء تلك المرافعة العاطفية المؤثرة. ورغم حذرها واستيائها فانها لم تستطع منع شعور عميق بالإعجاب من اجتياحها. كانت ما تزال غير مصدقة لعرضه حين عاد يجلس في مواجهتها نافخاً دخان سيكاره عفوياً في وجهها وقد لمعت جبهته بحبيبات عرق بللورية:
- لكن قبل أن تجيبي بالإيجاب أرى من واجبي إطلاعك على بعض أسراري الصغيرة كي تكوني على بيّنة من كل شيء، والذي أوله شرط آخره سلامة كما يقول المثل. وخذي حذرك لأنها أسرار قد تصدمك بخطورتها لكنها ستشكل نقاطاً إيجابية لصالحي. تزعم الإشاعات أنني غني إلى حد أنني أجهل حجم ثروتي. وهذا إدعاء باطل تماماً، فأنا أعرف بالبنس والفلس مقدار ما أملك، لكنها معرفة تقتصر عليّ وحدي، وستظل كذلك. المهم أن ثروتي كبيرة لكن النيران تأكلها أن حدث وشبّت فيها!. ويقال عني إنني زير نساء. وهذا حقيقي. فالمرأة هي الهواء الذي لا أستطيع العيش دونه، وليس هذا بالأمر الشاذ لأن كل ذكور العالم على شاكلتي. وهناك أيضاً أقاويل عن أطواري الغريبة وشذوذ تصرفاتي. وهي بمجملها صحيحة وقد تعمدت تغذيتها وترويجها، فرجل في مثل ثرائي وأهميتي واعتدادي بنفسي لابد أن يكون فريداً من نوعه، وإلا لما كان ثمة فارق بيني وبين أي فلاح من الأغوار!.
أطفأ السيكار في المنفضة المعدنية الرخيصة الموضوعة على الترابيزة الخشبية وحدق إليها بحدة وقد بانت الصرامة في ملامحه قبل أن يسألها:
- ماذا ترين؟.
اعتصمت بالصمت شاعرة أن صوتها لن ينجدها. كانت ما تزال عاجزة عن هضم المسألة برمتها مستصعبة تصديق ما تسمع وقد بدأت الريبة تساورها في أن يكون الرجل إنساناً سوياً عاقلاً. إذ بلعت ريقها بصعوبة وهزت رأسها دون معنى قال يستحثها بنبرة آمرة:
- أريد معرفة رأيك قبل أن أتطرق إلى تفاصيل خاصة جداً. لا أطلب موافقتك فوراً بل أريد أن تجيبي بنعم أو لا على هذا السؤال: هل أنت معنية بعرضي؟.
أومأت برأسها بالإيجاب فزفر بانتصار وقال ببشاشة:
- لو لم أكن واثقاً من استعدادك للموافقة لما فكرت بالأمر أصلاً. والآن أصبح بإمكاني الدخول في تلك التفاصيل. إنني في السابعة والخمسين من عمري، وقد أجريت قبل عامين عملية قلب مفتوح في الولايات المتحدة. وقد أعيش إلى المئة لكن عرافة إفريقية تنبأت لي وأنا في العشرين من عمري، حين كنت مجرد متسكع في ساحل العاج لا أملك شروى نقير، إنني سأموت قبل أن أبلغ الستين من عمري.
أطلقت حشرجة خافتة وقد بان عليها الفزع فأمسك بيدها وربت عليها يهدىء روعها:
- لست من النوع المتطيّر الذي يتأثر بسهولة بتلك الخرافات. وكنت سأعتبر النبوءة مجرد ثرثرة فارغة لولا أن كل ما قالته لي تحقق حتى الآن بحذافيره! حين أتذكرها، بشكلها المخيف وعينيها الناريتين وصوتها المعدني الذي لا يزال حتى الآن يرن بوضوح كامل في أذني، يخيل إليّ أنها كانت تقرأ سفر حياتي في كتاب القدر حرفاً حرفاً. لهذا بت على يقين بأنني لن أبلغ الستين، وهذا بالذات ما سيقتلني على ما أحسب. وهكذا فإن زواجنا سيكون لمدة سنتين أو ثلاثة على الأكثر. وأعدك بأنها ستكون فترة مثيرة لي ولك على حد سواء، تستعيدين بعدها لقبك الحالي، أي الأرملة الحسناء، لكن مضافاً إليه الثرية.
أطلق يدها وأردف:
- هذا إن تحققت النبوءة! وبالطبع لن ترثي الشيء الكثير. فأنا أكره التبذير دون معنى، وأظن أن هذه القضية تهمك أكثر من سواها، ما إن نتزوج سيوضع مئة ألف دولار باسمك في مصرف سويسري، وبعد انتقالي إلى صديقي الأعلى ترثين الشركة التي جئت تطلبين عملاً فيها. أي أنك تساوين بلغة الأرقام، وهي على فكرة لغة لا تفوقها في الفصاحة لغة أخرى، حوالي ثلث مليون دولار..
شعرت بالدوخة لدى سماعها الرقم. لكن الشك ظل غالباً عليها في حقيقة قواه العقلية خاصة وأن الأمر كله بدا لها أشبه بحلم فانتازي ساخر. فكرت أن تسأله كيف يمكن لرجل حقق كل هذا النجاح ووصل إلى مثل جاهه ونفوذه أن يؤمن بالخرافات ويرزح تحت وطأة نبوءة سخيفة لعرافة سوداء شمطاء تخيلتها قابعة في ظلمة حالكة تحت شجرة عارية تحيط بها الجماجم والهياكل العظمية والأقنعة المنكرة وتزحف حولها أفاع مفزعة تنفث أنيابها السمّ الزعاف. لكنها أطبقت فمها وهو يردف:
- أما شروطي فهي التالية. أحب الأطفال لكني لا أستطيع العيش معهم تحت سقف واحد. ولا أشك أن أطفالك لطفاء ظرفاء رائعون إلا أنني لست على استعداد لقبول مزاحمتهم لي فيك، كما أن إقامتنا ستكون في باريس وقد تضطرني الظروف إلى التنقل المستمر. وهذا يعني أن توكلي رعايتهم إلى المربية التي تعيش معك.
- وماذا إن كذبت نبوءة عرافتك؟.
أفلت السؤال منها دون قصد. ابتسم وهو يقول بثقة:
- لن تكذب. وإن كذبت فسيكون لك الأمر حينئذ. فإما أن نستمر بشروط جديدة وإما أن ننفصل. أأفهم من سؤالك أنك موافقة؟.
فرّت الدماء من جسدها كله وهي تدرك فجأة أنها لا تحلم وأنه جاد. انتابها شعور بالرضى والارتياح لكنها سارعت تخفيه تحت ستار من الصرامة أسبلته على وجهها وهي تقول بلهجة جافة عدائية استغربتها هي نفسها:
- جئت أبحث عن عمل لا عن زوج. أنا عواطف بشارة يا سيد أكرم لا سلعة تباع وتشترى وتساوم على أولادها بهذا الأسلوب الرخيص!
ضحك بصفاء ولوّح بيديه في حبور مركزاً عينيه في عينيها:
- لا تتظاهري بما لا يليق بك يا عواطف.. أنت امرأة عملية وذكية إلى درجة تكفي لتدركي أن عرضي أبعد ما يكون عن الإهانة والإساءة إلى شخصك الكريم، وأنا واثق أنه لاقى هوى في نفسك فهو، مهما انفعلت واستأت، عرض شريف نبيل لا غبار عليه سوى ما يتعلق باضطراري إلى انتزاعك من أطفالك. لكنه اضطرار مبرر. وأظن أنني وفيتك حقك كاملاً. وكما عرفت من سميرة البارحة. فأنت مررت بتجارب أكثر من كافية لتدركي أن لكل إنسان في هذا العالم ثمناً!.
أخذ نفساً عميقاً ونفخة بقوة:
أنا رجل وأنت امرأة، وأفضل ما يجمعنا عقد زواج وأراهنك أنك ما إن تخلدي إلى نفسك وتفكري في الأمر بإمعان حتى تدركي أنني أقدم لك فرصة نادرة لتتغلبي على مشاكلك الكبيرة وترفعي عن رقبتك نير العيش تحت منّة وسلطة قريبك العسكري!.
ضربت جملته الأخيرة على أكثر أوتارها حساسية وآلمتها غمزته الجارحة من كرامتها إلى درجة جعلت الدماء تغلي في عروقها.. بذلت جهداً كبيراً حتى سيطرت على أعصابها ونهضت قائلة ببرود إنها لا تفكر في الزواج الآن، وإن حدث وتزوجت فلن يتم ذلك على حساب أطفالها. حافظ على هدوئه وواكبها إلى الباب وفتحه لها قائلاً بثقة:
- إن أعملت عقلك فستكتشفين أنك ستتزوجين لحسابهم. سأنتظرك غداً في مثل هذا الوقت..
عندما أصبحت في الشارع لم تستطع منع ابتسامة عريضة من اقتحام وجهها المكفهر.. وما منعها من إطلاق صرخة انتصار بملء فيها إلا الحياء. كانت واعية تماماً لقدر نفسها وعارفة أنها امرأة استثنائية لا يمكن لرجل أن يمر بها مرور الكرام. لكن غرورها لم يبلغ أبداً حد الاعتقاد أن تأثيرها يمكن أن ينال بهذا الشكل الصاعق رجلاً من نوع أكرم النحاس، وإلى درجة أن يقدرها بثلث مليون دولار. وهو مبلغ لم تستطع منع ريقها من التحلب كلما فكرت فيه، وكلما تخيلت الحياة الأسطورية التي ستعيشها، وإن يكن لفترة قصيرة، كزوجة أكرم النحاس!. والأهم من ذلك كله أنه أول رجل منذ وفاة طارق قبل سبع سنوات، يحرك في كيانها تلك المشاعر المضطرمة من الرغبة والحنان والفضول والإثارة والعنفوان والخيلاء. وهي مشاعر حسبت أنها انتهت من حياتها إلى الأبد مع رحيل طارق وانغماسها في محرقة المحن والمصائب التي شهدتها منذئذ.
سارت على غير هدى غارقة في أفكارها قبل أن تكتشف أنها قريبة من بيت سميرة. تلكأت هنيهة ثم طرقت الباب وقد استعادت هدوءها وسيطرتها على أعصابها. حين سألتها سميرة عما خرجت به من لدن الرجل اكتفت بالقول إنه وعدها خيراً. ضحكت مضيفتها بخبث المرأة العارفة الحكيمة قبل أن تفرقع بلسانها قائلة بلهجة الناصح الخبير:

- كوني على حذر يا عواطف. إنه رجل مصنوع من عناصر يصعب على الواحدة منا مقاومة إغراءاتها. غني. كريم. جذاب. قوي. ماكر. قادر على أن يكون ذئباً في ثوب حمل أو حملاً في ثوب ذئب حسب ما يرتئيه. إنه يمثل للمرأة كل ما تحلم به. لقد أمضى أكثر من ساعة البارحة يستجوبني حولك. أراد أن يعرف كل شيء عنك مما أثار قلقي. فهو إن وضع عينه على امرأة فمن المستحيل أن تفلت من براثنه. احذريه.
ابتسمت عواطف وأكدت بثقة:

- لا تشغلي بالك من هذا الناحية يا سميرة. لكني بدوري أريد معرفة كل شيء عنه.
تطلعت إليها سميرة بإمعان تحاول سبر غورها، ثم سألتها بقلق:
- ماذا دار بينكما؟.
حين ظلت عواطف صامتة أردفت سميرة باستسلام:
- أنت حرة. كما سبق وقلت لك. حياته الشخصية غامضة ولا أحسب أنني قادرة على إرواء غليلك. كل ما أعرفه أنه ابن فلاح من قرية النحاسين. وقد شهد بعينه مقتل أبيه على يد رجال سرسق لأنه رفض إخلاء الأرض التي باعها سرسق لليهود. أقسم على الانتقام من قتلة أبيه فشكل عصابة لاحقتهم وقتلت بعضهم. حين انكشف أمره ولاحقه البوليس هرب إلى لبنان ثم هاجر إلى ساحل العاج حيث قال له الكريم خذ فأصبح خلال سنوات من كبار ملاك حقول القهوة. انتقل في الخمسينات إلى الولايات المتحدة ثم غادرها بسبب مشاكل ضريبية في منتصف الستينات واستقر في فرنسا. أستطيع أن أجزم فقط أنه غريب الأطوار متقلب المزاج، تزوج ثلاث مرات. زوجته الأولى ابنة مغترب لبناني قابلها في ساحل العاج وأنجبت له صبيين قبل أن تتوفى وهي في مقتبل العمر. ابناه يقيمان في الولايات المتحدة والعلاقة بين أكرم وولديه غير حميمة وهم يكتفون بالالتقاء لمدة أسبوع كل عام في إحدى الدول الأوربية أو الجنوب أمريكية.
لم يزدها حديث سميرة إلا فضولاً لاكتشاف معدن هذا الرجل الذي بدأ حياته منتقماً قاتلاً وها هو ينهيها الآن فاحش الثراء بانتظار موت خرافي!.
اختلت بنفسها تلك الليلة تحاول ترتيب الأحداث المتسارعة التي اجتاحتها منذ عصر البارحة. فكرت لوهلة أن الأمر لا يعدو هلوسات تمكنت منها إلى حد الاعتقاد فعلاً بأن رجلاً شهيراً ثرياً عرض عليها الزواج بعد ساعات قليلة من رؤيته لها، هي على الأرجح أمنيات دفينة تراودها منذ وصلت بها الحال إلى الطريق المسدود الذي لا مخرج منه. أن يأتيها من حيث لا تدري ولا تتوقع من يمد لها طوق النجاة. وينقذها مما هي فيه!.
لكنه جاء.. الأمر حقيقة لا كذبة.. وهي في كامل قواها العقلية.. تقف وتتصفح جريدة اليوم. الدستور- الأحد 6 كانون ثاني 1974- المانشيتات الرئيسية لم تتغير منذ أيام. مؤتمر جنيف حول الشرق الأوسط. السادات وكيسنجر. نيكسون يتحدث عن ضرورة تحقيق السلام في الشرق الأوسط.
وانزلقت شيئاً فشيئاً في الفخ الذي نصبه لها. أرخت أعصابها وراحت تفكر تماماً كما أراد لها أن تفكر. هي أرملة في مقتبل العمر فقدت زوجها وأملاكها ووطنها ورماها اليهود على الجسر كنبتة اقتلعت من جذورها وشلحت في العراء. وها هي ذي منذ عامين ترزح تحت وطأة هموم طاحنة وتعيش الهوان تحت رحمة رجل اغتصبها بنذالة ولم تستطع أن تتحرر منه.
لقد بذلت جهدها لتشذيب عواطفها نحو إبراهيم وترويض نفسها على فكرة القبول به زوجاً. جربت أن تنظر إلى المسألة باعتبارها اعترافاً بالجميل للموقف النبيل الذي وقفه منها ما إن حطت رحالها في عمان،. وتضحية يجب أن تقدم عليها من أجل أطفالها ولتوفير المأوى الأمين والعيش الكريم لهم. لكنها أخفقت. عجزت عن التغلب على نفورها ومحاذيرها منه، واستصعبت الاستسلام لمنطق العقل البارد الذي راح يزين لها أن إبراهيم هو الفرصة السانحة، والأخيرة، التي لا يجب أن تفوّتها من يدها. ثم جاء اعتداؤه عليها في الوقت المناسب تماماً ليخلصها من حيرتها ويجلعها تحزم أمرها نهائياً حياله. لم يكن اغتصابه لها هو ما آلمها وأذلها فحسب، وإنما اضطرارها إلى السكوت على الأمر وابقاء الوضع على حاله حين تبين لها أنها غير قادرة على الاستغناء عنه والتشرد بأطفالها في الشوارع باحثة عن اللقمة والمأوى. اكتشفت فجأة أنها ليست سوى امرأة تافهة ضعيفة عاشت دائماً، وما تزال، عالة على الآخرين. تعجز حتى عن رفو الجوارب وتخشى مواجهة الحياة بمفردها معتمدة على نفسها. دلّلها أبوها حتى أفسدها، وقامت مريم على خدمتها حتى تنبلتها، ورفّهها طارق حتى أعجزها. حتى تجربتها القصيرة في بيروت لم تعركها بما يكفي لتعيد النظر في نمط حياتها وتتحسب لتقلبات الدهر. وعندما فقدت والدها بقي لها طارق، وعندما فقدت طارق بقي لها الوطن- المنزل يؤويها والمكتب والأرض اللذان ورثتهما عن أبيها يدران عليها دخلا ثابتاً يقيها العوز والحاجة إلى العمل. كذلك لم تفدها كثيراً تجربتها مع الاحتلال. لاشك أنه قلب حياتها، وخاصة وقد ترافق مع وفاة طارق، رأساً على عقب، وحوّلها من فتاة حالمة تحسب أن الدنيا ليست سوى أنشودة سعادة دائمة ومعزوفة حب لا نهائية، إلى امرأة بائسة شقية خائفة قلقة تركبها الهموم والوساوس، إلا أنه لم يعلمها سوى التلوّن حسبما تقتضيه معركة البقاء التي دهمتها على غير انتظار. تعلمت أن عليها أن تنحني أمام الريح وتساير الواقع الطارىء على أمل أن يزول سريعاً. أن تتظاهر بالبأس وهي ترتجف فرقاً ، أن تستهتر وهي تتميز غيظاً، أن تستسلم لرافايل وهي تتمنى لو تخنقه بيديها العاريتين، أن تخفي الفدائي في منزلها وهي تتمزق خوف أن يعثروا عليه عندها فتفقد كل شيء، الحرية والبيت والأرض.
نعم، كان لابد أن تتغير إزاء ذلك كله، ولكن أي تغيير؟ لم تعد المسألة المطروحة آنذاك كيف تعيش وماذا تريد وبماذا تؤمن، إنما صارت أن تعيش فقط. أن تبقي رأسها طافياً فوق العباب. أن تحمي أسرتها من المخاطر والويلات، وأن تحافظ على البيت والمكتب والأرض بأي ثمن باعتبارها ضمانتها من العوز والسقوط.
رباها أبوها ومريم وراهبات القلب المقدس والمجتمع تربية صارمة متزمتة إلى حد القمع فيما يتعلق بالفضيلة والأخلاق، ومنهم تشربت حتى الثمالة، مثلها في ذلك مثل كل بنات جنسها، أن الركيزة الأساسية للشرف قائمة على صيانة الأنثى لعفتها. ورغم ميلها الدائم، الطائش والنزق، للتمرد على التقاليد المتحجرة والخروج على مفاهيم بالية كانت ترفضها جملة وتفصيلا، فإنها التزمت بدرجة عالية من الصلابة الأخلاقية التي ولّدت لديها حذراً فطرياً من الجنس إلى درجة اعتباره أشبه بحقل ألغام مميت للتي لا تعبره بحرص وحذر شديدين. لهذا لم تسمح لطارق، قبل الزواج بأكثر من قبلات خاطفة وملامسات حيية سطحية.
لكن كل بنيانها الأخلاقي المتين تهاوى انقاضاً تحت جزمات المحتلين التي راحت تدعس كل ما آمنت به. لم ينتبها حزن كبير وهي تسمع حكايات عن نسوة تعرض للاغتصاب ولا اكترثت بمظاهر الفسق التي راحت تنتشر في القدس وكان أبرزها بيت دعارة علني افتتح في البناية المقابلة لهم فجاءت مريم تصرخ وتبكي لاطمة على رأسها طالبة منها أن تسارع إلى تقديم شكوى لإغلاقه. فكان أن طلبت منها الاهتمام بشؤونها فقط وعدم التدخل بشؤون الآخرين. كانت الهزيمة وموت طارق أكبر من أية قضية أخرى. وعندما بدأ رافايل يحذرها، بعد أن صمدت طويلا أمام هجماته المحمومة، بأن الموت ينتقل بحرية في القدس بسبب أعمال المخربين وأن عليها الانتباه لطفليها وهما يلعبان في الشارع أو يتنزهان برفقة مريم كيلا تصيب رصاصة طائشة أحدهما، أو كليهما، أدركت بوضوح أن الدور قد وصل إليها. اختلت بنفسها في غرفتها وتعرت تتملّى جسدها أمام المرآة. كان ما يزال على حالته صلباً ممشوقاً يتفجر نضارة وعنفواناً وتحدياً ويصطخب بالرغبات الصارخة التي تنده بها حلمتا نهديها المتوثبتين كطيرين يتهيآن للانطلاق. جسته بيديها بلطف وهي تسأله إن كان الحفاظ على عفافه يستأهل التضحية بغسان أو نضال، ثم أبلغته، بحزم، أنها قد تضطر إلى التضحية به في سبيل من هو أهم وأثمن منه. ستفترض، في أسوأ الأحوال، إنها تعرضت للاغتصاب مثل من تعرضت له من تعيسات وطنها ، وفي أحسنها، إنها لاقت حتفها. أجهشت من ثم في بكاء عصبي خافت. بكت على نفسها وجسدها وأولادها وزوجها الراحل وبلدها المعذب. بكت حتى فقدت قواها وغرقت في نوم متقطع أشبه بالإغماء فلم تفق إلا على مريم تهزها بهلع وتسألها لماذا هي عارية. وهي ترمي جسدها في قبضة رافايل شعرت بتفاهة الحياة وقسوتها في الآن نفسه. أدركت زيف وخواء مفاهيمها وضعف وهوان مخلوقاتها التي شيدت لنفسها عالماً من رمل لا يصمد أكثر من لحظات ما إن تكتسحه أمواج الواقع العاتية.
وما أهون القدس أمام عمان. هنا لم يتبق لها شيء. لا مأوى ولا دخل ولا مهنة تتقنها. هنا الخوف والضياع وطريق الجلجلة المعبد بالعذابات والآلام والأشواك يقودها إلى غابة من الصلبان الحديدية.
لم يخطىء أكرم. ستكون مجنونة إن فوتت الفرصة على نفسها، وهي فرصة لا يأتيها مثلها إلا مرة واحدة في العمر. مغارة علي بابا تنفتح أمامها على مصراعيها داعية إياها لتغرف من كنوزها وغموضها وسحرها ومفاجآتها. وهي إن لم تغامر من أجل نفسها فمن أجل أبنائها، من أجل أن تحيا أسرة مناف بكرامة ومن أجل أن ترفع نير إبراهيم عن كاهلها. ثم إن أكرم ليس أي رجل، إنه أكرم النحاس، إغراء ليس بإمكان المرأة، أية امرأة، أن تقاومه، وهي وهو متساويان. ثراؤه لقاء جمالها، كهولته مقابل ترملها، الثلث مليون دولار مقابل تخليها المؤقت عن أطفالها. يريد امرأة يتمتع بها فيما يزعم أنه تبقى له من العمر، وتريد رجلاً يعوضها عما قاسته وينقذها من مصير مجهول ويؤمن لها العيش الكريم بقية عمرها. حتى إن أرادها مجرد رفيقة فإن الأجر الذي ستناله يدير أكبر الرؤوس!. حين دعت مريم لتستشيرها بوجل فوجئت بها تشجعها بحماسة:
- ولم لا؟ أنت صبية يا عواطف فهل تريدين أن تبقي بقية عمرك أرملة؟ ولا تنسي أن ألسنة الناس لا ترحم. لا أحد يصدق أن إبراهيم يؤويك ويصرف عليك شفقة بك وحباً بسواد عيون الأولاد. وافقي فوراً وإلا كنت حمقاء. أما الأولاد فلا تحملي همهم ما دمت أنا معهم..
برقت عيناه وابتسم بانتصار وهو يستقبلها بحرارة:
- والليلة الفائتة لم أنم.. الهيئة أن مراهقتي الثانية تأخرت إلى الآن بانتظار ظهورك في حياتي.. لم يسبق لي أن أخطأت في أحكامي إلا نادراً.. لاحظي أنني أخفف قليلاً من غلوائي!..
أمسك بيدها وضغط عليها بحبور:
- سمحت لنفسي بترتيب الأمور حتى قبل أخذ رأيك. اليوم الاثنين وسنتكلل السبت في احتفال بسيط ونطير إلى باريس الأحد. كنت أفضل أن يكون زواجنا مدنياً لكنني رأيت أن الزواج الكنسي سيريحك ويطمئنك أكثر.. بدأ العمال بتجهيز منزلي في الجبل ليقيم فيه الأولاد.. ومنذ ساعة صرت تملكين مئة ألف دولار وضعت باسمك في الكريدي سويس، كما أن محامتي يعد وصية لترثي شركة القدس بعد وفاتي..
نظرت إليه ببلاهة فاغرة الفم. عادت تتساءل إن كان جاداً أم أنه يتسلّى بها منتظراً أن تبلغه موافقتها ليقف مقهقها بسخرية طالباً منها أن تغرب عن وجهه. كان يتحدث بلهجة سريعة ونبرة عملية وكأن المسألة لا تعني له فعلاً أكثر من صفقة تجارية يتفاوض على عقدها متوخياً تحقيق أكبر قدر من الربح.. بدا لها كل شيء هستيرياً لا معقولاً وكأنها تعوم في فضاء خاوٍ بين غيوم حمراء وشموس صفراء باردة ومخلوقات عجيبة الأشكال.. الدولارات.. الوصية.. الإرث.. الموت.. العرافة السوداء كاشفة عن ناب أسود مسنون.. اعتصرها إحساس عميق بالخوف حتى أنها همت بأن تصرخ أنها لم توافق بعد، بل وشدّت جذعها ناوية النهوض والفرار.. لكنها سرعان ما تراجعت وأبقت فمها مطبقاً شاعرة أنها أصبحت عاجزة عن إبداء أية مقاومة.. حين وجدت صوتها وقاطعته متسائلة:
- وكيف أتزوج رجلاً لا أعرف شيئاً عنه ولا يعرف شيئاً عني؟.
صدمها بجوابه الساخر:
- أتحسبين أن معرفتي سهلة؟ لا يعرفنا إلا خالقنا، حتى هو قد يتفاجأ أحياناً، والأرجح دائماً، بما صنعت يداه! على كل حال ليس هذا همنا الآن، وليس همي أن أعرف ماهية هذه المرأة الجميلة الجالسة قبالتي مضطربة وجلة تتساءل عن نوعية وصنف هذا الرجل الغريب الذي ستصبح زوجته. أريد أن أكتشفك بنفسي. لا يفيدني بشيء أن تكوني بنظر الآخرين طيبة أو شريرة. محبوبة أو مكروهة. لقد حزت على إعجابي وهذا يكفيني. وأفضل أن تعامليني بالمثل. أنت معجبة بي بدورك فلا معنى لأن تسألي عني أشخاصاً تعتقدين أو يعتقدون أنهم يعرفونني جيداً. هناك كثيرون لا يتورعون عن رفعي إلى مرتبة الملائكة، وهناك أكثر منهم يضعونني ببساطة تحت نعل الأبالسة. أنا نفسي أجهل نفسي. قد أكون أحياناً ملاكاً. وإذا بي في أحيان أخرى شيطان رجيم! حدثتني سميرة عنك بما كفاني. وأنا أثق برأيها. إنها معجبة بك كثيراً. ملأت رأسي بقصص مثيرة عن بطولاتك في القدس والفدائيين الذين أخفيتهم في منزلك حتى تخيلتك فارسة صنديدة تنزل إلى الميدان لتدعو دايان إلى النزال!. إن كانت المرأة الجميلة القوية تثير إعجابي فإنك فتنتني بوطنيتك وخففت عني عقدة النقص التي أعانيها في هذا الصدد. وهذا جانب من شخصيتي أكشفه لك قبل أن تسمعي به من غيري. الكثيرون يتهمونني بالتقصير والتهرب من مسؤولياتي الوطنية إذ لم أقدم لقضية فلسطين سوى النذر اليسير من الأصفرالرنان الفائض عن حاجتي. والآن سيصبح بإمكاني رد التهمة والقول أنني تزوجت مناضلة جسورة..
صمت فجأة وحدجها بنظرة ثاقبة تبدت فيها عجرفة باردة مشوبة بحزن أسيف قبل أن يأخذ نفسا ويطلق ضحكة جافة مردفا:
- على كل إن كنت ترغبين فعلاً في زيادة معلوماتك عني فاعلمي أنني تزوجت ثلاث مرات في الخمس والثلاثين سنة الماضية. أطول زواج، وأتعسه، كان مع زوجتي الأولى، أم ولديّ عماد وزياد، واستمر ثماني سنوت، أما الزيجتان الأخريان فكانتا تجربتين ممتعتين مع غادتين لكنهما لم تدوما طويلا. سنة وثلاث سنوات على التوالي. عماد طبيب في الثانية والثلاثين وزياد دكتور اقتصاد في الثلاثين . الأول صاحب مستشفى في جورجيا والثاني يدير كازينو قمار في لاس فيغاس. ولا أشك في أنهما سيحوزان على إعجابك. أما فيما يتعلق بشخصي فإن قواي الجنسية معقولة جداً لرجل متهتك في مثل عمري لم يتعاط حتى الآن أية مقويّات!. وأرجو ألا تكون صراحتي جارحة لمشاعرك فالأمر مهم ولا يمكن لأي منا تجاهله. أما ما تبقى فعليك أن تكتشفيه بنفسك. وأعدك أن تكون اكتشافاتك مثيرة بحيث لن تندمي أبدا..
ولم تندم . عاشت معه ثلاث سنوات انقضت بلمح البصر رغم كل ماحفلت به من أفراح وأحزان ومتع ومنغصات. بدأتها بغبطة طفلة مدهوشة وأنهتها تحترق من الألم وهي تراقبه يذوب كشمعة بعد أن تمكن منه السرطان مواجهاً مصيره بصلابة الرسل.
ليست هناك كلمة دقيقة تصف بها مشاعرها نحوه. كانت مزيجا من الود الذي لم يرق إلى مرتبة الحب ، والتقدير العميق لشخص فريد من نوعه، والعرفان بالجميل لفضل غمرها به أبداً، والافتتان بنمط من الحياة استثنائي . اعتبرتها حبا عقلانياً قائماً على تبادل المصالح المشتركة النبيلة،إن كان هناك مثل هذا الحب!. فهو وفر لها،كما توقعت،الأمن والاستقرار والثقة والطمأنينة، فبدا لها أحياناً ، وهذا مالم يغب عن ذهنه، أقرب إلى أب عطوف منه إلى زوج متطلب نزق. وهي منحته الحيوية فأضفت على سني حياته الأخيرة الإشراق والبهجة والرضى.
فتح أمامها أبواب عوالم جديدة كل الجدة فانغمست فيها تعيش كما لم تعش قط سابقاً . تذوقت حلاوتها ومرارتها. عرفت نبلها وحقارتها. لمست خفاياها وأسرارها، ورأت سموها وانحطاطها. غشت أرقى الفنادق وتسللت إلى كهوف الجنس. قادها في متاهات اللوفر وتسلق معها قمم الآلب .. سهرت مع وزراء ورقصت مع تجار أسلحة وحشيش ولعبت القمار في كازينوهات مونت كارلو واشترت التحف من مزاد ساوثبي اللندني. ألبسها زيا كنعانياً وقلدها بالجواهر الثمينة وقدمها إلى الطبقة المخملية الفرنسية باعتبارها أميرة فلسطينية من سلالة الملوك الكنعانيين فجسوها محبوسي الأنفاس غير مصدقين أنها من لحم ودم وجعل الجالية العربية تستقبلها بحماسة طفولية وهو يؤكد أنها زعيمة أخطر خلية فدائية عرفتها القدس!. و أوقعها ذلك الزعم في مشاكل غير محسوبة مع الأمن الفرنسي الذي استدعاها للتحقيق وكان يمكن أن يعتقلها أو يبعدها لولا نفوذه واتصالاته الواسعة!.
وكان أكثر ما أدهشها انكبابه على العمل وإرهاقه نفسه في ملاحقة أعماله وكأنه نسي، أو تناسى نبوءة العرافة السوداء فلم يعد إلى ذكر الموضوع معها مرة ثانية . وبدورها كادت تنساها لولا ذلك الحزن الشفيف الذي لم يفارق عينيه ليذكرها دائماً بأن ثمة غموضاً أقرب أحياناً إلى الشذوذ المبهم، يضفي ظلالاً قاتمة على حياته. خطر لها أن قصة العرافة ونبوءتها ليستا سوى كذبة اختلقها لأمر مافي نفسه، وعلى الأرجح لتهيئتها نفسياً لتقبل فكرة أنها لن تمضي معه سوى عامين أو ثلاثة ثم يتخلى عنها بعد أن يكون اكتفى منها.
تمكنت منها تلك الأفكار وتحولت إلى وسواس خناس ولما يمض العام على زواجهما. حاولت طمأنةنفسها بأن رباطهما الكنسي يقيد يديه عن طلاقها بسهولة لكن شيئاً لايصعب على رجل مثله . وجربت أن تقنع نفسها أنه لو طلقها فإن الأمر لن يؤثر عليها كثيراً فهي لن تقدر على البقاء بعيدة عن أولادها أكثر من ذلك ، ثم أنها قبضت الثمن، وبشكل مجز، سلفاً. لكن تلك الفكرة بالذات، لدهشتها ، أثارت لديها شعوراً عميقاً بالاستياء وجرحتها في صميم كبريائها ، فقررت أن تخرج عن صمتها مهما تكن النتيجة.
كانا يطرقان صخرة التنهدات، وهي جرف منعزل خارج مرسيليا اعتادا أن يؤمّاه في ساعة متأخرة من الليل بعد الزيادة الشهرية التي يقوم بها إلى المدينة لتفقد مصالحه واجراء فحص دوري في مشفى الدكتور روجيه الذي أجرى له عملية القلب.
جلس على حافة الجرف مطلاً على المتوسط الغارق في هدوئه المريب فخلداً إلى صمت عميق كفيلسوف يحاول حل أسرار الوجود . كانت تكتفي بالجلوس إلى جانبه لتغرق بدورها في أفكارها، لكنها في تلك الليلة الآذارية الباردة التي أرخت لبداية الشهر الخامس عشر لزواجهما، وهي سادرة في الفراغ المخيف صاغته عتمة حالكة تماهت مع هدير الموج الأجوف والتحمت مع فضاء موحش وبحر عظيم وريح باردة، التفتت نحوه لتقول بصوت مضطرب نم عن خوف فطري ساورها إزاء الجو المحيط بها:
- كأنه لم يبق غيرنا في العالم، أو كأننا انتقلنا إلى كوكب آخر.. اح .. أتوقع أن تنشق المياه عن بوسيدون يسألنا لماذا جئنا نقلق راحته!.
وإذ حافظ على صمته وجموده حسبته لم يسمعها فاقتربت منه مردفة:
- أين أنت سارح يااكرم؟ طمأنني الدكتور روجيه اليوم أنك في صحة ممتازة. أما تزال تفكر في تلك النبوءة؟ لا أصدق أن رجلاً مثلك يؤمن بتلك الخرافات.
فاجأها صوته الحالم الذي تطاير مع هبوب ريح قوية :
- تذكرني هذه المنطقة بطفولتي . كنا نسكن ضيعة صغيرة منعزلة لايزيد عدد سكانها عن المئتين . تبعد عن الشاطئ ميلين إلى الشمال من بيسان على مرمى حجر من رأس الناقورة. أغرب ما فيها، لون عدا انقطاعها عن العالم الون تربتها. ففي النهار هي جرداء كامدة لكنها في الأصيل، وإلى أن يبتلع البحر الشمس ، تستحيل إلى مايشبه صفيحة من نحاس متلألئ. لهذا السبب أسماها الناس النحاسية. ومنها أخذت كنيتي . كنا نشكل عشيرة واحدة فقد تحدرنا من صلب فلاح نشيط عمل مرابعاً لدى أحد باشاوات تركيا في منتصف القرن الماضي. انتقلت الأرض من مالك إلى آخر لكننا بقينا مرتبطين بها أبا عن جد، لم يكن يهمنا مالكها طالما أن مايتبقى من غلتها يكفي للقيام بأودنا.اعتاد أبي أن يأخذني قبل الغروب إلى الشاطئ لنسبح ونلعب. كان متعلقاً بي بقوة فقد كنت الوحيد، من دزينة أطفال أنجبهم، الذي بقي على قيد الحياة. بعد أن ننتهي كنا نجلس على صخرة بركانية سوداء متدرجة ذات بروزات مسننة تشبه الشعب المرجانية ونبقى نتسامر إلى أن يهبط علينا الليل بردائه الحريري المزخرف بنجوم لاحصر لها لكنها ذات ملامح واضحة بحيث كنت قادراً على تمييز واحدها عن الآخر واطلاق اسم محبب عليه. كان هناك الضاحك والكئيب والناعم والجحش الصغير والفأر وأبو بريص.. لو أن السماء صافية اليوم لكنت دللتك عليها. كان يلذ لأبي أن يحدثني عن أبيه وجده والجهود الجبارة التي بذلاها لاستصلاح تلك الأرض. قال إنها أخذت لونها الأحمر من الحنة التي رشتها جدته على الأرض لمنحها الخصب ، واللون النحاسي من البخور المقدس الذي أعطاه لها راهب جوال فأذابته في الماء وسقت به الأرض ليلة عيد الميلاد . حلم أبي، بأن تصبح الأرض لنا ذات يوم فلا يقاسمنا في خيراتها مقاسم . لذا قرر، رغم خوفه الشديد عليّ من التغرب، أن أذهب إلى بيسان لأنال قسطاً من العلم فلعل الحظ يواتيني فأصبح استاذاً أو محامياً وأجمع ثروة تساعدنا على شرائها . غرس في ذهني أحلاماً طموحة وراح يعدني لأكون ماعجز هو عن أن يكونه . كنت أقطع كل يوم ميلين ذهاباً وإياباً من الضيعة إلى المدرسة التي افتتحتها بعثة تبشيرية انجيلية في كرم اللوز في ضاحية بيسان. لكن سرسق سبقنا وباع الأرض إلى المنظمة الصهيونية. كنت دون العاشرة من عمري حين حضر الوكلاء يطالبوننا بإخلاء الضيعة. حدث ذلك بعد فترة من احتلال بريطانيا لفلسطين. كنا قد بدأنا نسمع عن وعد بلفور والهجرة اليهودية. فقرر كبار العائلة رفض أمر الإخلاء طردوا الوكلاء وانتدبوا والدي للسفر إلى عكا والاتصال بالزعماء الوطنيين وطلب العون منهم. بهرتني عكا بناسها وأزيائهم وفرحهم ومساكنهم وأسواقهم ورفاهيتهم حتى خلتها عاصمة المعمورة كلها. كانت المشاعر متأججة وأينما رحنا كنا نستقبل بحماسة وفيض من الوعود والعهود. لكن ما إن رجعنا إلى النحاسية حتى حضرت قوة لإخلائنا. كان علينا أن نرضخ، لكن العصبية، أو الكرامة، أو الجنون، أولا أعرف ماذا، أوقدت النيران في رأس أبي المسكين. حمل المنجل وهجم على آمر القوة فانهال عليه الرصاص يجندله قبل أن يصل إليه . تمزق رأسه و..
نفخ بقوة وصمت ينكش الصخر بأظافره مسنداً ذقنه على ركبتيه . أمسكت يده وكات ساخنة. أرادت أن تحذره من الاصابة بزكام وتطلب منه أن يغادرا.
لكنها لم تجد ذلك مناسباً . اكتفت بالضغط على يده فيما تابع بصوت رتيب:
- مضى نصف قرن على تلك الحادثة لكن تفاصيلها ماتزال منطبعة في رأسي كأنها جرت البارحة. أقسمت على الانتقام وعشت عدة سنوات موسوساً بتلك الرغبة. شكلت عصابة من أبناء عمومتي ورحنا نكمن لليهود والانكليز وسماسرة الأرض العرب. قتلنا وجرحنا أكثر من عشرة أشخاص خلال فترة تشردنا التي استمرت خمس سنوات. نظم البوليس حملة مطاردة واسعة ضدنا وسقط رفاقي واحداً وراء الآخر. أخيراً جاء دورنا لنقع في كمين يهودي بعد أن تهوّرنا وهاجمنا مستعمرة يهودية قيد الانشاء قرب النحاسية. أصيب ثلاثة منا وبقيت أنا وابن عمي عماد. حاصرونا قبل أن نصل إلى الصخرة المرجانية وعرفنا أنها النهاية. هبت عاصفة مطرية عرقلت مهاجمينا بعض الوقت فاقترح عماد أن يبقى أحدنا لمشاغلة المهاجمين ويحاول الثاني الهرب. وافقت وأجرينا قرعة حول من يبقى ومن يذهب.
ضحك بمرارة ورفع رأسه يلوح به قبل أن يستطرد:
- كان المفروض أن يذهب عماد ، فهو صاحب الفكرة ومن حقه أن يجرب حظه في النجاة بريشه أولاً، وأنا رئيس العصابة ومن يجب أن يصمد حتى النهاية مثل الربان الذي هو آخر من يغادر سفينته الغارقة. لكني جبنت . بررت الأمر لنفسي لاحقاً بأنه كان عليّ البقاء حيا لأنتقم!. نجحت في الوصول إلى الشاطئ عبر دروب أعرفها جيدا وسبحت حتى الصباح، ثم تسللت إلى لبنان وأقمت عدة أسابيع في صور قبل أن أنضم إلى زمرة من اللبنانيين الفقراء قرروا البحث عن رزقهم في مجاهل افريقيا الفرنسية. حططنا رحالنا في ساحل العاج حيث كان السعد في انتظاري .. خلال عشر سنوات صرت من كبار ملاك مزارع القهوة. كان الحصول على الأرض من أصحابها الزنوج بسهولة شرب كأس ماء. ففي المناطق الوعرة النائية التي تكاسل المستوطنون الفرنسيون عن ارتيادها كانت الأرض الخصبة البكر تنتظر أكرم النحاس ليشتريها بسقط المتاع، الخرز الملون والعاب الأطفال والمرايا والخداع.. أفكر أحياناً أنني لم أكن أحسن من سرسق والمنظمة اليهودية والانكليز. نسيت أن أبي قتل وهو يدافع عن أرض حلم أن تكون له. أول مزرعة امتلكتها اشتريتها من صاحبها بمصباح جيب ادعيت أن إله القمر يقيم فيه ليضيء لي طريقي في الأدغال . عندما راجعني زعيم قبيلته ليطالبني بالغاء عقد الشراء استعنت بكلولونيل فرنسي صادقته في الملاهي فأرسل لي قوة عسكرية قامت بطرد الرجل من أرضه وتحذير زعيم القبيلة من التعرض لي. لم يكن متهوراً كأبي ليجازف بروحه في سبيل الأرض . وكانت تلك البداية.. جرفتني الثروة في تيارها العظيم فانقلبت من شريد هارب مطلوب للعدالة إلى واحد من كبار السراة ألعب بالمال كما كنت العب بالرمال في شاطئ النحاسية. والثروة ساحرة وهائلة ياعواطف . إنها خاتم سليمان ومصباح علاء الدين والبساط الطائر معاً. وهكذا اتخذت قرارا بطي صفحة الماضي بكل مآسيه وآلامه والتطلع إلى المستقبل مصمماً على نيل العضوية في طبقة الصفوة التي تحكم العالم وتسيره حسب مصالحها ورغباتها. أتقنت اللعبة وتفوقت فيها فحق لي نيل تلك العضوية . أنت ماتزالين جديدة على عالمي ياعواطف ، لكنك ذكية إلى درجة تكفي كي تكتشفي سريعاً، ولربما اكتشفت، أن الحقيقة الأولى والأخيرة فيه هي المال. المال هو الرب الحقيقي ولارب سواه. هو الخالق والحاكم بأمره، كلمته مطاعة وأمره لايرد . وستسلمين بتلك الحقيقة سواء أعجبتك أم لا. انظري إلى اليهود كيف صاروا سلاطين زماننا لأنهم يتحكمون بالكتلة المالية الأضخم في العالم . والمال عطوف رحيم مع عباده.إنه يهبهم الحكمة والنضج والمتعة والأمان ويغري النجاح والحظ بالسير في ركابهم والقيام على خدمتهم ويعلمهم أن يتعاملوا مع الحياة بمنطق فلسفي مجرد قائم على الأرقام . لهذا فإن الأغنياء الكبار هم فلاسفة كبار بنظريات ومناهج بسيطة واضحة وكلما ازداد ثراء المرء ازدادت سعة افقه وحدة بصيرته وصار أقدر على التعامل مع عناصر الوجود واستكناه جوهر الحياة. وهكذا لم أعد أكرم النحاس ابن النحاسية الفلسطيني البسيط الساذج بل اكرم النحاس الغني القوي المتحكم بحياة الآلاف من العاملين في مؤسساتي ومصالحي والقادر على التلاعب بمصير الدول أحياناً . اكرم النحاسي الذي تمشي الدنيا في ركابي لا العكس، وصار بإمكاني الادعاء بأنني صرت قاب قوسين في القمة التي يتربع فوقها أساطين المال في العالم .. إنها أحلام مشروعة. ألا تحلمين أنت!.
فاجأها السؤال. لم تكن تصغي إلى حديثه بقدر ما كانت مأخوذة بأحاسيس الخيبة التي عبر عنها صوته. بدا لها وكأنه يناجي نفسه بصوت عال، أو كأنه يحاول تبرير قضية ما أثارها سؤالها عن العرافة السوداء. حدست أنه أجاب على سؤالها بطريقة مبهمة ، لكنها لم تنجح في التقاط ما رمى إليه. حين تلكأت في الرد عليه كرر سؤاله بإصرار من يريد جواباً.. غمغمت:
- الأحلام درجات حسب مراتب أصحابها.
- وماهي مرتبة أحلامك؟.
- الطقس يزداد برودة وقد تيبست أطرافي من هذه القعدة الطويلة.
- البرد محمول . لماذا لاتريدين الاجابة..؟!.
التفتت نحوه وتفرست فيه هينهة قبل أن تقول بحدة لم تخل من استفزاز:
- أن نعيش معاً إلى آخر العمر!.
شعت عيناه كجمرتين ودغدغتها أنفاسه الحارة وهو يغمغم وقد لامسىفمه خدها:
- هذه رغبة وليست حلماً. أسألك عن أحلامك الكبيرة.. العظمة. القوة . الثروة. الجاه..؟.
أغمضت عينيها مستكينة إلى إحساس خدري لذيذ راح يتماوج في أعطافها.
همت تقول له أنها تريد أن تمسك العالم بين يديها . لكنها أزاحت تلك الفكرة والتصقت به تحمي رأسها من الرياح التي تزايدت سرعتها:
- أن أكون سعيدة محبوبة وأن تتحرر فلسطين وأرجع إلى قدسي. أما الأحلام الأخرى فهي متروكة لكم أنتم الرجال . أحلام المرأة متواضعة بالمقارنة مع أحلامكم.
ضمها بين ذراعيه وقبلها من شفتيها بشبق ثم قال بصوت استعادت نبرته سخريتها المألوفة:
- ربما لأن أحلامي كبيرة فإنني أتوقع أن يكون سقوطها مدوياً. لقد حاولت نسيان تلك النبوءة فلم أفلح. لقد ارتبطت بنجاحي ذاته. وكأن القدر قرر أن يمارس معي لعبة قذرة لامثيل لها. أتصوره الآن واقفاً يمد لي لسانه شامتاً قائلاً: رويدك ياأحمق.. إنها مهزلة تبعث في النفس أشد حالات الغيظ والقهر.ليس المهم من يضحك كثيراً. بل من يضحك أخيراً. والقدر هو الضاحك الأخير دائماً.هذه هي الماساة المتربصة بنا من الأزل وإلى الأبد. يعرف واحدنا أنها تواكبه من لحظة خروجه من رحم أمه لكنه يتجاهلها ليمثل دوره المرسوم على مسرح الحياة. تماماً مثلما هي الحال في التراجيديات الإغريقية. أوديب الذي لعنته الآلهة قبل ولادته بدهور . ماهي اللعنات المكتوبة على كل منا؟ الآلهة لا تجد تسلية إلا في إتعاسنا فتتفنن في إنزال الكوارث بنا والتهكم علينا لتحتفل في النهاية بنصرها المؤزر بالرقص على أشلائنا الممزقة ونفوسنا المحطمة!..
أتساءل الآن من أنا؟ اكرم النحاس القوي القادر أم أكرم الصبي المشرد ابن النحاسية المغيبة تحت مستعمرة إسرائيلية في تلك الأرض القائمة على الساحل الآخر للمتوسط؟ أتمنى أحياناً لو أبادل كل ما أملكه ببيت صغير مريح يطل على الصخرة المرجانية أمضي فيه آخر أيامي..



 


- 5 -
استقلت مريم على سريرها وأغمضت عينيها وقد هدّها اإارهاق شاعرة أن اليوم كان أطول وأصعب أيام عمرها. لقد شهدت الكثير من الأحداث والويلات خلال سنوات عمرها الستين . لكنها لاتذكر أنها تخبطت في تيار من الغرائب والمفاجآت كما تتخبط هذه الأيام ، ولا أرهقها الجهد العضلي الكبير كما هي مرهقة الآن، ولا عذبتها الأفكار والوساوس والمخاوف كما تعذبها اليوم.
تبدو لها قصة طارق كواحدة من معجزات السيد المسيح تثير في أعطافها إحساساً عميقاً بالإيمان والخشوع وتدفعها للصلاة إلى السيدة العذراء تناشدها اللطف والعون وشد أزر عواطف .. وعواطف تحتاج الآن إلى حنان العذراء وبركتها أكثر من أي وقت مضى.
لم تشعر بقوة الأواصر التي تربطها بعواطف مثلما تشعر الآن. لو أنها من لحمها ودمها لما أحبتها أكثر ، ولاتفانت في خدمتها ورعاية أبنائها بإخلاص أكبر.. ، إنها لم تتخيل ابداً
حين حملت صرة أغراضها الصغيرة مغادرة ميتم راهبات القلب المقدس إلى بيت الاستاذ رياض بشارة، أن حياتها سترتبط، من الآن وصاعدا ، بعواطف بشارة.. حسبت أنها ستبقى في الميتم بقية عمرها لتصير إما مشرفة على اليتيمات أو راهبة في خدمة السيدة العذراء. لهذا كانت دهشتها كبيرة حين استدعتها السيدة رئيسة الدير لتقول لها:
- الرب لاينسى أماته الصالحات يامريم. لقد بلغت الثامنة عشرة من عمرك وأظن أنه وجد أن الوقت حان لتبدأي حياتك في العالم الخارجي. هناك وجيه فاضل ومحسن كبير رزأه الله بفقد امرأته قبل عدة أشهر. عنده طفلة في الرابعة من عمرها بحاجة إلى مربية فاضلة وقديرة . بل إلى أم تعوضها أمها الراحلة ولقد برهنت خلال وجودك هنا أنك فتاة نشيطة مجدة أمينة على الأسرار ومؤهلة للقيام بهذا الواجب. لقد تكلمت مع الاستاذ رياض بشارة البارحة وزكيتك لديه فوافق مطمئناً إلى حسن اختياري فكوني عند حسن ظنه وظني وانا واثقة انك ستعيشين في كنفه بكرامة إلى أن يقرر الرب مستقبلك. وسأصلي دائماً إلى سميتك العذراء سيدتنا لترعاك وتسدّد خطاك لما فيه خيرك وخير العائلة التي ستعملين في خدمتها.
تقبلت قرار السيدة الرئيسة برضى واثقة أن العذراء أوصت لها به لما فيه خيرها وفلاحها..
لم يكن الأستاذ رياض بالرجل الذي يشبه الرجال القلائل الذين عرفتهم وصادفتهم في الميتم.. بدا لها، ما إن وقفت بين يديه وجلة غير مجترئة على رفع بصرها نحوه، وكأنها في حضرة واحد من هؤلاء العظماء السادة المرهوبي الجانب الذين التقت بهم في رحلاتها عبر أسفار الكتب المقدسة. بالتحديد كان يشبه الصورة المتخيّلة في ذهنها للقديس جورج، اصارع التنّين، بقامته الطويلة وملامحه الصارمة ونظراته النفاذة التي تدل على تكبر يصل إلى حد العجرفة بحيث أنها ظلت، حتى أيامه الأخيرة، لاتجرؤ على النظر إليه حتى لمعرفة لون عينيه وما قد يكون فيهما من أفكار.. فهو يفرض هيبته وسطوته على من حوله ولكأنه جاء إلى العالم وجيهاً بالفطرة سيداً بالوراثة. ولعل هذا ما جعله يعيش في نظام دقيق لايحيد عنه إلا نادراً . يأوي إلى فراشه في الحادية عشرة ليلاً ويستيقظ في الخامسة صباحاً ليمارس بعض التمارين الرياضية قبل أن يمتطي فرسه ليتريض في مزرعته الواقعة على طريق القدس بيت لحم. يرجع في السادسة والنصف فيستحم ثم يتناول الأفطار متابعاً الأخبار في الراديو ومطالعاً الصحف. في الثامنة ينزل إلى مكتبه في السرايا ويرجع في الثانية بعد الظهر لتناول الغداء. في الثالثة يأخذ قيلولة قصيرة ثم يمضي ساعتين مع عواطف يلاعبها ويهتم بشؤونها ودروسها . في السادسة يغادر إلى النادي العربي حيث يلتقي زملاءه ومعارفه من ذوي الشأن وأصحاب الأسماء المعروفة على نطاق واسع في تلك الأيام. وقد حظيت بشرف مقابلة بعضهم أثناء زيارتهم لسيدها أماسي السبت والأحد. في الثامنة مساء يؤوب إلى البيت لتحضير قضاياه وتناول وجبة عشاء خفيفة.
وسرعان ما اكتشفت أن عقله لم يكن أقل انضباطاً من سلوكه . كان عنيداً لايقبل النقاش في قراراته ولايتراجع عن موقفه حتى لو عارضه الجميع. إن أحب فبكل قواه وإن كره فبكل قواه. من أجل وعد متسرع قطعه لأم ابراهيم دمر علاقته بابنته وعاش سنواته الأخيرة معذباً حزيناً يجتر آلامه بصمت وكبرياء ، أصدقاؤه يعدون على اصابع اليدين، وقد ظل وفياً لهم حتى فرقهم الموت. شيّعهم واحداً وراء الآخر وقال بأسى إنه لم يبق له صديق يسير في جنازته . ورغم أنه كان في منتصف عمره يوم تعرفت إليه فإنه لم يفكر بالزواج ثانية، ولا أقام، كما لاحظت بدهشة واستغراب ، علاقة ، من أي نوع ، مع امرأة ما حتى لكأنه نذر العفة بعد وفاة زوجته. وكان يقدس ذكراها ولايمل من استذكار مناقبها وحبها وفضيلتها طالباً من عواطف أن تكون مثلها.
حملت امتناناً عميقاً وتقديراً كبيراً لهذا الرجل الذي لولاه لظلت حبيسة الميتم تآلفت مع طباعه وتقبلت مزاجه وتأقلمت مع سلوكه وغفرت له إساءاته وخدمته بتفاني واخلاص المرأة الراضية القانعة الخاضعة لسيدها وولي نعمتها، وكانت معاملته لها، وخاصة في السنوات الأولى، تثير حيرتها وجزعها واضطرابها لما فيها من استعلاء وريبة وتناقض . فهو قد يترك عواطف في عهدتها أياماً حين يضطر للسفر أو إن شغلته إحدى قضاياه مطمئناً إلى أنها في يد أمينة . لكنه ، في أحيان أخرى، يقف لها بالمرصاد ليدقق في كل أمر ويقرّعها في كل شأن وكأنه غير واثق من حسن تصرفها وأهليتها لرعاية ابنته. وهو فجأة يتباسط معها في الحديث فيسألها عن صحتها وأحوالها وينفحها مبلغاً محترماً قبيل الأعياد لتشتري ماتحتاجه من ثياب وأغراض، بل ويسارع إلى استدعاء طبيبه لمعاينتها حين تتوعك . لكنه سرعان مايتجاهلها وكأنها ليست موجودة حتى لتمر أسابيع لاتسمع منه خلالها سوى ردود جافة مبتسرة على تحياتها، وأوامره بإعداد القهوة والشاي وتحضير غداء أو عشاء لضيوفه.
لم تعتبر ذلك نقيصة فيه بقدر ما أرجعته إلى عيب فيها هي نفسها. فكلما قامت بتنظيف غرفة نومه وجدت نفسها منساقة إلى الوقوف أمام المرآة الصقيلة الضخمة ذات الإطار الخشبي بنقوشه الدقيقة البديعة، والتي اعتاد أحياناً دعوة ضيوفه للتفرج عليها متباهياً بأنها تحفة عائلية لاتقدر بثمن صنعها جده لأبيه الذي كان يهوى ، مثله في ذلك مثل ملك فرنسي قديم، النجارة فأمضى خمسة أعوام في حفر وزخرفة إطارها الأبنوسي الأسود الثمين وتعشيقه بماء الذهب صانعاً لوحة فنية تثير إعجاب ودهشة كل من يراها. حين كانت تقف أمام المرآة كانت تجد في مواجهتها سحنة دميمة تقطع الرزق وتجلب النحس ، كما كانت لداتها في الدير يعيّرنها. وكانت تسارع إلى الابتعاد والألم يعتصرها وهي تتساءل إن كانت تحمل فعلاً النحس لمن حولها؟ فما كادت تلتحق بخدمته حتى بدأ ما اسماه الاستاذ رياض زمن الانهيارات المستطرقة- فهمت معنى الانهيارات أما المستطرقة، التي حفظتها بعد جهد ، فما فهمت قط معناها وإن أوحت إليها بأكثر المعاني سوءاً- دبت الفوضى في البلاد وتدهورت الأوضاع وكبرت المخاوف مع ازدياد المعارك بين العرب واليهود فتوقفت الأعمال وصارت الحياة صعبة قلقة ..
وحين صدر ما أسموه قرار التقسيم وانتشرت ظاهرة الاغتيالات والتفجيرات اضطر الاستاذ رياض ، وإن مؤقتا، إلى التخلي عن نمط حياته المألوف. اعتكف في المنزل وقد غلبت عليه الكآبة قاصراً لقاءاته على عدد محدود من الأصدقاء . عندئذ أحست أن الأمور لاتسير على مايرام وأن المصائب أرسلت طلائعها منذرة بالأدهى، فانتابها رعب حقيقي من أن يخطر على باله أنها حملت إليه النحس فيعمد إلى صرفها من خدمته في تلك الظروف الصعبة . لكنه بدا بعيداً جداً عن تلك الأفكار. بل إن وجوده الدائم في البيت دفعه إلى الاحساس بوجودها أكثر من ذي قبل. فزاد من اهتمامه بشؤونها وأحوالها، وإلى درجة أن فاجأها ذات مساء وهي ترفع العشاء بسؤالها عما تسمعه من أخبار البلد. وجدت عندئذ الجرأة في نفسها لتسأله بدورها إن كان اليهود سيأخذون حقاً نصف فلسطين كما يقال . تطلع إليها بامعان وهز رأسه بفتور وهو يدق على الطاولة برتابة. ندمت على سؤالها وخشيت أن يكون غضب ، لكنها استعادت روعها حين تنحنح وقال بثقة:
- اطمئني.. لن يأخذوا شبراً واحداً.
منذئذ صار سؤالها الروتيني وهي تقدم له فنجان المليسة بعد العشاء:
- كيف هي الأحوال ياسيدي؟.
فيجيبها بآلية:
-لاباس.. لن يصير إلا مانريد.
ولم يغير رأيه . كما تبين لها، إلا ليلة اضطراهم للهروب من القطمون إلى المزرعة حاملين ما خف حمله وغلا ثمنه .
كان الأمر مختلفاً تماماً مع عواطف. امتلكتها الصغيرة بجمالها وفتنتها ورقتها وفجرت في صدرها ينابيع حب اختزنتها طويلاً فأغرمت بها بل وعشقتها.. منذ تطلعت إليها عواطف بعينيها الواسعتين الساحرتين الممتلئتين بالفضول، وكان أخشى ما تخشاه أن تخافها وتنفر منها فيعتذر الاستاذ رياض عن استخدامها، أحست أن الحياة تبتسم لها، بل شعرت أن قبحها ذاته يتلاشى . تنحنح الاستاذ رياض وقال لابنته بحذر وكأنه خشي بدوره ماخشيته:
- هذه دادتك مريم ياعواطف ستحبك وتلاعبك حتى ترجع الماما..
تكدر وجه الصغيرة وزمت شفتيها بحزن ثم قالت بنزق:
- شرط أن ترجع الماما بسرعة..
- إذن سنقول لها أهلاً حتى ترجع المام سهام..
نقلت بينهما نظرات حيرى ثم رددت ببطء..
- أهلاً.. دادا مريم..
لم تحتج مريم إلى أكثر من ساعتين لتتحول إلى جارية متفانية لاهم لها إلا حب عواطف وإرضائها وتدليلها . كانت مثل أبيها، صريحة الطبع لاتعرف المداورة وإخفاء مشاعرها. ووسط دهشة مريم الكبيرة وغبطتها العارمة الفتها عواطف بسرعة وتولعت بها وأنزلتها منزلة أمها الراحلة. وهي بالمقابل نذرت نفسها لعواطف وأوقفت حياتها لها. وقفت معها في السراء والضراء، في هنائها وشقائها، حلو حياتها ومرها. ساعدتها على تنفيذ قرارها الطائش بالزواج سراً من طارق بعد أن حاولت المستحيل لمنعها عنه. فعناد عواطف لم يترك لها أي خيار . وبعد أن رحلا إلى بيروت بقيت مع الاستاذ لتواجه بمفردها نقمته وغضبه وحزنه وتقوم بتمريضه ورعايته ما إن دب في جسمه المرض الخبيث. ولم يكن هناك سواها لتقف مع عواطف في فاجعة موت طارق ووقوع البلاد تحت الاحتلال ، ولتواجه معها محنة الابعاد وعذابات التشرد، ولتستلم مسؤولية الأولاد الصعبة بعد زواج عواطف من أكرم . وأخيراً وليس آخراً كما يقولون، لتشهد معها معجزة أن يكون طارق على قيد الحياة...
كم هو رحوم عظيم الرب، وكم تشعر بالامتنان وهي تتضرع إليه أن يتمم الأمر على خير كما تشتهيان هي وعواطف..
ولكن. هل سيتم الأمر على خير؟ ماذا جرى لهم لتشعر أنها تكاد لاتعرفهم ؟ حين تخوفت عواطف من أن لايتقبلوا الأمر بسهولة سارعت تتهمها بأنها موسوسة أكثر من اللازم، فهو أبوهم وسيكون فرحهم بالعثور عليه كبيراً. لكن مخاوف عواطف تبدو في محلها. فها هم يشككون ويجادلون بل ويتهكمون عليهما.. قد تغلطان، عواطف وهي ، في كل الناس لكن ليس في طارق. إنه الشخص الثاني ، بعد عواطف ، الذي ترك في نفسها أثراً لايمحى وذكرى لاتنسى. وهل بإمكانها أن تنسى كيف دخل حياتهما، عواطف وهي . دون استئذان وحسبان؟.
كاد يغمى عليها يوم رجعت عواطف من المدرسة مبكرة مضطربة وقد تمزقت صدريتها وانتكش شعرها وهي تسحب وراءها ذلك الشاب الذاهل الذي غطت الدماء وجهه وتورمت عينه وتمزق قميصه . صرخت بهلع لكن عواطف تجاهلتها وقادته إلى الحمام ثم رجعت تبحث عن الضمادات والسبيرتو. صعقت وعواطف تبلغها أنها لاتعرف الشاب،وقد التقته في المظاهرة التي كانت تطالب بطرد أبو حنيك عندما اشتبكوا مع رجال الشرطة. أضافت متباهية أنهما كادا يقعان في قبضة البوليس لولا تمكنهما من الفرار بآخر لحظة. حدقت إلى الفتاة بذهول وهي تستصعب تصديق ماتسمع. كل شيء خطر في بالها إلا أن ترمي طفلتها الحبيبة بنفسها في مثل هذه المخاطر التي هي وقف على الرجال وحدهم. ماذا سيقول الاستاذ إن سمع أو رأى المصيبة التي أحضرتها معها! قد لايقول شيئاً لعواطف ، لكنه بالتأكيد سيأكلها هي بلا ملح ويتهمها بأنها لم تعرف كيف تربي البنت!.
لكن كل تلك المخاوف لم ترد في بال عواطف كما لاحظت. راحت تتحرك بسرعة وحماسة وهي تصدر لها الأوامر ذات اليمين وذات الشمال. وحين خرج من الحمام أصرت عواطف على معالجة جراحه بنفسها ، ولم تكن بليغة كما توهمت في البدء..
حينذاك فقط، وهي تتفحص الشاب الذي استسلم بحياء وامتنان إلى عواطف التي راحت تمسح جروحه بمهارة ممرضة محترفة، اكتشفت ان طفلتها لم تعد طفلة، بل هي صبية ريانة اكتملت معالم أنوثتها ونضجت شخصيتها وباتت تتصرف بحزم وثقة دون أن يفزعها منظر الدماء، ولكأنما هي تشارك منذ سنوات في المظاهرات وتضميد جراح المصابين. ونسيت مريم نفسها وهي تتابع فاغرة الفم تعليقاتهما على المظاهرة وسخريتهما من رجال الشرطة وآراءهما حول الأوضاع السياسية وغيرها . لم تتصور أبداً أن فتيين في عمريهما متبحران إلى هذا الحد في الأحداث الجارية في العالم. أحست بالخجل لجهلها الفاضح وهي تصغي إلى حديثهما عن الأزمة الحكومية في الاردن، وعن ناصر الذي ستتحرر فلسطين على يده، وعن الوحدة بين سورية ومصر وعن أمريكا وروسيا و... ولم يخرج الشاب إلا بعد أن تناول طعام الغداء وارتدى أحد قمصان الأستاذ الحريرية.. هكذا ، ببساطة بدأ الحب بين عواطف وطارق..
***
فتحت مريم عينيها على دبيب حركة خافتة فوق رأسها. هتفت باسم العذراء ثم هدأت وهي تميز وجه عطاف يتراقص وراء غباشة عينيها. رفعت جذعها فيما عطاف تتمتم:
- حسبتك صاحية يامريم. آسفة إن كنت أزعجتك . تابعي نومك فسأخرج.
أمسكت مريم بيد عطاف وأجلستها بجانبها قائلة بصوت ناعس:
- النوم يعاندني.. لابأس إن سهرنا قليلاً إن كان النوم يعاندك أنت أيضاً!.
تفحصتها بإمعان قبل أن تقول بقلق:
- التعب واضح عليك ياعطاف والأفضل أن ترتاحي قليلاً..
ضحكت عطاف ببرود وأشارت إلى صورة العذراء المعلقة فوق رأس مريم والمنارة بقطنة زيتية مشتعلة في إناء زجاجي:
- إنها تشبه الصورة التي أعطتني إياها الأخت تريز يوم أخذتني إلى كنيسة المهد..حدث هذا قبل أسبوع من إبعادنا. كنا راجعتين من الكنيسة حين وقع الانفجار القوي في سوق الصوف. أتذكرين يامريم؟ إنها الحادثة الوحيدة التي مازلت أذكرها من ذلك الزمن . لجأنا إلى اقرب بيت وقلت لي إن العذراء معناً وستحمينا..
حدقت إليها مريم بدهشة ثم طبطبت على كتفها بلطف:
- غريب أنك ماتزالين تذكرين تلك الحادثة! كم كان عمرك يومها؟ خمس سنوات؟ أنا نفسي نسيتها . ذاكرتك قوية كأمك. إنها لاتنسى شيئاً. تحكي لي أحياناً قصصاً قديمة عن جدك رياض وطفولتها ما تصورت أنها تتذكرها. أمّا أنا فأنسى أحياناً ماذا أكلت البارحة!.
- ومع ذلك أنت متأكدة أن هذا الرجل أبي؟.
سألتها عطاف بنبرة شك واضحة. سارعت مريم تقول بحماسة وكأنها تنفي تهمة عن نفسها:
- هذا شيء مختلف .. إنه أبوك بالتأكيد. ألا تصدقين ذلك؟.
نفخت عطاف بوهن ثم قالت وهي تتجنب نظراتها:
- أجد صعوبة في هضم الموضوع.
نظرت إليها مريم بعتاب:
- حسبتك تختلفين عن الآخرين!.
- بالطبع أختلف . لن أمانع في أن أجد أباً وأنا في العشرين من عمري . أظن أنها ستكون تجربة ممتعة!.
- بالتأكيد ستكون.. لقد حرمك الله من أب عظيم.. وهاهو سيعيده لك!.. حين حملت بك أمك فرح وتوقع أن يرزقه الله بنتاً حلوة بعد غسان ونضال. راهن أمك على أنك لن تولدي إلا وقد تحررت بلادنا من اليهود. كان الناس كلهم يتحدثون عن الحرب فقال إنك ستكونين فأل خير علينا.
حدقت إليها عطاف برهة بإمعان ثم علقت بسخرية:
- لكنني كنت فأل شؤم.. أليس كذلك؟ فهو مات ، أو فقد الذاكرة وضاع إن صحت قصة أمي ، وراحت بقية فلسطين وصرنا لاجئين.. لهذا أظن أن أمي معذورة لأنها لم تحبني كما أحبت غسان ونضال!.
بوغتت مريم وشدت جذعها ثم دمدمت بحنق:
- من اين لك هذه الأفكار السخيفة؟ أمك ماقصرت أبداً في حبك ولاميزت بينك وبين أخويك.
أمسكت بيدها وضغطت عليها بقوة:
صدقيني إن قلت إنها أحبتك، وأحببناك كلنا، أعظم الحب.. لقد بعثك الله إلينا لتخففي عنا مصيبة موت طارق وتقوي عزائمنا في مواجهة الاحتلال. ولدت ضعيفة ومريضة وذاقت أمك المرّ ومرّ المرّ في الأشهر الأولى من طفولتك وهي تركض بك من طبيب إلى طبيب ومن مستشفى إلى مستشفى. كانت تمر ليال لاتعرف فيها طعم النوم وهي سهرانة عليك وماعرفت الراحة إلا بعد أن من اللَّه عليك بالشفاء.
عقدت حاجبيها وأردفت بتأنيب:
- أعان الله أمك كم تعذبت وشقيت في سبيلكم. مرت عليها أحداث يشيب لها شعر الرأس ولا تعرفونها أنت وأخواك. أتذكرين الضابط اليهودي رافايل؟ بالطبع لا. كان نقمة على أمك ومصيبة علينا. عيّشنا في كابوس اسود حين راح يلاحقها بوقاحة. لما صدته هددها بإيذائكم إن لم تسايره. وما كان هناك من يمنعه من تنفيذ تهديده. ما عدنا نتجاسر على ترك البيت أو إغفال عيوننا عن غسان ونضال. ثم قصمت ظهرنا حادثة نضال ففكرنا أن نقتله لنتخلص منه!.
- أتعنين ضياع نضال؟.
نفخت مريم بسخط:
- هكذا قررنا أن نحكيها لكم.. لكنه لم يضع بل خطفه الكلب رافايل ليجبر أمك على .. التجاوب معه.. أرجعه في الليل وبعد أن كدنا نجن ليدعي أنهم عثروا عليه ضائعاً في جبل أبو غنيم، وليقول لأمك بلؤم إن تعرض الأطفال للأذى صار أمراً عادياً جداً ويمكن أن يعزى إلى المخربين الذين يرمون متفجراتهم أينما كان. لم ننم تلك الليلة. قالت أمك إنه ليس أمامها إلا أن تقتله لنتخلص من تهديداته!.. كنا ندوخ لرؤية نقطة دم فصرنا نخطط للقتل.. وقتل من؟ ضابط يهودي!.. قالت إن علينا تدبير الأمر ليبدو وكأنه قتل في عملية فدائية. أوه ياعطاف كانت أمك امرأة جبارة . وضعت خطة محكمة ودبرت مسدساً وواعدته على اللقاء في حديقة الأمريكان في ساعة متأخرة من الليل لتقتلته!.
صمتت مريم وكأنها تستعيد صور تلك الليلة فسارعت عطاف تستحثها بلهفة
-هه.. وماذا حدث؟.
- ذهبت إلى الموعد وانتظرته ثلاث ساعات دون أن يأتي . الله لاينسى عباده الصالحين ياابنتي درينا بعد يومين أنه أصيب في عملية فدائية حقيقية قبل قليل من موعد اللقاء ومنذئذ ابتعد عن أمك وإن ظل يزعجنا بالمراقبة والتفتيش بين وقت وآخر.
حدجت عطاف بنظرة ثاقبة ثم جزمت:
- أحبتكم أمكم إلى حد أنها كانت على استعداد للتضحية بنفسها من أجلكم . لقد أحبتكم سواسية كأسنان المشط. ويوم يرزقك الله بأطفال ستدركين كيف هو حب الأم.
فاجأت عطاف مريم بطبع قبلة خاطفة على خدها الذي بلله العرق.
- أنت مغرمة بأمي حتى العبادة يامريم. إنني أحسدها على حبك لها وأتمنى لو أكون محبوبة مثلها..
- ولكنك محبوبة ياعطاف .. كلنا نحبك .. ويوسف يحبك..
أطلقت عطاف ضحكة مبتسرة:
- لا أعني الحب العادي ، الحب الرتيب الهادئ.. بل الحب الجامح القوي الناري كالذي عرفته أمي. حبها هي وأبي . حب ابراهيم لها . حبك أنت.. حب أكرم..
تفرّست فيها مريم بحنان ثم قالت بحكمة:
- ومن قال لك إن هذا الحب هو الحب الذي يسعد الانسان ياابنتي ؟ أنظري إلى أمك . لقد عذبها الحب أكثر مما أسعدها بكثير.. لم أعرف حب الرجل للمرأة ولا حب المرأة للرجل. لكن مارأيته في حياتي علمني أن الحب العادي والهادئ هو الذي يسعد. ولهذا أنا واثقة أنك ستعيشين بهناءة مع يوسف. يكفي أنك ذكية ومجتهدة وصادقة وصريحة وست بيت وهذا مايريده الرجل ويسعى إليه.
أصغت إليها عطاف بهدوء ثم نهضت وهي تبتسم:
- أظن أن الحق معك يامريم.. سأذهب لأرى أمي.
وغادرت بهدوء . رفعت مريم راسها نحو صورة العذراء وهي تتساءل ان كانت أفلحت في اقناع عطاف وطمأنتها . ثم هزت رأسها دلالة أنها نجحت .. منذ طفولتها امتازت عطاف بلين العريكة وهدوء الطباع ورهافة الحس والخيال الواسع. وهذا ماساعدها، كما قالت عواطف بفخر بعد أن قرأت أولى قصصها المنشورة:
- على تنمية موهبتها الأدبية.. كنت واثقة إنها لن تكون بنتا عادية.. انظري إلى اسمها المكتوب بالخط العريض يامريم أنها ابنة عواطف بشارة وطارق مناف..
هزت مريم رأسها بحماسة مسايرة لعواطف . لم تر في نشر القصة تلك الأهمية الاستئنائية التي رأتها عواطف. فهناك الآلاف الذين تنشر أسماؤهم في الصحف والمجلات. إلا أن كلمات عواطف أرجعتها سبع عشرة سنة إلى الوراء.. ما إ ن صحت عواطف من البنج حتى سيطرت عليها حالة هستيرية فراحت تبكي بحرقة وهي تردد اسم طارق.
تمكن الطبيب بعد جهد من تهدئتها ليبلغها أنها قامت بالسلامة رغم حالتها الصحية الصعبة وأنها أنجبت بنتاً حلوة. شرقت بدموعها وطلبت رؤية الطفلة مغمغمة بصوت متحشرج:
- الشكر لله.. كان يريد بنتاً.. هل تشبهه؟.
لم تستطع إخفاء صدمتها حين وقعت عينها على المولودة. حملقت إليها بذهول وقد تقلصت تقاطيعها وغارت الدماء من وجنتيها ثم نظرت إلى مريم بفزع وكأنها تستجير بها.
كانت المولودة ضئيلة الحجم قميئة الهيئة منفرة للنظر أشبه بكائن مشوّه منها بطفلة سليمة طبيعية . أسقطت عواطف يدها بعيداً عنها دلالة رفضها لها. بادرت مريم عندئذ، التي لم تكن دهشتها بأقل، إلى القول باضطراب:
- نجت البنت بإعجوبة . فقد ولدت شبه مختنقة ومصابة باليرقان وفقر الدم. إنها متورمة أكثر من اللازم لالتفاف حبل الخلاص حول رقبتها. فحصها طبيب أطفال وسيجري لها تحاليل للاطمئنان على حالتها. قال الدكتور زياد إن العملية القيصرية أتعبتها كثيراً كما أتعبتك لكنها ستستعيد صحتها قريباً فاطمئني. لاتنسي كم عانيت في الفترة الأخيرة وهذا أثرّ على المسكينة . لكن كل شيء سيتصلح انظري ما أنعمها!.
ومدت الطفلة نحو عواطف فاضطرت هذه إلى إفساح المجال لاضجاعها بجانبها راحت تتفرس فيها بقلق تاركة. لتعابيرالألم الجسدي والنفسي أن تتواتر على وجهها كاشفة عن خيبة أملها الكبيرة . اغتصبت ابتسامة شاحبة وغمغمت بصوت متهدج:
- إنها لاتشبه أحدا منا. أتذكرين غسان ونضال؟.
زجرتها مريم بقسوة:
- هذا كله مؤقت ياعواطف، بكرة تتحسن صحتها وتصير مثل أخويها. المهم أن خلقتها كاملة وأنك قمت بالسلامة. اشكري ربك وانتبهي لصحتك . عليك أن ترضعيها لآن.
لكن شيئاً لم يتغير. تحسنت حالة الطفلة قليلاً لكنها ظلت في لونها وتقاطيعها الناشزة وبنيتها الصغيرة تفتقر إلى أي ملمح يربطها بوالديها وأخويها . وهذا ما أغرق عواطف في دوامة من الهواجس والشكوك نفثت عنها ذات ليلة لمريم وقد ترقرت عيناها بالدموع:
-إنها تتعذب وتعذبني المسكينة. لو أن فيها شيئاً واحدا يشبهنا لارتحت ورضيت. ألا يكون اليهود ابدلوها ؟ أخذوا طفلتي وأعطوني غيرها؟.
صعقت مريم وظلت عدة لحظات تحملق إلى عواطف ببلاهة ثم فرت الدماء من وجهها وزعقت فيها:
- سيلعنك الله لهذه الأفكار الشيطانية. هل جننت ؟ حتى المجنونة لاتخطر في بالها هذه الخواطر . هي ابنتك من لحمك ودمك والدكتور زياد بذاته طلع بها من غرفة العمليات قدام عيني. الآن عرفت لماذا يعذبك الله ويعذبنا بهذا الشكل . كله بسبب ظنونك وشكوكك . إنه يعاقبنا والويل لك ولنا ياعواطف. يجوز أنها لاتشبه أي واحد منكم لكن هذا ليس حجة لإنكارها ولعلها تشبه أهل طارق. نعم. إنها تشبههم. شبه أمه. هذا واضح اقي الله ياعواطف.
ويبدو أن عواطف خافت من غضب الله فعلاً. لم تعد ثانية إلى تلك الشكوك السخيفة وحرصت على تأدية دور الأم بكل أبعاده فانكبت على رعاية طفلتها بتفان وحماسة وكأنها تحاول التكفير عن ذنبها حيالها، ورضخت لالحاح مريم فزارت الكنيسة حيث اعترفت ونالت الغفران ورجعت من ثم وقد استعادت هدوء النفس لتقول لمريم باعتذار:
- أرجو أن يغفر الله لي ويشفيها. لقد كنت صغيرة العقل حمقاء فعلاً .






















- 6 -
فتح نضال باب الغرفة ففوجيء بناديا تمارس أحد تمارينها الرياضية بطريقة مثيرة ألهبت دمه وأثارت أعصابه. وقفت رأساً على عقب على السرير مسندة جسدها إلى الحائط تاركة لقميص نومها الأصفر أن ينحسر حتى نهديها كاشفاً معظم مفاتنها فيما تقلّص سروالها الأسود حتى كادت تظهر من خلاله عورتها.همهم بغضب وصفق الباب وراءه بعنف وتقدم من السرير لكنه سرعان ماتوقف وقد احتقن وجهه حتى الانفجار ما إن لاحظ أن الستارة مرفوعة عن النافذة مما يسمح لأي مار من الحديقة أن يراها على هذه الصورة الفاضحة. قفز إلى النافذة وأطل منها يتفرس بقلق ليتأكد من عدم وجود أحد ، ثم تطلع إلى شباك غرفة غسان المطلة جانبياً على غرفته. كانت مظلمة فأسدل الستارة بعصبية حتى كاد يسقطها واستدار صارخاً بحنق مكظوم:
-مابقي إلا أن تعملي معرضاً وتدعيهم للفرجة.. أنسيت أنك في أول حملك؟.
كان وجهها المحتقن ينضح بالعرق وعيناها حمراوين تكادان تخرجان من محجريهما فيما راحت تتنفس بصعوبة لكن ذلك لم يمنعها من اغتصاب ابتسامة ساخرة والتلويح برجليها في الهواء قبل أن تقول بصوت متحشرج مخنوق:
- لاتخف عليّ . ثم ليس هناك غرباء لتخشى أن أغويهم أو يغووني. اللهم إلا إن كنت ماتزال قليل الثقة في نفسك!.
ازداد فوران دمه لملاحظتها اللئيمة فاقترب منها وأنزل رجليها بغلظة دفعتها لاطلاق صرخة ألم قبل أن ينبر فيها بقسوة:
- لاداعي للتظارف السمج!. ماذا سيقول من يراك في هذا الوضع؟ على الأقل أحسبي حساب أمي..
- معك حق. فهي " الرجل" الوحيد الذي يحسب حسابه في هذه العائلة!.
تجاهل تعليقها وراقبها تتمطى وتتقلب شبه عارية إلى أن استعاد جسسدها ليونته تربعت من ثم على الفراش مغطية ساقيها بقميصها متصنّعة الاحتشام واردفت وهي تحرك رأسها دائرياً:
- مارس هذه الرياضة أسبوعاً وستكون لي من الشاكرين. إنها أفضل طريقة لتستعيد رشاقتك وتصقل عقلك!. بماذا تآمرتما أنت وأخوك الكبير؟.
حدجها بنظرة ثاقبة محاولاً استقراء قصدها . أضفى عليها تورد وجهها وتعرّقه رونقاً خمرياً زادها فتنة وإغراء مما جعل الرغبة تتمطى في أحشائه رغم حنقه عليها. نفخ بهدوء واكتفى بمتابعة حركاتها مقطباً.. توقفت وعادت تسأله بالحاح:
- ماذا دار بينك وبين غسان؟.
فك أزرار قميصه وقال باقتضاب.
- لاشيء يذكر.
- ليس ثمة أسرار عائلية خطيرة إذن؟.
قالت بسخرية فكشر وحذرها بحنق:
-لاتستفزيني ياناديا!... أشعر أنني واقف على برميل بارود فلا تحاولي إشعاله!.
- ياللهول !.. إنني غير راغبة في إشعال أي شيء ياعزيزي. لكن هذا لن يمنعني من قول رأيي . أتعرف مقدار الخيبة التي أشعر بها! كنت أحسب السيدة أمك كتلة من العقل والمنطق والأعصاب المتينة فإذا بها امرأة... أقل من عادية!.. كم أن المظاهر تغشّ.. أهي فقدت عقلها أم ماذا!.
حدجها شزرا وهو يلوح بإصبعه مهدداً:
- سبق وحذرتك من أن تتعرضي لأمي باي سوء!.
جلس بجانبها ومرر يده على فخذها بلطف مستدركاً بهدوء:
- لقد أحسنت صنعاً بالبقاء على الحياد الليلة...
أبعدت يده بجفاء:
- لا أريد الإساءة إلى أمك من قريب أو بعيد . بالأحرى بت أشفق عليها.. ما هو رأي غسان؟.
سألته بصرامة دفعته للقول باستسلام:
- يخشى أن تكون وقعت في شراك مكيدة مرتبة بإتقان..
ضِيقت عينيها وحدجته بحيرة وقد استعصى عليها. ادراك قصده. أوضح بعد صمت قصير:
- الشركة تعاني من بعض المشاكل المالية، و اليابانيون أنذرونا بأنهم قد يطلبون الحجز إن لم نسدد رصيد صفقة الإطارات قبل نهاية تموز.
- وما دخل الشركة بقصة أمك؟.
- أنت تجهلين طبيعة السوق وصراعاتها. الكثيرون يطمعون في الشركة ولربما اكتشفوا شبه الرجل بأبي فقرروا استخدامه للتأثير على أمي..
حدقت إليه بغباء فاغرة الفم هنيهة. حين فهمت ماقال نخرت وضربت على السرير.
- ماذا أصابكم الليلة ياآل مناف؟ قبل قليل أمك..والآن أنت وأخوك !. لا أعرف من منكما الأغبى أنت أم هو؟ تتحدثان عن الشركة وكأنها شركة البوينغ وعن أمك وكأنها اكرم النحاس.. يالأخيلتكم الواسعة السطحية !.. أمك تتوهم أن زوجها قام من بين الأموات فرجعت مراهقة طائشة تتقّد عيناها بالشبق، وغسان يتوهم أن الناس لاهمّ لهم إلا سرقة شركتكم العظمى، وأنت ضائع بين الاثنين.. متى ستنضج يانضال مناف؟ إن كان هناك مكيدة فهي في عقل أمك المضطرب أما الشركة اللعينة فلا يطمع فيها إلا غسان.
نفنح ببرود:
- كفي عن شكوكك في أخي . أظن أنك أنت الطامعة في الشركة لاهو!.
- تعرف جيداً أنني غير طامعة في شيء. لكني لن أسمح لأحد أن يغتصب حقوق زوجي المسكين.. إن طموح غسان لاحدّ له وسذاجتك لاحد لها..
لطمها بقسوة على ساقها فأطلقت صرخة ألم خافته وانتفضت غاضبة فيما هو يزمجر:
- لاتفقديني صبري ياناديا. أنت تفتعلين مشكلة لا أساس لها ، فأمي لن تتخلى عن الشركة لغسان أو لأي شخص فاطمئني ولاتشغلي رأسك الجميل بشؤون ليست من اختصاصك!.
رمته بنظرة نارية قبل أن تهدر بصوت محتقن غيظاً:
- إن مددت يدك عليّ مرة ثانية لاتلوم إلا نفسك!.
رفعت قميصها عن ساقها ومسحت مكان اللطمة التي تركت أثراً أحمر.. بدا عليه الحرج فغمغم وهو ينهض:
- آسف .. الأفضل أن أخرج..
سارعت تمسك بيده وقد سيطرت على أعصابها قائلة ببرود:
- أريد أن أعرف علام اتفقتما أنت وأخوك!. أتصور أنه اقترح عليك أن تغتالا هذا الطارق مناف!؟.
كانت تعرف تماماً كيف تستفزه بأسلوبها الخبيث في التكلم بأقصى درجات الجدية في أتفه المواضيع، وبتهكم مفرط في أخطرها.. بإمكانها أن تحول المزحة إلى مأساة والمصيبة إلى طرفة دون أن يتمكن من معرفة حقيقة مايدور في خلدها . ورغم غيظه فقد حافظ على برودة أعصابه وأبعد يدها بهدوء:
- أنت شيطانة ياناديا ولا أعرف إلى متى أستطيع تحمل كيدك ولؤمك؟!.
-وأنا أيضاً لا أعرف إلى متى سأتحمل زوجاً لايشاركني كل أسراره العائلية!.
قالت بسخط وهي تبادله النظر بغضب. أسقط في يده فتجنب نظراتها وعاد يجلس على السرير وهو يزفر باستسلام:
- لم نتفق على شيء .. وأنت محقة .. إنه يشتط في شكوكه وأوهامه إلى درجة غير معقولة . تحدث عن محاذير ومخاوف لها أول وليس لها آخر.. برأيي ليس هناك ما نخشى عليه ومنه إن كان هذا الرجل طارق مناف أو لم يكن.
- ممتاز !.. وليس هناك مايمنع إذن أن يرجع إلى أمك ويعيشا في ثبات ونبات ويخلفا الصبيان والبنات وكأن العالم ينقصه أولاد الحرام!..
-لاتعودي إلى استفزازتك!.
-ولماذا تحسبني أستفزك؟ لست متبحّرة في القانون الكنسي ولكن إن ثبت أن هذا الرجل هو طارق مناف حقاً فإنه سيخلق لكم مشكلة كبيرة اسمها الزنى....لاتندهش . كلاهما تزوج مرة ثانية وهو مايزال مرتبطاً بالآخر بسر الزواج المقدس. أتعرف معنى هذا؟ معناه أن زواج أمك من أكرم النحاس زنى، وزواج والدك المفترض من تلك المرأة زنى أيضاً. أما أبناؤه منها فهم في عرف الكنيسة غير شرعيين.. أي أبناء حرام!..
دهمته القشعريرة وهو يحملق إليها بذهول .. نظرت إليه بانتصار ثم راحت تفصل فكرتها:
- هذا جانب بسيط من جوانب القصة التي طلعت بها أمك علينا . الزواج الكنسي رباط أبدي مقدس بين الرجل والمرأة لايفصمه إلا الموت ، أوالطلاق في حالات استثنائية كما لابد أنك تعلم . وقد تصرفت أمك على أساس أنها أرملة وتزوجت من رجل ثان. أما أبوك، المفترض أنه لم يمت، فقد حصل على اسم وسجل عائلي جديدين ، وسنعرف لاحقاً كيف فعل ذلك إن كان فاقد الذاكرة، وبموجبهما استصدر ورقة " مطلق حال" ليتزوج من المرأة الأخرى فيما هو ليس مطلق الحال. وهذا هو الزنى!.
- بالله كفي عن استخدام تلك التعابير المفزعة. الزنى. أولاد الحرام. وكأنك كنت تعملين في محكمة تفتيش!.
- ونسيت ان أذكر الحرمان .. هنا تكمن المصيبة الكبرى!.
- أنت مرعبة ياناديا . لم تخطئ أمي حين وصفتك بالشريرة.
- أمك وصفتني بالشريرة؟.
قاطعته بصوت كالفحيح وقد أكفر وجهها وقدحت عيناها شرراً. شحب وجهه لزلة لسانه لكنه سارع يحاول لفلفة الأمر:
- إنني أمزح.. ماذكرته لاينطبق على حالتهما. لا أرى أنهما زنيا أو خرجا على قانونك الكنسي أو المدني. لم يكن لهما يد فيما حدث، ولا يمكن لأي عاقل أن يعتبرهما مسؤولين عنه. أمي تزوجت باعتبارها أرملة، وهذا من حقها ، وهذا الرجل ، أن كان أبي فعلاً، فهو قد فقد ذاكراته ونسي أنه زوج وأب فتزوج لينشئ أسرة وهذا أيضاً من حقه. ولا أظن أن الكنيسة متحجرة إلى درجة اعتبارهما خاطئين يجب رجمهما. ان تلك المسألة لاتستأهل كل هذا التهويل لكنها تقودنا إلى تساؤل مهم فعلاً...
صمت يأخذ نفساً عميقاً محاذراً التقاء نظراتهما ثم أردف:
- نعم . إنه سؤال خطير يبدو أننا غفلنا عنه تحت وطأة الصدمة . وهو يتعلق بدين الرجل. ماهو دينه؟ ألا يمكن أن يكون مسلماً؟.
حدقت إليه بإمعان ثم عقدت حاجبيها مبدية الدهشة . سيطر على الاثنين صمت هادئ أوحى أنهما نسيا، أو تناسيا ، مناكداتهما.استعادت ناديا هدوءها وهي تقول:
- أستبعد أن تكون تلك المسألة غابت عن أمك . لاأشك أنه مسيحي.
قفزت عن السرير وخلعت قميصها قبل أن تستدرك:
-لم يسبق أن حدثتني عن أبيك.
لم يصرفه السؤال عن التفرس بشبق في عريها الصارخ بالند اءات اللاهثة. نفخ بقوة وقال فيما هي تبحث في الخزانة عن ثوب:
- وماذا تتوقعين من طفل في الرابعة من عمره أن يتذكر؟ لاشيء بتاتاً.. وعيت الدنيا دون أب وتأقلمت معها على هذا الأساس.
- على العكس مني إذن!.
قالت وهي تضع بعض مساحيق التجميل على وجهها بعد أن ارتدت بلوزة زرقاء سماوية وبنطلون الجينز الضيّق. طلت شفتيها بحمرة خفيفة ثم استدركت دون أن يبان في صوتها أي تأثر:
- لعل مأساتي الكبرى هي حرماني أبي قبل أن أتأكد من شخصيته!.
فاجأه كلامها فحدق إليها باستغراب وقد فغر فمه. اغتصبت ضحكة باردة وأردفت وهي تبادله النظر عبر المرآة:
- لاتزعم أنني فاجأتك أمك ماتزال حتى الآن تتهمني بأنني أبنة حرام!.
- أنت مخطئة ومتجنيّة.
قاطعها بحنق وقد أكفهرت ملامحه. نهض ودنا منها:
- أمي لم تتفوه بمثل هذه الافتراءات أبداً . إنها مثل حد السيف وراء ظهرك وهي لاتسمح لأحد بالاساءة إليك بكلمة. أنت صرت فرداً من العائلة وأية أهانة توجه إليك هي إهانة للعائلة كلها.. ولا أري أي معنى لمثل هذا الحديث الآن.
استدارت نحوه وواجهته بعينين ساكنتين وملامح جامدة مردفة بصوت لاحرارة فيه:
- كم أن القدر لئيم. فيما لم يرتح أي منكم لفكرة أن والده على قيد الحياة كنت أساءل لماذا لم يحدث الأمر لي أنا ، لماذا لايخرج من قبره لأعرف من هو
- لكنك تعرفين من هو!.
-على الورق فقط..
قالت بسخرية واتجهت إلى الباب:
- أهو حقاً حنا ديب أن أحد عابري السبيل الذين كانت أمي تتصيّدهم بين الوصلة والوصلة؟ أنا خارجة لاستنشاق بعض الهواء.
تابعها بوجوم وهي تخرج رادّة الباب وراءها بهدوء ثم لوح بيديه بعنف وتهاوى على المقعد يتبادل وصورته في المرآة نظرات خاوية. كانت تلك أول مرة بعد زواجهما تتطرق إلى هذا الموضوع بشكل مباشر وفجّ مبدية ذلك القدر الكبير من الأسى والألم.
***
حين وافته إلى عند سبيرو لتبلغه، بعد أسبوع كامل من التفكير، موافقتها المبدئية على الزواج به، صفق بفرح طفولي ونادى على سبيرو بأعلى صوته ليسأله إن كان يوافق على أن يكون اشبينهما. سارعت تضع يدها على فمه ترجوه أن يهدأ ثم لوحت لسبيرو الذي أطلق صرخة ابتهاج أن يصمت ويبقى في مكانه . تفرست فيه بعينين ضاجتين بالانفعالات والمشاعر ثم قالت بهدوء:
- لاتستعجل كثيراً يانضال فثمة مايجب أن أقوله. أعتقد أنك سمعت أقاويل كثيرة حولي. لذا أرى أن تسمع الحقيقة مني الآن وتتراجع. وسأتفهم موقفك وأعذرك إن فعلت ، فهذا أفضل ألف مرة من أن تعرفها بعد الزواج حينما يكون الأمر قد خرج من يدك فتندم ساعة لاينفع الندم. كنت في الثالثة من عمري يوم هجرت أمي أبي بعد أن أصبح مستحيلاً عليهما الاستمرار في العيش تحت سقف واحد. أخذتني إلى حضانتها وعادت إلى ممارسة مهنتها الأولى, الرقص في الملاهي. كان أبي قد تزوجها غصباً عن أسرته. يزعمون أنه أحبها بجنون فيما لم تحب هي إلا ثروته. وقد استطاعت، بالحيلة والمكر، أن تستولي عليها وتبددها على متعها . والظاهر أن أبي لم يكن إنساناً طبيعياً، أو أن الغضب والحقد أفقداه صوابه بعد أن بددت ثروته واكتشف أنها لاتحبه، فراح يشهر بأمي مدعياً أنني لست من صلبه وأنه طردها بعد أن اكتشف أنني ثمرة علاقة محرمة قامت بينها وبين أحد زبائنها ، وتقدم بدعوى إلى الكنيسة يطلب التفريق بينهما مستنداً إلى هذه الادعاءات. أمضيت معها خمس سنوات نتنقل مثل النوّر من مدينة إلى أخرى إلى أن أتاها عرض للعمل في ملهى عربي في لندن. أدخلتني إلى دير للمريميات وأوصت الراهبات بي بطريقة نمت عن أنها قررت التخلي عني بدورها نهائياً. غابت خمس سنوات ثم عادت إلى عمان لتبيع بيتاً كانت تملكه في الدوار وقطعة أرض في منطقة التوسع الجديدة. زارتني مرة واحدة وأمضت معي أقل من ساعة. لم أعرفها أول مارأيتها. كانت لم تتجاوز الخامسة والثلاثين من عمرها إلا أنها بدت كالمومياء بوجهها الأصفر الناحل المسلول وعينيها الغائرتين ويديها المرتجفتين دائماً لإدمانها على المخدرات على ما أعتقد. شعرت بالنفور منها لكني اشفقت عليها. أبلغتني ببرود أن والدي توفي في بيروت قبل عدة أشهر وأنها ستهاجر إلى استراليا لافتتاح مدرسة لتعليم الرقص الشرقي بالاشتراك مع مغترب فلسطيني قد تتزوجه إن سارت أمورها على مايرام . وعدتني بأن ترسل ورائي ما إن تستقر هناك . لكني شعرت بأنها غير صادقة. لم يزعجني الأمر. على العكس سررت إذ أدركت أنني سأتحرر منها نهائياً . لعلي أخذت منها قسوة القلب وبرودة العاطفة. عشت مرتاحة هانئة مع الراهبات بحيث نسيت أن لي أباً و أماً. تمنيت لها الخير وسألتها عن حقيقة خلافها مع أبي وما أسمعه من بعض الطالبات حول إنكاره بنوتي. كانت تلك الأقاويل تحرجني وتسبب لي شعوراً بالنقص رغم أنني أعيش وسط بنات معظمهن يتيمات أو لقيطات. أجابتني أن أبي كان يعاني من مرض عصبي وأنه خسر معظم ثروته في القمار والصفقات التجارية الفاشلة ، فأصابته لوثة جعلته يتوهم أنها خانته وسلبته ماله. وقد بذلت كل ما في وسعها لرعايته ومساعدته على تجاوز أزماته الصحية والمادية لكنها فشلت ثم قررت أن تهجره بعد أن بدأ يصب جام غضبه عليّ فخافت أن يؤذيني في واحدة من ساعات جنونه. نصحتني ألا أعطي بالاً لتلك المزاعم التي تحاول النيل مني وأخبرتني أنها دفعت لادارة الدير خمسة ألاف دينار هي نصف ماتملكه أربعة منها تكاليف إقامتي وتعليمي إلى أن أبلغ الثامنة عشرة والألف الخامسة لأسافر بها إلى استراليا عندما تستدعيني. بكت وهي تودعني مؤكدة أنها ستبقى على اتصال دائم بي. لكني منذ ذلك الحين لم أسمع عنها خبراً.
صمتت ترتاح قليلاً بعد حديثها الطويل وتبادلت التحيات الرأسية مع عدد من رواد "السناك" ثم بللت ريقها بجرعة من النبيذ قبل أن تردف:
- اقتنعت بما قالت واستعنت به لاستعادة ثقتي بنفسي والتصدي بشجاعة لأية بنت تحاول التعريض بي. لكني عدت بعد عدة أسابيع إلى وساوسي وعذاباتي حينما رحت أفكر في أنها لم تجزم بشكل صريح أنني ابنة حنا ديب. لم تقسم لي. كما كان يجب أن تفعل، أنه أبي. أسهت عن ذلك أم تجاهلته قصداً لأنها تعرف أنني لست سوى ثمرة علاقة أثيمة أقامتها مع لا أعرف من؟ مضت حتى الآن عشر سنوات وماتزال الشكوك تؤرقني، وستظل إلى أن ألتقي بها ثانية لأجعلها تقسم إنه أبي لاغيره. والمشكلة أنني أجهل إن كانت ماتزال على قيد الحياة أم ماتت. لم أتلق منها حتى بطاقة معايدة في الأعياد. أعتقد أن الناس نسوا تلك القصة بعد كل هذه السنوات ، لكن زواجي ، ومنك أنت تحديداً، ابن عواطف بشارة سيدة الأعمال الكبيرة وارملة اكرم النحاس، قد يعيد فتح ملفي من جديد ويضعني تحت مشرحة أهل عمان جميعهم.
لم تزده صراحتها إلا ولعاً بها وتصميماً على أن تكون له. تناول يدها وقبلها قبل أن يسألها مجدداً إن كانت توافق على الزواج به. فهو يحبها هي ، كما هي، وسيظل يحبها إلى آخر الحياة . وأومأت برأسها بالإيجاب.
وهو فعلاً أحبها من النظرة الأولى. صرعه جمالها ودلالها وخلبت لبه عيناها الساحرتان فاستسلم لها وأسلمها قياده بغبطة ونشوة وانطلاق.
لم يتصور أن المهمة السخيفة التي كلفته بها أمه بأن ينوب عنها في حضور المهرجان الخيري السنوي الذي تقيمه جمعية الشبان المسيحية الاورثوذكسية في ذكرى اغتصاب فلسطين، ستقلب حياته رأساً على عقب . كانت عواطف قطب ذلك المهرجان ولولبه، بل هي التي اخترعت فكرة إقامته لتطل منه على ساحة القضية الوطنية التي شغلتها أعمالها ومشاغلها عنها.وقد اعتادت أن تختتم المهرجان بالتبرع بمبلغ كبير لايقل عن الخمسة ألاف دينار لنصرة قضية فلسطين مثيرة بذلك نخوة وجهاء الطائفة أو غيرتهم فيسارعون إلى الحذو حذوها .
استيقظت صبيحة المهرجان مصابة بنزلة صدرية ترافقها حرارة عالية طرحتها الفراش. حين أدركت أنها لن تستطيع حضور المهرجان طلبت من غسان أن يحل محلها لكنه رفض ببرود وقح، ولم يتحرج عن تكرار انتقاده لما يعتبره تصرفاً غير محمود من قبلها في استغلال المهرجان للظهور بمظهر المحسنة الكبيرة بينما هي في الواقع لاتعمل أكثر من تنفيذ وصية أكرم في تخصيص نسبة من أرباح الشركة لقضية فلسطين.
جرحها كلامه بحيث نسيت مرضها وزعقت فيه بغضب أنها ليست بحاجة الى وغد مثله ليعلمها كيف تقوم بواجبها الوطني. وأنه كان مجرد شخاّخ في القماط حين كانت هي تناضل.
كان متفقاً مع غسان في الرأي حول هذا الموضوع وسبق لهما أن ناقشاه أكثر من مرة منتقدين ليس أمهما ولكن الأسلوب الذي حوّل تلك المناسبة إلى فرصة يشبع أثرياء الطائفة بها نزواتهم وأهواءهم في التشاوف وادعاء الوطنية وشراء راحة البال بحفنة من الدنانير. لكن وقاحة غسان الصفيفة أزعجته وجعلته يتعاطف بحرارة مع أمه. لذا وجد نفسه ينساق باستسلام لتلبية رجائها حين التفتت إليه تستنجد به. كان عاجزاً عن محاكاة غسان في تمرده الجلف أو مجاراة عطاف في لامبالاتها المقرفة. وهذا مادفعه لأن يكون معظم الأحيان، بغير قليل من الغيظ المكبوت، الحل الوسط في أية مشكلة تطرأ بين أمه وأخيه، والوسيط الحريص على الحفاظ على الحد الأدنى من التفاهم بي ن أفراد اسرته. لكنه لم يندم هذه المرة. فلولا حضوره المهرجان ماالتقى بناديا ، ولا انفتحت أمامه أبواب السعادة والحب على مصراعيها. وكان الندم من نصيب أمه التي لعلها ماتزال حتى الآن تعض أصابعها!.
حين أطلت على الحضور بكل حسنها ونضارتها لتفتتح المهرجان ببعض القصائد الوطنية أحس بكيانه كله يتزلزل وهو يحدق إليها مشدوهاً انشداه آدم ما إن وقعت عيناه على حواء للمرة الأولى. سحرته وقفتها الشامخة بقدر مافتنته حركاتها التمثيلية المتناغمة مع إيقاع قصيدة بيروت لممحمود درويش. كان معجباً بالقصيدة،لكن أسلوبها البديع في الالقاء، الجامع بين عذوبة الصوت وغنائية الكلمات وعنفوان المعاني ، أسر مشاعره فاستكان إلى خدر لذيذ جعله يفقد الإحساس بالمكان والزمان في آن. أهي القصيدة التي أسبغت على الفتاة شاعرية مجنحة كالطيف أم هي الفتاة التي كست القصيدة بثوب من السحر اللألاء؟ تسمرت نظراته عليها لاتستطيع عنها فكاكاً وقد انتابته رغبة جامحة في اختطافها والهرب بها إلى حيث لايكون سواهما. وراح يتابعها بجماع أهواء نفسه وكتلة شهوات جسده محاولاً جهده جذب انتباهها إليه . التقت نظراتهما غير مرة لكنها لم توله أي اهتمام رغم افتراضه أن جلوسه، وهو الشاب الطارئ على المهرجان- إلى يمين المطران لابد أن يثير فضولها ويدفعها للتساؤل عمن يكون ، خفق قلبه بقوة وقرصته الغيرة وهي تترجل عن خشبة المسرح برشاقة لتقف إلى جانب شاب وسيم رياضي القوام انهمكت واياه في همس ضاحك خاله ، إذ أمسك بعينيها تطرفان نحوه، يدور حوله.في تلك اللحظات ، على الأرجح، قرر أن تلك الفتاة يجب أن تكون له. التفت عنها يتطلع فيما حوله بثقة وكأنه يكتشف . للمرة الأولى ، ماذا تعني الثروة من جاه ونفوذ وسلطة. فمقعده، بالأحرى مقعد والدته، بين المطران وممثل وزارة شؤون الأرض المحتلة،أما بقية الحاضرين، بمن فيهم وجهاء الطائفة وأكابر القوم، فقد تقهقروا إلى الصفوف الجانبية والخلفية.وحدها أمه، بالخمسة ألاف دينار ، تنال حظوة الصف الأول بكل مايعنيه ويوحي به. وللمرة الأولى أيضاً يدرك قيمة أن يكون ابن عواطف بشارة، أرملة اكرم النحاس !. لم يشك في أنه محط اهتمام جميع هاته الصبايا الحسناوات المنتشرات كالزنابق في القاعة ضاحكات لاهيات عابثات يبحثن عن فوارس أحلامهن. كان ، حتى تلك الليلة، قليل الخبرة ضعيف التجربة في علاقاته مع الجنس الآخر. وهذا ما أنمى فيه أحاسيس خجل فطرية تجاه المرأة دفعته إلى الترفع، وربما العجز، رغم الفرص التي يوفرها له مركزه الاجتماعي، عن إقامة علاقات حميمة متعددة ومتشعبة وفاسقة كالتي كان غسان مجليّا فيها. فكان أن انصرف بكليته إلى التحصيل العلمي وقد سيطرت عليه فكرة نيل الدكتوراه في الاقتصاد وكأنه يريد إثبات قدرته على بزّ غسان في مجال من المجالات.
أما تلك الليلة ، وهو يتابع منفعلاً غادته العابثة التي راحت توزع تحياتها ذات اليمين واليسار وكأنها تناكده، فقد شعر أن شخصاً جديداً ينمو داخله ، وأن الشاب المراهق الخجول الحالم الذي كانه حتى الآن راح يضمحل تاركاً مكانه لرجل واثق بنفسه يعرف تماماً ماذا يريد . وهو يريد تلك الانثى.
لم يعرف كيف مر الوقت وهو يتقلب على جمر القلق يلاحقها بقحة ما إن تقع عيناه عليها ويفتش عنها بشوق ما إن تختفي عن ناظريه. لم يصدق ان المهرجان انتهى وقدم الشيك إلى المطران حتى سارع يتخلص من الجمع الذي التم حولهما دالفاً إلى الكواليس. تفاءل حين وجدها وسط مجموعة من الصغيرات تنتظر حضور أوليائهن لاصطحابهن . اتجه نحوها بثقة ومدّيده قائلاً بحرارة:
- آنسة ناديا؟. أنا نضال مناف. جئت لتهنئتك وشكرك . لقد وفرت لي سعادة لم أعرفها منذ زمن طويل. كنت رائعة في إلقائك. ولا تلقي بهذا الأسلوب المتميز إلا شاعرة حقيقية.
شع الزهو في وجهها المشرق الذي خضبته حمرة خجل خفيفة وصافحته بود وهي تقول بارتباك:
- أنت الذي يجب شكره. إن كرم السيدة والدتك يبعث على الاعتزاز. وأعتقد أن هذه صفة أصيلة في العائلة. أليس كذلك؟.
كان غاطساً في سحر عينيها فلم يستوعب معنى ما قالت، وإذ سترجع كلماتها ببطء ادرك أنها قدمت له طعماً لايفوت . ولم يعرف كيف واتته الجرأة ليقول بثقة مسيطراً على انفعالاته محاولاً تقليد أسلوب غسان:
- عليك أن تكتشفي ذلك بنفسك. هذا إن سمحت لي!.
وكأنها بدورها لم تكن تنتظر غير تلك الإشارة لتجيب بمرح وهي تداعب شعر إحدى الصغيرات:
- حب الاكتشاف يسري في عروقي. لقد بدأ الأهل بالحضور لأخذ أطفالهم. قد أفرغ من عملي بعد ربع ساعة، وبعدئذ أصعد إلى البوفيه لشرب فنجان قهوة.
- أأعتبر نفسي مدعواً لمشاركتك القهوة؟.
رنت إليه وقد ضيّقت عينيها قبل أن تقول بمكر:
-جرت العادة أن يدعو سيادة المطران ضيوفه إلى فنجان قهوة في الصالون في ختام المهرجان وأظن أنه من المستحسن ألا تتخلف عن دعوته.
- حين يتلقى الرجل دعوة من ملاك فإن البابوات أنفسهم يسقطون من حسابه!. حتى هو نفسه فوجيء ببلاغة جوابه وأحس بالرضا وهو يرى ضحكتها الصافية الرنانة . حين تمالكت نفسها دندنت بصوت غرّيد:
- ألاتكون تتعاطى الشعر بدورك: أنا أعشق الشعر والشعراء ولكن حذار فإنني ناقدة لاترحم!.
هي التي خطفته تلك الليلة وطارت به إلى حقول النجوم. رفضت ركوب السيارة أو أمّ أي من المرابع الليلية والفنادق الفخمة التي اقترح أن يسهرا فيها. أخذته سيراً على الأقدام إلى سناك بسيط محشور في قبو إحدى العمارات في حارة متطرفة من منطقة الكرامة لم يسبق له أن طرقها قبلاً . كان عبارة عن شقة متوسطة الحجم واطئة السقف تضم صالة مربعة مفتوحة على ثلاث غرف استعيض عن أبوابها بستائر قصبية ملونة يمكن إسدالها لفصل الرواد عن بعضهم . كانت الإنارة خافتة حمراء تضفي جواً من الحميمية على المكان وتتناسب مع موسيقا يونانية جميلة مألوفة الوقع على أذنه . تحلق عدد غير قليل من الزبائن حول عدة طاولات من الفور مايكا في الصالة وكان أغلبهم من الشبان باستثناء رجلين وامرأة في منتصف العمر انزووا يتهامسون حول طاولة ركينة.
نمّت الهتافات الودية التي استقلبتها بترحاب والابتسامات العذبة والتعليقات المرحة التي ردت بها عن إلفة عميقة تربط فيما بينهم وبينها . تقدمته إلى طاولة في أقصى الصالة مخصصة لشخصين فقط ولوحت بيدها تحيي باليونانية امرأة مربوعة القامة مكتنزة الجسد لاتخلو من جمال وقفت وراء البار تعد الشراب، ثم قالت:
- إنه أرخص وأحسن وأرقى سناك في العالم كله وصاحبه المسيو سبيرو ألطف وأظرف رجل في العالم ولايستقبل في وكره سوى اللطفاء الظرفاء أمثاله..
انتظرته إلى أن جلس وشمل المحل والرواد بنظرة سريعة وأشارت صوب عجوز ناحل صغير الرأس قطني الشعر في العقد السابع من عمره توارى وراء طاولة عليها جهاز تسجيل متوسط الحجم وكأس خمر طافحة ، ثم أردفت بمرح:
- المسيو سبيرو وفلسطيني من أصل يوناني، أو يوناني من أصل فلسطيني لافرق. كان يحتفظ بوثائق تثبت أن أهل كريت والفلسطينيين ينحدرون من أصول كنعانية واحدة. لكنها بقيت في فلسطين!. هاجر والداه إلى حيفا قبل نصف قرن وهرب منها عام /48/ إلى القدس وحارب مع عبد القادر. استقر من ثم فيها حيث عشق وتزوج امرأة جميلة لعوباً. عام /1968/ أبعدته سلطات الاحتلال لتعاطفه مع الفدائيين ووعدته زوجته أن تلحق به. لكنها لم تفعل حتى الآن. افتتح هذا السناك وتخندق فيه يغرق أحزانه في الخمر والصداقة والشعر بانتظار حضورها.
- يبدو أنه شخصية طريفة صديقك المسيو سبيرو.؟.
- إنه شخص استثنائي وستكتشف ذلك بنفسك . لقد أوقف محله على شلة من أصدقائه ومعارفه وضيوفهم الحميمين. قاسمنا المشترك شرب الخمر والحب والاستماع إلى الموسيقا اليونانية والشعر ومأساة سبيرو. الاسبوع الماضي أنشدنا عباس منذر، وهو الكهل السمين الجالس إلى الطاولة المنزوية قصيدة جميلة أعجبت المسيو سبيرو فوزع على كل طاولة زجاجة خمر مجانية. إنه الآن يتفحصك فإن رقت له ونزلت في نفسه منزلاً حسناً سيرسل لنا زجاجة من الخمر الممتاز وينضم إلينا ليشرب معنا قدحاً. وإن لم تعجبه ستكون الزجاجة من النوع الرخيص فأفهم أنه غير مسموح لي باصطحابك إلى هنا ثانية . لكن اطمئن ستروق للمسيو سبيرو.
ضحك بسعادة وأمسك يدها بعفوية قائلاً وقد بدأ يستمتع بالجو المحيط به:
- أحب المسيو سبيرو . لكن مايهمني أنك تعتبريني ضيفاً حميماً وصديقاً عزيزاً بحيث غامرت بإحضاري إلى هنا.
افترقا بعيد منتصف الليل شاعراً أن القدر نسج حبائله حولهما وحدد مسار حياته من الآن وصاعداً. لم يتحدثا عن نفسيهما بما يذكر . هبط عليهما المسيو سبيرو بزجاجة خمره اللذيذ وقصصه المشوقة عن آلهة الاغريق الذين ندموا على ماأنزلوه من بلاء على رؤوس مخلوقاتهم المسكينة فمنحوها سر صنع الخمر لمساعدتها على تحمل شقائها وعذاباتها وإيهامها أنها صنو الآلهة ذاتها في سموها وعظمتها وحريتها..وعن زوجته اللعوب الغادرة:
- السمراء الأجمل من افروديت . لكنها مثل أفروديت قاسية القلب على عشاقها وطالبي وصالها . لقد فضلت القدس عليّ ولا ألومها. هي في الستين الآن لكني أراهن أنها ماتزال تحب وتعشق كما لو أنها في العشرين.
قال المسيو سبيرو بأسى بلغة عربية سليمة مقدسية اللهجة لم تخل تماماً من لكنته الأجنبية. عقد حاجبيه واستدرك بخبث وهو ينقل بصره بينهما رافعاً قدحه الأحمر:
-الحب الحقيقي لاينتهي ابداً ياأصحابي. وستعرفون ذلك إن أحببتم بعضكم بعضاً حباً حقيقياً صادقاً.
ابتسمت ناديا بود فيما انتشى نضال بتلك الرمية المواتية فهتف بمرح :
-حبي حقيقي يامسيو سبيرو وأراهنك أنه سيدوم ابدا!.
تدرجا في شوارع عمان المعتمة الهادئة اللطيفة الجو صامتين متشابكي الأيدي شاعرين أن أي كلام لن يرقى إلى مصاف عواطفهما التي تفتحت على تلك المنحة الآلهية المسماة حباً. اختلطت مشاعرهما وخواطرهما وأحلامهما بالمسيو سبيرو وفلسطين والآلهة الاغريقية والزوجة اللعوب التي فضلت القدس والنبيذ المعتق الفاخر والموسيقا اليونانية الساحرة.
لم يندهش حين وجد أمه تنتظره ، رغم مرضها، وقد تجاوزت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل . تلقته مكفهرة حانقة لتؤنبه بقسوة على سلوكه المعيب في التغيّب عن دعوة المطران دون اعتذار مفضلاً رفقة فتاة عابثة سيئة السلوك!. فاجأه تهجمها العنيف على ناديا وزاد من حنقه أنه تم بحضور غسان الذي راح يرمقه باستخفاف وكأنه يشمت به. فانفجر يقول بانفعال لم يسبق أن تجرأ على مثله:
-سيئة السلوك التي تتحدثين عنها هي أجمل وأنبل فتاة قابلتها في حياتي، أرجو ألا تسيئي إليها بأية كلمة لأنني لن أسمح لأحد بالتهجم عليها أمامي.
لقد توقع أن تغضب أمه لتغيبه عن دعوة المطران، وأن تسأله أين أمضى كل هذا الوقت ومع من، لكنه لم يتصور أن تكون قد صارت على علم بكل شيء، وأن تصب جام غضبها على رأس ناديا بهذا الشكل المهين. لكن رجاءه لم يلق أذناً صاغية من أمه التي راحت ، دون أية مراعاة لشعوره ، وغير مبالية بوجود غسان ، تقرعه كأنه طفل اقترف ذنباً كبيراً قائلة إن عليه أن يبتعد عن تلك الفتاة . لم تداور أو تلمح، بل راحت تقصفه بكل ماتعرفه عن ناديا سواء مايتعلق بأمها الراقصة وأبيها الذي أنكر أن تكون ابنته، أو فيما يخص سلوكها الشخصي:
- إنها ليست أحسن من أمها. لقد شقت عصا الطاعة على الراهبات وتركت الدير لتسكن وحدها في غرفة لدى أرملة مشبوهة السلوك بدورها. ولولا أن رئيسة الدير تخشى عليها الانحراف لطردتها من وظيفتها في المدرسة.
وكأن غسان شعر أنعليه تقديم يد العون لأخيه ، قاطع أمه يقول بحدة:
-رويدك ياأمي . منذ متى صرت قاضية معصومة عن الخطأ لترجميها بكل هذه الحجارة؟.
استمد من تدخل أخيه الجرأة ليقول بتصميم:
- كل هذا لايعنيني في شيء. إنها فتاة لاغبار عليها.
- أفقدت عقلك ياولد؟ ألم تفهم بعد أن أمها كانت بنت هوى. أتدرك معنى ذلك؟.
حملق في أمه ببلاهة بدت له قاسية متجبرة إلى درجة أفزعته. شعر بالضعف إزاء اتهامها الأخير فأطلق ضحكة صفراء يداري بها اضطرابه وسألها بقلق :
-من أين لك كل هذه المعلومات ؟ إنها أقاويل وأكاذيب. ثم كيف عرفت أنني سهرت معها؟ أوضعت جواسيس في إثري؟
زجرته بقسوة:
-كف عن التساخف يانضال ، مثلي لايخفى عليها شيء. ليس هناك من يجهل حقيقة أمها. لهذا صارت في الخامسة والعشرين دون زواج رغم ماتمتاز به من جمال وذكاء وثقافة رفيعة. لاأحد يغامر بالتورط مع بنت لها هذه الأم. صادق واحبب واله مع من تشاء من الفتيات، لكن ليس مع واحدة مثل ناديا وتكبرك بثلاث سنوات.لا أريد أن تكون لك أية علاقة معها.
وفقد أعصابه . لم يعرف كيف أفك تزمامها من يده لينفجر في وجه أمه في ثورة غضب لاسابق لها. لعل السبب نتج عن شعوره العميق بالعطف على فتاة رائعة الجمال سامية الأخلاق تتهم زوراً وبهتاناً فتحركت فيه النخوة للدفاع عنها.
أو قد يكون باعثه نظرة غسان المشفقة التي صبت الملح على جرح كبريائه، فانتفض راغباً في إثبات رجولته . أوهو الاستخفاف الذي تبديه أمه في كلامها معه. فوجد الفرصة سانحة لاعادة الاعتبار إلى شخصه ووضع حد لها . زعق مطلقاً لانفعاله العنان:.
- أنا ما عدت طفلاً لتكلميني بهذه اللهجة ولست بحاجة إليك أو إلى أي شخص آخر ليبصرني بصالحي ويعرّفني بما يفيدني ويضرني. قلت لك وأعيد إن البنت أنبل وأطهر مخلوقة تعرفت إليها. سمعتها أعطر من سمعة الراهبات أنفسهن.! وحتى لوصح ماقلته عن أمها فهذا لايعيبها ولايعنيني وليست مسؤولة عنه، ثم أنك تتحدثين عن أصلها وفصلها وكأننا من السلالة الملكية بينما نحن لسنا سوى لاجئين لم نكن لنساوي فلساً لولا أموال اكرم النحاس. فخففي تحاملك عليها ولاتشغلي فكرك بأمري وحرريني من وصايتك.
لم يتوقع أن يتطور الأمر إلى مواجهة عنيفة بينه وبين أمه كادت تصل بهما إلى حد العداء. صدمه موقفها المتعنت السلطوي فواجهها بعناد وركب رأسه معتبراً أن المسألة تحولت من مجرد علاقة حب إلى قضية إثبات وجود. لم يكن سهلاً عليه الخروج من ثوب الابن البار المطيع المحب السلس القياد الذي يحاول تعويض أمه عما يراها تفتقده في أخيه المتمرد والشرس الأناني والدخول في ثوب الرجل المستقل المصادم الخارج عن طوعها والمتطلع إلى ممارسة حياته دون وصاية ورقابة وتوجيه. ورغب بصدق أن يصل إلى حل وسط معها. أن يقنعها أن من حقه أن يحب ناديا ويقيم معها العلاقة التي يهوى ويشاء،وأنه ليس على البنت أن تضرس للحصرم الذي أكله والداها. ذكرّها أنها هي نفسها كانت السباقة إلى عصيان أبيها والتمرد على مشيئته لحماية حبها والارتباط بالرجل الذي اختاره قلبها. فكيف تحللّت لنفسها ماتحرمه عليه؟ لكن جوابها كان قاطعاً وجاهزاً دائماً: سيرة أمها والفارق في العمر بينه وبينها . وإذا كان هو غارقاً في حالة من العشق الأهوج تعميه عن رؤية هذه المحاذير فإنها مصممة على السعي بكل قواها لاعادته إلى صوابه وإنهاء العلاقة بينه وبينها قبل أن يتورط فيما لا تحمد عقباه.
وكان ذلك بداية الشرخ بينه وبين أمه، وهو شرخ راح يكبر يوماً بعد يوم مع اتساع شقة الخلاف بينهما وتشبث كل منهما بموقفه بعناد.
قابل ناديا في الليلة التالية عند المسيو سبيرو. هناك انفتحت أمامه أبواب عالم جديد صاخب ممتع التقى فيه نماذج إنسانية متنوعة المشارب والطبائع والأهواء، تضم الشاعر والفنان والسكير واللامبالي والمتبطل والحزبي والمتمرد والفقير والميسور.
كان قاسمهم المشترك ، كما قالت ، الشعر والخمر وفلسطين والمسيو سبيرو والموسيقا اليونانية، وأضاف هو إلى ذلك جو السناك الغرائبي الذي أضفى عليهم مسحة فريدة من نوعها ليس سهلاً تحديدها.فآناً هم شخصيات كاريكاتيرية عابثة لاهم لها إلا قتل الوقت فراراً مما تعتبره سخف الحياة الانسانية وخيباتها اللامتناهية،فترفع لواء التمرد والرفض حالمة بعالم يستحيل وجوده. وحيناً هم أرباب حكمة ومفكرون يفتشون عن نظريات جديدة تطمح إلى تفسير معنى الحياة وتقويم اعوجاجها ورفع المظالم والآلام عن بشرها.
في هذا الوسط كانت نادياه ، كما ألف مناداتها ، قلب المجموعة النابض ولولبها وعقلها، كأنما الآخرون زمرة من الأطفال وهي المعلمة والمشرفة عليهم .وجودها الملح الذي يعطي الطعام نكهته والشذا الذي لاتحلو الوردة دونه والصوت الأبح الذي لاتشتعل القصائد إلا به. فهي الأجمل والأبهج والأمرح والأمهر والأذكى..
ومازادته لقاءاتهما المتواترة، من العصر حتى بعيد منتصف الليل ، إلا تعلقاً بها وانكاراً لشكوك أمه، وبحيث أصبح متيقناً بانها حتى لو كانت ثمرة خطيئة ونتاج علاقة أثيمة، فإن أباها هو بالتأكيد واحد من تلك الآلهة العابثة التي اعتادت غواية الحسناوات وانسالهن أطفالاً يقفون في منتصف الطريق بين الآلهة والبشر، كما كانت تحكي أساطير سبيرو عن أرباب الاولمبوس!.
فاجأته بعد شهر تدعوه لتمضية السهرة عندها قائلة إنها ملّت من الأماكن العامة وبمقدورها الآن ، مستدركة بغير قليل من الاستهتار، استقباله في غرفتها بعد أن سافرت صاحبة البيت إلى بيروت لزيارة أقرباء لها. وافق بغبطة لكنه لم يستطع منع عقرب شك صغير من الدبيب في صدره. فبقدر ما دغدغت الدعوة في كيانه من رغبات جامحة، فأنها أثارت قلقه بما دللت عليه من سلوك متحرر يبرر اتهامات امه لها. ولاجدال في أنه رغب في امتلاكها منذ وقعت عيناه عليها. لكن علاقتهما لم تخرج، حتى تاريخه، عن حدود الحب العذري. لم تسمح له بالتمادي كثيراً في التعبير عن مشاعره، وتحفظت في إظهار عواطفها مكتفية باعتباره صديقاً حميماً فقط. تغاضت عن عناقه الحار لها وهما يرقصان وعن ملامساته العفوية لجسدها، لكنها رفضت بحزم أن تمنحه شفتيها وهما يفترقان ليلاً. كانت نظراتها زاجرة إلى درجة أنه لم يجرؤ حتى على اختطاف قبلة من خدها رغم رغبته الشديدة فيها!.
أمضى بعد ظهر كئيباً في انتظار موعده المسائي وهو يتقلب على نار النشوة والقلق، الرغبة والخوف، اليقين والشك. كان يريدها بكل قواه ، بل إنه راح يرسم وقائع الليلة الاسطورية التي سيمضيها وهو يمتح من محاسنها ومفاتنها ماشاءت له غرائزه ورغباته. ستكون تجربته الأولى مع امرأة حقيقية خارج نطاق ال****** والعذراوات اللواتي كن يوفرن له متعة سطحية باردة. لكنه كان مرعوباً حتى الموت من فكرة أن تتبدى له عن امرأة متحررة إلى درجة ألا ترى مانعا من النوم معه. ماذا سيكون موقفه إن اكتشف أنها ليست عذراء، وهل يستطيع حبه تحمل تلك الصدمة أم سينهار مع انهيار.صرح العفة والطهارة الذي رفعه لها حتى السحاب؟.
ذهب في الموعد المحدد مسلحاً بباقة ورد وزجاجة "سننرانو" وخاتماً ماسياً.
فتحت له الباب قبل أن يطرقه وكأنها كانت تراقب قدومه. استغرب ذلك الأمر لكنه أرجعه إلى حرصها على عدم لفت انتباه الجيران، دارى ارتباكه بالتلويح بالباقة والزجاجة قبل أن يلقي تحية خافتة ردت عليها بابتسامة وسارعت تغلق الباب بهدوء موضحة:
- ستزعل الست روز إن علمت أنني استقبل أصدقائي في غيابها!.
كانت ترتدي بنطلون جينز كاحت اللون وقميصاً أبيض معقودا من طرفيه حول وسطها وبشكل كشف حيّزاً من بطنها. هز رأسه بتفهم وتبعها إلى غرفة بسيطة الأثاث تحوي سريراً مفرداً وأريكة وأربعة مقاعد متوسطة الحجم قديمة الطراز وجهاز تلفزيون أسود وأبيض ومكتبة جدارية تكدست فيها الكتب دون ترتيب . شكرته على الورد والخمر بصوت خلا من الحرارة ، فلم يجرؤ على إخراج الخاتم من جيبه خوف استيائها. وتشاغل بتفحص غرفتها. لاحظ وجود زجاجة نبيذ يوناني نصف ممتلئة وصحون فستق وبذر على ترابيزة بين الأريكة وطاولة التلفزيون . في الجدار الموازي للمكتبة لوحة جدارية لخارطة فلسطين مجسمة وبجانبها ملصق ملون لفدائي ملثم متنكب بندقية كلاشن وقد التفت برأسه إلى خلفه يحدق فيه بعينين نفاذتين مليئتين بالتصميم . في الجدار المقابل ملصق آخر لرجل ملثح جالس على كرسي خشبي وقد تناثرت حوله الكتب والأوراق وأطرق غارقاً في تفكير عميق. كان الوجه مألوفاً لكنه عجز عن تذكر اسم صاحبه وان كان متأكداً أنه لزعيم إحدى الثورات الشهيرة. اقترب من الملصق وتفرس فيه بامعان قبل أن يستدير عنه وهي تدخل إلى الغرفة. وضعت مزهرية الورد على ظهر التلفزيون:
- أيعجبك غيفارا؟ إنه أحد أسباب تركي الدير . هناك لاتستطيع استبدال صور المسيح والعذراء والقديسين بصور الفدائيين وغيفارا وحبش....
قالت بلهجة غلب عليها المرح وهي تسكب النبيذ في قدحين ناولته أحدهما ورفعت الثاني بإرة في صحته. رشف جرعة صغيرة ثم تلمظ بنشوة:
-لذيذ. لكن ليس أكثر منك.
تندت شفتاها بالخمرة فتلألأتا كعنبتين ناضجتين شهيتين . أشارت إليه بالجلوس وهي تقول برصانة:
- لدينا أقل من ساعة قبل حضور الآخرين.
فوجئ ورفع حاجبيه متسائلاً فاستدركت:
- عباس ورأفت وسعاد وزينب . الشاعر قابلته عند سبيرو وستتمتع بصحبة الآخرين. إنهم ظرفاء وسهرتهم لطيفة.
لم يستطيع السيطرة على نفسسه فترك لملامحه التي شحبت أن تكشف عن امتعاضه وأطبق بيده على القدح بقوة حتى أوشك أن يحطمه وهو يحدجها بخيبة واضحة . حين رآها لم تبد أي اهتمام تنحنح ثم قال بمرح مصطنع:
- حسبت انك دعوتني لتبوحي لي بمكنونات قلبك!.
ظلت جامدة الملامح وهي تقول بجفاء وكأنها معلمة تقرع تلميذاً مشاغباً:
- قلت أمامنا ساعة قبل حضورهم. وهذا أكثر من كاف للبوح بمكنوناتنا ووضع النقاط على حروف علاقتنا..
أفرغت قدحها في جوفها وكأنها تستمد القوة من الخمرة:
- لم يمض على علاقتنا سوى أسابيع لكن بإمكاني القول إن عواطفنا نحو بعضنا تبلورت إلى درجة أنك بدأت تلمح إلى الزواج، رغم أنني أعتقد أن الوقت لازال مبكراً على ذلك، أقله بالنسبة لي. أريد الآن معرفة إلى أي مدى أنت مستعد للمضي في تلك العلاقة.
سارع يرد بحماسة:
- إلى آخر الشوط .. الزواج.
لوحت بيدها تخفف من غلوائه قائلة:
- لاتستعجل . أتحسب الزواج مجرد كلمة؟ أريدك أن تفكر بهدوء وإمعان فالشوط لايزال في أوله. وأنا صرت، أو هكذا أعتقد، على درجة من النضج والتجربة تحصّن رأسي من الدوران بالوعود المعسولة للرجال المتخصصين في أغواء بنات جنسي!.
هم أن يتكلم ليؤكد لها صدق نيته، لكنها لوحت بيدها تمنعه:
- تعرف أكثر مني أن طريقنا ليست مفروشة بالورد بل بالديناميت . أنا أكبر منك بسنتين وسبعة أشهر وعشرين يوماً. وإذا نجحنا في تجاوز هذه النقطة، رغم أهميتها الكبيرة، فلا يمكن أن ننسى أن هناك فوارق اجتماعية كثيرة بيننا . فأنا يتيمة نشأت في دير ومعلمة ابتدائي بسيطة وفتاة متحررة كثيرة الصداقات أعيش على سجيتي دون عقد ومحاذير. أما أنت فمن عائلة ثرية معروفة، ويكفي أن أمك هي أرملة اكرم النحاس. ولم أندهش حين اكتشفت أنها مغرورة مدعية بقدر ماهي ثرية وحريصة على ألا تلطخ أية شائبة نصاعة مركزها ومكانتها.
إنها لن تسلم أبداً بفكرة أن اصبح زوجة لابنها.
قاطعها يقول بحماسة:
- آه منكن أنتن النساء! تتسرعن دائماً في اصدار أحكامكن دون تفكير. أمي ليست كما تتصورينها كما أنك لست كما تتصورك. من لايعرفها يحسبها امرأة مخيفة مغرورة متكبرة بينما هي في الواقع سيدة عادية طيبة بسيطة واعية وأنا واثق أنكما عندما تتعارفان ستتفاهمان وتتفقان بسهولة.
- يبدو أنك لاتعرف أمك!.
فاجأته لهجتها القاسية المليئة بالتهكم ، وانتبه حينذاك إلى أنها تتكلم عن أمه بثقة من يعرفها حق المعرفة. وهذا ما توضح له وهي تستدرك:
- زارتني أمك صباح اليوم في المدرسة.
امتقع وجهه وتقلصت ملامحه فيما راح العرق يتصبب من رقبته وكتفه. أردفت قبل أن يتمكن من قول أي شيء :
- لم أشعر بأي ود نحوها. ربما لأنني بطبعي أنفر من جميع هؤلاء الأدعياء الفارغين المصنّفين في خانة علية القوم والأكابر الذين يتسلقون على اكتافنا ويتاجرون بكل ماله قيمة في حياتنا ، حتى الوطن، ليحولوه إلى تفاهة. أيضايقك ما اقول؟.
سألته باهتمام لم يخل من قلق حين لاحظت توتره واستياءه. اعتصر قلبه ألم عميق وهو يرى إلى هذا العداء غير المبرر بين أحب امرأتين إلى قلبه. هم بالتكلم لكنه شعر بأنه محاصر، ولا يستطيع قول شيء قبل معرفة ماذا حدث بينهما. لذا أبقى فمه مطبقاً واكتفى بالتطلع إليها محاولاً جهده السيطرة على أعصابه . هزت رأسها بضيق وغمغمت بغيظ:
-معك حق في أن تنزعج. قد أبدو قاسية ومتجنية على أمك، وهذا ما أشعر به، فلا يحق لي إطلاق الاحكام على الآخرين خاصة وأنا أعاني من قسوة الأحكام التي يصدرها الآخرون عليّ، على كل حال فإن أمك كانت البادئة ، وكانت قاسية وليئمة بحيث لم أستطع ضبط أعصابي فانفعلت وأهنتها. والعصبية نقيصة لم استطع أبداً التخلص منها. أما أمك فهي استاذة في فن ضبط النفس . إنها قادرة على التصرف بلطف وتهذيب مفرطين وهي تطعنك في صميم فؤادك. وهذا ماحدث اليوم. اتجهت مباشرة إلى هدفها. قالت، ولا أعرف مدى صحة قولها، إنها لم تفكر يوماً أنها ستتدخل في مشاكل أبنائها العاطفية فهي ربتهم على أن يكونوا أحرار في شؤونهم، ولكن ضمن المنطق والمعقول وأن يلتزموا القيم والأعراف السائدة . ولهذا فقد حضرت لمقابلتي وهي مدركة مسبقا تلك المحاذير التي ستنتج عنها. أنها لم تستطع الصبر أكثر مما فعلت وهي ترى العلاقة تتطور بيني وبين ابنها الطائش.
قالت الكلمة الأخيرة باستهزاء وسكتت هنيهة تحدق إليه بتحد:
- تتطور بسرعة البرق بحيث تخشى أن يفلت الزمام من أيدينا نحن الثلاثة. ليس لها اعتراض على شخصي الكريم، فأنا شابة جميلة جداً ومثقفة جداً وأتمتع بمزايا -لم تذكرها- تجعل أي رجل يتمنى أن أكون زوجته . كلام جميل مغموس بالسم والإهانة.
قالت بازدراء ثم تشاغلت بملء قدحها ورشفت منه عدة رشفات:
- لكني ان كنت أصلح لأي رجل فإن ابنها مستثنى بإلا ولأسباب عديدة. الأول أنه مازال صغيراً على الزواج. وفهمت من ذلك أنك أبلغتها أنك تريد الزواج بي. السبب الثاني، وهي محقة فيه، أنك تصغرني بثلاث سنوات. وهذه مشكلة قد تبدو بسيطة الآن لكنها ستكبر وتتفاقم مع الزمن. السبب الثالث أنك تنوي السفر إلى الولايات المتحدة للتخصص، والزواج سيحول دون ذلك. السبب الرابع والأهم أنها ترى أنك غير جاد في علاقتك معي. وهي على الأغلب نزوة سرعان ماتعبر ولاتريدني أن أكون ضحية شاب عابث حتى لو كان ابنها. إنها داهية ولكن...
زفرت بقوة واستدركت ملوحة بيديها:
- كان حديثها منطقياً ومقنعاً بحيث تعاطفت معها وهممت بإن أطمئنها إلى أنني مستعدة للخروج من حياتك إن كانت علاقتنا ستؤثر سلباً على مستقبلك. لكنها ارتكبت خطأ فادحاً لايرتبكه إلا كل غبي قصير نظر. إنه غرورها الذي يجعلها تعتقد أنها قادرة على فرض رأيها وشراء من تشاء بمالها. فاجأتني تقول، برياء صفيق ، إنها مهتمة بمستقبلي لما عرفته عني من تفوق. وقد سمعت من السيدة رئيسة الدير أنني كنت أنوي متابعة دراستي الجامعية في باريس للتخصص في العلوم الإنسانية لكن الظروف عاكستني. وهي لاترى ما يمنع من أن تساعدني وتتكفل بنفقات دراستي هناك.
أفرغت كأسها في جوفها:
-رحت أرتجف وقد فقدت صوابي . طلبت منها أن تغرب عن وجهي وهددتها بأن أنشر على الملأ كيف أن سيدة كبيرة القدر مثلها تريد شرائي بمالها القذر كي أقطع علاقتي مع ابنها . جاءت السيدة الرئيسة على صياحي وحاولت تهدئتي. أتصدق أن أمك لم تبد أي انزعاج وهي تقول إن الانفعال لاينفع في مثل هذه المسائل، وعليّ أن أكون عاقلة كي لا أخسر كل شيء. وأي عقل أبقت لي؟ ياللسخرية ! اردت أن أقول لأمك إنها ليست أفضل من أمي التي جاءت تعيّرني بها. وإن نقودها ليست أنظف. وأنني تبرعت بما تركته لي أمي للثورة لأنني لم أرد مالاً غير نظيف. لكنني سكت من أجلك . لقد فكرت بالأمر وندمت على سلوكي المعيب وعلى تسرعي في رفض رشوة أمك!. كانت فرصة لن تتكرر ثانية ، منذ سنوات وأنا أحلم بباريس ليس للعلم والتخصص بل لما تعنيه لي من حرية واستقلال . هناك سأكون من أشاء وأعيش كما أهوى دون إدانة ومحاسبة على أخطاء أمي وأبي. هناك سأحب دون خوف.. ألا توافقني على ذلك؟.
- لقد تجاوزت حدودها. إنها أمي ولكن ليس إلى هذه الدرجة. لاأصدق أنها يمكن أن تتصرف بهذا الشكل. طلبت منها بوضوح ألا تتدخل في شؤوني. وسأعرف كيف أضع حداً لها . سنتزوج لتونا.
بعد أن هدأت عاصفة زواجهما واستكانت عواطفه واضطرت أمه إلى منحه موافقتها وبركتها، بدأ يدرك ، بغير قليل من الغضب ، أنه تسرع أكثر مما يجب، وأن ناديا ساقته بدهاء إلى شراكها. فهي التي صورت له الأمر على الشكل الذي تصوره، وهي التي أذكت جمر التحدي في صدره لتدفعه دفعاً في طريق حددت اتجاهاته سلفاً.وهو لم يتمكن حتى الآن، رغم تحرقه إلى ذلك، من ترميم علاقته بأمه وإعادتها إلى سابق عهدها من الحرارة والمتانة. بل إنه بدأ يرزح تحت وطأة إحساس مكرب بأنها لن تغفر له أبداً فعلته رغم استسلامها للأمر الواقع. كذلك أخفق في جهوده ، المباشرة والملتوية ، لتنقية الجو بين المرأتين. ظلت العلاقة بين أمه وامرأته فاترة حذرة تفتقر إلى الوئام والتفاهم. وهذا ماكان يصيبه بحالة عصبية من الإحباط والتوتر ويحرمه الطمأنينة وراحة البال.
لايعني ذلك أنه بدأ يندم. على العكس فإن حبه مايزال متأججاً قوياً رغم العواطف التي اجتاحته والتي لاينجو منها، كماقيل له، أي زواج في سنواته الأولى... ولكن!.







- 7 -
- كنت أبحث عنك سعادة الجنرال!. أأستطيع الانضمام إلى معيتكم؟؟.
سال يوسف بلهجة لم تخل من تهكم دفعت ابراهيم إلى تضييق عينيه والتحديق إليه بتحفز دل على عدم ارتياحه لذلك الأسلوب في مخاطبته. لكن يوسف لم ينتظر إذنه وسحب كرسياً جلس عليه وهو يستدرك:
- ليل خانق وهدوء كئيب يثير في النفس مخاوف لزجة غير مفهومة . الليلة تذكرني بليالي الحصار في بيروت، كنا نسميها الليالي المجنونة. (FOLLLES MIUTS ). إنه السكون الذي يسبق العاصفة. كان الملحق الصحفي في السفارة الروسية صديقاً لي واعتاد ان يتذكرني بين الفينة والأخرى بزجاجة فودكا من نوع" بولسكا" الفاخر فنشربها أنا وغسان في صحة الرفيق بريجنيف على أنغام معزوفة القصف الاسرائيلي العذب. بم.. بم.. ترالالالا. كانت ذات مفعول ساحر يساعدنا على النوم بعمق وتنبلة . أما الليلة فأرى أن وسكي العمة تاتشر هو سيد الساحة!.
مصمص بشفتيه وهو يتفرس في زجاجة " البلاك ليبل" باعجاب ، ثم تناول قدحاً ملأه حتى منتصفه وتذوق جرعة صغيرة؟ أتبعها بأخرى وتلمظ بغبطة:
-فاخر.. معك حق في أن الوسكي السك رحيق لاتستسيغه إلا النخبة.. إنه يجلو العقل ويفتح البصيرة. لقد ساعدني الأسبوع الماضي على ربح 200 دينار في البوكر!..
حدجه ابراهيم بضيق هنيهة ثم علق باستخفاف:
- جميل . نعم . الوسكي السك يمنح شاربه القوة والاندفاع ويشجعه على المجازفة بثقة واقتدار دون مبالاة بالنتائج. أتعرف ماذا خطر لي ذات مرة؟ لو أنهم يطبقون نظام الوسكي على جيوشنا مثل النظام المنضم لماخسرنا أي حرب! فالوسكي يقوي عزائم القادة من جهة ويشحذ همم الأفراد من جهة أخرى. خذ على سبيل المثال تأثيره الجنسي. إنه يحفز في الرجل عناصر الجرأة والوقاحة والمباغتة ، وهذا ماتعشقه المرأة في الذكر. الهجوم والاقتحام المباشر دون لف ودوران فإما النصر أو الموت فداء الواجب. أتعلم!.
حدق إلى يوسف بعينين ذابلتين تلاشت عدوانيتهما وهو يجرع من كأسه بتلذذ. حين شخص إليه يوسف باستغراب شد جذعه وأردف:
- المدينة،أو المدنيّة،لافرق، فرضت على الرجل نمطاً سخيفاً من السلوك الزئبقي المتحذلق أجبره على مراعاة المرأة على حساب حقوقه الآلهية والتاريخية. وهذا أدى بدوره إلى تحميل المرأة عبء واجبات اجتماعية أجبرتها على تدجين طباعها الأصيلة واكتساب طباع مصطنعة حولتها من أنثى نارية إلى مجرد كتلة من رخام بارد يوحي بالمتعة أكثر مما يمنحها فعلاً . وبذلك خسر الطرفان الكثير من خصائصهما الطبيعية. الرجل فقد بعض ، وعلى الأرجح معظم عنفوان ذكورته، والمرأة فقدت فوران أنوثتها.. ليس هناك رجل لا يشتهي أن يسحل المرأة من شعرها إلى كهفه ليفترسها افتراساً، وليست هناك امرأة لا تشتهي أن يسحلها الرجل من شعرها إلى كهفه لتلتهمه التهاماً.. لكن ايامنهما لايجرؤ على التعبير عن تلك الرغبة فكيف بتنفيذها؟! لذا فإن قليلاً من الوسكي السك قد يعين الاثنين على .. على تذكر الطبع ونسيان التطبّع!..
كركر يوسف ضحكة ماكرة قبل أن يقول وعيناه تلمعان من انعكاس ضوء المصباح عليهما:
- أنت تدهشني ياسيدي الجنرال. هذا جانب جديد من شخصيتك كنت أجهله . حسبت أن خبرتك تقتصر على شؤون السياسة والعسكريتاريا فقط فإذا بك ضليع في كل العلوم! الذكورة والأنوثة تستعيدان أصالتهما في عصر الكهف؟ أنت مصيب. المدينة تعطينا رجلاً ناقص الرجولة وامرأة ناقصة الانوثة، ولهذا فإننا نحتاج إلى بيروسترويكا جنسية! إنها فكرة تستحق أن توضع في نظرية علمية!.
ابتسم ابراهيم بانشراح وطبطب على الزجاجة وهو يعقب:
- إنها الحضارة التي ألبستنا قشرة سميكة ثقيلة من السلوك المتكلف والتقاليد المقرفة وجعلتنا نتصرف عكس ماتمليه علينا رغباتنا وأهواؤنا وغرائزنا. الأمر يشبه تماماً إحساسك بالسقم وأنت تأكل المنسف بالشوكة والسكين دون أية متعة ولذة فيما المفروض أن تدبك فيه بأصابعك العارية وتغمس يديك حتى الكوع في اللحم والسمن....
اختتم كلامه بضحكة مجلجلة شقت سكون الحديقة فاهتزت الطاولة وفزعت طيور الليل التي حوّقت باضطراب حولهما. حين سيطر على نفسه رفع كأسه وشرب نخب يوسف قبل أن يتابع وقد نمت حركاته عن نشوة امرئ أشبع بالكحول لكنه لم يبلغ مرحلة السكر:
- لكن نظريتي ، كما أرى، لاتنطبق على كل الناس ولا تنجح في كل الحالات هناك نساء لسن نساء ولن يكن، ورجال ليسوا رجالاً ولن يكونوا ولوشربوا كل وسكي اسكوتلندا. انظر حولك وستلاحظ ذلك بسهولة.
التفت يوسف حوله بحذر ثم قال جاداً :
- ليس هناك سوانا ياسعادة الجنرال، فهل تعنيني أم تعني نفسك؟
كشر ابراهيم وضيّق عينيه حادجاً يوسف بنظرة ثاقبة مرتابة ثم انفجر في ضحكة مائعة قبل أن يقول وهو يمسح رذاذ لعابه الذي تطاير على شاربه وذقنه:
- أنت عفريت يايوسف.أتعرف ماذا يعجبني فيك! زئبقيتك. إننا نعرف بعضنا من سنة ولكني حتى الآن لم أستطع كشف حقيقتك.. أأنت مناضل حقيقي كما تدعي أم مجرد مغامر محتال ألقته الظروف في طريق شاب أهوج فتعلق بك تعلق الضائع في الصحراء بنجمة سرابية؟ أتعرف! منذ وقعت عيني عليك ادركت أنك شخص مثير للشبهات.
-فراستك حادة لكنك جانبت الصواب هذه المرة. فأنا لست إلا صفحة مفتوحة بإمكان الطفل الصغير أن يقرأها. ولعل هذا ما أنفرك مني ياسعادة الجنرال. أما الزئبقي المثير للشبهات فهو قول ينطبق عليك أكثر مما ينطبق عليّ!
خلت لهجة يوسف من أية نبرة استفزاز مما خفف من وقع كلماته. فضحك ابراهيم بود وغمغم من بين أسنانه:
- إنك تضطرني إلى إعادة النظر في رأيي فيك. أنت لم تنضج بعد إلى درجة اجراء كل الحسابات اللازمة قبل أن تطلق أحكامك القاطعة. أنا لم أنفر منك، بل لنقل إنني كنت حذرا بعض الشيء.
- وحذرك هو الذي دفعك لمعارضة خطبتي لعطاف؟.
- لم أعارض بالمعنى الحرفي للكلمة. لقد حذرتهم فقط.
تناول زجاجة الوسكي وادارها ببطء ثم جرع منها:
- لاتنسى أنني بمرتبة ولي أمرها بغياب أي ولي آخر. والمفترض أن أكون المرجع الأخير في مثل هذه القضايا الحساسة رغم أن عواطف لاتعترف لي بأي حق في هذا الشأن . نضال استعان بي لإقناع أمه بالموافقة على زواجه بناديا. وعندما عرفت أنك تنوي طلب يد عطاف وجدت من واجبي أن أقول رأيي ، إن لم يكن كولي لأمرها فعلى الأقل كصديق للعائلة.
-ورغم أن أحداً لم يأخذ به فأنت لم تتوقف عن محاولاتك سحب البساط من تحتي!
أطلق ابراهيم ضحكة باردة:
- أنت واهم إن حسبت أنك تقف على أي بساط . إن تحتك طبقة من الرمال المتحركة وأية خطوة خاطئة ستوقعك على رأسك. عواطف ليست بالمرأة التي يمكن خداعها..
حدق يوسف إلى ابرهيم بإمعان وكأنه يحاول استكشاف مدى جديته. حين راح هذا يتمايل بنشوة قال متهكماً:
- أنا لاأحاول خداع أحد ياسعادة الجنرال ول أعرف من أين جئت بهذه الفكرة عني. أتتقصد استفزازي أم أن الوسكي بدأ يفعل فعله فيك؟.
- لاهذا ولاذاك. كل مافي الأمر أنني شكاك بطبعي من جهة. وأن ثقتي بالمناضلين السابقين والحاليين معدومة من جهة أخرى.
فتح يوسف عينيه دلالة عجزه عن فهم ماسمع فأوضح ابراهيم بسخرية:
- بعد عودته من بيروت سالماً مسلحاً لم يكن لغسان من حديث الا عنك . كان معجباً بك إلى حد يثير الريبة . هكذا قال يوسف ، هكذا فعل يوسف . هكذا يعتقد يوسف . يوسف رجل رائع.. عظيم.. لولاه مابقيت حيا.. كان مفتوناً بك افتتان التلميذ بسيده المعلم. وهذا ليس بالغريب على شاب ضائع متمرد كغسان كان يبحث عما يؤمن به ، عن مثل أعلى. عن موّجه! أواستاذ فوقع على محتال..
- أنت تشتط ياسعادة الجنرال..
زعق يوسف بصوت خافت فابتسم ابراهيم باستخفاف:
- رغم أنني شكّاك بالفطرة كما قلت لك فإنني أوشكت أن أصدق فعلاً مزاعم غسان... قلت في نفسي لعله صادق ولعلك فعلاً نادر المثال. لهذا انتظرت بفارغ الصبر التعرف إليك. لكن ما إن رأيتك حتى خاب أملي. حسبت أنني سأتشرف بمقابلة رجل وقور حكيم عركته التجارب وتركت أثارها على سيمائه فإذا بي أتفاجأ بمتحذلق متأنق يلبس بيار كاردان ويتعطر بألان دولون ويسشور شعره عند جوني ويقدم نفسه باسم المناضل السابق ( COMAT TANT ) . ذلك أكثر مما يلزم لفضحك وتعريتك....
مكيافيلية فجة مقرفة. إعلان رسمي بأنك طويت الماضي وصرت جاهزاً لممارسة دورك الجديد زوجاً لدى عطاف أو بالأحرى صهراً لدى عواطف!.
لوح يوسف بيده بحنق وقاطعه قائلاً بحدة:
- هذا لغو يا جنرال ، لاتجعلني أشكك في سلامة عقلك!.
- لاداعي للانزعاج ياصديقي. إنني أعبر عن رأيي الصريح تحت تأثير الكحول. وأعتقد أنه لم يفاجئك.
ابتسم يوسف بازدراء وقال بهدوء مستعيداً سيطرته على أعصابه:
- معك حق . أعرف أن الود مفقود بيننا لأسباب كثيرة. فنحن على طرفي نقيض على طول الخط. جنرال سابق ومناضل سابق. أنت سليل الحسب والنسب وابن العيّن عبد الله نصار مستشار جلالة الملك عبد الله. وأنا ابن الاسكافي جورج مستشار حفاة بيروت.. أنت كاهن المعبد المتخم بملذات الحياة وأنا المشرد الراغب في هدم الهيكل النتن.
رفع ابراهيم يده وقاطعه قائلاً بسخرية:
- مهلاً.. مهلاً يارجل. لم يبق إلا أن تقول أنك المسيح المنتظر وأنا الشيطان!. ألم أقل لك أنك لم تنضج بعد. قد نكون على طرفي نقيض كما تعتقد لكننا متشابهان ومتساويان في المحصلة . متشابهان في خيباتنا وسقطاتنا وهزائمنا. الهزيمة هي قاسمنا المشترك. أنا هزمتني عواطف وأنت هزمتك عطاف!.
حدق إليه يوسف باستغراب فأوضح بعد أن رشف من كأسه:
- هزمتني عواطف برفضها لي وهزمتك عطاف بقبولها بك!.
- أتعتبرها صفقة خاسرة إذن؟.
- بالتأكيد . كان عليك البحث عن طريدة أفضل . ليست عطاف بالمرأة المناسبة لك رغم بائنتها المغرية. ولا تحاول الزعم بأنك مغرم بها ، فألاعيبك لاتمر على رجل مثلي.
-والاعيبك أيضاً لاتمر على رجل مثلي ..لا أعرف كيف لم يفتضح أمرك حتى الآن ياجنرال.
بدت الدهشة على ابراهيم فتطلع إلى يوسف بقلق ثم سأله متململاً:
- ماذا تعني؟‍‍!.
ضحك يوسف وأخذ نفساً نفخه بهدوء:
- أتعرف مالذي أثار دهشتي اليوم؟ ليس خبر العثور على طارق مناف بل ردة فعلك. لقد بذلت جهداً كبيراً لتمثيل دور من فاجأه الخبر. لكن تمثيلك لم يمرق عليّ... لم يشحب وجهك وتجحظ عيناك وتقفز عن كرسيك كمن لسعه العقرب كما يجب أن يحدث مع رجل تفاجئه المرأة التي يحبها بأنها عثرت على زوجها حياً! وقد تأكدت من شكوكي حين وجدتك جالساً بكل برودة أعصاب تستمتع بوسكيك اللذيذ. ولا أخفيك أنني تلصصت عليك عدة دقائق قبل أن تنتبه إلى وجودي. وتلك عادة تأصلت فيّ من عملي محققاً في أمن الثورة. إن المرء يتحرر حين ينفرد بنفسه من حذره الفطري ويترك لتعابير وجهه أن تكشف لصاحب العين البصيرة دخيلته. أتعرف ماذا اكتشفت وأنا أراقبك؟.
حافظ ابراهيم على صمته مكتفياً برسم ابتسامة غامضة على شفتيه منتظراً دون كثير فضول سماع مايريد يوسف قوله. عب هذا الأخير من كأسه وكأنه يستمد من الشراب الشجاعة ليتكلم بصراحة. أردف بعد هنيهة بحذر:
- أنت على علم مسبق بقضية طارق مناف؟.
خنخن ابراهيم بسخرية ثم شمرّ كمي دشداشته:
- أها.. نظرتك خارقة وليست ثاقبة فقط.. وماذا كنت تريدني أن أفعل ؟ أرقص من الفرح أم أموت من القهر ؟ لقد اندهشت مثلي مثل الآخرين تماماً.. غير أنني أمتاز عنهم بقدرتي على ضبط نفسي.
أبعد كأس الوسكي بظاهر كفه وكأنه قرر أن يتوقف عن الشراب:
- لاينقصك الذكاء يايوسف. اكرر ثانية اننا متشابهان في أمور كثيرة . لكننا نختلف عن بعضنا اختلاف المحترف عن الهاوي. الأول متزن دقيق في حساباته حذر في تحركاته والثاني انفعالي مندفع لاتهمه النتائج كثيراً . العسكري المحترف لايغامر بخوض الحرب دون دراسة عناصرها وظروفها وشروطها والتأكد من إمكاناته، فإنه وجد ان احتمالات النصر راجحة خاضها والإ فإنه يتخلّى عنها بحكمة. أما الهاوي فيدخل المعمعة كيفما كان تاركاً للوقائع الميدانية أن تقرر نتيجتها . فإن انتصر كان بها وإن انهزم استسلم وكفى..
قطّ يوسف شفتيه بحيرة
- وارد.. لكن ليس لهذا أي علاقة بسؤالي لم تجبني على سؤالي.. أنت على علم مسبق بالأمر سعادة الجنرال؟.
زمجر ابراهيم:
- كف عن مناداتي بهذا اللقب. إنك تلفظه بطريقة مثيرة للاستهجان!.
- أعتذر ياسيدي.
نقر ابراهيم بأصابعه على الطاولة ثم قال مستعيداً حديثه:
- أنت على صواب ياعزيزي. لقد عرفت كل شيء من اللحظة الأولى..أتعلم؟.
أخذ نفساً عميقاً ثم استدرك بمرارة:
- ليس عاشقاً حقيقياً الذي لايكتشف أقل تغيير يطرأ على معشوقته . صرت أشبه بالراصد الجوي لعواطف خانم. قد تكون أستاذة في ضبط النفس والسيطرة على أعصابها لكني بروفسور في كشف دخيلتها!. نظرة واحدة إليها- وفرقع بأصابعه- تكفيني لمعرفة مايدور في خلدها. وعيت الدنيا على عواطف فارتبط الاثنان بمفهوم واحد في ذهني. عواطف هي الدنيا والدنيا هي عواطف. أحببتهما معاً وعشتهما معاً وحقدت عليهما معاً. لم أفقد أملي حتى وهي تحب طارق وتتزوجه. وانتظرتها رغم الاحتلال الذي حسبت أن لالقاء بعده. وصبرت عليها وهي تتزوج أكرم وترحل معه إلى فرنسا.. كنت واثقاً إنها مهما لفت ودارت سترجع لي.. جنون ربما!.. نعم.. انها تجبرني على الجنون ولا أعرف إلى أين سيقودني جنوني.. قد ... قد..
كان في صوت ابراهيم من الفحيح وفي وجهه من التعابير ما جعل قشعريرة فزع تدب في أوصال يوسف. أبعد رأسه بارتباك قبل أن يجفل الاثنان على نحنحة مباغتة ظهرت على أثرها ناديا خارجة من العتمة . لوحت بيدها وقالت بمرح مبالغ فيه:
- هل أتطفل عليكما ان شاركتكما جلستكما؟.
سارع يوسف يزيح كرسياً مشيراً إليها أن تجلس فيما استعاد ابراهيم طبيعته:
- الجمال على الرحب والسعة دائماً.
جلست وابراهيم يرفع زجاجة الوسكي قائلاً بمرح مصطنع:
- أتشاطريننا الشراب أيضاً؟.
هزت رأسها نفياً وهي تبتسم:
-لا أرغب سوى في النوم.. لكن كيف أنام والكل سهران أو متوار عن الأنظار..
نقلت نظراتها بين الرجلين ثم علقت ضاحكة:
- ها قد اكتمل عقدنا الآن.. الغرباء الثلاثة في العائلة!.
كركر ابراهيم ضحكة ماجنة وهو يقلّبها بنظرات نمت عن إعجابه ثم قال:
- لاغريب إلا الشيطان ياعزيزتي.. لسنا بشياطين!. في صحتك أيتها الملاك!.
رفع كأسه وشرب نخبها فهزت رأسها شاكرة:
- مارأيك ياجنرال؟ أهو حقاً طارق مناف؟.
مط شفتيه وهو يتملاها بقحة ثم همهم بصوت أقرب إلى الهمس:
- وماذا يعني أن يكون طارق مناف .. ليكن من يكون.. طارق أو غير طارق هذا لن يغيّر في الأمر شيئاً.. قلت لها إن طارقها القديم انتهى.. مات.. اندثر.. سحبه النمل. هذا الطارق الجديد شخص آخر مختلف تماماً.. لايمكن أن يكون هو حتى إن كان هو.. إنه اللغز الذي ليس له حل .. ليس المهم أن يكون أو لا يكون بل أن نعرف إلى أي مدى تنطبق الحقيقة على الواقع و الواقع على الحقيقة!.
حدج جليسيه بخبث ثم استدرك بتهكم:
-أتعرفان ماذا خطر لي الآن؟ المعادلات الرياضية البسيطة التي درسناها في المرحلة الابتدائية. إذا كان 1/2س تساوي 1/2 ع فإن س = ع، أليس كذلك؟.
هزا رأسيهما إيجابا. نظر حوله وتناول عودا يابساً من الأرض ثم أزاح زجاجة الوسكي والكوؤس وخط على الطاولة المعادلة 1/2 س= 1/2ع إذن س= ع. ثم ملأ كاساً حتى نصفه بالوسكي ووضعه فوق المعادلة.
- هذا الكأس نصف ممتلئ وفي الوقت نفسه نصف فارغ. لنحذف النصف من طرفي المعادلة فيبقى لدينا ان الكأس الممتلئ يساوي الكاس الفارغ. لنواصل اختصار المعادلة بحذف الكاس من طرفيها فماذا يبقى!
ضحك يوسف باستهزاء قبل أن يقول:
- الممتلئ يساوي الفارغ!.
هز ابراهيم رأسه وقال محذراً:
- لايفكرن أحد أنني سكران!. لا أعتقد أنني كنت أصفى ذهناً مما أنا الآن. كنا نتسلى بتطبيق تلك المعادلة على كل مايخطر في بالنا فيطلع معنا دائماً أن أي شيء يتساوى ونقيضه .. أأنا مصيب؟.
ابتسم يوسف وناديا بسخرية وهما يتبادلان نظرة متواطئة دلت على اقتناعهما أن الرجل سكران. لكن ذلك لم يمنع ناديا من القول بجدية:
- لعبة وهمية ربما تثبت أن المرأة الجميلة تساوي المرأة البشعة الخير يساوي الشر والقوي يساوي الضعيف الخ.. لكن كيف تطبق تلك المعادلة على طارق!.
- لم أطبقها لأن طارق الميت لايساوي عامر كمال الحي! هذا مارميت إليه بتلك المعادلة الخيالية . إن العثور على طارق حياًَ بعد عشرين سنة موتٍ وهو فاقد الذاكرة أمر يرفضه المنطق حتى وإن كان حقيقياً . الحياة مليئة بالظواهر الشاذة الخارقة التي يقف العقل البشري أمامها عاجزاً تماماً مثلما نقف الآن أمام معادلة الكأس الملآن والكأس الفارغ.. ولهذا فإن طارق مناف القديم لن يكون هذا العامر كمال أبدا..
تطلع إليه يوسف بحيرة ثم غمغم بازدراء:
-معادلتك لامعنى لها وهي هلوسة رجل أفرط في الشراب..
هز ابراهيم إصبعه في وجه يوسف وقال بخمول:
- حذار من الإهانات يا بنّي! .
قاطعته ناديا بحيرة:
- وكأنك تقول إن الرجل هو فعلاً طارق مناف؟ .
- لا.. أنا لم أقل شيئاً... قلت فقط إن طارق القديم ليس طارق الجديد!.
ضرب يوسف علىالطاولة بقبضته قائلاً بنزق:
- هذا قول ينطبق علينا جميعاً... أنا الآن غيري بالأمس... أنسيت أنك كنت قبل قليل تعيرني بذلك ؟ نعم، لا مجال للمقارنة بين يوسف نجيب بيروت وبين يوسف نجيب عمان..
رفع إبراهيم يده يوقفه:
- لكن ذاكراتنا ماتزال في مطارحها ولم تسلخناعن مواضينا انسلاخاً كاملاً..
- أرجوكما أن تتحدثا بوضوح ومنطق وإلا اعتبرتكما رجلين سكرانين تهذيان!.
قالت ناديا بغيظ فضحك يوسف متهكماً:
- ومن قال إننا صاحيان أو عاقلان؟ إننا في عصر قيامة الموتى وموت الأحياء. نعم إنه الهذيان ياعزيزتي ناديا... طارق مناف يرجع من مدينة الموتى وعواطف تدق أبوابها... إذا كان الإنسان حيوناً ناطقا فالحيوان إنسان أخرس، هذه هي معادلة إبراهيم، ألم تسمعا الأخبار قبل قليل؟ مخيمات بيروت ستقع خلال ساعات في قبضة "أمل" الأخوة الأعداء يتقاتلون وهم يذرفون دموع التماسيح، غورباتشوف يعمل بيروسترويكا وريغان حرب نجوم، فهل بعد ذلك غرابة في أن يكون طارق حيا؟.
هبت نسمة قوية تجاوبت معها أوارق أشجار الدلب والتفاح في وشيش صاخب مما دفع إبراهيم إلى أخذ نفس عميق زفره باستمتاع وهو يتملّى من وجه ناديا الذي راح يتوهج فاتناً مع تراقص ضوء المصباح على صفحته.
- المناضل السابق صار فيلسوفاً؟ ... لا يمكن أن تغلط عواطف، إن قالت إنه طارق فهو طارق، لكن أكرر أن ذلك لن يقدم أو يؤخر في شيء، لن يرجع....لكل منهما مساره الخاص هي الآن أرملة الثري المعتوه أكرم النحاس وهو عامر كمال المحاسب البسيط في إحدى الشركات... إن المسارين يسيران منذ عشرين سنة في خطين مستقيمين ومن المحال أن يلتقيا... وإن حاول أحدهما أو كلاهما الخروج من مساره فإن النتيجة ستكون التدمير الذاتي، تماماً مثلما يحدث في حال خروج قمر صناعي من مداره.
- قد تكون على حق في تلك النقطة...
علق يوسف مقطباً وهو يهرش رأسه... تنحنحت ناديا وقالت بحذر:
- أظن أن قضيتنا ليست فريدة من نوعها... وأنا أتمشى في الحديقة تذكرت أنني قرأت من زمن بعيد قصة عن جندي مات في الحرب، لكنه لم يكن ميتاً ورجع بعد سنوات فأنكرته أسرته، لقد رتبوا أمورهم، زوجته وأولاده، باعتباره شهيداً وتوارثوه وحصلوا على الامتيازات المخصصة للشهداء. لهذا لم تلائمهم عودته حياً وطردوه شر طردة.
هز يوسف رأسه مبدياً الدهشة، ومطّ إبراهيم شفته دلالة الجهل ثم غمغم:
- إنها الطباع الشريرة في الإنسان... لكن الأمر مختلف في قضيتنا... فليس هو الذي عاد بل عواطف هي التي تجري وراءه وتلاحقه بطريقة مقزّزة! لقد فقدت صوابها...
بدت الدهشة على ناديا وحدقت إلى إبراهيم بحيرة فتدخل يوسف قائلاً بغموض:
- كان عارفاً بالمسألة من بدايتها وأجرى التحريات اللازمة والوافية لهذا هو يتحدث بتلك الثقة عن الرجل... أليس كذلك يا سيدي؟ ..
ازدادت دهشة ناديا وعادت تتفرس في إبراهيم:
- أحقاً مايقول؟!.
- بادلها إبراهيم النظر ثم هز كتفيه دون معنى فنبرت بعصبية:
- لماذا أخفيت ذلك عن عواطف؟!.
نفتخ إبراهيم بضيق ثم فرقع بلسانه:
- لأنني أريد إنقاذها لا إغراقها! ... إنني أتعاطى مع القضية بالعقل، وأرى ألا مصلحة لأحد، وتحديداً عواطف، في النفخ في رماد الماضي..
ضربت ناديا الطاولة بقبضتها فاهتزت وانقلب كأس يوسف لكنها لم تبالي...
- إنني لا أفهم أي شيء...
ابتسم إبراهيم بغموض وراقب هنيهة يوسف وهو يمسح الطاولة بمحرمة ورقية ثم تطلع إلى ناديا:
- لو أنك أصغيت لي جيداً لفهمت ما أريد قوله من ساعة، إنه طارق مناف وليس بطارق مناف، عامر كمال وليس بعامر كمال، الشيء وعكسه، الحقيقة والوهم...س و ع.
هذه هي المعادلة الصحيحة جداً نظرياً ولكن المستحيلة جداً عملياً، فالكأس الفارغ لا يساوي الكأس الملآن، وأنا لو شربت كأساً فارغاً...
وتناول كأساً فارغاً وتظاهر بأنه يشرب منه:
- لن أشرب إلا الهواء! لهذا قررت تجنيب عواطف مرارة شرب كأس فارغ... لوحت ناديا بيدها وقالت بحدة:
- لكن لا يحق لك أن تقرر نيابة عنها... القرار لها ولأولادها.
- أنت تدهشيني ياناديا... وكأنك ترغبين في تدميرهم... ألا تدركين معنى أن يخرجوا إلى الناس قائلين هذا طارق مناف بعث حياً؟.
- لن يسعدك ذلك أبداً..
قال يوسف بخبث دفع إبراهيم إلى التحديق إليه بحدة قبل أن يقول بإصرار:
- نعم... لن يسعدني أبداً أن يعود طارق!.
- هو طارق إذن؟.
سألت ناديا بعصبية وقد بدا عليها نفاد الصبر، ابتسم إبراهيم بمكر:
- لايستطيع أحد أن يجزم بذلك ياعزيزتي..
- ماهي الحقيقة إذن؟.
قطب إبراهيم ثم ابتسم بسخرية:
- ليست هناك حقيقة مطلقة، كل شيء نسبي، أليس هذا ماهو متعارف عليه؟ سأتجاسر على القول إن الحقيقة هي نتاج ظروف معينة خاضعة لمنطق معيّن ومرتبطة بنظرية الثابت والمتحوّل... الثابت أننا موجودون ثلاثتنا حول هذه الطاولة الآن.. أما المتحوّل فهو طبيعة هذا الوجود، أي نسبيته، وهذاما تحددّه.. تحددّه...
نظر فيما حوله ثم دل فجأة على المصباح:
-اللمبة... إنها تضيء الطاولة من جهة الشمال وتضفي علينا شكلاً معيناً، ولو أبعدناها نصف متر إلى الغرب لتغير شكلنا تبعاً لتغير زاوية الضوء وقوته، إن أبعدناها عشرة أمتار سنتحول إلى ظلال لاملامح لها، إن أطفأناها سنتلاشى في العتمة، لكن هل يعني ذلك إننا غير موجودين أو غير حقيقيين؟ لا... كل مافي الأمر أن حقيقتنا تغيرت حسب الضوء...
- عدنا إلى سفسطة س وع ياجنرال!.
علقت ناديا باستهجان فضحك إبراهيم ..
- فكري كمايحلو لك لكنها الحقيقة، لنطبقها على طارق فماذا يطلع معنا.؟.
- إنه حقيقة متغيرة!.
قال يوسف فهز إبراهيم رأسه برضى:
- لنأخذ مثلاً قصة فقدان الذاكرة، إنها فرضية مقبولة، لكن ماذا لو لم يكن فاقداً ذاكرته؟.
- تطرقت عواطف إلىهذا الاحتمال لكنها نفته.
قالت ناديا وسارع إبراهيم يعلّق:
- لأنه لم يواتها.. وهذا يعني أن هناك زوايا أخرى للموضوع تقدم احتمالات مغايرة. كان طارق من الرجال الذين لا يمكن أن يكتفوا بامرأة واحدة، ألم تعترف عواطف بلسانها أن الشكوك راودتها في أن هناك امرأة أخرى في حياته؟ لا أعني أنه زير نساء، ولكن مثله مثل كل الرجال، لم يكن يجد غضاضة في إقامة علاقات عابرة مع أية امرأة تلقى هوى في نفسه، ولقد اكتشفت عواطف، بعد ولادة نضال، أن له علاقة مع إحدى صديقاتها الحميمات، واسمها إن لم تخني الذاكرة مهاة.. طاش صواب عواطف، ذهبت إلى بيت مهاة وضربتها. كانت فضيحة مدوية أدت إلى انفصال مهاة عن زوجها، وإن كنتما لا تصدقاني اسألا عواطف أومريم، ومنذئذ بدأت مشاحناتهما ومشاجراتهما التي وصلت إلى درجة إقدام طارق على هجر البيت أكثر من مرة ولفترات طويلة أحياناً.لم أزرهما مرة إلا وشعرت أن سوء التفاهم يتفاقم بينهما ويهدد حياتهما الزوجية بالانهيار، وبالتأكيد كانت ستنهار لولا وفاة طارق... لا أزعم أنني فوق الشبهات، لكن لدي تحليلاً للغز وفاته أو اختفائه، يؤكد الشكوك التي تحدثت عنها عواطف في السهرة.
أخذ نفساً عميقاً ومسح العرق المتصبب في جبينه وقد بدا عليه أنه استعاد سيطرته على نفسه، وكأنه ليس الرجل الذي كان يتخبط قبل قليل في حالة من الهذيان، وأردف بطلاقة لسان وقد برقت عيناه:
- أعتقد أن الحياة قائمة على سلسلة من المصادفات تفرضها ظروف قاهرة خارجة على إرادتنا كلية، وهذه المصادفات ترافق الإنسان من لحظة إطلالته على الدنيا وإلى أن يغادرها، فليس هو الذي يختار والديه، ولا والداه هما اللذان يختارانه، تصورا مثلاً لو أن الاختيار كان من حقنا؟ كنا رفضنا إلا أن نكون أبناء ملوك وعظماء وأثرياء، أليس كذلك؟ ومن أين سيجلب الفقراء ومتوسطو الحال أبناء لهم؟ هاها ها... لهذا فإن حياتنامبنية على الحظ والنصيب والصدفة، ونحن بالتالي مسيّرون لا مخيّرون، وما حدث مع طارق لم يخالف هذه القاعدة، لقد جاء إلى عمان ليس لحضور ندوة سياسية كما قال لعواطف بل لتمضية بضعة أيام مع عشيقته نبيلة الخليل...
غمز بعينية وكركر ضحكة ساخرة:
- لعلكما تتساءلان من أين لي تلك المعلومات؟ لا أظنكما تجهلان أن رجلاً في رتبتي ومركزي يومذاك لا يمكن أن يخفى عليه أدق الأسرار فكيف إذا كانت أسراراً تهمني؟ ونبيلة لم تكن سيدة عادية، فأبوها أحد وجهاء بيت لحم وخالها وزير مفوض في وزارة الخارجية، ومثل تلك المرأة لا يمكن أن تقنع بدور العشيقة السرية التي يكفيها الالتقاء بعشيقها مرة في الأسبوع، كان تريده لنفسها دون أن تشاركها فيه امرأة أخرى حتى إن كانت زوجته، لقد سيطرت عليه إلى درجة نجحت معها في إقناعه بتطليق عواطف كي يتزوجها...
- قصة من بنات خيالك وهي لاتقل شططا عن قصة فقدانه الذاكرة!.
قاطعه يوسف بسخط لكن إبراهيم لم يتوقف:
- وبرأيي فإن قصة العاشقين المتيمين انتهت على الشكل التالي، غادر طارق ونبيلة القدس صباح الإثنين كلٌّ في سيارته حيث كانا متفقين على الالتقاء في أريحا لينزلا سوية إلى عمان، في أريحا سمعا بوقوع الحرب، فتفتق عقلاهما عن مؤامرة موت طارق...وضعا سيارته في منطقة توقعا أن تشهد عمليات عسكرية وقررا أنه مهما تكن نتيجة الحرب فإنه صار بإمكانهما الاختفاء عن الانظار والزواج.
- ماهذا الذي تخرّف به يارجل؟!.
قالت ناديا بانفعال وهي تضرب الطاولة بقبضة يدها:
- أنت مفتر كبير... إنك تظهر طارق في صورة الوغد النذل الذي لم يحمل أية عاطفة لامرأته وأولاده، ولم يجد حرجاً في التخلي عنهم من أجل غانية، بل إنه صاحب عقل إجرامي مرعب رتّب قصة موته ببرودة أعصاب مستغلاً الحرب وانتحل شخصية جديدة ليتزوج عشيقته المزعومة، أتريدنا أن نصدق أنه لم يبال بالحرب ورجع من أريحا ليضع سيارته في الوادي؟ ليس إنساناً طبيعياً ذلك الذي تتحدث عنه يا جنرال بل مخلوق سافل مقيت انساق وراء نزواته وشهواته.
ضغط يوسف بلطف على يد ناديا فصمتت وقد تسارعت أنفاسها، ثم قال ببرود مركزاً نظراته في عيني إبراهيم:
- أنت تكره طارق كرهاً أعمى ياسيدي.,..
كشر إبراهيم وهز إصبعه في وجه يوسف وهو يقول باستهجان:
- وماذا تعرفان عن طارق مناف أنتما؟ أتصدقان حقاً الصورة الجميلة التي رسمتها له عواطف فظهر فيها رجلاً مثالياً شهماً نبيلاً محباً لامرأته وأولاده متفانياً في رعايتهم؟ هذا كله كذب... نعم.هذا كله كذب، فهو ماكان إلا رجلاً مدعياً أوقع عواطف في حبائله طمعاً في ثروتها، نعم.. كرهته لأنه خطف مني حبيبتي ودمر حياتها وحياتي ومازلت اكرهه إلى الآن وسأكرهه حتى الممات!...
تفرست منه ناديا بذهول قبل أن تسأله بتحد:
-أمعقول أن عواطف كانت ساذجة عمياء إلى حد أنها ظلت غافلة عن حقيقته فلم تكتشف عيوبه وسيئاته أبداً بل إنها مقيمة على حبه إلى الآن وهي مستعدة للتضحية بكل شيء ليرجع إليها ؟.
حدق.إليها إبراهيم بفتور:
- الحب أعماها مثلما أعماني. حين بدأت تكتشفه على حقيقته اختفى من حياتها بالموت فكان أن تناست كل عيوبه وسيئاته وماعادت تذكر سوى حبها له، وهذا أمر طبيعي لأن ابن آدم تعلم أن يصفح عن أمواته ويحولهم إلى أشباه آلهة مهما كانوا سيئين.
نفخت ناديا بنفاد صبر وقالت بازدراء:
- كفاك اغتياباً للرجل، أنت تكرهه لأنه فاز بقلب عواطف وليس لأي سبب آخر، لقد خسرت معركتك معه وكان عليك أن تقبل الهزيمة وتنسحب بكرامة لكنك كنت أضعف من أن تفعل ذلك.
أخذت نفساً عميقاً ثم بللت شفتيها بلسانها:
- الحقيقة الثابتة كما تقول هي أن عواطف لم تحبك أبداً، وهذا ما يفسر موقفك منه، خسرت بحياته وخسرت بموته وأظن أنك ستخسر بعودته حياً، أنت غريب يا سيدي، غريب وغامض ومخيف، وأنا واثقة أن عواطف رفضتك لهذه الأسباب كلها.
زمجر إبراهيم وقد بدا عليه الغضب الشديد:
- أنتن النساء عاطفيات إلى درجة تعجزكن عن التعامل بمنطق مع الأمور، لم يكن المهم أن تقبل بي عواطف أو ترفضني، تحبني أو تكرهني، بل أن تعترف بأنني كنت مصيباً وكانت مخطئة، أن ترضخ وتأتي إليّ نادمة مستغفرة ، وهذا مالن تفعله حتى لوكنت آخر رجل في الدنيا.
ورغم ذلك تخليت عن كل النساء، بمن فيهن زوجتك وابنتك، من أجلها؟.
- أردت أن أتخلص منها فلم أقدر. إنها تمتلكني.. أنا مهووس بها، مدمن عليها، إنها تمشي في عروقي مع دمي، مهما ابتعدت وهربت تتمرد عليَّ قدماي، وتعيدانني إليها، أسفي فقط على زوجتي لمياء، كانت الدريئة التي صوبت عليها أحقادي المكدسة ضد عواطف، اخترتها صغيرة وجميلة، لأناكد عواطف وأنتقم منها، وكانت ساذجة وبريئة إلى حد أنها وقعت في هواي فعلاً، ولو كنت إنساناً سوياً لعشقتها ونسيت عواطف كلها، لكنها لم تكن إلا طفلة لم تثر فيّ سوى أحاسيس العطف والارتباك، لم تشعرني أبداً أنها امرأة ولا نجحت في إزاحة عواطف من مخيلتي...
- إنت شخص يثير الشفقة ياسيدي!.
علقت ناديا بجفاء... عبس ثم لوح بيده بازدراء!
- معك حق.. أنا أثير الشفقة فعلاً... أتعرفين لماذا؟ لأنني الابن الشرعي لكل ماشهدته في حياتي من هزائم وخيبات. في الماضي البعيد، زمن البطولات والأمجاد والمثل العليا، كان المهزوم في حبه أو حربه ينتحر أو يتوارى عن الانظار.لكن كل شيء تغير منذ أيام هولاكو، الهزيمة تفقس الهزيمة كمايفقس القمل الصيبان.
صمت واشرأب برأسه يتابع مريم التي عبرت البوابة واتجهت إلى الممر العشبي. قطب وغمغم بضيق:
- جاءت مريم، يبدو أن قمتهم العائلية انتهت فأرسلوها تستدعينا..
توقفت مريم عند السياج وشملتهم بنظرة مرتابة قبل أن تقول بجفاء:
- عواطف تسأل عنك ياجنرال.
حدجها بشزر ثم أشاح بيده مشيراً إليها بالانصراف:
- بعد قليل...
قطبت بامتعاض وهزت كتفيها بازدراء قبل أن تستدير وتبتعد متمهلة، حدق يوسف إلى إبراهيم يتفحص أساريره التي نمت عن البغض ثم سأله بحذر:
- الود معدوم بينكما يا سيدي؟.
- إنها إنسانة مجبولة بالخبث واللؤم والحقارة، جاءت من حيث لا يعرف أحد وصارت الكل بالكل في هذا البيت، إن تأثيرها كبير ومدمر على عواطف..
- مزاجك غريب الليلة، أرى أنك في حالة لا تساعدك على حب أحد!.
- لقد وقفت لي دائماً بالمرصاد وكأنني قتلت لها قتيلاً... كنا أطفالاً ولم تكن تسمح لي باللعب مع عواطف إلا تحت رقابتها الصارمة، كانت تعمل دائماً على إبعادنا عن بعضنا ولا تفوت فرصة لزجري وتأنيبي على ماأقول وأفعل، لكن كرهي الحقيقي لها بدأ يوم صفعتني بسبب قبلة طبعتها على خد عواطف، كنا نلعب ببراءة لعبة العروس والعريس وعاقبتني وكأنني اقترفت جريمة نكراء.
نفخ بقوة:
- هي وطارق من طينة واحدة، لهذا وقفت معه ضدي، كانت تعرف أنني إن تزوجت عواطف فلن يبقى لها مكان عندنا، ولا أشك في أنها لعبت دوراً كبيراً في تشجيع عواطف على الزواج به، ولولا أن الأستاذ رياض استخدمها لكانت حياة عواطف وحياتي سارتا في طريق مختلف تماماً... لكن الحظ الأسود وضعها في طريقنا ليحصل ماحصل.
نظر إلى ساعته وضرب جانبي الكرسي براحتيه قبل أن يقول متثائباً:
- الساعة الثانية والربع! ... عليّ أن أهيء نفسي لتلك المقابلة الهامة... لن أستعيد توازني إلا بحمام ساخن... ربما نتابع دردشتنا المسلية في وقت لاحق، فكرا جيداً في س وع.
نهض بصعوبة واهتز قليلاً قبل أن يتوازن ويبتعد بخطوات عسكرية مشدود الجذع مرفوع الرأس، تابعاه إلى أن ابتلعته العتمة ثم تبادلا نظرات مفعمة بالحيرة.











- 8 -
لم تتخلص عطاف من يوسف إلا بصعوبة وقد بلغ بها الغيظ منتهاه. لم تفهم كيف أمكنه أن يفكر بالجنس في مثل هذه الظروف. وجدته ينتظرها ماإن خرجت من لدن مريم ليطلب منها موافاته إلى غرفته. حسبته يريد التحدث معها حول قضية أبيها، لكنها فوجئت به يغلق الباب ويحتويها بين ذراعيه بشبق ليمطرها بقبلات محمومة دلت على توتره الجسدي. صدته بلطف قائلة إن الزمان والمكان غير مناسبين وهي في حالة لا تسمح لها حتى بالتفكير بالجنس فكيف بممارسته وهما معرضان للاكتشاف في أية لحظة! لكن الرغبة كانت مسيطرة عليه إلى حد أنه أوشك أن يغتصبها لولا مقاومتها العنيدة والشرسة، ونجحت بعد لأي في التملص من قبضته ومغادرة الغرفة قبل إثارة انتباه أحد.
تسللت مباشرة إلى الملحق الغربي راغبة في الاختلاء بنفسها، أغلقت الباب وراءها ولبدت بهدوء إلى أن تأكدت أنها أصبحت بمأمن منه، أضاءت من ثم المصباح الغازي فشع ضوءه كشمس صغيرة عمشت لها عيناها الزائغتان فأغمضتهما واستندت بظهرها إلى الحائط شاعرة بإعياء شديد.
سكنت عدة لحظات وقد سيطر عليها إحساس حاد بالخواء أوشكت معه أن تتهاوى لكنها سارعت تتماسك وانتصبت شادة جذعها ثم فتحت عينيها ببطء مرسلة نظرات كسيحة في القاعة الساكنة الموحشة فاحت فيها رائحة رطوبة عفنة نتيجة إغلاقها المحكم منذ منتصف الخريف.. غطت الملاءات البيضاء معظم الأثاث باستثناء الشوفينيير الضخم بمرآته المستطيلة التي احتلت معظم الجدار وعكست الصالون بكامله تقريباً فبدا أشبه بسرداب ضيق متطاول مثير للرهبة بالأشكال الغريبة التي أخذتها قطع الأثاث ..ظلعت إلى المرآة بتثاقل محاذرة الارتطام بالأثاث ووقفت على مبعدة خطوتين منها تحدق في ظلال صورتها الشاحبة الساكنة وراء طبقة الغبار الكثيفة العالقة على صفحة المرآة.
زمّت شفتيها بغيظ ماإن توضحت صورتها وقد زادها السهر والقلق كآبة وتجهماً... لقد أدركت، منذ بدأت تستوعب حقائق الحياة، وبكثير جداً من المرارة، أنها ليست ولن تكون جميلة مهما تحايلت وتجمّلت... ولعلهاكانت تعودت على هذا الواقع وتقبلته برضى واستسلام لولا انسياقها دائماً إلى مقارنة نفسها مع أمها التي تضج بالفتنة والنضارة رغم تجاوزها منتصف العمر، ومع أخويها اللذين يتمتعان بوسامة تحسدهما عليها النساء... تخال أحياناً أنها الشاة السوداء في قطيع من الخراف البيضاء، وكأنها ليست ابنة أمها وأخت أخويها... كانت ترى العيون، كيفما التفتت، تسترق إليها النظرات المستغربة دالة على الحيرة والإشفاق. وسمعت بأُذنها ذات مرة إحدى صديقات سميرة تسألها إن كانت هذه الطفلة ابنة عواطف حقاً، وأدركت منذ ذلك الحين أن ثمة خطأ فيها، ولعل هذا ماخلق فيها إحساساً بالغربة وكأنها موجودة في وسط لا تنتمي إليه، فانطوت على نفسها لتعيش في عالمها الخاص تبنيه حكايات الجن والعفاريت والفوارس تبرع مريم في قصّها مانحة إياها عزاء كانت تفتقده في العالم الواقعي. ولا تعرف إلام كانت ستظل على هذه الحال لولا اقتحام يوسف كيانها وهي تخطو في شعاب سنوات مراهقتها القلقة المعذبة. كان اقتحاماً صاعقاً فجر فيها دفعة واحدة تلك الأحاسيس الصاخبة طال انتظارها لها، وفي مقدمتها إحساسها بأنوثتها. هَوتهُ من أول مرة سمعت فيها غسان يتحدث عنه بحماسة مضفياً عليه هالة شبه أسطورية بوّأته مرتبة الفارس الذي حلمت به بشوق وشبق لكنها لم تجرؤ على تأميل نفسها بأن يتجسد لها في صورة رجل حقيقي مرئي وملموس. عشقته بجماح عواطفها البكر وغرائزها المتفتحة رغم إدراكها استحالة ارتباط فارس مجلّ مثله في الحرب والحب بفتاة خائبة مثلها في الحياة والجمال، وقد يكون ذلك ماوّلد فيها الرغبة في التعبير عن ذاتها فوجدتها في الأدب، وكانت أولى قصصها من وحي يوسف، الفارس الفدائي المسحور الآتي إليها من عالم السحر ليحملها إلى مجاهل عوالم سحرية تقطف فيها أحلاماً كما تقطف الياسمين من الشجيرات المتعانقة على أسيجة الحدائق..
عاشت عامين كاملين أسيرة طيفه والحلم المستحيل إلى أن هبط فجأة من ملكوته إلى أرضها المقفرة يحمل إليها الخلاص والأمل. لم يختلف في شيء عن صورته المقيمة في ذهنها إقامة الإله في محرابه إلا في الحزن المقيم في عينيه أزلياً متستراً وراء لامبالاة مستهترة لفارس ترجل حاملاً في ملامحه أسفار آلاف السنين من حروب خاضها واقفاً وقفة عزّ جسدها لها هذا الفلسطيني التائه المتعصب لفلسطينيته وانطون سعادة. تجنبته خائفة الخيبة وأن تحيلها ناره رماداً، لكنه سعى إليها ينتزعها من قوقعتها ملقياً إياها في تلك التجربة الموعودة من الأزل وإلى الأبد. لم يمهد بنظرة أو كلمة أو إشارة، قال لها بعد أن قرأ قصصها نحن متشابهان في عذاباتنا ياعطاف فأحست أنه الوحيد دون الناس كلهم الذي فهمها فأنالته نفسها. حلمت دائماً بأن تمتلكه وفعلت ذلك في كل قصصها وخواطرها لكنها لم تتوقع أن تكون على هذا القدر من الجرأة والوقاحة لتبادر هي إلى امتلاكه.
أنالته نفسها دون حساب أوخوف أو شرط وكأنها تريد انتزاع الحزن من عينيه والأسى من قلبها وبين ذراعيه القويتين الدافئتين عرفت معنى أن تكون امرأة وقررت أن يكون لها.
انتبهت إلى وقع أقدام تعبر تحت الشباك تلتها نحنحة عواطف فأزاحت الغطاء عن "الفوتوي" واستلقت عليه باسترخاء وهي تدقق في الشوفينيير. كان نسخة طبق الأصل عن الذي قيل إن جدها الثالث لأمها صنعه بيديه وتوارثته العائلة جيلاً بعد جيل قبل أن يضطرهم الإبعاد إلى التخلي عنه. خشيت عواطف أن يتعرض للسرقة أو التلف فأودعته أمانة في دير الراهبات. أثناء إقامتها في فرنسا راسلت الدير فأرسل لها صوراً له استعانت بها في صنع تلك النسخة ولأجلها شيدت الملحق الغربي ليصبح أشبه بمتحف صغير يضم مجموعة من التحف الفنية واللوحات الشهيرة، الحقيقية أوالمزيفة بإتقان، التي أهداها إياها أكرم أو اشترتها بنفسها وذلك إلى جانب عدة صور قديمة بالأسود والأبيض لوالدها وجدها.
احتلت صورة طارق المبروظة في إطار مزخرفه من الأبنوس الأسود زاوية الجدار اليمنى المتقاطعة مع الشوفنيير بدا فيها رجلاً ساحراً بطلعته البهية وعينيه المتألقتين وابتسامته العذبة وشاربه الخفيف المروّس. كان الشبه واضحاً بينه وبين نضال باستثناء فروقات طفيفة في استدارة العينين وبروز الأنف وتسريحة الشعر. كانت تلك أوضح صور والدها، فصوره الأخرى القليلة التي خرجت معهم لم تكن كافية لإعطاء فكرة واضحة عن ملامحه.. بعد زواج أمها بأكرم عثر غسان على الصورة وكلف أحد الرسامين برسم نموذج مكبر لهاوطبع منهاعدة نسخ أطرها وعلقها في كل غرف البيت مماأثار دهشتها كماأثار استغراب مريم التي سألته لماذا كل هذه الصور فزعق فيها بحدة طالباً منها ألا تتدخل فيما لا يعنيها. حين قالت له إن صورة واحدة تكفي وإن مافعله قد يكون غير مناسب وستحمله أمه على محمل التجريح بها وبأكرم ضحك بسخرية قائلاً إن أمه هي من بدأت التجريح.
كل ماتذكره في تلك الفترة المضطربة من حياتها أنها عاشت في دوامة من الإثارة والاضطراب خلال الأيام القليلة التي مرت بين إعلان النبأ والزواج. أذهلتها الهدايا الأسطورية التي غمرها بها هذا الشيخ العملاق ذو الوجه السمح والنظرة الدافئة والذي قيل لها إنه سيصير زوجاً لأمها واباً لها فانتابها نحوه إحساس بانجذاب خجول لاسيما وهو يتودد إليها بحرارة ويرفعها بين ذراعيه بخفة ليقذفها في الهواء، ويتلقفها من ثم بيدين ثابتتين قويتين تشعرانها بالغبطة والاطمئنان. سعدت لقول مريم إن زواج أمها هو لخيرهم جميعاً لأنه سيوفر لهم الحياة السعيدة الهانئة ويقيهم الحاجة والخوف من المجهول. والخوف من المجهول رافقها منذ ذلك اليوم الكئيب الذي انتزعتها فيه تلك القوة الشريرة من سريرها وبيتها وألعابهاوحارتها لترميها في وسط غريب غير مألوف أنذرتها بقسوته أحزان أمها ودموع مريم وهلع أخويها. راقبت مرتاعة انقلاب حياتهم رأساً على عقب حتى خيل إليها أن أمهاماعادت أمها ومريم ماعادت مريم وغسان ونضال ماعادا غسان ونضال. كان أكثر ما أقلقها التغيير الكبير الذي طرأ على أمها وحولها إلى امرأة عصبية متوترة دائمة الشرود لا تكف عن الصراخ والسباب لأي سبب. حسبت لوهلة أن وجود العم إبراهيم الذي التقاهم بحرارة وأواهم في داره. سيعوضهم عما فقدوه، لكن لم يفتها أن أمها لم تكن سعيدة أو مرتاحة. سمعتها أكثر من مرة تتكلم عنه مع مريم بضيق وتبرم. لهذا رفضت بعناد أن تدعوه بابا رغم إلحاحه عليها ورغم اللطف الكبير الذي كان يعاملها به، ورغم توقها الكبير إلى التفوه بتلك الكلمة... وحين ظهر أكرم في حياتهم حسبت أن الوضع سيختلف، وسيصبح بإمكانها مناداته بابا، لكن أحداً لم يطلب منها ذلك، لا أمهاولا مريم ولا هو، وكان عليها أن تنتظر عدة أيام بعد سفرهما لتدرك بغيظ أنها فقدت أمها ولم تربح أي أب.
تراءى لها، ولا تعرف حتى الآن إن كانت مصيبة أم مخطئة، أن التعاسة حاقت بها بموت والدها، ولعل هذا ماأنمى فيها الأحساس بحاجتها الماسة إلى الأب، ولو بالتبني، متوقعة أن تجد لديه طمأنينة افتقدتها غالباً، وليملأ نقصاً رافقها دائماً، وقد يكون هذا مادفعها دفعاً إلى يوسف، فلديه فتشت إلى جانب الحبيب عن الأب، واعتقدت أنها وجدته في رجولته الهادئة المتسامحة وشعره الفضي يضفي عليه سيماء كهولة سابقة لأوانها.وقد أدرك هو تلك الرغبة الدفينة على ما يبدو منذ وقعتهما الأولى، تأملها بعمق ثم نفخ بقوة :
- كان عليّ أن أخّمن أنك مازلتِ عذراء يافتاتي الصغيرة. لو عرفت لما تورطت معك. لقد ألزمتني بواجب لا أعتقد أنني مستعد له، ليست القضية مسألة ضمير، أو أخلاق. من الصعب أن أدعي أنني أؤمن بأي شيء بعد بيروت، ولوكنت أية فتاة أخرى لما اكترثت، كنت لفظتك دون أي شعور بالذنب، مثلما أنا ملفوظ بطريقة من الطرق، ولكنك مجرد طفلة خرقاء وأنا عجوز أحمق.
استدارت على الباب يفتح بعنف قبل أن تظهر عواطف:
- ماذا تفعلين هنا؟ منذ ربع ساعة وأنا أبحث عنك، كيف تتحملين هذه الرائحة؟
أجالت نظرة سريعة فيماحولها ثم حركت الباب بعصبية عدة مرات تهوّي الغرفة قبل أن تتجه نحو عطاف التي نهضت متثاقلة وتبادلت وأمها قبلة سريعة وهي تتثاءب:
- أحببت الاختلاء بنفسي قليلاً، وأحسب أنني غفوت قليلاً.
- عملت عين العقل..
غمغمت عواطف وهي تستدير إلى المرآة وتتشاغل بترتيب شعرها بيدها:
- لقد تعبت الليلة، كلنا تعبنا.
لوحت عطاف بيدها باستهتار وهي تبادل أمها النظرات عبر المرآة.
- لابأس علينا...الهيئة أننا لن نعرف الراحة الليلة.
- أخشى ألا نعرفها أبداً..
غمغمت عواطف وهي تلتفت لتتبادل وعطاف نظرات هادئة، هزت هذه الأخيرة رأسها ببطء ثم ابتسمت قائلة برفق:
- دردشنا قليلاً أنا ومريم، ذكرتني بقصص وأحداث قديمة جداً.
فتحت عواطف عينيها بتساؤل فأوضحت عطاف:
- عن البابا...مرضي... المضايقات التي تعرضت لها على يد الضابط الإسرائيلي...
عضت عواطف شفتها لكن عطاف سارعت تجلس وتشد أمها تدعوها للجلوس إلى جانبها:
- لم أعرف أنني سببت لك كل هذا العذاب، أنا آسفة يا أمي!.
نفخت عواطف بهدوء وجلست وهي تقول بحرارة:
- على العكس كنت عزائي في تلك الأيام الصعبة.
أمسكت يدها واعتصرتها بحرارة فغمغمت عطاف بصوت مفعم بالتأثر:
- رغم ذلك عانيت كثيراً، لو كنت محلك لانهرت أولمتّ بالتأكيد.
- لا تبالغي، كل الناس معرضون لماتعرضت له، وكثيرون عانوا وتعذبوا أكثر مني، قد تحسبين أنك أضعف من مواجهة المحنة، لكنك ما إن تصيري وجهاً لوجه معها حتى تكتشفين أنك أقوى بكثير مما تحسبين وأن لاخيار أمامك سوى مواجهتها وإلا وقعت تحت أرجلها وانتهيت. لست أقوى من غيري ولا غيري أقوى مني، كل مافي الأمر أنني بذلت جهدي وعملت مااعتقدت أنه الصواب.
- والآن ؟.
نظرت عواطف إلى ابنتها باستغراب فأوضحت عطاف بحنان:
- تعملين الصواب؟.
حدجتها عواطف بإمعان ثم هزت رأسها ببطء عدة مرات بالإيجاب:
-إنه طارق، طارق مناف بلحمه ودمه، زوجي وأبوك، ولو لم أكن متأكدة مئة بالمئة لما...
سكتت فجأة وعادت تحدق إلى عطاف قبل أن تقطب قائلة بنزق:
- حتى أنت ياعطاف؟ إنكم تكادون تجعلونني أشك في نفسي، لم أتوقع أن تكونوا جميعاً على هذه الدرجة من الشكوك والعقوق... نعم، العقوق...أنتم عاقون!.
رنت إليها عطاف بحيرة وقلق ثم أغضت قائلة بضيق:
- لا أرى في الأمر أي عقوق يا أمي، تعرفين تماماً أن المسألة ليست سهلة ومن حقنا أن نشكلك فيها كما نشكك أنت في البداية، توما لم يؤمن إلا حين رأى المسيح بعينيه! فاصبري علينا قليلاً!.
- كيف أصبر وقد خاب أملي فيكم كلكم؟ حتى الآن لم ألمس منكم أي تعاطف أو تفهم... إنكم لا تصدقونني... وحتى مسألة الشبة التام بين هذا الرجل وأبيكم لم تثر لدى أي واحد منكم الفضول لرؤيته... أخشى أن أكون أنجبت مخلوقات دون عواطف!.
زمت عطاف شفتيها مبدية الامتعاض لكنها اكتفت بالقول بهدوء:
- لا أريد الدفاع عن نفسي بالزعم أنني لست كالآخرين... أودّ من كل قلبي أن يكون الرجل أبي وأن يرجع إلينا، لقد تسنى لغسان ونضال أن يعرفا البابا ولو لفترة قصيرة، أماأنا فلم يتسنّ لي أن أنده باسم بابا حتى في أحلامي. إنه لمما.يفرحني أن أتفاجأ وأنا في العشرين من عمري ومقدمة على الزواج أن لي أباً، لكن مهمااشتط بي الخيال فإنني أجد نفسي عاجزة عن... عن...
تعذر عليها إيجاد الكلمة المناسبة فتشاغلت بنكش الغطاء بأظافرها. همت عواطف تتكلم لكنها عدلت عن رأيها واكتفت بالإطراق صامتة. بعد هنيهة طرفت عطاف نحوها... ودت من كل قلبها أن تقول لها إنها تصدقها وهي مقتنعة بأن الرجل أبوها، لكن لسانها لم يطاوعها، فاكتفت بأن مدت يدها تضغط على يد أمها برفق شاعرة أنها لم تكن قريبة منها كماهي الآن. نعم كانت أمها منشغلة عنها دائماً بأمر ما... الإبعاد والبحث عن عمل والزواج بأكرم والشركة وسفر غسان إلى بيروت وقصة نضال وناديا وإبراهيم والحفلات وصديقاتها. أما هي فكانت من حصة مريم. حتى عندما تفاجأت ذات يوم مرتعبة بذلك الدم الحار ينساب بين ساقيها يطوي صفحة الطفولة وينقلها إلى طور الأنوثة، خجلت من حمل الخبر إلى أمها، رغم تشوقّها لذلك، واكتفت بإبلاغ مريم التي زغردت وسارعت تخبر عواطف. الحدثان الوحيدان اللذان انتهكا تلك القاعدة كانا في اشتغالها بالأدب وخطبتها ليوسف، لكنهما لم يعكرا حياتهما طويلاً إذ سرعان ما اندمجا في مسارها الرتيب. حين بدأت قصصها تجد طريقها إلى النشر راحت أمها، وقد ملأها الأمر فخراً، توليها اهتماماً متزايداً تمثل في جلسات سمر مسائية تقرأ فيها القصص وتبدي حولها آراء قيمة فاجأت عطاف إذا نمت عن ذوق أدبي رفيع لم تتصور أن أمها تمتلكه. عندما أبدت دهشتها حيال هذا الأمر ضحكت عواطف قبل أن تقول بنزق:
- أوتظنينني لا أفهم إلا في الأكل واللبس وإدارة الشركة؟ لقد شغلتني الدنيا عن نفسي فتخليت مرغمة عن كثير من أحلامي ونزواتي. فزت مرة بالجائزة الأولى في مسابقة الشعر المدرسي، وحين قرأ موجه اللغة العربية دفتر أشعاري قال لجدك إنني إن واظبت قد أصبح شيطانة ذات شأن في جهنم الشعر، وكان هذا رأي أبيك أيضاً. شجعني كثيراً على الاستمرار لكن الحياة جرفتني في سيولها، الزواج والحمل والولادة، ثم جاء الاحتلال و... وأحن أحياناً إلى نظم الشعر وقد يخطر لي مطلع قصيدة، لكن سرعان ما يأتي مايشغلني عنها. أخشى أن يكون شيطاني قدتحول إلى ملاك! لعلي بعد أن أتقاعد أجد وقتاً لنكش إمكانياتي من جديد، هذا إن كان مايزال فيها رمق. ومما يعزيني أن تفلح ابنتي فيما أخفقت فيه..
- أنت لست معي ياعطاف!...
هزت هذه رأسها مجفلة وسارعت تقول برقة:
- آسفة ياأمي، لقد سرحت قليلاً...
- عليك أن ترتاحي... الإرهاق واضح عليك.
- أفضل أن أبقى معك..
ابتسمت عواطف بامتنان واستندت برأسها إلى كتف عطاف:
- هذا ألطف ماسمعته الليلة، شكراً لك... أتعرفين بماذا أرغب؟ أن نذهب أنا وأنتِ في رحلة طويلة وبعيدة... أن نكون وحدنا فقط...
- وتتخلين عن طارقك؟.
تساءلت عطاف بصوت أقرب إلى الهمس فسارعت عواطف ترد وهي تعدل جلستها:
- لا .. أبداً ‎.. لن أتخلى عنه.
- موقفك يثير إعجابي يا أمي... وأرجو من كل قلبي ألا تكوني مخطئة!.
نظرت إليها عواطف بإمعان قبل أن تجزم:
- لست مخطئة...
- ولكن!.. أفكر أن هذا الرجل يصلح ليكون شخصية روائية، لكني أجد صعوبة في إضفاء المسحة الواقعية عليه، فقدانه الذاكرة على سبيل المثال... قرأت بعض الكتب عن النفس الإنسانية وحالاتها، لكن حالة هذا الرجل تبدو غريبة من نوعها.
نظرت عواطف بهدوء إلى عطاف ، ثم قالت:
- تحدثت مع الدكتور جلال في هذا الموضوع، قال إن النفس البشرية أشبه بغابة عذارء لم يتم اكتشاف سوى جزء بسيط منها لهذا فإن هناك مفاجآت ومعلومات جديدة تطلع بها علينا كل يوم فتضيف إلى معارفنا أو تنسفها من أساسها، وفقدان الذاكرة مرض متعدد الأشكال يبدأ من فقدان جزئي ومؤقت، كأن ينسى المريض بعض الأحداث والوقائع لفترة محددة، وهذا قابل للشفاء بسهولة، وينتهي بالفقدان الكامل، والدائم للذاكرة، وهذه من الحالات النادرة جداً والشفاء فيها صعب..
- وأية حالة تنطبق علىهذا الرجل؟.
سألتها عطاف... تشاغلت عواطف بنفض الغبار عن مسند الكنبة:
- قال إن الذاكرة هي الهوية العقلية التي تعطي للمخلوق البشري صفته الإنسانية.إنها تتشكل معه منذ بدايته الجنينية في رحم أمه، وتبدأ عملها ما إن يخرج إلى النور لتصوغ وعيه بشكل تدريجي، إنها أشبه بالكتاب الذي يكتب سطراً سطراً إلى أن يموت صاحبه. وفقدان الإنسان لذاكرته يعني أن كل ماكتب في هذا الكتاب.امّحى وهذا لا يمكن أن يحدث دون تأثيرات هائلة على كيانه.
حدقت إليها عطاف بدهشة، ثم قالت بغيظ:
- أنت تحيرينني يا أمي، إن هذا الكلام يعني أن الرجل ليس فاقد الذاكرة وإلا لكانت ظهرت عليه هذه التأثيرات. أتكون الجنون كما قال يوسف؟.
- دعيني أكمل...
أخذت عواطف عدة أنفاس متلاحقة وأردفت:
-كانت تلك المعطيات على درجة كبيرة من القوة والإقناع فوجدت ألا سبيل أمامي إلا التخلي عن أوهامي برمتها واعتبار الرجل مجرد شبيه لكني لم أستطع.
عادت تنظر إلى عطاف بشرود وكأنها تتساءل إن كان عليها أن تمضي إلى نهاية الشوط في بوحها، أخذت نفساً عميقاً واستدركت بانفعال:
- إنه طارق رغم كل النظريات والمسلمات العلمية والحقائق المادية والقوانين الثابتة. إنه طارق وليس أي شخص أخر لا أعرف كيف ولماذا.. ولكنه هو...
أنهت كلامها بلهجة حازمة وكأنها تريد وضع حد لشكوك ابنتها. توهج وجهها وتألقت عيناها نتيجة الجهد الذي بذلته فيما راح صدرها يخفق بتسارع حتى أوشكت عطاف تسمع وجيب قلبها.. لم تستطع إلا أن تشعر بالتعاطف مع أمها فتركت لتعابير وجهها أن تشي بتقديرها لها وهي تتأمل في ملامحها المشرئبة الممتلئة بالعنفوان والإصرار. انتابتها رغبة طائشة في أن تبادر إلى احتضانها ممارسة نزوة طفولية لم ترتو، لكن الانفعال المسيطر على أمها كبحها فاكتفت بأن غمغمت بلطف:
- إنني أقدر ثقتك بنفسك يا أمي لكن المهم أن يقنع الآخرون أنك على صواب، وأن يكون هذا الرجل أبي فعلاً، أنت بنفسك اعترفت أن الشك غلبك فلجأت إلى حدسك وإحساسك، وربما حاستك السادسة، لكن هذا لا يكفي دون دليل مادي ملموس.
أطرقت عواطف مقطبة الجبين وقد بدا عليها التفكير العميق. شعرت عطاف أن أمها تخفي ماتتحرج عن البوح به، أمسكتها من معصمها برفق فرفعت رأسها وتبادلت مع ابنتها نظرة عميقة، ثم تنحنحت وتضاحكت بقلق قبل أن تقول بصوت متلجلج:
- لدي الدليل.. هل هناك أقوى من الفراش؟.
انفرجت شفتا عطاف عن ابتسامة دون معنى إذ لم تستوعب معنى ماسمعت، رددت الجملة بصوت خافت ثم شهقت بفزع ونظرت بذهول إلى أمها التي سارعت تقول متجنبة نظراتها:
- أشعر أننا قصرنا في حق بعضنا فيما مضى من حياتنا. لم تسنح لنا الفرصة لنكون كما يجب لأم وابنتها أن تكونا، وأنا الملامة على ما أظن فقد اتكلت على مريم أكثر ممايجب... لا أستطيع نكران فضلها الكبير علينا، لكن هذا لا يمنعني من أن أحنق عليها كلما فكرت أن وجودها علّمنا أن نستغني عن بعضنا بطريقة من الطرق، لا ذنب لها في ذلك فأنا...
تلكأت هنيهة ثم أردفت باستسلام:
- لقد أخذت كثيراً من صلاحياتي واستولت على كثير من حبكم، وربما أحببتموها أكثر مما أحببتموني، لكن هذا لاينفي أنك تظلين ابنتي وأظل أمك، وأنت الشخص الوحيد في العالم الذي أستطيع أن أبوح له بمكنوناتي وأسراري بطمأنينة ودون خوف، حتى مريم التي تحبني إلى حد التضحية بنفسها من أجلي أتحرج من البوح لها بكل أسراري. ثمة سقف لقيمها الأخلاقية ومعتقداتها الدينية يمنعها من تفهم موقفي وإيجاد الأعذار لسلوكي رغم يقينها أن الرجل هوطارق.
بلعت ريقها بصعوبة ورفعت رأسها تحدق في عطاف بثبات قائلة دون أن يرف لها جفن:
- إنني واثقة بنضجك وحكمتك، وأنا أكلمك امرأة لامرأة!.
لم تستطع عطاف الاستمرار في هدوئها بعد أن انجلى لها الموقف... توترت أعصابها وشعرت بوجهها يلتهب والرعشة تدب في أوصالها فوقفت وهي تدمدم بخواء:
- أنت ... أنت...
أغمضت عينها وهزت رأسها بقوة وكأنها تطرد الصورة التي ارتسمت أمامها، رمقتها عواطف بقلق قبل أن تهمس
- تذكري أنني أكلمك امرأة لا مرأة..
كزّت عواطف على أسنانها واستندت إلى مسند الكنبة بيديها وهي تقول بصوت أقرب إلى الزعيق:
- ولكني ابنتك قبل أي شيء آخر، إن مافعلته .... لا... الرجفة تصيبني وأنا... قد يكون أي رجل ... كيف واتتك الجرأة؟ يا ألله!..
-اهدئي وكفاك صراخاً...
أمرتها عواطف بصوت ناهر وأرغمتها على الجلوس قبل أن تستدرك برجاء:
- توقعت ، أو أملت أن أجد لديك التفهم والتعاطف... كان عليّ أن أخوض غمار تلك التجربة لقطع دابر كل شك...
لوحت عطاف بيديها وقالت بقسوة:
- لا أعرف ماذا أقول يا أمي.. أحس وكأنني واقفة على رأسي... أشعر بالتعاطف معك وأرغب صادقة في تفهم موقفك لكنه ... لكنك... أواه ماذا فعلت يا أمي.
بدت الخيبة على عواطف وقالت بألم:
- لعلي أنا المخطئة وأنت، أنتم كلكم، على صواب،... ماكان عليَّ أن آمل أو أتوقع أي شيء منكم. أحسب أنك تشعرين بالغضب وحتى بالعار لسلوك أمك الكهلة التي تعيش أواخر سنوات الأمل... فأنا على أبواب سن اليأس كما تعلمين بل سأصير جدة بعد أشهر فناديا حامل كما أبلغني نضال أمس. لابد أنك تتساءلين إن كنت فقدت رشدي لأتصرف بهذا الشكل الطائش الأرعن دون تبصر بالعواقب. أنسيت من أنا ؟ عواطف بشارة بنت الأستاذ رياض المحامي سليلة الحسب والنسب والسيدة المرموقة الناجحة التي تتربع على عرش شركة تجارية مهمة..عواطف التي يستجدي رضاها الرجال وتلاحقها نظرات الإعجاب من المراهقين والكهول على حد سواء... أيعقل أن أفقد صوابي وأضيّع كل شيء مقابل نزوة حمقاء لا أعرف إلى أين ستقودني؟.
أخذت نفساً عميقاً ثم قالت بإصرار:
- لكني مازلت عواطف، وهي ليست نزوة، إنه طارق ... زوجي ورجلي...
- لم يكن عليك أن تنامي معه لتتأكدي من ذلك!..
زمجرت عطاف بصوت متشنج لكن عواطف لم تبد اكتراثاً وهي تقول :
- كان هذا السهم الأخير في جعبتي، قال الدكتور جلال مالديه وتركني أتخبط في وساوسي وحيرتي. فكرت كثيراً في الأمر... كثيراً جداً. لا أجد الكلمات المناسبة للتعبير عن حالتي آنذاك. سألت نفسي ماهو الحب... لماذا أحببت طارق لا إبراهيم، ولماذا تحب امرأة ما رجلاً ما دون غيره؟ هل يوجد تعريف حسي للحب وهل له شكل مجسّم وعناصر مادية رغم أنه غيرمرئي وغيرملموس؟ ‍وكنت مرغمة على البحث عن جواب...
قاطعتها عواطف تسألها بتهكم:
- وأظن أنك عثرت على الجواب!..
- نعم... وإلا لماعرفتم شيئاً ولا كتفيت بالذهاب إلى الخوري حنّا أعترف وأطلب الغفران.!
***
أذهلني هاتفه الليلي التاسعة تماماً وكنت أدقق بعض تقاريرالشركة جمدت في مكاني مشلولة التفكير لحظات طويلة. قبل أن أستوعب الأمر. كان صوته هادئاً عميقاً وهو يسألني إن كان بإمكانه دعوتي إلى مشاركته فنجان قهوة في البرج. حين سألته بارتباك كيف حصل على رقم هاتفي الخاص اكتفى بالضحك بطريقة مليئة بالإيحاءات.
همهمت بعد فترة صمت بالموافقة واتفقنا على اللقاء قرب وزارة الخارجية.
أول ماتبادر إلى ذهني أنه استعاد ذاكرته وأراد أن يلتقيني على انفرد ليفاجئني بذلك. لكن صوته لم يوح بأي شيء من هذا القبيل، وإنما أوحى بأنه رجل يبحث عن علاقة حب عابرة زيّنها له اهتمامي المثير للريبة به.لكن ذلك لم يردعني. قلت لمريم إنني تلقيت مخابرة عاجلة، وأنا مضطرة للسفر فوراً إلى الزرقا لعمل وقد أنام هناك. خرجت قبل أن أعطي لنفسي الفرصة للتفكير بأي شيء أو التحسب لأي أمر... لا أستطيع الادعاء بأن ماحدث فاجأني أو آلمني أو أشعرني بالأسف..
بدا لي الأمر وكأنه يجري مع امرأة أخرى وأنني لست سوى متفرجة حيادية على مسرحية لا علاقة لي بها... وتذكرت رافايل!.
قبيل العاشرة بقليل وصل. كان يرتدي بذلة سوداء وطاقية فرو روسية لا تتلاءم مع دفء الطقس. صعد إلى السيارة بإلفة صديق حميم ذي دالة وهو يلقي تحية مبتسرة قبل أن يقترح عليّ استبدال البرج بمشرب أقل ازدحاماً. أخذني إلى سناك يوناني متطرف قليل الرواد. جلسنا في مقصورة منعزلة، ودردشنا في أحاديث تافهة قبل أن يفاجئني بالتساؤل عن سبب اهتمامي به وملاحقتي له ليعمل في الشركة. ارتبكت وأظن أن أجوبتي لم تكن مقنعة لكنه تظاهر بالاقتناع وقال لي إن الشيء الوحيد الذي يهمه هو أنه برفقة امرأة فاتنة. تناولنا العشاء مع زجاجة نبيذ معتّق وساعدنا الجو على الائتلاف بسرعة. حين اقترح عليّ أن نكمل السهرة في فندق القدس قلت له إنني لا أحب الأماكن المزدحمة، حدق إليّ بإمعان ثم طلب مني أن أتبعه. تبعته مقررة ألا آبه لشيء، لكني لم أتصور أن ننتهي في غرفة حقيرة رطبة في أحد فنادق وسط عمان الرخيصة على سرير حديدي ذي فرشة أسفنجية مهترئة وأغطية تحمل إلي وساختها آثار من سبقنا إلى ممارسة الجنس. تصرفت معه كزوجة تلبي رغبات زوجها، لكن الهوان اجتاحني إذا فكرت أنه يعاملني بمستوى أحدى" فتيات الهوى اللواتي يبدو أنه اعتاد إحضارهن إلى ذلك الفندق المشبوه ليقضي معهن وطره. فقط وهو يطلب مني النزول من السيارة نظرت إليه بقلق فهم معناه فابتسم بثقة قبل أن يقول بلهجة باردة :
- لا عليك يا سيدة عواطف! من المستحيل أن يتعرف علينا أحد، على كل حال انتظري لحظة.
دلف إلى الفندق ورجع بعد قليل ليناولني منديلاً أسود دثرت به رأسي واعتمر هو القبعة مخفياً تحتها جبهته قائلاً بتهكم :
- لوجاءت الملكة نفسها لما لاحظها أو اكترث بها أحد!.
دخلت صاغرة كاتمة الوساوس التي راحت تفح في رأسي. حتى التفكير بوقوع فضيحة مدوية، من مثل تعرض الفندق إلى مداهمة شرطة الآداب أو أن تكون ثمة مآرب خبيثة لهذا الرجل الذي فقد ذاكرته -كأن يكون ينوي التقاط صور فاضحة لي يستخدمها لابتزازي- كل ذلك لم يزعزع تصميمي على المضي إلى آخر الشوط في تلك المغامرة الحمقاء التي رحت أنزلق في مهاويها كأنها قدر لا مفر منه، تماماً مثلما كانت علاقاتي مع كل الرجال الذين خلقوا في حياتي بصمات لا تمحى..... أبي، طارق.... رافايل... الفدائي، إبراهيم... أكرم... سمير..
كم لاح لي البون شاسعاً بين عواطف بشارة زوجة طارق مناف وبين السيدة عواطف بشارة أرملة أكرم النحاس. الأولى ماكانت سوى زوجة فتية وربة بيت بسيطة وأماً صغيرة تنحصر اهتماماتها في حب زوجها ورعاية أطفالها وتقتصر آفاقها على جبال القدس وسمائها. أما الثانية فهي نتاج رحلة فضنية طويلة بدأت بامرأة تكافح لحماية أسرتها من الضياع والتشرد والحاجة والموت وانتهت، حتى تاريخه، بامرأة ثرية قادرة باردة العواطف متينة الأعصاب عرفت العالم وخبرته واكتسبت من المعارف ماأوحى لها ، أو لعله أوهمها، أنهاحققت ماتصبو إليه وحصنت نفسها من كل طارئ.
نقمت ذات مرة على أكرم حين علمت أنه المسؤول عن إفلاس أحد كبار رجال الأعمال مما دفعه إلى الانتحار. صرخت في وجهه أنه ليس خيراً من أي مجرم يستحق العقاب والسجن. اكتفى بالقول إن هذا هو قانون السوق ولا ذنب له إن كان الرجل غبياً إلى درجة أن ينتحر.
واجهته بكل ماكنت أؤمن به من مبادئ وقيم وأخلاق. أصغى إليّ برحابة صدر ولكن بابتسامة ساخرة نمّت عما يكاد يكون إشفاقاً لسذاجتي. حين صمت منهكة حاسبة أنني أفحمته قطب قائلاً بحنان:
- أقرأت جريمة وعقاب دوستوفيسكي؟ بطلها راسكولينكوف ذلك الطالب الذي برر جريمة قتل المرابية العجوز بذرائع أخلاقية مقنعة. كان شاباً مثقفاُ عاقلاً لكنه فقير وضعيف... لهذا تحتم عليه أن يُكشف وتطاله يد العدالة البشرية، أما لوكان من صفوة القوم وأغنيائهم وأقويائهم لقتل عشرين مرابية عجوزاً دون أن يلتفت إليه أحد. كلنا راسكولينكوف بطريقة من الطرق، لكن الفرق بين راسكولينكوف وآخر هو كالفرق بين نابليون وبطل دوستوفيسكي... وأنت بالذات يا عواطف راسكو لنكوفية حقيقية فلا تكابري وتدعي العكس!..
راكسو لنكوفية! هذا هو الوصف الذي ينطبق عليّ وكان عليّ انتظار أكرم ليكشفه لي! راسكولنكوفية بالفطرة أم الاكتساب؟ أخال أن كل تصرفاتي في الحياة ماشت هذا المبدأ وخاصة بعد وفاة طارق... كانت لديّ الأعذار المقنعة لكل ماقمت به، أليس هذا ماحدث مع رافايل وإبراهيم وأكرم وسمير؟ .
مع رافايل شرعت أثمي بالزعم أنه وسيلتي لدرء الخطر عن نفسي وأطفالي... أكنت على صواب أم خطأ؟ ماعاد بإمكاني أن أنظر إلى الفضيلة والشرف والأخلاق نظرة تقليدية وأنا أرى إلى وطني يُستباح وتُنتهك حرماته بفظاظة، لكني لم أتوقع أن أواجه محنة اختبار أفكاري عملياً... اليهود يعيثون فيه ويأتي يهودي ليعيث فيّ... كانت حادثة ضياع نضال القشة التي قصمت ظهري... ولم تقتصر محنتي على إباحة جسدي لرجل أحتقره وأكرهه فقط، بل لكونها التجربة الأولى بعد طارق رجلي الذي ماعرفت رجلاً قبله، ولا خطر لي أنني سأعرف رجلاً بعده بهذه السرعة وهذه الطريقة.
كان مايقارب العام قد مر على وفاة طارق عشته بتولاً بجسدي وفكري على حد سواء. كانت الرغبة تدب في أحشائي بين الحين والآخر، لكنها كانت رغبة هادئة خفيفة الوطء تقتصر على أحلام ورؤى ضبابية ليلية تتمحور حول طارق نفسه، وكنت أهب من نومي فزعة مضطربة فأسارع إلى كبتها. كان لديّ من المشاغل والهموم آنذاك مايكفي لالهائي عن نفسي ذاتها، و كنت أحسب أنه لن يصير أسوأ مما صار، لكني أبداً لم أحسب حساب رافايل ولا تصورت أن شيئاً من هذا القبيل سيحدث لي.
يتهيأ لي أحياناً إنني ماخلقت إلا للعذاب والشقاء. أهي اللعنة الممسكة برقابنا جميعاً كما قال أكرم؟ أأنا الملعونة، حاملة اللعنة، أم الرجال الذين ارتبطت مصائرهم بي هم الملعونون، حاملو اللعنة؟ وماهو مصير غسان ونضال؟ أليسا رجلين منحتهما أنا الحياة، فهل ستلاحقهما اللعنة أيضاً؟ .
لم يكن هناك مخطط معين في رأسي عندما ارتديت ثياباً بسيطة وتخمّرت بمنديل أسود ونظارة سوداء وقصدت كنيسة البقعا التحتا، شعرت بحاجة ماسة إلى إله يوفر لي بعض العزاء وأشاطره أسراري ويساعدني على استعادة ثقتي المنهارة بنفسي، لا أذكر أن الدين كان ذا شأن بارز في حياتي. فقد غلبت على أجوائنا آنذاك النزعة الوطنية البعيدة كل البعد عن حمأة الإيمان والتعصب الديني . كما لم أتأثر كثيراً بكوني طالبة في دير للراهبات إذ بقيت بمنجاة من الوقوع تحت وطأة إيمانهن الصوفي المتزمت وأسلوب حياتهن الخشنة، ولولا مريم لنشأت على الأغلب لا دينية بتأثير التيارات المادية التي وجدت تربة خصبة في نفوس معظم أبناء جيلي الذين كانوا يتباهون- في زخم المد القومي المتصاعد في خمسينات هذا القرن- بعلمانيتهم ومبادئهم اليسارية...
اخترت مقعداً منزوياً في إحدى زوايا الكنيسة الفسيحة الخالية من الزوار في مثل تلك الساعة والغارقة في سكون جليل خاشع. رددت الصلوات التي أحفظها بحرارة وورع وأضأت عدة شموع أمام صور المسيح والعذراء، وتضرعت إلى شقيقتي القديسة حنّة أن تساعدني وترشدني إلى طريق النجاة. شعرت ببعض الراحة والسكينة ونما في داخلي من جديد الإحساس بوجود قوة علوية تراقبني وتنتظر مني أن أسألها العون.
ناشدّت الرب أن ينظر إليّ بعين العطف ويرحمني.في تلك اللحظة وقع نظري على غرفة الاعتراف التي انشقت ستارتها المخملية الحمراء عن صبية صغيرة حلوة كملاك ترتدي رداء أبيض طويلاً وتنسل إلى المحراب مطأطئة الرأس مشابكة أصابع يديها بخشوع. اتجهت إلى الغرفة مسلوبة الإرادة وطلبت من ذلك الرابض وراء الحاجز الخشبي ذي الثقوب الصغيرة- وتخيلت لفترة أنه قد يكون المسيح نفسه متجسداً في صورة كاهن- النصح.. كان صوته العميق عطوفاً متفهماً يبعث على الثقة والطمأنينة:
- الرب يرمينا في التجربة ليختبرنا ويكشف حقيقة معدننا يا بنتي، الشيطان الملعون جاء إلى سيدنا المسيح وعرض عليه سلطان الأرض كلها ولكنه رفض، وأنت الآن في تجربة مماثلة، وكما رفض سيدنا إغراء الشيطان عليك أن ترفضي إغراء شيطانك الأرضي لأنك إن سقطت في الامتحان خسرت نفسك في الحياة وبعد الممات.
- لكني لست المسيح يا أبتي...
- كل واحد منا المسيح.
- لو أن التجربة تقتصر عليّ وحدي كنت قاومت ورفضت، لكنه يهددني بأطفالي.
- إنه مجرد تهديد لن يجرؤ على تنفيذه، بل هو أجبن من أن ينفذه.
- وهل تتعهد لي ألا يصيبهم سوء.
طال الصمت قبل أن ينفخ بضيق:
- سأكون صريحاً يا بنتي، ما أراه لا يشجعني على أي تعهد. واجبي الديني والأخلاقي يفرض عليّ تحذيرك ومنعك من السقوط في الخطيئة المميتة. لم تغلق بعد السبل في وجهنا. بإمكاننا تقديم شكوى إلى رؤسائه، سأتصل بنيافة البطرك نفسه ليتدخل لدى أعلى المراجع والسلطات لوضع حد لهذا الوغد..
- توقع أن ألجأ إلى تلك الوسيلة فنصحني ألا أفعل لأن أحداً لن يصدق ادعاءات عربية ضد ضابط إسرائيلي كبير....
- سنجعل منها قضيتنا ونؤلب العالم عليهم.
- وماذا يفيدني ذلك إن كان الثمن أحد أطفالي؟ .
- ارحلي إلى مدينة لا يطالك فيها...
- فكرّت في الأمر، ليس ذلك بمقدوري ولا شيء يمنعه من اللحاق بي...
- الخوف متحكم فيك بحيث تطفئين كل شمعة أحاول إشعالها أمامك!.
- أصبت. أنه قادر على تنفيذ وعيده..
- وكأنه لم يبق أمامك إلا السقوط؟ قلت لك إن واجبي الديني والأخلاقي يفرضّ عليّ ردعك بقوة عن الانزلاق في الخطيئة.
- وهل هناك واجبات أخرى يا أبتي؟.
تمتم بصلاة قصيرة ثم قال بهدوء:
- ثمة أوقات نجد فيها أنفسنا ضعفاء عاجزين يا بنتي، قد لا نفعل الصواب دائماً لكن الله غفور رحيم. ما أنا في واقع الأمر إلا إنسان مثلي مثلك، ولا يكفي الثوب الذي ارتديه ليفتح بصيرتي ويهبني القدرة على إصدار القول الفصل كحكيم معصوم، القضية أكبر مني يا بنتي، وأنا مازلت عند رأيي في ضرورة اللجوء إلى مرتبة أعلى مني وأكثر حكمة، المطران جورج في الدير، أأستاذن لك في مقابلته؟.
-لا..
فدانا المسيح بجسده، اليهود جلادوه، سأفدي أولادي بجسدي. رافايل اليهودي جلادي ألا أيهذا الجسد الذي من تراب وإلى تراب ترتمي في حمأة الرذيلة فيما الروح تنّز دماً. يحتويك ذلك الرافايل كغراب يطبق على عصفور،.يشق تربتك بمحراثه الحديدي الصدئ باذرا فيها العار والموت. أغمض عينيّ وأخنق أحاسيسي وأيبّس أعضائي فينتفض صارخاً بقسوة إنه يريد امرأة لا جيفة، يحدجني بلؤم وهو يسألني إن كنت بهذا التصرف اعتبر نفسي الضحية واستصدر لها صك البراءة:
- أتظنين أنك مازلت السيدة المصون طاهرة الذيل؟ لقد سقطت وانتهى الأمر فلا داعي للمكابرة والاستكبار يا حسنائي الجميلة، لن تغفري لنفسك ولن يغفر لك أحد ولو أقسمت ألف يمين أنك فعلت مافعلت مرغمة، لهذا أنصحك أن تستسلمي للأمر وتقبلي ما ليس منه مفر.... على الأقل تمتعي وأشبعي رغباتك المقموعة على ما أظن منذ فقدت زوجك، هذا على افتراض أنه كان قادراً على إمتاع لبوءة مثلك!...

يؤلمني تطاوله على طارق، يقلّب جسدي العاري بعينيه الملتهبتين ثم يستطرد بسخرية:
- أنت صبية ريانة فلا تفوّتي الفرصة عليك... لقد أثمت وانتهى الأمر...
أثمت ... سقطت... أهذه بداية الانهيار؟ حاجز يقع فتنهار الحواجز اللاحقة لأهوي إلى الدرك الأسفل مشلولة الإرادة والتفكير، تتحجر الدموع من عيني وتموت الحياة في وجهي. تلاحظ مريم التغيير الذي أصابني فتحاصرني بأسئلتها وقلقها لكني أتماسك خشية افتضاح أمري، أنزوي في غرفتي يعتصرني إحساس بالقرف والاشمئزاز من كل شيء.جسدي ونفسي وأولادي والعالم. أتجنب حتى النظر إلى المرآة وكأنني أخشى أن تطالعني صورة وجهي وقد حرثته أخاديد العار. أفكر في الموت والانتحار، أن أقتله.. أن أتحول إلى شحنة ناسفة تفجر العالم كله، لكنها ماكانت سوى رغبات عاجزة سقيمة...
حين حان موعدي الثاني معه انشلّت قدماي... لم أتصور أنني قادرة على رؤيته، على أن يدنسّني مرة ثانية، أن يقبلني ويتشممني ويضمني ويعتصرني حتى الاختناق وهو يتأوه، أن تنقضّ شفتاه الذئبيتان على وجهي وعنقي وصدري وبطني تنهشاني و...
ولم أذهب.. في منتصف الليل دهمت البيت دورية قلبت عاليه أسفله وأفزعتنا حتى الموت بحجة البحث عن مشبوه مطارد شوهد يلتجئ إليه. عندما خفروني إلى المخفر لاستكمال التحقيق كنت أعرف ما ينتظرني، استقبلني بنظرة مشفقة قبل أن يقول برفق:
- أنت حمقاء ياعواطف بشارة، قلت لك إنك سقطت وانتهى الأمر.. ألم تعي ذلك حتى الآن... لست مرتاحاً لما حدث الليلة، لكنك أرغمتني.. عليك أن تفتحي عينيك وتري الواقع كما هو لا كما تتوهمينه أو كان... لا أريدك أن تقعي مرة ثانية في شراك الوهم الذي عشته عشرين سنة، لم تصدقي أنك خسرت كل شيء فعشت على أمل كاذب بأنك ستعوضين كل شيء من جديد، لكنك لم تواجهي سوىالمزيد من الخسارة. قضيتك كلها انتهت الآن..
قلّبني بازدراء ثم أردف:
-لهذا عليك أن تدركي أنني السيد وأنك الجارية، أنا القوي وأنت الضعيفة، أنت ما عدت عواطف بشارة بل امرأة أمتلكها بحق قانوني وشريعتي، نعم، إن لي عليك حقاً أكثر مما لك على نفسك، إنه حق المنتصر على المهزوم وواجب المهزوم تجاه المنتصر، أنا أشفق على أطفالك لماشاهدوه وعانوه الليلة، أوصيت الرجال أن يعاملوكم بلطف ورقة لكنهم قساة القلب شرسون يعتبرون الرأفة خطيئة والشفقة جبناً. إنهم أوغاد لايؤتمن جانبهم، ولعلي لو لم أحذرهم بشدة لكانت انطلقت رصاصة طائشة وأصابت مقتلاً في أحد أفراد أسرتك، إنها حوادث كثيراً ماتقع وتسجل دائماً بأنها غير مقصودة.
نهض واقترب مني:
- أعتقد أنه يلزمك الصباح بأكمله لتعيدي ترتيب بيتك... أما بعد الظهر فعليك أن ترتاحي قليلاً لتستعيدي قواك، وأراهن أنك ستزورينني في المساء وأنت بكامل رونقك ونضارتك، وتذكري أن المشبوه الذي نلاحقه مايزال طليقاً مختبئاً في مكان ما في بيتك على ما أحسب، ومن الصعب علي أن أضمن رجالي مرة ثانية إن طلبت منهم استئناف البحث عنه!..
إلى أي درك كانت ستصل بي الأمور لو لم تضعه الصدفة العشواء، ولعلها الرحمة الإلهية التي حلت عليّ متأخرة كثيراً، في طريق المجموعة الفدائية التي هاجمت نادي الضباط في العيزرية؟ لم تكن إصابته قاتلة لكن كافية لإزاحته عن طريقي ولاتنفس الصعداء أخيراً، لكن راحتي لم تدم طويلاً، فالقدر كان لي بالمرصاد ينتظر الفرصة السانحة ليرميني في تجربة جديدة، انتهت بلفظي خارج وطني.
لم يخطر في بالي يوماً أنني سأتورط في العمل الوطني إلى درجة الاعتقال والإبعاد. لاشك أنني تربيت تربية وطنية صرفة تحت جناح أبي لكن زواجي المبكر ومرض أبي ثم وفاته وولاداتي المتلاحقة لم تترك لي الفرصة لإيلاء الشأن العام سوى التعاطف والتضامن من بعيد لبعيد. ثم جاء الاحتلال وموت طارق ليتركاني وحدي في مواجهة مسؤولية أسرتي ويشغلاني عن أي شيء آخر... لكن مع ظهور رافايل بدأت أفكاري تتبع أهواء جديدة، وعاد الهم الوطني يشغل بالي، ليس كمطلب بحد ذاته فقط، بل أيضاً باعتباره نوعاً من الكفارة عن إثمي القسري والشرط الذي قد يساعدني على استعادة اعتباري واحترامي لنفسي. وبدأت أفكر جدياً بالانضمام إلى العمل الفدائي حتى أنني طرحت الفكرة على الدكتور زياد الذي لم يخف عني ارتباطه بمنظمة التحرير، فوعدني ببحثها مع المعنيين...
لهذا وافقت، بحماسة بل وبسرور، حين جاءني ذات يوم ليسألني إن كنت أقبل بإيواء فدائي ملاحق في بيتي ليوم أو يومين إلى أن يتمكنوا من تهريبه. انتابني إحساس مبهم بأن هذا العمل قد يكون بداية خلاصي، وفكرت، ساخرة شامتة، برافايل.وللمرة الأولى منذ الاحتلال لم أتوقف أمام هواجسي ولا ثنتني مخاوفي عن الموافقة، بل كنت على استعداد للتضحية بكل ما أملك لأكون عند حسن ظن الدكتور زياد، وعلى أمل أن يأتي يوم أقف فيه شامخة الرأس لأقول لنفسي ولرافايل وللناس جميعهم، إنني مازلت عواطف بشارة المرأة الفاضلة الكريمة الصلبة المناضلة الشريفة التي لا يمكن أن تتلوث. ستكون هذه التجربة المظهر الذي أخرج منه نظيفة نقية، كما كنت، وكما سأبقى دائماً.
الآفاق الجديدة التي انفتحت أمامي كانت أكثر من رحبة والمغامرة بدت لي مثيرة إلى درجة الإذهال وأنا أطوي جانحي على ذلك الغلام المضطرب الوجل فلا أجد سوى غرفة نومي أخفيه فيها. تدبرت أمر إبعاد مريم عن البيت بالادعاء أن عليّ نذراً قديماً بتنزوير عطاف عدة أيام في دير مارجريس، وقد زارتني شقيعتي حنة في نومي تطالبني بالوفاء به دون تلكؤ ورجوت مريم أن تنفذه عني.
أحضره الدكتور زياد في العاشرة مساء بعد أن نام غسان ونضال. لم أستطع تمييز ملامحه بسبب الظلام. لفتني الرهبة والدكتور زياد يغادر لأغلق الباب عليّ وأولادي وهذا الغريب. نمت مع الصبيين نوماً متقطعاً قلقاً يتجاذبني إحساس بالارتياح ومخاوفي من مغبة انكشاف الأمر وما سيجره ذلك من ويل ووبال عليّ. لم أعرف كيف طلع الصباح لأسارع إلى الخروج مع الصبيين بعد أن أعددت له بعض الأطعمة السريعة. أمضيت النهار في زيارة بعض الأصحاب ثم أخذت الصبيين بعد انصرافهما من المدرسة إلى أحد المنتزهات فتغدينا وأمضينا بقية اليوم في الدير مع عطاف ومريم. في التاسعة رجعنا إلى البيت وكان كل شيء على حاله. بعد أن نام غسان ونضال تشجعت وقررت أن أتعرف إلى هذا الذي جاءني من حيث لا أدري ليضع مصيري وأسرتي على كف عفريت. كان لم يبلغ العشرين بعد.. أقرب إلى الطفولة منه إلى الرجولة، ضعيف البنية ناحل الجسد لايشبه من قريب أو بعيد الصورة التقليدية المرسومة في ذهني للفدائي الصلب الضخم قاسي الملامح الجسور الذي لا يهاب الموت ولا يتورع عن القتل.
لست أدري ما الذي جذبني إليه أكثر. إحساسي بالعطف عليه وهو الملاحق الذي قد يواجه الموت في أية لحظة، رغم كل ما يشكله وجوده من خطر عليّ، أم البراءة الخاشعة في عينيه الحذرتين تنضحان بالحيرة والتساؤل وتكشفان عن حياء فطري تمثل في إبداء احترام فائق حيالي بحيث كان يتحرج عن رفع بصره نحوي فجلس مطرقاً مرتبكاً لائذاً بابتسامة شاحبة لا معنى لها، أم قد يكون الأمر مرتبطاً بإحساسي بنقائه العذري الذي لم تشبه شائبة بعد، والذي يشكل نقيض ما أنا فيه؟.
لم يكن إعجابي به إعجاب المرأة بالرجل، ولا رغبتي رغبة الأنثى بالذكر، بل كانا أقرب إلى مشاعر الأمومة حيال طفل بائس مثير للشفقة بثيابه البسيطة الوسخة ووجهه الأصفر الدال على سوء التغذية. لم أفكر بقمع الرغبة التي راودتني في التربيت على شعره الأسود المكزبر القصير ولا حاولت كبت النشوة التي دبت في أوصالي وأنا أتخيل أنني أحتضنه بلطف مطلقة العنان لعواطفي المقهورة. خطر لي أنه قد يغسل بطهارته الطفولية الأوساخ العالقة في جسدي وروحي من علاقتي الأثيمة مع رافايل.
لكني لم أتجرأ على إبداء إية إشارة أو ملاحظة تفضحان مكنونات صدري، فهو لم يزد عن كونه طفلاً غرّاً، وخشيت أن ألوّثه بخطيئتي بدل أن ينظّفني بطهارته. أمضيت ليلتي وأنا اقاوم بضراوة خواطري ورغباتي، وفكرت بتمضية اليوم معه بعد ذهاب الصبيين إلى المدرسة لكني تهيبت الأمر، خفت أن تكون تجربة مدمرة لا تقل سوءاً عن تجربتي مع رافايل، أمضيت نهاري كما أمضيت الأمس، لكن بمزيد من التوتر والاضطراب اتصلت. في العشية بالدكتور زياد آملة أن يبلغني أنه تم ترتيب عملية إخراجه قبيل انتصاف الليل كما هومقرر لكن قوله إن نتيجة التحليل تحتاج إلى يوم آخر ألقاني في دوامة من القلق لاحظها غسان فسألني إن كنت أشكو من شيء.
كانت ليلة ليلاء بكل مافي الكلمة من معنى، ورغم الأبواب الثلاثة المغلقة بيني وبينه فقد عجزت عن تهدئة أفكاري وضبط أنفاسي وأنا أتخيل أنني أسمع وجيب قلبه وأحس بحرارة أنفاسه. تقلبت على سرير مريم الحديدي متألمة متصدّعة أتخبط في هواجسي ووساوسي ورغباتي، صلّيت وتضرعت وعانقت نضال كأنما أستمد منه الصلابة والقوة. في الصباح، وقبل أن أوقظ الصبيين، فوجئت به يفتح باب الغرفة بحذر ليسالني، وقد هببت فزعة خوف انتباه الصبيين، إن كان ثمة خبر عن الدكتور زياد. حين خرجت من الغرفة تجاسر على التحديق في عيني قبل أن يتمتم بارتباك إنه أمل أن أمر عليه لتمضية بعض الوقت معه فقد أرهقه الملل والوحدة والعزلة عن العالم وأخباره. أجبته بجفاء أنني نمت في ساعة مبكرة تحت وطأة ماأعانيه من إجهاد. بدا عليه الاحراج وانسحب وهو يغمغم معتذراً مما أنقذني من مغبة فقد السيطرة على نفسي وإظهار ضعفي أمامه. لقد صممت على ألا أسقط، على ألا ألوثه، على قمع حججي حتى لوكانت صحيحة ومنطقية.
مررت في الظهر على الدكتورزياد لأبلغه أن أعصابي تلفت وماعاد باستطاعتي التحمل أكثر مماتحملت. تطلّع إليّ وهز رأسه بتفهم قبل أن يقول بنبرة اعتذار:
- إن الوضع يزداد صعوبة، اعتقلوا ليلة أمس اثنين من رفاقنا، وأية حركة من قبلنا الآن قد تعرضنا جميعاً للانكشاف. أكملي معروفك حتى صباح الغد فقط، فإن تمكنا من تهريبه كان خيراً وإلا سنخفيه لدى عائلة أخرى. لقد أتعبتك فوق تعبك ياعواطف، وماكان عليّ تحميلك هذه المسؤولية الجسيمة.
هممت بأن أقول له إنني لم أعد قادرة على التحمل أكثر، فأنا لم أذق طعم النوم منذ حضر لعندي، وإنني... لكني أطبقت فمي وغادرته شاردة الأفكار..أخذت غسان ونضال إلى الدير وأمضينا بعد الظهر هناك قبل أن أقرر على حين فجأة أن يبقيا مع أختهما ومريم. خطر لي أن وجودهما في البيت في هذه الظروف قد يعرضهما للخطر في حال وقوع أي طارئ. وافق الصبيان بحبور إلا مريم التي حدجتني بريبة وحيرة فزعمت أن ذلك وفاء لنذر قديم أيضا.، حين سألتني كيف سأمضي الليلة وحدي في البيت قلت إن ذلك ليس مشكلة.
غادرتهم في السابعة ورحت أمشي على غير هدى أحاول عبثاً التخلص من هواجسي. حين أوقفتني إحدى الدوريات قرب الحديقة شعرت بالخطر، لكنني لم أجرؤ على العودة إلى البيت في مثل هذا الوقت المبكر، فصعدت لعند لبنى.وجدت بعض الأصدقاء المشتركين الذين رحبوا بي بحرارة. كانوا يتناقشون في موضوع الساعة وهو تكاثر عمليات خطف الطائرات من قبل الفدائيين. وعلى غير عادتي اكتفيت بالاستماع دون إبداء أي رأي. كان الغلام الجاثم في غرفتي، يملأ عليّ أفكاري، وبدأت أتساءل، نادمة ، عما دفعني لإبعاد الصبيين والمجازفة بقضاء الليلة مع هذا الذي يظل، رغم كل شيء، غريباً عني يحمل لي ولأسرتي المخاطر ولا أعرف حتى اسمه الحقيقي.. أبو ثائر! ... حتى اللقب فضفاض عليه مثير للهزء، ومع هذا هو هناك، في غرفتي، في حرمي، ماذا يفعل الآن؟ بماذا يفكر وهو يتمدد على سريري ويطمر وجهه في مخدتي ويفتح خزانتي ليرى ملابسي ويتشمم عطوري ويفتش في ثبابي الداخلية محاولاً ،لا ريب ،الغوص إلى عمق أسراري ! رباه ماذا فعلت؟.
حين تسللت إلى المنزل وساعة الحائط تعلن العاشرة كنت في حالة عصبية يرثى لها. بدا لي البيت بغياب مريم والأولاد، و باضطراب أفكاري، وبحضوره الطاغي المطبق على خناقي والمترافق حتى مع الصمت، مع الهدوء، مع ضوء نواصة المدخل الشاحب الكئيب، موحشاً مقبضاً لأنفاسي..، ربضت في غرفة الأولاد نصف ساعة أصغي بقلق محاولة التقاط أية حركة من قبله، لكنني لم أسمع سوى وجيب قلبي وزفير أنفاسي الحارة المتقطعة. أشعلت الراديو ورحت إلى المطبخ. فلاحظت أنه تعشى. عدت إلى الغرفة وحاولت التلهي ببعض القراءات، لكنني لم أستطع التركيز. هممت بخلع ملابسي لارتداء منامتي لكني غيرت فكري وخرجت إلى الشرفة. كانت ثمة نسمة باردة جعلتني أرتجف فيما هدوء موحش،زاد من انقباضي، يخيم على الشارع المعتم الخالي إلا من الدورية المعهودة عند الناصية.
عدت إلى المطبخ وأعددت إبريق شاي ثم دخلت إلى غرفتي دون استئذان،.سقط ضوء الحمام على شبحه المتكوم قرب النافذة المغلقة دون حراك فلم أعرف أهو غارق في أفكاره أم في نوم عميق، لكنه تحرك مجفلاً على حين فجأة، ونهض مسدّداً نحوي عينيه الواسعتين المتوهجتين كعيني قطة. سألته إن كان يرغب في كاس شاي فأومأ بالايجاب تناول مني الكأس.
بيدين مرتجفتين ثم قطع حبل الصمت ليسألني بحذر إن نام الأولاد فهو لم يسمع ضجيجهم المعهود. أجبت بثبات أنهم ناموا فور وصولنا ثم أبلغته أن الدكتور زياد سيحضر في الصباح لاصطحابه.
سهرنا حتى الفجر. تركت له دفة الحديث معظم الوقت ملتزمة بسلوك جاف متكلف رفع بيننا حاجزاً لم يفكر، أو لم يجرؤ على تجاوزه، لكن ذلك لم يمنعه من الانطلاق على سجيته معي، صريحاً صادقاً متحمساً، وكأنه وجد بعد طول انتظار من يستطيع الركون والاطمئان إليه، ولو لفترة قصيرة. تحدث عن مسقط رأسه أريحا ذات الفرادة المثيرة فأثار أشجاني، إذ استرجعت معها حادثة طارق، عن والده شيخ العشيرة العملاق ذي القوة البدنية الخارقة الذي كان يصارع ثلاثة رجال أشداء ويتغلب عليهم تغلب الثعلب على الديوك. حين أبديت استغرابي لضعف بنيته إزاء أبيه قال إنه ورثها عن أمه الضئيلة الأشبه بالنملة أمام والده الفيل المزواج الذي بنى على ثماني نساء وخلف قبيلة من العجيان، ثم تخلى عن كل شيء قبيل حرب حزيران في سبيل أمريكية شقراء أقنعته أن بلادها موطن المتع والثراوات، فضب أغراضه ولحق بها مرتدياً بنطلوناً أبيض وجاكتة حمراء ومعتمراً قبعة كوبوي!.
بطّن حديثه بالطرفة الذكية. والتلمحيات الجنسية اللبقة التي أرغمتني على التخلي، ولو مؤقتاً ، عن جمودي لأغرق في ضحكات صافية عميقة. كان طفلاً رائعاً بحق بحيث تيقنت أنه لم ترادوه ،حتى في لا وعيه، أية مآرب نحوي. لم أعرف إن كان ذلك راجعاً إلى حياء فطري يمكنه من كبت رغباته حتى الخنق، أم لأنني لم أعن له سوى سيدة نبيلة فاضلة تفعمه مشاعر الامتنان لجميلها نحوه فلا يفكر بالإساءة إلي حتى بالنظرة. حتى الإشارت الجنسية التي ضمنها كلامه لم تعن له، كما بدا لي،أكثر مما تعنيه لطفل يحكي نكتة بذيئة سمعها من أحد الكبار فراح يرددها كالببغاء.
فكرت أنه لو قام بالخطوة الأولى، لو بادر لما كان بإمكاني مقاومته أو صده. قد أبدي مقاومة ما لكنها لن تصمد طويلاً أمام عنفوان وتصميم شاب مثله. بل ليس من حقي أن أقاوم فهو ابن بلدي وجلدتي الذي يقاتل من أجل وطني وحريتي معرضاً نفسه للموت في أية لحظة وهو مايزال في ريعان الشباب.إن له حقاً على جسدي أكثر مما لذلك الوغد رافايل!...
وتمطت الرغبة تعوي في أحشائي. وللمرة الأولى منذ وفاة طارق يمتلكني حنين جارف إلى يدين نقيتين تعتصرانني بعنف وإلى فم نظيف تترطب شفتاي المتشققتان بريقه الطيب.اشتهيت صدراً حنوناً أريح رأسي المتعب عليه مطلقة لدموعي العنان أغسل بها آثار رافايل وفضلاته. أردت مناجاة لطيفة تهدهدني على أجنحة الحب البريء وتحملني إلى تلك العوالم الفردوسية التي يخيّل إلي أن دهوراً مرت على آخر مرة ارتدتها فيها برفقة طارق.
لكن شيئاً من ذلك لن يحدث. أغادره قبيل الثالثة فجراً أجر أذيال الخيبة ويعجنني القهر، أعجز عن طرق مجاهل الراحة والنوم، ويعجز بدوره. تلتقط أذناي المشنّفتان حركته الوجلّة المضطربة، أتخيله يذرع الغرفة بجنون أخرس كحيوان هائج يبحث عن شق ينفذ منه إلى الحرية. لن أعرف إن كان اضطرابه ناتجاً عن تفكيره بي أو عن اقتراب موعد إطلاق سراحه. تتسمر عيناي على باب غرفة نومي الذي تقصدت تركه موارباً ،متوقعة مؤملة، أن ينشق عنه علىحين غرة. ماعليه سوى أن يلوح بيده وسألبيه. أحقاً صدق أن الولدين نائمان؟ لا يمكن أن تمر تلك الكذبة على فطنة شخص مثله.. لا اشك في أنه عرف أنني عدت بمفردي وأننا وحدنا في ذلك البيت الساكن الموحش، فأين هو هذا الشيطان اللعين الذي يقولون أنه يطل برأسه ما اجتمع رجل وامرأة؟ أحقاً هو غر ساذج إلى هذا الحد؟ أين هي الصفات المفترض أن يمتلكها من يطرق درب الثورة؟ الجسارة والتهور والمغامرة والذكاء؟ أين وارى مشاعره الإنسانية ورغباته الطبيعية؟ .
تنشدّ أعصابي حتى الانقطاع ما إن ينشق باب غرفتي ويخرج مرتدياً جلباب طارق الأبيض. أغمض عيني فيما قلبي يدق بدوي متسارع حتى أخاله يكاد ينفجر في صدري. أنتظر بلهفة أن ينتصب أمامي كإحدى الأماني المستحيلة. لكني سرعان ما أصحو على هدير جريان الماء في سيفون الحمام لأسقط مهشمة على أرض الواقع الصخرية. أطلق صرخة حارقة تضيع في صخب تدفق الماء. أعانق المخدة الباردة. أستعيض بها عن جسده الفتي الحار فيما خيالي المقهور يهوي في دركات اليأس.
لم أصح إلا على طرقات الباب فهببت مجفلة مذعورة... قبل أن ينصرف، وقد سبقه الدكتور زياد ليستكشف له الطريق ،أوقفته وطبعت قبلة سريعة على خده، ثم دفعته خارجاً وأغلقت الباب بعصبية شاعرة أنني أوشك على الانهيار.
صعقت حين عرج عليّ الدكتور زياد في الصباح التالي ليخبرني بصوت مختنق أن الشاب قتل أثناء محاولته عبور النهر. فرّت الدماء من عروقي، وفقدت السيطرة على أعصابي فانخرطت في بكاء مرير. شعرت أنني مسؤولة عن موته فلو لم أتحامق وأشتكي إلى الدكتور زياد لربماكان مايزال جاثماً في غرفة نومي حياً يرزق. بكيته كما بكيت أبي وطارق... بكيت إخفاقي، بكيت شبابه وظرفه وبراءته وأحلامه الكبيرة التي ظلت معلقة في عالم الغيب، وسقطت فريسة حمّى قوية رمتني في الفراش أسبوعاً مضعضعة القوى سوداوية المزاج. أعاني من انهيار عصبي حاد.
منذئذ تملكني إحساس عميق بأنني لم أعد أسيطر على مصيري، وأن هناك قدراً ما يستوقني في طريق لا مفر لي منه نحو مصير لا مهرب لي منه.ووجدت في الرضوخ لهذه الفكرة راحة، وإن تكن مهينة، افتقدتها منذ وفاة والدي.أدركت أن عليّ العيش بشروط الظروف المستجدة، شروط الهزيمة كما قال رافايل، وما أنا في النتيجة إلا امرأة مهيضة الجناح عليها أن تحمي نفسها وأسرتها.
أهذا ماجعل الأمور أسهل مما كنت أتوقع حيال المواقف اللاحقة التي كان عليّ مواجهتها؟ إبراهيم وأكرم وسمير! صارت لدي أعذار جاهزة دوما لاستصدار فرمان المغفرة الإلهية، والأخلاقية، الذي حصل أن جسدي فقد حرمته التقليدية باعتباره رمزاً للشرف والفضيلة والكرامة، وماعادت تحوطه تلك الهالة من الاحترام التي ترقى إلى مرتبة القداسة، هان عليه الهوان بعد العار الذي ألحقه به رافايل، وماهو في النتيجة إلا تراب. بالطبع لم يدفعني ذلك إلى ابتذاله لدرجة التعهير ولكنه خفّف عني وطأة السقطات اللاحقة التي وجدت نفسي منساقة إلى مستنقعاتها...
حين اغتصبني إبراهيم لم أترك لعواطفي العنان في الانجرار وراء أهواء الغضب والانتقام، هذا إن افترضت أن امرأة مثلي في وضعي آنذاك مطرودة من وطنها وحيدة معدمة قادرة على الانتقام من رجل في مركزه وسلطته. كل ماكان بإمكاني القيام به هو ترك بيته وقطع صلتي به والاعتماد على نفسي في تدبير أموري وإعالة أسرتي. لم يكن ذلك الخيار صعباً أو مستحيلاً، فالآلاف مثلي مشردون يعانون شظف العيش وقساوة الحياة لكني ببساطة جبنت وضعفتز كان الوضع اختلف لو كنت أتقن حرفة ما، أو لو أن البلاد ماكانت خارجة لتوها من معارك أيلول تلعق جراحها المتجرثمة بالبغض والحقد والانتقام والفوضى مما لم يترك لي سوى خيارات شديدة المرارة أهونها أن أرضى بالعيش في غرفة حقيرة في أحد المخيمات أو الأحياء الشعبية المعجونة بالبؤس والفقر والصراع الضاري من أجل البقاء على قيد الحياة، لهذا استصعبت التخلي عن حياة الدعة والأمان والشبع وتحميل أطفالي وزر مشكلتي مع إبراهيم.
كانت خطيئتي المميتة أنني أسلمت زمام أموري إليه واعتمدت عليه اعتماداً كلياً منذ حططت رحالي في عمان، فصرت عاجزة عن عمل أي شيء دون مساعدته ومشورته. بل بلغ من غفلتي وغبائي أنني رضخت له حتى في تسجيل الصبيين في مدارس خاصة تشكل أقساطها السنوية ذاتها ثروة صغيرة. تساذجت إلى حد الاعتقاد فعلاً أنه يعاملني بنوازع إنسانية تفرضها القرابة والصداقة والشهامة وعشرة الطفولة. كيف سمحت لنفسي أن أنسى أو أتناسى، إنه رجل رفضت حبه بازدراء وصددته بقسوة واستهتار؟.
كيف نسيت أن عواطف بشارة الصبية المفعمة بالكبرياء المغرورة بجمالها المتباهية بوجاهة أسرتها المعتصمة بقدسها، هي غير عواطف بشارة الأرملة المبعدة عن وطنها الفقيرة الملوثة بعار رافايل الضائعة في عمان.؟ كيف غاب عن ذهني أن ماكان يحق لي في حياة أبي وزوجي وتحت سماء مدينتي ماعاد يحق لي الآن؟
رأيت ، بعد أن أمعنت التفكير بهدوء ورويّة متجاوزة عملية الاغتصاب القذرة ومتغلبة على انفعالاتي وأعصابي الهائجة، أن البقاء معه، إلى أن تتاح لي الفرصة السانحة للتخلص من حاجتي إليه، هي الوسيلة للإنتقام منه ، سأبقى لأقول له، بصوتي وعيني وملامحي وجسدي، إنني أرفضه ولن أكون له أبداً،ز سأبقى لأتحداه في عقر داره، لأرد له الصاع صاعين. وكنت على ثقة من أنه أضعف وأجبن من أن يواجهني ويتجاسر على مطالبتي بشيء سأجعل جريمته تنقلب عليه، وسأريه كيف يكون العذاب والمعاناة!.
وصح ما توقعت... تغير الرجل بعد أن أدرك هول مااقترف، صار همه استغفاري والتكفير عن جريمته. ابتعد عني فما عدت أراه إلا لماماً، ثم غاب مع وقوع حرب تشرين والتحاق وحدته بالجبهة السورية. لكن مخصصاتي لم تتأخر يوماً واحداً عن موعدها في الأول من كل شهر، مئة دينار في مغلف يسلّمني إياه سائقه دون أن يرفقها بأية قصاصة. لم يمنعني ذلك من مواصلة البحث عن عمل يتناسب وإمكاناتي ويتلاءم وشروطي، فأنا لم أكن مستعجلة....
يوم ظهر أكرم النحاس في حياتي حسبته، وهو يلوّح أمامي بسنّارته الذهبية، فخاً جديداً من أفخاخ قدري اللئيم ، لكنه كان فخاً مفروشاً بإغراءات لا يمكنني مقاومة سحرها. وجدت فيه فرصتي للخلاص من إبراهيم، ومن كل مخاوفي مرة وإلى الأبد. بل إنني بادرت بحماسة طائشة، إلىحساب الدين الذي ترتب لإبراهيم عليّ خلال السنتين اللتين قضيتهما في ضيافته. وضعت ثلاثة آلاف دينار، وهي أكثر ممايستحق ، في مغلف ومعها رسالة قصيرة أفرغت فيها كل حقدي وطلبت من مريم أن تسلمه إياها ما إن أغادر عمان، لكنني عدت وغيّرت رأيي حين فكرت أنني سددت ديني له بجسدي، وحولت المبلغ إلى الجمعية الخيرية الأورثوذكسية في القدس.
الرجال الآخرون في حياتي، رغم قلتهم، امّحوا أوكادوا من ذاكرتي. تلاشوا في زواريب النسيان إذ انتهوا مع انتهاء الصفقات التي فرضتهم عليّ. الذين عجزت عن شرائهم بالمال اشتريتهم بعلاقة عابرة مسايرة في ذلك شروط السوق. لكنني حرصت على انتقائهم بدقة جامعة بين المصلحة والمتعة، فبعد كل شيء ما أنا إلا امرأة في قمة نضجها الأنثوي، وماكان بإمكاني أن أتبتّل إلى الأبد ناسية حق جسدي عليّ. لقد نسيته بالفعل ثلاث سنوات بعد وفاة أكرم حين غرقت في دوامة العمل. وهموم الشركة ومسؤوليات دوري الجديد في الحياة، تصرّفت وكأنني صرت في عمر ومركز لا يسمحان لي بإيلاء رغباتي الطبيعية سوى اهتمام سطحي لا يتجاوز نظرة إعجاب لرجل وسيم أو شهوة عابرة أسارع إلى كبتها بصرامة وتأنيب. لكن الأمر اختلف مع العقيد سمير، رئيس دائرة الإمداد في وزارة الدفاع. لم أستطع المرور به مرور الكرام لسببين مفحمين، الأول رجولته الطاغية التي حوّلتني إلى مجرد أنثى متفجرة الغرائز، والثاني الصفقة المسيلة للعاب التي لا يمكنني الحصول عليها إلا بواسطته. لم أحتج إلى وقت طويل من التفكير لأقرر أن علي ضرب العصفورين بحجر واحد. دامت علاقتي معه شهراً نلت فيه مارغبته من متعة وفائدة، لكن سارعت إلى قطعها ما إن لاحظت أنها بدأت تأخذ مساراً ليس في الحسبان. اعتقدتهُ يمزح حين عرض عليّ الزواج. لكن القضية تحولت إلى جد ثم محنة وهو يلاحقني بحبه كمراهق أفقدته عواطفه توازنه واتزانه . كان مستعداً لطلاق امرأته والهجرة معي إلى أي بلد أشاء إن كان ذلك يذلل عقدة اختلاف دينينا. وتعلمت من تلك التجربة ضرورة التزام الحذر في أمثال تلك العلاقات بحيث أقصرها على متطلبات العمل وحده دون السماح، لنفسي أو للطرف الآخر، بأية تجاوزات عاطفية قد تقودني إلى مالا تحمد عقباه.
لكن الأمر مع طارق مختلف تماما.، لقد سحب البساط من تحت قدمي، كان عليّ أن أتأكد منه بواسطة جسده، وسأتجنى على الحقيقة إن ادعيت أنه هو الذي راودني عن نفسي. نبيذ سبيرو وموسيقاه الحالمة جرداني من كل محاذيري، كانت حركة يدي مقصودة وأنا أضغط بلطف على يده الخشنة طالبة منه أن يثق بي. لم نتبادل سوى كلمات قليلة مضطربة قبل أن يحتويني بين ذراعيه في تلك الغرفة الحقيرة ذات الرائحة العفنة والسرير الحديدي الذي يئن مع كل حركة.
تعامل معي برفق وحذر وكأنني تحفة ثمينة يخشى عليها أن تنخمش. استسلمت له بكليتي منصرفة إلى مراقبة حركاته وأسلوبه. حين خلع بنطلونه وأطفأ النور مكتفياً بضوء اللمبادير الأحمر الخافت طلبت منه إبقاء المصباح مضاءً. تطلع إليّ باستغراب لكنه نفذ طلبي. كان جلده قد بدأ يترهل فيما تهدل كرش متوسط أسفل بطنه. أطلقت زفرة ارتياح وأنا أرى أمامي جسداً عارياً أليف الشكل، واجتاحني على حين بغتة شعور عارم بالخجل ضخ الدماء الحارة إلى وجهي فأغمضت عيني وتكوّمت على نفسي تاركة لرعشات لذيذة أن تتموج في أوصالي... مع قبلاته ورائحته وهمهماته وزفراته لم يعد هناك سوى طارق....
عدد الرجال في حياتي لا يتجاوز أصابع اليدين، وهذا لايسمح لي بإطلاق حكم قاطع حول آلية العملية الجنسية لديهم. لكني على ثقة، من تجربتي الشخصية وتحليلي، بأن لكل رجل أسلوبه الذاتي- المتفرد- في ممارسة الجنس. جميعهم متشابهون في الخطوط العامة لكنهم يختلفون عن بعضهم في التفاصيل اختلاف أمزجتهم وأهوائهم وميولهم وطباعهم وأذواقهم وعواطفهم وقدراتهم.
كان طارق لطيفاً ، رقيقاً، يقبل على الجنس إقبال رجل ذواقّةٍ على نبيذ معتق، ويحرص على اس - - ً û عے گ "Arial Q - - ً
û خے گ ² Simplified Arabic Backslanted Ne -
ً û هے گ ² Simplified Arabic Backslanted £P - - ً û هے گ Times New Roman - - ً
û تے ¼ ² Simplified Arabic … -
- ً Simplified Arabic ³Q - - ً û عے گ Arial 7R - - ً û ¹ے گ ² Simplified Arabic Mق، فعشرون سنة غيّبت معظم ذكرياتي. لكن الأمور راحت تنجلي شيئاً فشيئاً ماإن توهجت عيناه بتلك الومضة الساطعة وهو يدغدغ أنفي بشفتيه الحارتين. وخيل إليّ وأنا أصحو من نشوتي، إنني عدت عشرين سنة إلى وراء، بل إن كل مامرّ عليّ ماكان غير أضغاث كابوس سقيم، فأنا ما أزال السيدة عواطف بشارة مناف، وطارق مايزال حياً، فلا أنا فقدته، ولا الحرب وقعت ولا كان هناك احتلال ورافايل وإبعاد وعمان وإبراهيم...
لكن اللمبة الكتيمة بضوئها المرتجف الأصفر والجدران المتآكلة المتشققة والرائحة العفنة سرعان ما أعادتني إلى واقعي القاسي المضطرب، فهببت مذعورة كاتمة صرخة فزع. كان خارجاً من الحمام ملتفاً بمنشفة حول وسطه وقد رفرفت ابتسامة لطيفة على فمه. حدّق إلي بإمعان ثم غمغم:
- علينا المغادرة فالساعة تقترب من الثالثة، على كل سأتصل بك غداً...
غطيت جسدي بالشرشف الوسخ ونهضت قائلة بحزم:
- ليس بهذه السرعة يا عزيزي، أنا التي سأتصل بك حين تسمح لي الظروف بذلك.
وقررت ألا أعيد التجربة معه ثانية إلا بعد أن يستعيد شخصيته الحقيقية ويرجع، ونرجع، السيد والسيدة مناف.
 


- 9 -
رد إبراهيم الباب وراءه بهدوء واقترب من عواطف صامتاً وقد خلا وجهه من التعبير. بدت مرهقة إلى أقصى حد وهي تنفث دخان السيكارة بعصبية فيما تبعثر شعرها دون ترتيب وتعمقت تجاعيد وجهها. اتكأت إلى حافة المكتب بكتفها وحدقت إليه مقطبة:
- أين تواريت كل هذا الوقت؟ سمعت أنك أفرطت في الشراب!.
شد جذعه مكشراً..
- جاستوستك مريم من جديد؟.
ودنا منها وهو يتمايل مردفاً بسخرية:
- شعرت أنني شخص غير مرغوب فيه فاختفيت عن الأنظار أدفن أحزاني في الوسكي لكن دون إفراط... أنا رهن إشارتك يا سيدتي مادام ليس هناك غيري لنجدتك في الملمات!.
تثاءبت ثم سحقت السيجارة في المنفضة قبل أن تقول بخفوت وهي مطرقة:
- يتهيأ لي أن هذه الليلة لن تنتهي أبداً!.
- ليالي الحروب طويلة ومضنية دائماً يا عواطف..
حدقت إليه مقطبة وهمت بأن تتكلم لكن دهمتها نوبة سعال حاد لم تتخلص منها إلا بعد جهد. حين هدأت رفعت نحوه وجهاً محتقناً وعينين بلون الدم مخضبتين بالدمع. سحب محرمة ورقية من العلبة وناولها إياها وهو يغمغم بإشفاق:
- لا أنصحك بالنظر إلى المرآة يا عواطف، أنت مرهقة والأفضل أن تأخذي حماماً ساخناً وتنامي / 24/ ساعة متواصلة.
مسحت وحهها ورتبت شعرها بيدها وهي تقول بلطف:
- ماعدنا شباباً يا إبراهيم، بعد أشهر سأصبح جدة..
- ممكن لكنك بالنسبة لي لن تكبري أبداً، أنت متعبة فقط..
حاولت أن تبتسم لكنها لم تنجح سوى في زم شفتيها... نفخت باستسلام:
- لم أتصور أنها ستكون حرباً بهذه الصعوبة... أتعلم بماذا كنت أفكر قبل حضورك؟.
تشاغلت بفرك بقايا السيجارة ثم استدركت:
- كنت أفكر أن حياة الإنسان ماهي إلا حرب دائمة ضد قدر قوي شرس صعب هو المنتصر دائماً إلا في حالات نادرة، هكذا كانت حياتي. ولقد خسرت كل معاركي مع قدري حتى الآن ... موت أمي وأنا طفلة... هروبنا من القطمون في حرب الـ /48/.عصياني أبي بسبب طارق، موت أبي بالسرطان قبل أن يبلغ الخمسين من عمره... الاحتلال وضياع طارق .. الفدائي...إبعادي من القدس ... موت أكرم...
كان صوتها مشبعاً بالمرارة وهي تستطرد بعد لحظة صمت..
- حتى المعركة الوحيدة التي حسبت أنني سجلت فيها نقطة لصالحي، وهي زواجي بطارق، انتهت إلى الهزيمة الشنعاء!.
- أو تظنين أنك ستربحين معركتك هذه ؟.
سألها ببرود ، تفرست فيه بإمعان ثم هزت رأسها بالإيجاب:
- أريد ذلك. أظن أنها معركتي الأخيرة وأنا مصممة على خوضها حتى النهاية. أحلم بأن أرفع رأسي في وجه قدري لأؤكد له أنني لست ألعوبة صغيرة في يده، وأنه لن يكون المنتصر في كل مرة...
بدت الحيرة على إبراهيم ... تنحنح ثم قال برفق:
- لعلك على حق يا عواطف... ولكن...
جلس وشدها من يدها للجلوس مقابله:
- لكنها ليست معركتك وحدك... لقد جعلتها معركة الجميع، والأولاد ليسوا مقتنعين بها... إنهم، بل إننا جميعاً نرى ألا مصلحة لك أولنا في هذه المعركة، لا تقاطعيني، لو قلت إنك أحببت هذا الرجل "عامر" لأنه يشبه طارق أو لأي سبب آخر، لعذرتك. لكن أن تتخيلي أنه طارق وتقعي في حبه لهذا السبب فهذا مالا أستطيع فهمه... إن ذرة شك واحدة كفيلة بتحويل حياتك وحياة أبنائك إلى جحيم، فهل أنت قادرة على الجزم أنه طارق؟ اجزمي لي الآن أنك مقتنعة قناعة مطلقة أنه طارق مناف وسأقف إلى جانبك بكل قواي حتى لو كنت متأكداً أنه ليس طارق!.
اختتم كلامه بنبرة مليئة بالتحدي دفعتها للتحديق إليه بثبات وقد بدا عليها الشرود. نهضت فجأة واتجهت إلى النافذة فأزاحت الستار وأطلقت نظراتها في الفراغ البعيد الذي بدأ سواده يبهت، حين التفتت كان وجهها قد استعاد هدوءه.
- أنت تتلاعب بالألفاظ ولن تقف إلى جانبي بأي حال من الأحوال. ليس بإمكاني الاستماع إليك بتجرد يا إبراهيم. تريدني أن أتناسى كل مابيننا وأصدق أنك لا تنطق عن هوى؟ هراء... أفهم دوافعك وقد أتفهم دوافع أولادي أيضاً وكل ما أريده منكم أن تعاملوني بالمثل. أنا امرأة في كامل وعيي وأهليتي، ولا أعتقد أن أي واحد منكم أحرص على مصلحتي مني، فلماذا إصراركم على التشكيك والرفض. أيخشى غسان على سمعتي أم على الشركة أم على مصلحة العائلة؟ يريد الشركة؟ ليأخذها ويريحني فقد تعبت من همومها ومشاكلها ولا أطمح إلا في قضاء بقية عمري بهدوء مع من هو لي وهذا حقي...
اغتصب ابتسامة صفراء ، ثم لوح بيديه وهو يقول بضيق:
- يبدو أنك صرت عالمة نفس يا عواطف، لكن تشخيصك غير صائب! أنا لا أنطق عن هوى كما تظنين وإنما أريد حمايتك من المخاطر التي تهددك...
- أوه... كفاك نفاقاً يا إبراهيم... أنت لا تخاف عليّ بل تخاف أن تخسرني من جديد، كن صادقاً وصريحاً، لايروق لك أن يطلع لك طارق ثانية ليأخذني منك مرة أخرى، قد ترضى ألا أكون لك، لكنك لن تسمح بأن أكون لغيرك، أأنا مخطئة؟.
سألته باستفزاز أثار حفيظته، امتقع وجهه وضرب مسند المقعد بعنف:
- لا ... مازال حبك لعنة مطبقة عليّ، وسيظل إلى أن يموت أحدنا..
نهض واقترب منها حتى لاصقها ونفخ بحنق وقد فاحت رائحة فمه المتخمّرة بالكحول:
- إن لؤمك وقسوتك لا يطاقان.
أشاحت بوجهها لكنه أرغمها على مواجهته:
- لكن لا تربطي بين هذا وذاك، لا علاقة لحبي بموقفي من ذلك الرجل الذي يشبه المرحوم... انتبهي... المرحوم طارق، عودي إلى صوابك ياعواطف، عهدي بك متزنة عاقلة. طارق مات، مات، ومات كل مايتعلق به، إنهاعشرون سنة، انظري كم تغير العالم... لم يبق شيء على حاله ، طارق مناف وهم...
نفخ بحنق والتفت يحدق إلى صورتيهما في زجاج النافذة:
- نعم هو وهم وأنا حقيقة، هوميت وأنا حي.. كفي عن الهرب مني ومن حقيقتي قبل أن ينهار كل شيء من جديد فتضيعي وتضّيعينني معك.. لقد أخطأت خطأ فادحاً حين اخترته في المرة الأولى، فلا تكرري خطأك ثانية، ورغم كل ماحدث بيننالم يستطع أحدنا أن يتخلى عن الآخر. إنني أحبك ومازلت وأنت لا تستطيعين العيش بدوني.
- يخيل إليّ أن حبك المزعوم ماهو إلا كراهية!.
قالت باستخفاف وهي تبتعد عنه، استدار يتابعها ثم ردد بخفوت...
-وقد يكون كرهك المزعوم لي حباً... ليس هذا مستبعداً... نعم أحببتك حتى الكره وكرهتني حتى الحب! معادلة ساخرة مجنونة... إلا يزعمون أن الفارق بين الحب والكره شعره؟.
همت أن تتكلم لكنه سارع يردف:
- حقاًلا أريد فتح الدفاتر العتيقة... لكنك تجبرينني ياعواطف على فتحها... حين تزوجت طارق قلت لنفسي إن كل شيء بيننا انتهى، لكني فوجئت بأن علاقتنا بعد وفاة أبيك وبحجة أواصر القربى عادت تترمم، فوضعت عواطفي في ثلاجة تاركاً للحياه أن تواصل مجراها بانتظارما لا أعلم، ثم قامت الحرب وباعد بيننا الاحتلال فاعتقدت أنها النهاية ولا لقاء بيننا ثانية أبداً . لكن القدر عاد ليتدخل في حياتي ويعيدني إلى نقطة الصفر.. حين سمعت بنبأ وفاة طارق حسبت أنه تدخل هذه المرة لصالحي، وهو بالتأكيد سيرتب الأمور لنلتقي ثانية. سيطرت عليّ تلك الفكرة بقوة تغذيها معرفتي العميقة بك، قد لا تصدقين إن قلت إنني توقعت إبعادك. كنت واثقاً أنك لن تسكتين وتستسلمين ولابد أن تنزلقي في حمّى الهياج الوطني ضد الاحتلال، وهذا ما سيؤدي بك إما إلى الاعتقال أو الإبعاد، خشيت فقط أن تشتطي فتلقي مصرعك. وكان عليّ الانتظار خمس سنوات لتأتي؟.أتتخيلين معنى أن أوقف حياتي خمس سنوات في انتظارك؟.
فرقع بأصابعه فجأة وأطلق ضحكة جوفاء قبل أن يردف باستهزاء :
- أنسيت أنني كنت يومذاك ضابطاً قد الدنيا والحاكم المطلق لمنطمة الأحراش حيث كلمة مني تحيي وأخرى تميت؟ نعم، للأسف نسيت ذلك ووضعت نفسي، بغباء أستحق عليه الرجم حتى الموت، تحت رحمة امرأة قاسية صرخت في وجهي بكل لؤم أنها لا تريدني حتى لوكنت الرجل الأخير في العالم.
سكت لدى طرق الباب واستدار بانزعاج إلى مريم التي أطلت برأسها فصرخ فيها بعصبية:
- اتركينا وحدنا!.
نظرت مريم إلى عواطف فأومأت هذه رأسها تطلب منها الاستجابة:.
انسحبت بهدوء فيما إبراهيم ينفخ باستهجان:
- كبر رأسها حتى ماعادت تقيم وزناً لي! موقفها هو انعكاس لموقفك أم العكس؟.
لبثت عواطف صامتة زامة شفتيها، لوّح بيديه بحنق واستطراد:
- ولماذا أتيت لعندي مباشرة بعد إبعادك من القدس؟ أنسيت أن موت طارق يعيدنا إلى نقطة البداية؟ لا أحسبك كنت ساذجة إلى حد الاعتقاد أن حبي لك انتهى، أو أن بقائي أعزب كان لزهدي في النساء؟ وهل تصورت أن تقيمي عندي وأن أرعاك وأعيل أولادك، أولاد غريمي، كرمى للصداقة والقرابة العائلية فقط؟ لا تتظاهري بالبراءة ياعواطف، كنت تعرفين تماماً ماذا أريد، وكان عليك أن تأخذي هذه الحقيقة بعين الاعتبار قبل أن تغامري بقبول ضيافتي.. أتعرفين؟
حدق إليها بشراسة ثم استدرك بازرداء:
- أنا لم أغتصبك، بل أنا الذي تعرضت لاغتصابك، أتعلمين لماذا؟ لأنك أنت التي دفعتني دفعاً لاغتصابك. رتبت الأمور بمكر لا نظير له كي يحصل ماحصل. تذكري وإن كنت لا تريدين التذكر فسأساعدك، حين دعوتك إلى داري في الرابية لم تسأليني لماذا؟ ولم تبدي أي اعتراض أوحذر، رغم أنها المرة الأولى التي نلتقي فيها بمفردنا. ألم تسألي نفسك ماذا أريد وتتحسبي لما قد يحدث ونحن وحدنا؟ كنت تعرفين أنني سأعرض عليك الزواج، وكنت عازمة على رفضي وبطريقة استفزازية جارحة لكرامتي لا تترك أمامي غير التصرف كما تصرفت. نعم، جئت عندي لأنك كنت راغبة في أن أغتصبك، لماذا؟ لأنك أردت أن أظهر بمظهر النذل المتوحش، ولتظهري أنت بمظهر الضحية البريئة ولتحفري بيني وبينك هوة من الغضب والبغض والشك تسمح لك بالادعاء أنك قد سدّدت بطريقة من الطرق دين إبراهيم عليك. ولم تسدديه فقط بل صرت تملكين ما تهدّدينني وتبتزّينني به. كنت واثقة أنني سأندم وسأحاسب نفسي حساباً عسيراً وأحاول بمختلف الوسائل التكفير عن فعلتي الكريهة، بل سأتوارى عن وجهك كالكلب الذي يتحاشى غضب سيده، وهذا ماحدث. تواريت عن وجهك، وبقيت أنت في بيتي تعيشين على حسابي وتتنعمين بما أبذله لك ولأولادك إلى أن جاءك أكرم بجيوبه الطافحة ووعوده المعسولة فطاش صوابك وبعته نفسك مثل ... مثل...
صعب عليه لفظ الكلمة فاكتفى بالاقتراب منها وهو يلوح بقبضته مهدداً فتراجعت برأسها بهدوء دون أن تسمح لملامحها بالتعبير عن مكنوناتها ، أسبل يده بحنق:
- واختتمت ذلك الفصل التافه من مسرحيتك بأن أرسلت لي مفتاح البيت دون كلمة شكر واحدة كأنك تتقصدين إهانتي؟ كرهتك حينئذ حتى لتمنيت أن أقتلك، ولعلي لو وقعت عليك لقتلتك. ورغم ذلك نسيت كل شيء حين رجعت بعد أربع سنوات تطلبين عوني ونصيحتي لأنه لم يكن بإمكانك ائتمان أي شخص غيري لإدارة شركتك. لدغتني مرتين من قبل ولم أتعظ... نذرت نفسي لك طيلة العشر سنوات الماضية فماذا كانت النتيجة؟ أن تأتيني الآن، بعد فوات أوان الندم، لتقولي لي إنك استعدت ميتك ولم يعد لك فائدة مني؟ ياللسخرية!.
بدا عليها الوجل وهو يتفرس فيها بعينين يتطاير منهما شرر البغضاء. وقد انتفخت عروق رقبته لكنها تمكنت من السيطرة على انفعالاتها وقالت بصوت مليء بالتحذير:
- اضبط أعصابك يا إبراهيم ولا تحاول أن تتعشاني قبل أن أتغداك، ضع في اعتبارك أنه ليس مطلوباً مني تقديم حساب لأحد، وخاصة لك، لقد تركتك تفرغ تفاهاتك لأنني أردت معرفة كل مايدور في عقلك المريض، لكني لم أتخيل أبداً أن تبلغ بك الصفاقة حد قلب الحقائق وتفسيرها على هواك. ليس هناك حرف واحد صحيح في كل ماقلته...
صبرت إلى أن انتهت الساعة من إعلان النصف بعد الثالثة، أخذت نفساً عميقاً وقالت:
- لم يكن لي أبداً موقف مسبق منك، وإنما كانت تصرفاتي ردات فعل على مواقفك مني. راعيت قدر الإمكان واقع أننا نمت إلى بعض بصلة قرابة، وعلى هذا الأساس عاملتك ومازلت لم أفكر فيك كزوج وحبيب رغم كل جهود أبي وترغيباته فأنت، لم تعن لي أكثر من قريب كان يمكن أن تقوم علاقتنا على الصداقة والاحترام لولا إصرارك المحموم على فرض نفسك وحبك عليّ... أماطارق فجسد لي كل أحلامي وآمالي، أحببته ولم أحبك، وهذا من حقي مثلما هو من حقك أن تحب من تشاء، شرط ألا تحاول فرض حبك عليه. وبسببك عارض أبي زواجي بطارق فاضطررت لعصيانه، وحين رجعت إلى القدس وجدتك أمامي وكأن شيئاً لم يكن، كان سلوكك طبيعياً بحيث وثقنا أنا وطارق إن بإمكاننا بدء مرحلة جديدة من الصداقة القائمة على الاحترام والود.
تفرست فيه بحدة قبل أن تردف بسخط:
- ويوم أبعدوني من القدس كان طبيعياً أن ألجأ إليك في عمان باعتبارك القريب والصديق، وأنت الذي أصررت على استضافتنا لبينما نتدبر أمورنا. حذرتك بأننا سنصبح ضيوفاً ثقلاء بعد عدة أيام فغضبت وقلت إنني أهينك بكلامي هذا. لم يدر في خلدي آنذاك سوى أنك تساعدني لوجه الله وليس لأي سبب آخر، الغريب يسارع إلى تقديم العون في مثل هذه الظروف فكيف بالقريب؟.
تشاغلت بإشعال سيكارة ونفثت الدخان بقوة:
- بلى ياإبراهيم وثقت بك وقلت لنفسي إنك تغيرت فعلاً بل وبدأت أرتاح إليك وأطمئن إلى صداقتك، لكن ذلك لم يدم طويلاً. فاجأتني بعد أشهر بالعزف من جديد على نغمتك القديمة غير مدرك أن رحيل طارق لم يغير شيئاً في مشاعري نحوك أما تفسيرك المضحك لاعتدائك عليّ فهو أسخف مايمكن أن أسمعه. أنت أحمق يا إبراهيم إذ تنساق إلى هذا الحد وراء أوهامك المريضة وافيتك إلى بيتك لأسباب كثيرة، الأول لأنني امرأة تثق بنفسها، ولا تخاف أن تكون واحدها مع قطيع من الذئاب لا الرجال فقط، والثاني لأنني لم أتصور أبداً أن تنحط إلى ذلك الدرك من السفالة، والثالث لأنني كنت أعرف ماذا تريد وكنت مصممة على وضع حد لك بعد أن طفح كيلي من إلحاحك وإصرارك.
لوحت بيديها بعصبية ونخرت:
- لكن حدث مالم يخطر لي على بال.... ورغم ذلك لم أتأثر كثيراً، أتعرف لماذا؟ لأن جسدي كان ميتاً وأنت تعيث فيه، ولأنني لم أعتبرك رجلاً بل حيواناً أصابه السعار.... لهذا تغلبت على الصدمة وضبطت أعصابي وقررت أن أبقى وكأن شيئاً لم يكن. قد لايكون هناك عذر أخلاقي لسلوكي لكن العذر الواقعي موجود دائماً. لقد علمتني تجربتي أن للحياة شروطها القاهرة التي ليس بإمكاني اتقاء شرها إلا بدفع ثمن فادح قد يكون أهونه التضحية بجسدي. كان عليّ أن أختار بين السيء والأسوأ، السيء أن أبقى والأسوأ أن أرحل لأتشرد مع أطفالي، لاتحسب أنني كنت مرتاحة ومطمئنة.... لقد بحثت عن عمل، أي عمل، وكنت مستعدة حتى للخدمة في البيوت، لكن الأبواب كانت كلها مغلقة في وجهي، فاضطررت إلى التنازل وإحناء رأسي كيلا تقتلعني العاصفة... أنا لا أبحث لنفسي عن البراءة، فأنا أعرف تماماً حجم أخطائي وذنوبي، لكنها أخطائي وذنوبي أنا ولا علاقة لك ولأي شخص آخر بها، ومن كان بلا خطيئة فليأت ويرجمني بمئة حجر‍!....
صمتت وقد تسارعت أنفاسهاوهي تحدق إليه بشراسة، بدا عليه الشرود قبل أن يفقع فجأة ضحكة ساخرة:
- منطق محكم.... لكنه مجبول بالباطل، طالما كنت على هذه الحالة من اليأس التي أجبرتك على الرضوخ لشروط الحياة القاسية كما تزعمين، فلماذا رفضت الخيار الأخلاقي الذي قدمته لك؟ لا أظن أن الزواج مني كان أسوأ من تعهير روحك وجسدك، حتى وإن كنت لا تكنين لي أية عاطفة.. عرضت عليك حلاً مشرفاً ووفرت لك فرصة العيش بكرامة أنت وأولادك والتخلص من كل مشاكلك ومخاوفك، لكنك رفضته بكل استهتار فلماذا؟.
وكأنها كانت تنتظر هذا السؤال بادرت تجيب بلؤم:
- الزواج بك كان يعني لي أن أعيش حالة اغتصاب دائمة!.
أدركت، إذ شحب وجهه ورمقها بذهول فاغر الفم، أنها بالغت في قسوتها، فاغتصبت ابتسامة باهتة واستدركت مضفية نبرة لطف على صوتها:
- لا أريد جرح مشاعرك يا إبراهيم، أرجوك دعنا ننسى الماضي بكل سيئاته وحسناته، لا أنكر جميلك، وفضلك عليّ، فبقدر ما كنت حبيباً سيئاً كنت صديقاً طيباً عطوفاً وقفت إلى جانبي وأغثتني يوم احتجت إلى من يقف إلى جانبي ويغيثني.لماذا لا نكون أصدقاء فقط؟ الصداقة الحقيقية أجمل من الحب مئة مرة، فتخلص من حبك الخائب وعش.. ودعني أعيش!.
- الويل لك.... الويل لك!.
فح ممتقع الوجه وقد بلغ به الغضب حد الهيجان، اقترب منها رافعاً يده كأنه يهم بصفعها فتقهقرت وهي تطلق صرخة تحذير، توقفت فجأة وضرب فخذه بعصبية وزمجر:
- لا بأس ، لا تخافي، مع أنه بودي لو أقتلك وأخلص حقاً...
نفخ بقوة ثم قرر بيأس :
- لقد أحببتك كمالم يحب رجل وامرأة وعذبتني أنت كما لم تعذب امرأة رجلاً.... لم أستطع نيلك ولا التحرر منك.... لم يبق لأي شيء معنى... وهاأنتذي تفلتين من يدي للمرة الثالثة ليس بسبب طارق فأنت لن تسترجعينه وهو لن يرجع إليك، كوني على ثقة بذلك، بل لأنني يئست فعلاً، الثالثة ثابتة... دمرّت أحلامي ودمرتني معها، عليك اللعنة..
- دمرت نفسك بيدك ولا علاقة لي بالأمر، لست أول ولا آخرخائب في حبه يا إبراهيم... ولو كل خائب تصرف مثلك لتوقفت الحياة وخرب العالم، أشعر فقط بالأسف لأنني سببت لك العذاب، هذا إن كنت صادقاً، أما طارق فاطمئن من جهته، سأسترجعه...
قالت بثقة متناهية، فتفرس فيها بعينين جاحظتين ثم أمسكها من معصمها بقوة وقال بحنق:
- تخلصي من أوهامك يا امرأة، قلت لك إنه لن يرجع.
سحبت معصمها بعنف وسألته بقلق:
- ماذا تعني؟.
- أعني ماقلت بالحرف، لن يرجع.
- أهناك ماتخفيه عني يا إبرهيم.؟.
بدا عليه الشرود هنيهة ثم غمغم بلطف مناقض تماماً للهجته السابقة:
- لا أخفي شيئاً ، أظن أنني انفعلت أكثر من اللازم.
نظرت إليه بحيرة ثم زفرت بهدوء وتهالكت على الكنبة قبل أن تقول وقد شابت صوتها رنة عتاب:
- كفانا قسوة على أنفسنا يا إبراهيم، إننا نتصرف بحماقة منقطعة النظير ولقد آن الأوان لنتعقّل. كفانا طيشاً ، كفانا... لقد تعبت واهترأت أعصابي ، إنني أحتاج إلى صديق ناصح شفوف، وكنت آمل أن أجده لديك فإذا بنا نعامل بعضنا كأعداء موتورين.
حدق إليها وقد بانت عليه الدهشة.. لم يستطع استيعاب معنى الانقلاب المفاجئ في موقفها وكأنها ليست هي التي كانت تواجهه قبل قليل بمنتهى القسوة. بإن عليها الضعف والإحباط وكأنها موشكة على الانهيار فعلاً. توقف عند الغضون العميقة وقد ملأت وجهها الأصفر فيما تهدل جلد فكيها وازداد السواد حول عينيها اللتين ضاقتا وغارتا فبدت متعبة مكتهلة... اجتاحه شعور طاغ بالشفقة عليها فاقترب منها مادّاً يديه وكأنه ينوي أخذها بين ذراعيه، لكنه.توقفت ما إن رفعت يدها مجفلة وقد ومضت في عينيها نظرة تحذير. أسبل يديه وقال بفتور وقد استعادت ملامحه جمودها:
-أنت تطلبين المستحيل، من الصعب أن نحل مشكلة عمر في يوم ياعواطف. لم أقصد استفزازك بالقول أنه لن يرجع بل كنت أقرر حقيقة واقعة. لقد تكلمنا بمافيه الكفاية حول هذا الموضوع، وماعاد ثمة فائدة من قول المزيد، أنصحك بإخلاص أن تنزعيه من رأسك المتعب الذي ركبه القلق وفقد صوابه، عيشي الواقع كما هو لأنك أضعف من أن تغيّري قيد أنملة فيه. تبدين لي أحياناً ساذجة إلى حد أصدق معه أن المرأة مخلوق بنصف عقل مهما صارت وتصورت!.وطالما الأمر هكذا اذهبي وخوضي حربك الخاصة وحدك واخسريها وحدك.
- لن أخسر ، كن على ثقة من ذلك...
قالت بحدة، فابتسم بغموض واتجه إلى المكتب، تناول سيجارة وقلّبها بين أصابعه المشدودة، أشعلها وسحب منها بشراهة ثم اتجه إلى النافذة ماراً من وراء عواطف. كانت طلائع الفجر قد أرسلت نورها الرمادي تكشف عن الطبيعة غلالتها السوداء فبانت تضاريس الخليج وهياكل السفن الرابضة كتماثيل فوسفورية تعكس أضواء خافتة لا حياة فيها. حين تكلم كان صوته خافتاً غير مسموع بوضوح:
- ستخسرين كثيراً، بالأحرى لقد خسرت وانتهى الأمر، وأنا أول خسائرك، ماكنت صادقاً حين أبلغتك أنني سأرحل، أما الآن فلا يوجد أمامي سبيل آخر، ليس بمقدوري أن أصبر أكثر مما فعلت، صار بقائي عبثاً في عبث ياعواطف... نعم، أظن أن الوقت حان لأتركك تنزعين شوكك بيدك. تريدين استعادة طارقك المزعوم فافعلي ذلك وحدك وأنت عارفة أنه ليس ثمة مغفل اسمه إبراهيم نصار ليقيك من عثراتك ويساعدك كلما وقعت في ورطة أوتأزمت أمورك. قراري هذه المرة نهائي وحاسم، سأنتزعك من قلبي وحياتي مهما سبب لي ذلك من ألم.
استدار نحوها بوجه ران عليه الهدوء. كانت صامتة هادئة بدورها. وضع السيكارة في فنجان القهوة فانطفأت بنشيش خافت:
- بلى، عليّ انتزاعك من قلبي حتى لو اضطرني الأمر إلى إجراء عمل جراحي، والهيئة أن الظروف تمد لي يد المساعدة. تلقيت قبل أيام رسالة من ابن عمتي يبلغني فيها أن لمياء أدمنت على الكحول إلى درجة لم تعد معها قادرة على رعاية ابنتي: لابد أنها صارت صبية الآن. كنت أفكر بتكليف محام برفع دعوة قضائية لنزع حضانة الصغيرة منها، أما الآن فأرى أن أذهب لمتابعة القضية بنفسي، إنني بحاجة إلى تغيير الهواء والناس، منذ زمن وأنا أفكر بزيارة الولايات المتحدة.
قطع حديثه دخول مريم دون استئذان، لم تترك له مجالاً للتعبير عن غضبه، إذ اقتربت من عواطف وقالت لها دون أن تلتفت نحوه:
- قالت ناديا إن الجنرال على معرفة بالمسألة من البداية...
زمجر بصوت خافت فيما بدت الحيرة على عواطف فنهضت وهي تجيل بصرها بين الاثنين:
- أي مسألة؟.
- أسأليه؟!.
تطلعت إليه باستغراب. شد جذعه وضيق عينيه وقد بدا عليه الارتباك، تلجلج قليلاً لكنه سرعان ما سيطر على نفسه، وقال ببرود:
- كنت على علم بالمسالة منذ اللحظة الأولى، قد تنجحين في إخفاء الأمر عن الجميع إلا عني. تابعتك خطوة خطوة، وقابلت الرجل... أعني عامر كمال.
بدا عليها الذهول وحملقت إليه بعينين جاحظتين، حين تغلبت على دهشتها وجدت صعوبة في السيطرة على صوتها الذي خرج متلعثماً:
- ولماذ لم تقل لي؟.
- رأيت أن تدخّلي قد يزعجك فاكتفيت بالمراقبة من بعيد.
- دعينا وحدنا يامريم.
قالت بنبرة آمرة وقد استعاد صوتها صلابته، حين خرجت مريم وردت الباب وراءها ضحك بسخرية:
- إنك تخيفينني!.
- قابلت الرجل إذن؟! بأية صفة وماذا دار بينكما؟.
- أردت الاستطلاع عن قرب...
- كنت تتابعني خطوة خطوة إذن؟
دمدمت بصوت مخنوق وهي تتفرس فيه بنظرة ثاقبة وكأنها تريد الغوص إلى أعماقه. فركت يديها بعصبية قبل أن تتساءل:
- إنه طارق ... أليس كذلك؟
هز رأسه بفتور:
- إن رغبت يمكن أن أصنع منه طارق مناف...
- أتعني أنك تحدثت معه في هذا الموضوع؟.
- إنه إنسان حذر جداً وبارع في التملص من الأسئلة التي تتناول ماضيه... كأنه يخفي سراً خطيراً...
زعقت عواطف بعصبية:
- إنه طارق إذن! ... لماذا لم تقل ذلك أمام الأولاد؟.
- قلت لك رأيي بوضوح، اتركيه في حاله وابقي في حالك.
حدقت إليه بغباء:
- ماذا يجري؟ أنت تتلاعب بي يا إبراهيم. كلامك مليء بالألغاز، يبدو أنك تعرف عنه أكثر بكثير مما أعرف!.
- يجوز... ولعل السبب أن الرجل أقدر من المرأة على تقييم الرجل، ولأنه يثق بالرجل أكثر مما يثق بالمرأة، لهذا فهمت عامر كمال أكثر ممافهمته أنت ، واطمأن إليّ أكثر مما اطمأن إليك. ثم إن لكل رجل مفتاحاً إن وقعت عليه وصلت إلى حقيقته ... ومفتاح عامر كمال عبادته لأسرته، ولعلك لاحظت تلك الواقعة لكنك لم تدركي تأثيرها على حياته.
- بلى أدركتها وذكرتها، وللدكتور جلال فقال، إنها قد تكون أحد المؤشرات على أنه طارق، لعلها ردة فعل غريزية على فقده لنا، وهو يخشى أن تتكرر مأساته مرة أخرى، لهذا فإن أسرته هي محور حياته.
- تمحورين كل شيء ليخدم فكرتك، على كل حال أنت حرة، أما أنا فقد قلت ماعندي.
أخذ نفساً ونفخه بقوة:
- لا تعتقدي أنني أهرب منك، أنا فعلاً أشفق عليك ياعواطف وأرجو أن يساعدك الله لتجتازي هذه المحنة بسلام، لكن بقائي أصبح عبئاً عليّ وعليك، لم يبق هناك أي أمل... كان الخطأ خطئي لأنني...
حدق إليها بثبات ثم استطرد ببرود:
- أتذكرين يوم أخذتنا أمي إلى ديرمارجرجس لتفي بنذر لها؟ قالت لنا إن كنا مؤمنين صادقين وصلينا للقديس جورج بقلوب صافية فإنه سيلبي الأمنية التي نطلبها. أشعلنا الشموع وصلينا بحرارة، تمنيت أن أصير رجلاً عظيماً غنياً لأجعلك أسعد النساء.وحين سألتك ماذا تمنيت قلت إنه سر، أتذكرين!؟.
- لا ... إلام تريد أن تصل؟!.
- إما أن القديس جورج غير صادق وإما إيماننا غير صادق، أنا من ضيّع في الأوهام عمره.
دندن بصوت حزين فسارعت تغمغم بنفاد صبر:
- كلنا ضيّعنا في الأوهام أعمارنا...
- ليس مثلي ... الهيئة أنني سأخرج مهزوماً على جميع الجبهات.
- أنت خارج إذن؟
- نعم... كفاني مكابرة...
- أملت أن نظل أصدقاء‍!
-أمازلت مصرة على أن نكون أصدقاء؟ ياللسخرية! ...
حافظت على هدوئها وهي تقول برجاء:
- عليك أن تبلغ الأولاد أن الرجل هو طارق!.
لوّح بيديه في ضيق وقال بحدة:
- إنه طارقك وليس طارقي أو طارق أولادك...
- ولكنك قلت لتوك أنه طارق ...
- قلت ؟ ماذا قلت؟ لا تراهني عليّ كثيراً ياعواطف، لقد أفرطت الليلة في الشراب وثرثرت كثيراً...
استشاطت غضباً وزعقت بحنق:
- كفاك تهريجاً، إنها قضية مصير بالنسبة لي ولأولادي وتريد تحويلها إلى مهزلة؟ لن تذهب قبل أن تعلن الحقيقة على رؤوس الأشهاد...
- رويدك... رويدك... ماذا ستفعلين؟ تصوبين مسدساً إلى رأسي وتأمرينني بالقول إنه طارق؟ لن أفعل ذلك أبداً.
- لأنك وغد حقير...
صرخت بحقد وهي ترتجف... حدجها ببرود قائلاً:
- أخشى أنك فقدت صوابك ياامرأة.. على فكرة... أريد أن أترك لك ذكرى قبل أن أرحل.
اتجه إلىالمكتب وسحب من تحت الدليل رزمة من الأوراق المخروزة لوّح بها ثم رماها على الكنبة:
- إن كنت تريدين الحقيقة فقد تجدينها هنا،أشعر الآن أنني تحررت منك...
لم تعودي تستأهلين حتى شفقتي ... اقرئيها بهدوء وتذكريني دائماً!.




 


- 10 -
صمت ثقيل الوطأة مطبق على غرفة الجلوس يزيد من كآبته النور الأصفر الشاحب للشمعدان النحاسي الضخم المركون في الزاوية بين لوحة الاوبيسون الجدارية والستارة المخملية نصف المرفوعة. الظلال الباهتة تثير الخمول في الأحداق المرهقة الناعسة وتبعث في النفوس توتراً لزجاً ينقط من الملامح المكتئبة تنم عن أعصاب مشدودة حتى الانقطاع. تأخذ اللوحة التي تمثل مشهداً ساحرا لمجون آلهة الأولمب شكل كتلة سوداء ينعكس عليها ظل وجه ناديا التي زادها الإرهاق الساكن في تعابيرها فتنة وإغراء. تتمدد نصف مضطجعة على الكنبة مادة ساقيها المضغوطتين في بنطلون الجينز الأزرق فيبرز انسيابهما المتناسق يثير في نفسي، رغم أنفي، نزوات قلقة أحاول جهدي خنقها. ليس باستطاعتي التفكير فيها إلا كأنثى مشتهاة تجسد نموذج حواء الأكمل جامعة في ذاتها كل ما أتمنى. الجمال والدهاء، اللطف والشراسة، الغرور والدعة، الفضيلة والرذيلة، الأمومة والعهر. ولولا أنها زوجة أخي ما منعني مانع عن السعي لنيلها مهما كلفني الأمر، وامرأة مثلها ليست أبداً سهلة المنال، بل إنها لتفقد كل سحرها إن لم تكن عصية كقلعة حصينة دونها خرط القتاد! هي الجائزة الكبرى لمن يتغلب على جميع منافسيه بعد صراع دموي شرس ليقف وقد خضبته دماؤه ودماء خصومه مطلقاً صرخة النصر المدوية!.
أهز رأسي إذ تتلاقى عيوننا فجأة وأسارع أهرب بنظراتي وأطرد أفكاري بعيداً عنها. أنتقل من مريم الساهية بشخيرها الرتيب إلى نضال الغارق في تفكير عميق فيوسف نصف النائم برأسه المتكئ على كتف عطاف وأحط عند هذه الأخيرة أغمضت عينيها وسرحت في أفكار هادئة كما بدا من استكانة ملامحها ودقات إصبعها الآلية على ركبتها. قميص نومها البنفسجي المغلق القبة يضفي عليها حفنة رونق تخفف من صرامة عبوسها الأخرس.
مازلت حتى الآن أستصعب تصديق ذلك الحب الذي يدعيه يوسف لكن الظاهر، أو تمثيله المقنع، يدفعني إلى التسليم بإمكانية وقوعه في هواها... كنت أمزح حين أوقفته قبل صعوده إلى الباخرة اليونانية لتقوده إلى حيث لا أعلم قائلاً بجدية:
-إن ضاقت بك السبل تعال إلى عمان وتزوج أختي. صحيح أنها تعاني من عرج بسيط وجمالها دون الوسط لكنها تعوض عن ذلك بالذكاء والمهارة والاجتهاد وطيبة القلب. ثم إن بائنتها تكفيك لتشكيل تنظيم خاص بك إن قررت ترك الحركة!.
ما خطر في بالي قط، وأنا أعرف يوسف كما أعرف نفسي، أن تصبح مزحتي حقيقة. أحب عطاف وأريد لها الخير والسعادة في كنف زوج عطوف محب. لكني ما تصورت أن يكون هذا الزوج يوسف نجيب نفسه. أن يدفن نفسه وأحلامه في حضنها البارد، هكذا أفترضه!... أينها من النسوة اللواتي كنا نبحث عنهن وسط دوي القذائف وبين أنقاض بيروت النازفة؟ كنا نفتش عن الأكثر إثارة وخبرة، الأجمل، الأفجر والأغلى. الرجل كائن بسيط واضح رتيب حتى السأم، أما المرأة فعالم صاخب مجهول وعر المسالك ضبابي الرؤية متقلب الأهواء غامض النزوات. كان يوسف يعشق التنظير:
لدى كل امرأة ما يكفي من الضد. في الحسناء ثمة قبح. في الفاضلة ثمة عهر، في الذكية ثمة غباء، في الطيبة ثمة لؤم، والعكس صحيح. وليس ثمة فرق في النتيجة بين مخدع الفاضلة وماخور ال*****. ففي المطرحين الوقائع واحدة.
بإمكاني الادعاء أنني أفهم المرأة بجميع وجوهها لكن أمي تستعصي عليّ. تنزلق دائماً ما إن أحسب أنها حطت رحالها وقررت الاستقرار. لديها دائماً ما تفاجئني به! تصدمني إلى حد زلزلة كياني. أبي حي يرزق بعد عشرين سنة موتاً؟ مسخرة... هستيريا.. جنون.. أحاول لوك القصة فتتكسر أسناني.
إنه حزيران الشؤم. شهر ملعون يأخذ معاني تجريدية كابوسية. أرى النور، ولعله الظلام، في حزيران. أبي يموت في حزيران. نُبعد من القدس في حزيران. أرمي نفسي في أتون بيروت في حزيران. تراجيديا حزيرانية. دراما حزيرانية كوميديا مأساة. ماذا يريد مني حزيران؟ أهي مصادفة أم مؤامرة مدبرة من قدر لعين- جميعنا نتحدث عن القدر اللعين. اللعنة- دأبه مناكدتي وقهري؟..
لماذا اختارت أمي اليوم وليس البارحة أو غداً؟ أرزح تحت وطأة إحساس خانق بالغيظ أودّ معة لو أمارس فعلاً عنيفاً أخفف به عن نفسي. قبل خمس سنوات وجدت في نفسي الجرأة لممارسة هذا الفعل بعقلانية ووعي وتصميم. كتبت رسالة قصيرة لنضال أبلغه بقراري طالباً منه الاهتمام بأمه وأخته ويممت شطر بيروت لا أحمل سوى جواز السفر ومئة دينار.
منذ أدركت معنى رحيل أبي رحلته التي لا عودة منها وجدت نفسي أتأقلم، بغير قليل من الاعتزاز، مع فكرة أنني صرت رجل البيت، وأنني حللت محل أبي في رعاية أسرتي الصغيرة المحبوبة. ظلت صورته بأدق تفاصيلها، رغم أنني لم أكن أتجاوز السادسة حين فارقني، محفورة في ذاكرتي بصوته الأجش الشجي وإطلالته اللطيفة وحبه الكبير لي، ولهذا، أظن، لم أصفح قط عن عواطف خيانة ذكراه بالزواج من أكرم. لربما كنت نسيته وسلوته بسرعة لولا الظروف التي تلت رحيله. رأيت، ولفترة طويلة، أنه لو لم يمت لما حدث ما حدث. لما سقطت القدس. لما أذلنا الاحتلال. لما سكنتنا المخاوف والكوابيس. لما فقدنا وطننا وتشردنا. لما وجد الغرباء الدار سائبة لنواياهم الخبيثة. كان عليّ الانتظار عدة سنوات لأدرك معنى زيارات رافايل المفاجئة المفزعة ومغزى النظرات الغريبة يلتهم بها أمي الخائفة المنكمشة العصبية. ولاكتشف، بخيبة مفعمة بالازدراء، أن الرقابة الصارمة التي فرضها علينا لم تكن لأسباب وطنية، أثارت فيَّ آنذاك مشاعر فخر اعتدت التباهي بها أمام أترابي، بل لمآرب خبيثة في الأرملة الحسناء التي هي أمي، عواطف.... لم يكن بمقدوري إلا أن أكظم غضبي الطفولي وأنا أرى إلى فزعها ما إن يداهمنا رافايل بإحدى زياراته المباغتة المرعبة. وهو الغضب الذي ما فتئ ينهشني إلى أن نادتني بيروت للتحرر منه. ولعلي ما ذهبت إليها إلا بأمل أن أتواجه فيها مع رجل يكون بترتيب من ذلك القدر اللعين، رافايل... حلمت كثيراً بذلك اللقاء. وضعت سيناريوه بالكامل وبالتفاصيل المملة. في يوم ما، وبعد معركة ضارية ما، ووسط الركام والجثث ودخان الحرائق وطعم الموت سينجلي الغبار عن رجلين مثخنين بالجراح مخضبين بالدماء يقفان وجهاً لوجه. سأعرفه من النظرة الأولى. إنه وجه لن أنساه أبداً، بنظراته النارية وابتسامته اللئيمة وأنفه المروّس وفمه الدقيق المزموم وذقنه الحليقة وسالفيه الطويلين الكثين. سأناديه باسمه وحين يحملق في مندهشاً أفرغ فيه المشط صارخاً بانتصار هذه من غسان مناف يا بن الزانية”! .
لكن القدر لاحقني بلؤمه حتى النهاية. المرة الوحيدة التي شاهدت فيها عسكرياً يهودياً بالعين المجردة كانت عندما أصيبت طائرة إسرائيلية وهبط طيارها بالمظلة في بيروت الشرقية. كان أبعد من أن تناله آلاف الطلقات التي انصبت عليه من الغربية كزخ المطر. راقبته بخمول متخيلاً بأسى البسمة الشامتة على وجه رافايل الساقط هانئاً في أحضان أهل المنطقة الشرقية. حاولت أن أفكر فيهم بحيادية علني أقدر موقفهم وأتفهم حججهم لكني عجزت. انتابني الغثيان وأنا أتصورهم يسارعون إلى الطيار ليتلقفوه بالأحضان ويعيدوه إلى قومه ليستقل في اليوم التالي طائرة جديدة متخمة بصواعق الموت التي سيفرغها فوق بيروتهم الثانية. فبصقت بقرف.
في بيروت الحصار والقذائف والرعب والبكاء والجثث المشوهة والرؤوس المقطوعة والأطراف المبتورة والدماء النازفة والنساء المفجوعات والأطفال الممزقين لا يعود ثمة قيمة لشيء. يختلط كل شيء بكل شيء. يصير الموت حياة والحياة موتا وما مضى مثلما سيأتي ومن يضحك كمن يبكي. تضيع الرؤى وتتهاوى الآمال ويتحول العالم إلى أنشوطة موت. الحالة الوحيدة الثابتة في تلك القيامة الفوضوية هي الجنس. طقوسه سرمدية خالدة أبداً مهما كانت الظروف والأحوال. كأنما هو الفعل الإنساني الوحيد العصي على الخوف واليأس والموت. صعقت لدى رؤيتي رجلاً وامرأة يخرجان عاريين من بين أنقاض عمارة طالتها قذيفة إسرائيلية وقد خضبتهما الدماء. ضحكت حتى سالت دموعي وهما يركضان إلى سيارة الإسعاف برشاقة غزالين جبليين غير مباليين بالناس وجروحهما وتعثرهما بالأنقاض وقد غطت المرأة وجهها بيديها وستر الرجل عورته بقطعة خشبية. كان ذلك لقائي الأول بيوسف نجيب. كلما استعدنا تلك الحادثة تنفرج شفتاه عن همهمة تحسر قبل أن يعلق متهكماً:
-الجحيم ذاته محتمل إن كان الجنس مسموحاً فيه. لكني أخشى أن يكون أقسى عذاب فيه حرمان نزلائه من الجنس!.
قرّبنا من بعضنا كوننا المسيحيين الوحيدين العاملين في منطقة الفاكهاني. يوسف في أمن فتح وأنا في الدفاع المدني. اكتشفنا أن بيننا أموراً كثيرة مشتركة. عشق النساء والطباع النزقة والنقمة على العالم والتوق إلى المجد، دون أن يكون ثمة معنى محدد لهذا المجد. اعتدنا أن نمضي ساعات طويلة في منزله القريب من مكتبه نشرب العرق ونلغو في كل شيء. الحرب والسياسة والثورة والعرب واليهود والرجعية والدين وأمريكا وروسيا والله والإنسان والجنس. حين ننتشي نؤم بانسيون الست بديعة لنمارس الجنس الفردي والجماعي على أنغام موسيقا فاغنر وأغاني فيروز وأزيز الرصاص والقذائف. لم تفدنا حادثة يوسف في تعلم الحذر والحرص. قررنا أن الموت في أحضان المرأة هو أمتع وأنبل وسيلة لمغادرة دنيانا المعاقة،وتوطدت علاقتنا فلم نعد نفترق كي نموت إن حانت منيتنا سوية!.
حين سألني يوسف إن كانت عطاف ستقبل به ولن تعترض عواطف أجبته بثقة:
-سيحبانك كما أحبك. ثم إنهما لن يعثرا على أحسن منك. ولا تنسى أنني رجل البيت وولي أمر الاثنتين!.
ولي الأمر!... رجل البيت! الأب! طارق حي!... سيخ نار يخترق رأسي كلما أفكر بذلك الجنون الذي أصاب عواطف. أحاول استيعاب الأمر وتفهمّها والتعامل معها بحكمة لكن عنادها يقودني بدوري إلى الجنون. ماذا يحدث؟ لماذا يحدث؟ أهو بداية سقوط جديد؟.
يبدو لي أحياناً كما لو أن ثمة دورات عذاب في الحياة لا تني تتكرر بآلية قدرية لا مفر منها. الدورة الأولى موت أبي. الدورة الثانية مغادرة القدس... وجه أمي في بياض الشمع وعيناها الحمراوان تحجرت دموعهما وهي تبلغني بصوت لم أسمعه منها قبلاً ولا بعداً أننا سنرحل صباح بعد غد. يتساءل نضال بفزع إن كان الرحيل يعني أن نترك كل شيء وراءنا. تتجاهله. وأتجاهله بدوري منسلاً إلى الحمام مطلقاً لدموعي الخرساء العنان. حين خرجتُ كانت قد سيطرت على أعصابها واستعادت هدوءها فراحت تتكلم وتتحرك بآلية خرجتُ متجنبة النظر إليّ كأنها لا تريدني أن أرى ضعفها. عيل صبرها من نشيج مريم فزعقت فيها بحدة أن تخرس وتغرب عن وجهها. حام نضال حولي بقلق وهو يبكي فطبطبت على رأسه بلطف وطمأنته أن كل شيء سيكون على ما يرام. لكني كنت واثقاً أنه لم يبق شيء على ما يرام.
الدورة الثالثة كانت زواجها من أكرم النحاس. لم أصدق أنها قادرة على التخلي عن كل شيء، ذكرى أبي ونحن، بسهولة تخليها عن ثوب قديم من أجل رجل أثار حقدي بقدر ما أثار موقفها اشمئزازي. أصغيت إليها مذهولاً وهي تحاول تخفيف الوطأة عليّ بالإدعاء أنه رجل طيب كريم فاضل سيكون لنا نعم الأب.. حاولت إعماء بصري برزمة من الدنانير لوحت بها أمام وجهي طالبة مني أن أكون كما عهدتني دائماً، رجل البيت، أرادت شرائي مثلما اشتراها أكرم. جاشت نفسي بالغثيان ورغبت أن أصرخ فيها ألعنها وألعن المال. أن أصفعها علها تعود إلى رشدها وتتخلص من نزوتها الحمقاء. أن أقول أن عليها البقاء فأنا رجلها ومعيلها والمسؤول عن الأسرة وسأعمل كي لا نحتاج أحداً ولا يشترينا أحد. إنها لنا وليس من حقها أن تكون لغيرنا حتى لو كان الثمن مال الدنيا كله.
تحركت ناديا وتمطت متنحنحة بخفوت. فتح عينيه نصف فتحة وتابع باستمتاع حركة ردفيها الرشيقة وهي تنهض وتنساب إلى البلكون. لم يبق في الغرفة إلا عطاف ومريم. الاولى ما تزال سادرة في شرودها والثانية انتظم شخيرها الخافت. استوى في جلسته ثم سأل عطاف عن نضال ويوسف. لوت شفتها دلالة جهلها:
-وماذا الآن؟.
لم يكن في مزاج لقول أي شيء حول الموضوع. إذ ظل صامتاً أردفت برجاء:
-الماما في وضع صعب يا غسان فلا تكن قاسياً عليها....
هز رأسه دون معنى وخرج إلى البلكون. امتعض إذ لم يجد ناديا فجلس على الأرجوحة. ألاّ يقسو؟ عليه أن يقسو قبل أن يضيع كل شيء... لو أنه قسا يومذاك لربما كانت أعادت النظر في الأمر. لكنه سكت مكتفياً بلوك أفكاره الخرساء مقهوراً. ابتسمت بحبور معتبرة صمته دليل رضاه. حين رحلت وهدأ غليانه بعض الشيء حاول قسر نفسه على تقبل الأمر والتأقلم مع ما لا بد منه. ارتمى، وقد فاض المال في يده في مناشط وجدها تنسجم وظروفه الجديدة. أهمل دراسته وعاش على مزاجه مراهقاً متلافاً يلهث وراء المتع والملذات والموبقات. لكن كل ذلك لم ينفعه كثيراً. ما إن يعود إلى البيت الخالي منها حتى يصيبه هياج مجنون وهو يتخيلها تتمرغ عارية في أحضان أكرم الفاسقة مثل أية ***** رخيصة يشتريها بحفنة نقود، فلا يجد أمامه إلا نضال ومريم يفش حنقه فيهما. كان تحمسهما لزواجها وابتهاجهما بعطايا أكرم وهداياه يثيران حنقه ويدفعانه إلى معاملتهما بلؤم وقسوة. تحملته مريم بصبر عجيب لكنها فقدت ذات يوم أعصابها حين ضرب نضال بقسوة لتجاسره على توجيه ملاحظة جارحة له، فانفجرت تلعنه وتعنفه وتهدّده بالاتصال بأمه لتأتي وتضع حداً له. طاش صوابه لتطاولها عليه وقذفها بإبريق زجاجي أصابها في رأسها وأفقدها وعيها. انتابه الرعب وهو يرى الدماء تنبجس من جبينها بغزارة فسارع يغادر البيت لا يلوي على شيء معتقداً أنه قتلها. هام على وجهه حتى الصباح وهو فريسة للقلق والندم والخوف. حين هدّه التعب وامتلكه اليأس لم يجد بداً من طرق باب بيت ابراهيم. استقبله بحرارة وأصغى إليه بتفهم دون كلمة لوم واحدة. طمأنه مازحاً أن مريم شيطانة ولن يقتلها شيء... وكان محقاً... رجع إلى البيت حيث وجد أن إصابتها اقتصرت على جرح سطحي عالجته بثلاث قطب في مستوصف الحي. اعتذر منها ووعدها باصلاح سلوكه ولكنه فشل. وكان لا بد أن تصل كل هذه الأحداث إلى مسامع أمه، وأن تحضر خصيصاً إلى عمان "لمناقشته الحسابوإعادته إلى الطريق القويم.." قالت له إنه خيب أملها في أن يكون رجل البيت، وما هو إلا غلام طائش تكاد تفقد كل آمالها فيه. فقد أعصابه وقال دون تفكير أنه لومارس دوره كرجل البيت لما كان سمح لها ببيع نفسها لأكرم النحاس ولظلت امرأة محترمة وأماً فاضلة!..
مايزال حتى الآن يحس طعم صفعتها المدوية فيلتهب وجهه ويرتجف مقروراً يسحقه إحساس ممض بالإثم والخزي. طردته من حضرتها قائلة إنها لا تريد أن تراه ثانية أبداً. خطر له أن يلم أغراضه ويغادر البيت نهائياً، لكنه وجد الفكرة، حين هدأ قليلاً، مغامرة غير مأمونة العواقب. فهو المخطئ في حق أمه أولاً ولا يملك من المال إلا ما يكفيه لأيام معدودة ثانياً والمغادرة في مثل هذا الظرف تعني ألا يعود ثانية أبداً. فبقي لكنه تجنبها طيلة الأسبوع الذي أمضته في عمان. صار ينسل من البيت في الصباح الباكر ولا يرجع إلا في ساعة متأخرة من الليل. حين جاءته مريم عشية سفر أمه ترجوه إصلاح الأمور أدرك أنها هي التي أرسلتها رغم إنكار مريم الشديد. قالت له إن تصرفه لا يصدر إلا عن ابن قسا قلبه وتحجرت عواطفه. كررت معزوفتها التقليدية عن تاريخ أمه المجيد وتضحياتها الكبيرة من أجلهم منذ وفاة أبيه وحتى زواجها من أكرم. قالت إنه لا يحق لأحد أن يلومها ويحاسبها إلا إن كان ابناً عاقاً، مثله، أو رجلاً مأفوناً حاقداً كابراهيم. حدق إليها بذهول وقد فاجأته إشارتها إلى ابراهيم. تأكد أن مريم. الأبعد ما تكون عن الذكاء، إنما تنطق بلسان أمه.
لا يستطيع إنكار وقوعه تحت تأثير إبراهيم الكبير آنذاك. كان يراه على العكس من أمه المتحفظة ومريم المعادية، رجلاً رائع الشمائل يجمع إلى رتبته العسكرية الرفيعة الظرف والثقافة والكياسة واللطف. فكن له احتراماً وودا عميقين واعتبره، ولا سيما بعد حادثة مريم، مثلاً أعلى يحتذى. وتوطدت منذئذ علاقتهما رغم ما بينهما من فوارق عمرية وعقلية ومعرفية. لم ينس أبداً فضل الرجل عليهم أيام محنتهم وشهامته في استضافتهم عامين عاملهم خلالها كأنهم أفراد أسرته لا مجرد أشخاص تربطه بهم صلة قرابة بعيدة. حين تلقى برقية أمه تبلغه باختضار أكرم وتطلب منه موافاتها إلى مرسيليا وقع في حيرة. قرر في البدء تجاهل دعوتها قائلاً لنفسه إنها مثلما بدأت نزوتها وحدها عليها أن تنهيها وحدها. لكنه سرعان ما اكتشف أنه لا يستطيع أخذ الأمر بمثل هذه الرعونة. فهي رغم كل شيء أمه، والمحتضر زوجها وولي نعمته أحب ذلك أم كره. ولو لم تكن في حاجة ماسة إلى من يقف بجانبها في هذا الظرف لما استدعته. حين ضاقت السبل أمامه وشعر بحاجته إلى ناصح لجأ إلى إبراهيم. أنبه هذا بشدة على موقفه المفتقر إلى الحد الأدنى من اللياقة والإحساس بالواجب. قال إن عواطف لا تستحق أبداً هذه القسوة. وهي لو أرسلت وراءه لضرب صفحاً عن كل ما مضى وهرول إليها ليقف بجانبها:
-لا يحق لك إدانتها. إنها امرأة عظيمة مهما فعلت، وهي لم تخطئ في حقك أو حق أخيك وأختك...
بعد يومين طار إلى فرنسا ووقف إلى جانبها في حزنها. لكن الشرخ كان قد فعل فعله بينهما. انتظمت علاقتهما منذئذ على أسس يغلب عليها التكلف والتحفظ، لا سيما وهي تندمج في شخصية الأرملة الحسناء الثرية مالكة شركة القدس التجارية. طمح إلى أن يكون له دور في إدارة الشركة لكن يفاعته وجهله بالأعمال التجارية حالا، مؤقتاً، دون ذلك. ويبدو أنها أدركت رغبته فحرصت، وكأنها تحاول إعادة الروح إلى علاقتهما، على استشارته في كل كبيرة وصغيرة موحية إليه بأنها تضع فيه كل ثقتها. حين ناقشته في حاجتها إلى رجل أهل للثقة اقترح عليها إبراهيم نصار. ابتسمت بارتباك قبل أن تقول إنها تفضل العمل مع شخص آخر بمنأى عن العلاقة الشائكة بينها وبين إبراهيم. أجابها بأنه لا يرى من هو أوثق وأقدر منه على إدارة الشركة.
زارته في منزله بعد أيام واضعة حداً لقطيعة استمرت أكثر من أربع سنوات لقي استقبلها كملكة نزلت عليه دون ميعاد. وافق على عرضها بغبطة طفل لقى القمر في سريره. حين حاولت زوجته كبح جماحه بالقول إن عليه التفكير ملياً في الموضوع رد بحزم لم يخل من جفاء أنه يتطلع إلى مثل هذا العمل منذ ترك الجيش، ثم أنه لا يستطيع رفض طلب لعواطف، ابنة عمه رياض بشارة!.
سكتت زوجته على مضض وقد تعكر وجهها ومزاجها وكأنها أحست بالخطر القادم...ولم تتحرج أمه عن القول باستهجان ما إن خرجا من بيت إبراهيم:
-ماذا رأى في تلك اللعبة البلهاء ولماذا اختارها صغيرة إلى هذا الحد؟.
أدارت السيارة ثم غمغمت:
-لم أتصور أن يكون بمثل هذه الحماقة ليتزوج طفلة. قد يتمتع بها فترة، لكني أراهن أن زواجهما لن يستمر طويلاً.
لم يعرف إن كانت أمه لعبت دوراً مباشراً، إضافة إلى دورها غير المباشر، في تدمير حياة إبراهيم الزوجية. راقب بأسف تخلي إبراهيم عن زوجته وطفلته دون مبالاة وانصرافه بكليته إلى الشركة -عواطف باذلاً جهداً جباراً لجعلها واحدة من أبرز وأنجح الشركات في ميدانها.
-في أسوأ أيام الحصار ما بدا عليك الهم مثل اليوم ؟
لم يستوعب كلام يوسف إلا بعد أن كرره... أفسح له ليجلس بجانبه قبل أن يقول بسخرية مخفضاً صوته إلى درجة الهمس:
-رحم الله بيروت وأيامها. على الأقل كنا نعرف أين نحن وماذا يحدث.
-لهذا كنا نرفض الزوغان في الغارات؟.
-كنا مطمئنين إلى أن ساعتنا لم تحن بعد.!
-وحتى لو حانت فالموت في العراء على وجه الأرض...
-أفضل من الموت كالجرذان تحت الأنقاض..
-كنا نموت خوفاً من أن تكون نهايتنا كهؤلاء التعساء الذين كنا نتقيأ ونحن نسحب بقاياهم.
-الموت الرحيم في أحضان عفاف..
ضربا كفيّ بعضهما بعضاً ثم ضحكا بمرح قبل أن يقول يوسف بلهجته البيروتية:
-سقا الله تلك الأيام! أين يمكن أن تعثر اليوم على نساء مثل عليا ورسمية وميرفت وأم وصفي والحيفاوية وتيريز والأميرة زينة وكتكوت؟..
-رغم كل الموت والعذاب كنت تلقى من يقدم لك لحظة حب حقيقية تنسى معها الحرب والموت والعذاب.
-إن لم يكن من الموت بد فمن العار أن تموت بتولا؟ لماذا لم نظل شبانا عابثين عبثيين مجانين نعيش ليومنا فقط
-لأن عصر الجنون انتهى وبدأ عصر اللاجنون. أتعيد الكرة لو أن الحرب نشبت الآن!
حدق إليه يوسف بإمعان ثم قال بسخرية:
-كفاني ما نلته. منذ وعيت وأنا أخوض حروبي وحروب الآخرين. ألم تقل إننا صرنا في عصر اللاجنون؟ اعقل إذن واترك الجنون لغيرك. لا. لن أعيدها. وأنت؟
أشعل غسان القداحة التي وجدها على الأرجوحة فشع وجهه للحظات مكفهرا مقطباً ثم ذاب في العتمة وهو يقول بكآبة:
-ولم لا أفعل؟ الهيئة أنني ما أزال أفضل عصر الجنون. أحس أحياناً بالقرف إلى درجة التفكير في التخلي عن كل شيء والرحيل بحثاً عن... لا أعرف ماذا.
-ماذا يقرفك؟
أشعل غسان القداحة وتفرس في يوسف:
-أتساءل أحياناً إن كنت ذهبت إلى بيروت فعلاً أم ما كان الأمر إلا وهماً!.
نفخ يوسف على النار فانطفأت قبل أن يقول بثقة:
-وهم. هذا هو القرف!.
-المسيح قام من بين الأموات. الأب والابن والروح القدس. الحب والحرب والموت. الأقانيم الثلاثة. أحبوا بعضكم بعضاً. اكرهوا بعضكم بعضاً. العين بالوجه والسن بالفم - ماذا تقول لو جاءك الآن من يقول أن أباك قام من بين الأموات؟.
مرت فترة صمت طويلة قبل أن يرد يوسف بسخرية:
- جنون مطبق. مات أبي وأنا في العشرين من عمري في معركة تل الزعتر ودفنته بيدي في بستان قريب مع عدة جثث أخرى. لا مجال لمثل هذا الاحتمال بالنسبة لي على الأقل؟.
- وبالنسبة لي؟.
سأل غسان بخواء. أطرق يوسف ثم قال برفق:
-ليس مستحيلاً. لكن العقدة هي فقدان الذاكرة. لا أستطيع هضم فكرة أن يعيش هذا الرجل حياته الطبيعية باسم وشخصية إنسان آخر بكل هذه البساطة... لكن كما قلت إنه عصر اللاجنون، حيث كل شيء ممكن. ولا أخفيك أنني أشعر بالتعاطف مع أمك. سواء كانت بكامل قواها العقلية أو تعاني من حالة هوس جعلتها تتخيل زوجها الراحل في صورة هذا العامر كمال، وسواء كانت مصيبة أو مخطئة، فإنني معجب بعنادها وتصميمها على القتال حتى الرمق الأخير من أجل ما تؤمن به.
-وهذه هي العقدة الأصعب!.
فاجأهما نضال بتعليقه الساخر وهو يسد باب الشرفة بجسده رافعاً يديه إلى أقصاهما. لم يتمكنا من رؤية ملامحه لكن لهجته النزقة نمت عن غير قليل من العصبية. زفر بعمق وأسبل يديه بتثاقل:
-استمعت إلى نتف من حديثكما. كل شيء ممكن في عصر اللاجنون.... جميل!. إما هو طارق مناف وإما عامر كمال. الأول أبونا الميت من عشرين سنة والثاني رجل غريب لا تجمعنا به صلة ومع ذلك اقتحم حياتنا كالإعصار ليخرب طمأنينتنا ويدمر استقرارنا. إن كان أبي كما تؤكد أمي فعلينا الرضوخ للأمر وتحمل عواقبه مهما كانت، نحن وهو ..سيكون عاراً علينا أن نتجاهله وكأنه غير موجود. وإذا أضفنا إلى أمي مريم وإبراهيم والوقائع المتوفرة فإنني أرى أن الكفة تميل لصالح إنه طارق مناف.
نفخ غسان من منخره وقال بتهكم:
-لست مجبراً على تصديق مزاعمهم والانسياق وراء هلوساتهم. قد يكونون مجرد ثلاثة حمقى وقعوا تحت تأثير فكرة غيبية شيطانية.
-لا أعتقد أنهم حمقى. ومن الممكن أنه طارق.
ضرب غسان عمود الارجوحة وزمجر:
- لا تكن غبياً يا أخي الصغير!
سارع يوسف يتدخل قائلاً بحدة:
-لا داعي للمهاترات المسألة لا تحل بالمناكدات وكل واحد حر في رأيه.
-كلام جميل شرط أن يلتزم به شقيقي الكبير. إنه مصمم على أن هذا الرجل ليس طارق مناف، وحتى إن كان طارق فالأمر لا يعنينا. صحيح لا تقسم ومقسوم لا تأكل. لنحاول على الأقل من أجل خاطر ماما. إن كان طارق فمن حقها أن تواجهه بالحقيقة وإلا ليرح كل واحد في حال سبيله!.
نهض غسان وقال بهدوء موجهاً حديثه إلى يوسف قبل أن يستدير نحو أخيه:
-تحدثنا بما يكفي حول هذا الموضوع. أنا أرفض بشكل مطلق أن أربط مصيري ومصير أسرتي بقرار هذا الرجل. ماذا يضمن لي أنه لن يطلع نصاباً افاقاً يستغل الفرصة ليزعم أنه طارق الفاقد الذاكرة فيبتزها ويبتزنا معها! حتى الآن لم تصل إلى نتيجة حاسمة وإذ بها تقع في شراكه وتعرض عليه أهم مناصب الشركة وأعلاها أجراً. أنا رجل الأسرة ومن واجبي تحمل مسؤولياتي والتصرف بما تمليه عليّ مصلحتنا بمنأى عن افتراضات خيالية تزعم أن سين من الناس قد يكون أبي الميت من عشرين سنة. إن كنت مخطئاً صححا لي!.
سيطر صمت عميق بحيث بدا أن حجج غسان أفحمت نضال. لكن هذا الأخير لم يستسلم بسهولة. همهم ثم قال بهدوء وكأنه يتجنب استفزاز أخيه:
-أنت محق شرط أن تكون شكوكك في الرجل صحيحة، لكنك تقترف خطأ كبيراً إن لم تكن، وفي هذه الحالة سنتحمل وزر خطأ قد لا نغفره لأنفسنا أبداً.
-إن كان هذا ما يقلقك فإنني مستعد لتحمل الوزر وحدي. لتقع اللعنة عليّ وعلى أبنائي من بعدي لنكراني أبي، إن كان أبي، وعيشوا أنتم وأبناؤكم مرتاحي البال مطمئني الخاطر!.
أنهى كلامه بسخرية لكنه سرعان ما استدرك بصرامة.
-لن أغفر لنفسي أبداً أن نتورط في خطأ يجعلنا نأكل أصابعنا ندماً...
-ماذا تريد إذن؟.
سأل نضال ببرود وقد بدا عليه أنه رضخ لمنطق أخيه. ابتسم هذا بانتصار وقال برفق:
-لا أريد سوى خيرنا ومصلحتنا. ليس هناك ما يمنعنا من التحقيق في الأمر بترو وهدوء وعقل. وحين نصل إلى اليقين المطلق يصبح لكل حادث حديث. أما الآن فلنواصل حياتنا نحن وهو بهدوء.
-يبدو أن اجتماع القمة انتهى!.
قاطعهما يوسف وهو ينحني شاخصاً إلى إبراهيم الذي حمل حقيبته السامسونايت وراح يقطع ممر الحديقة بسرعة. ناداه غسان عدة مرات لكنه واصل مسيره دون أن يلتفت. تبادل الثلاثة النظرات الحيرى التي سرعان ما قطعها لغط صاخب اختلط فيه الصياح باللعنات.
هرولوا إلى الصالون ففاجأهم منظر عواطف التي بدت في أقصى درجات الهياج والغضب وهي تدمدم ملوّحة برزمة الأوراق:
-الوغد... الحقير... السافل..


 


- 11 -
كان عليّ أن أكون ما كنت كما كان على ما حصل أن يحصل. هو المصير الذي لا مهرب منه مهما حاول ابن آدم أن يقاوم ويتشاطر ويتملعن. منذ ولدت كُتب عليّ أن أعيش ما عشت وما سيأتي دون زيادة أونقصان. لا أميل إلى فلسفة الأمور ولكنني ألجأ إلى ذلك أحياناً محاولاً التوصل إلى تفسير أتقبل معه حتمية قدري باقتناع أو استسلام. لولا ذلك ما كانت الحياة مستطاعة بخيباتها وإحباطاتها وهزائمها.
وكنت إلى حقيقة أن طارق مناف مات. وهل هناك حقيقة أصرخ من الموت؟ كل شيء قابل للتشكيك به إلا الموت. قد نرفضه. ونكرهه ونستنكره. لكننا لا بد في المحصلة من أن نرضخ له صاغرين. فكيف إن كان هذا الموت، كما في حالة طارق، رغبة تدغدغ أكثر غرائزي الدفينة بدائية؟ لم ينزل خبر موته برداً وسلاماً على قلبي، فقد علمتني الحرب ألا أشمت بالموت، لكنني رأيت أن القدر تكفل مشكوراً بالانتقام لي ليس من طارق بل منك. لقد تماديت في تعجرفك واستكبارك وقسوتك بحيث بات لزاماً أن يتصدى لك من يكبح جماحك ويمرغ أنفك في التراب ويعيدك إلى حجمك الطبيعي. وهاقد جاءك القادر على ذلك، وبالضربة القاضية. وبموت طارق انبعثت آمالي بكل عنفوانها وضراوتها. وعدت ترافقينني حلماً أهدس به وامرأة أشتهيها وأمنية ألهث وراءها... ولكن!
كانت معارك جرش انتهت عملياً يوم تم تكليف لوائي بتمشيط المنطقة "ب" من الأحراش لتصفية ما تبقى من جيوب وفلول المقاومة. أبلغني قائد اللواء أن عليّ انجاز المهمة بأسرع وقت لقطع الطريق على أية محاولة لاستغلال المسألة إعلامياً وسياسياً ضد المملكة. كنت سأعتبرها نزهة صيف لطيفة لولا جيب صغير استعصى في المربع "ج" من مفرق جرش الجنوبي. أحاطت قواتي به إحاطة السوار بالمعصم وأمطرته قصفاً متواصلاً دون نتيجة. ما إن أحسب أنني نلت منه وأعطي أوامر الاقتحام حتى أفاجأ بزخ ناري ينصب علينا كما لو أن المتحصنين أشباح لا تطالهم نيراننا ولا ينفذ ما لديهم من ذخيرة. تحول الأمر إلى كابوس وأنا أرى كل ما حققته مهدداً بالانهيار أمام عناد زمرة مهووسة عصية على الامساك. بدا لي أن مصيري الشخصي مرتبط بالقضاء على هذا الجيب الملعون. ما عادت المسألة مجرد مهمة روتينية أنفذها بحرفنة عسكرية وبرودة أعصاب بل أضحت معركة حياة أو موت بيني وبين هذا المجهول الماكر الذي يتحداني باستخفاف متوارياً وراء قناع صخري استعصىعلى كل ما أملك من براعة قتالية وتفوق ميداني. ازداد حنقي اشتعالاً وانفعالي شراسة واللواء مضر يستدعيني ليسألني باستغراب وتأنيب عن سبب إخفاقي حتى الآن في استئصال الجيب..
أصرّ على ضرورة انجاز المهمة خلال /18/ ساعة لا غير وذلك قبل وصول لجنة عربية لتقصي الحقائق حول انتهاك الجيش لوقف إطلاق النار... رجعت وأعطيت الأمر بقصف التلة دون هوادة إلى أن يتم مسحها بالأرض. أمضيت ليلة ثقيلة وأنا أقلّب الأمر على أوجهه كافة محاولاً العثور على ثغرة أنفذ منها إلى الجيب. كانت ليلة تموزية ملتهبة راحت تشويني وتشوي كل ما حولي حتى خيل لي أن الجحيم نفسه أطبق على الكون. حين أبلغني النقيب أحمد في الفجر أن جهودهم باءت بالفشل وجدت أنني مرغم على اللجوء إلى الخيار المقيت الذي رأيته سهمي الأخير. قاومته بضراوة في البدء مدركاً خروجه الفظ على الأخلاقية العسكرية ومتحسباً من الشائبة التي قد يلحقها بسجلي المهني. لكني لم أفتقر إلى الذرائع. فالحرب بحد ذاتها فعل لا علاقة له بالأخلاق، والغاية فيها تبرر كل الوسائل. ثم إن الوزرسيقع على رأس القيادة الراغبة في الانتهاء من الأمر بأي شكل وبأسرع وقت.
استدعيت مساعدي وأبلغته أمري. اكفهر وجهه لكنه اكتفى بتأدية التحية بنزق عبر عن احتجاجه وخرج.. بعد ساعة كان زهاء خمسين امرأة وطفلاً جمعوا على عجل من معسكر الاعتقال يشكلون ترساً يتقدم قوة الاقتحام. حين وصلوا إلى عشرين متراً من التلة دون صدور طلقة واحدة أدركت أن خطتي نجحت دون سفك أي دم. شكرت الرب وغمرتني غبطة لا توصف ما إن لمحت علماً يرفرف في يد مقاتل خرج من خلف دغلة محترقة. أبلغت النقيب أحمد أنني سأفاوض قائد المجموعة بنفسي.
حين تواجهت والرجل كان كما تصورته تماماً. كائناً خارجاً من العصر الحجري بوجهه الصخري ولحيته الكثة الطويلة وشعره المتلبد كحزمة قش وثيابه المهترئة الممزقة وقد غطته طبقة سميكة من الغبار والأقذار. هذا هو غريمي الذي أعياني ستة أيام كاملة مع زمرة من المقاتلين ليسوا أقل شراسة منه. العينان فقط أشعرتاني بالرهبة. عينان كبيرتان منتفختا المحجرين مقلتاهما حمراوان بلون الدم ونظراتهما نفاذة قادحة تدل إما على ذكاء حاد أو على جنون مطبق. كنت حازماً وصلباً في شروطي. الاستسلام الكامل دون قيد أو شرط على أن يعاملوا كأسرى حرب وإلا فإن عليهم تحمل وزر مجزرة يروح ضحيتها خمسون مدنياً لا جريرة لهم. قلت له إنهم مهما صمدوا فإن نهايتهم حتمية. وأكدت له بصدق أنني أرغب في حقن دماء الجميع والخروج بأقل الخسائر الممكنة.
لفتت انتباهي مشية الرجل وهو يستدير راجعاً دون ان يتفوه بكلمة واحدة. بدا لي ارتفاع الكتف الأيمن وانخفاض الأيسر مألوفاً. تابعته بنظرات مدققة محاولاً تذكر صاحب تلك المشية.
ومضت في مخيلتي على حين غرة العينان المعروقتان متوهجتين كعيني هر. أمضيت ساعة متخمة بالقلق والهواجس بانتظار قرارهم من جهة ومحاولاً أن أتذكر أين رأيت الرجل ومن يشبه من جهة أخرى. حين عاد ليبلغني موافقته طالباً ضمانات خطية بأن يعاملوا كأسرى حرب انفجرت في ذهني صورة طارق مناف. رحت أنبش في وجه الرجل محاولاً إزاحة لحيته وشعره الطويل وندوبه. وكلما أوغلت كلما تأكد لي أن الرجل يشبه طارق مناف. اندهشت وقلقت في الوقت نفسه. طلبت من النقيب أحمد الاشراف على نزع اسلحتهم وعدت إلى مكتبي لرفع تقرير إلى القيادة. لكن صورة طارق مناف سيطرت عليّ وشتت أفكاري فاكتفيت بإرسال برقية موجزة تعلن إنجاز المهمة بنجاح ثم استدعيت النقيب وطلبت منه تنظيف الأسرى وإحضار قائدهم لمقابلتي على جناح السرعة.
بعد ساعة كان الرجل في مكتبي. وقفت مصعوقاً غير مصدق أن مخلوقين بشريين قد يتشابهان بهذه الدرجة. لو لم أكن واثقاً أن الرجل مات من أربع سنوات لأقسمت أن هذا الماثل أمامي هو طارق مناف بلحمه ودمه. ما هذه المصادفة الغريبة؟ لم تكن هناك فروقات تذكر بينه وبين طارق لولا ما خلفته المعارك على هيئة أسيري. خطر لي لوهلة أنه طارق مناف وقد قام من بين الأموات لكني سرعان ما طردت هذا الخاطر السخيف فلو كان طارق لعرفني بالتأكيد ولما ظل محافظاً على جموده. دعوته إلى الجلوس قائلاً بود:
-أنا المقدم إبراهيم نصار. يؤسفني أن الظروف لم تجمعني بك إلا في مثل هذا الموقف الصعب والمهين. كان المفروض أن نكون في خندق واحد لا في خندقين متعاديين. لقد أبليتم بلاء حسناً وصمدتم برجولة تحسدون عليها. كان بودي لو أنكم تواجهون إسرائيل بهذه البسالة والصلابة. على كل أعتقد أن كلاً منا قام بواجبه سواء عن قناعة أو تنفيذاً للأوامر. وآمل من كل قلبي أن ننتهي سريعاً من هذا الموقف...
حين ظل معتصماً بحبل الصمت دون أن يتخلى عن قناعه السميك سألته وأنا أقدم له لفافة:
-قدمت نفسك إلى مساعدي باسم غيفارا. ما هو اسمك الحقيقي؟.
-غيفارا.
رد بصوت حاد ثابت لم يوح إليّ بشيء. شعرت بغير قليل من التشويش فقررت أن ألعب اللعبة التي خطرت لي فجأة:
-سألتك عن اسمك الحقيقي الذي حملته قبل أن تحمل السلاح.
-نسيت اسمي الحقيقي.
لم أستطع التأكد من تشابه صوته مع صوت طارق. كان هادئاً وحاسماً بشكل أزعجني فنبرت فيه بحدة:
-أنت الآن معتقل وقيد التحقيق فلا تراهن كثيراً على سعة صدري!.
-أنا أسير حرب وهذا يمنحني بعض الحقوق. أليس كذلك؟.
قال بلهجة جافة أدركت معها أنه أصعب مما توقعت. فقلت ببرود وأنا أتفرس فيه:
-نحن نبحث عن زعيم عسكري يدعى طارق مناف. ألا تعرفه؟.
بدت عليه الدهشة الحقيقية وهو يبادلني النظر بحيرة قبل أن يقول بتهكم:
-لا.. هذه أول مرة أسمع فيها باسم هذا الزعيم المطلوب!.
أثارني تهكمه لكني حافظت على هدوء أعصابي وغيرت مسار أسئلتي:
-اكتشفنا أنكم لا تملكون سوى عدة مئات من الطلقات وبعض القنابل اليدوية. أين أخفيتم ذخائركم؟.
-استهلكناها كلها.
آخر مرة رأيت فيها طارق مناف كانت قبل نيف وأربع سنوات. وتحديداً في الثالث من حزيران 1967. ليست فترة طويلة لكنها كافية لإبهات صورته في ذاكرتي. حاولت استرجاعه بهيئته وملامحه وما يملكه من علامات فارقة. الأنف. الشفتان. الذقن. أذكر أن ثمة شامة في صدغه. وهو أقصر من هذا الرجل. ثم إنه كان ميالاً بطبعه إلى المسالمة على عكس هذا الرجل، فلا يمكن أن يصبح قائداً عسكرياً بين عشية وضحاها... وهناك الصوت. الصوتان ليسا متشابهين. لكن بإمكان الرجل تغيير صوته!... شعرت بالغيظ فقلت بغلظة:
-وستدّعي أيضاً أنك لا تعرف عواطف بشارة زوجة طارق وولديه غسان ونضال؟
لم تتغير تعابير الرجل وهو يجيب:
-أبداً. ولماذا عليّ أن أعرفهم؟.
-لماذا استسلمت إذن؟.
كشرّ قائلاً:
-أكنت تريدنا أن نضحي بالرهائن؟
-امتزوج أنت؟.
- لا....
-أرمل؟ مطلق؟ أولاد؟
-لماذا هذا الاهتمام الكبير بحياتي الشخصية؟.
-مجرد فضول لمعرفة خصم يثير إعجابي!.
-أنت عند وعدك إذن بأن نعامل كأسرى حرب.
-بالطبع!..
-أرجو أن تؤجل استجوابي للغد فأنا لم أرتح منذ ثلاثة أيام وأريد الاطمئنان على رجالي. ذكرني طلبه بأنني أنا أيضاً لم أرتح منذ ثلاثة أيام. صرفته ونمت كالأموات فلم أستيقظ إلا على النقيب أحمد وهو يسلمني برقية عاجلة من القيادة تطلب نقل المعتقلين قبل المساء. صحوت لكن عقلي ظل نائماً بحيث خيل إليّ أن كل مامر عليّ منذ ليلة أمس كان مجرد كابوس ثقيل ليس إلا. تنفست الصعداء وطلبت منه تنفيذ أمر القيادة لكني سرعان ما عدت إلى الواقع بكل مرارته حين سألني إن كنت أنهيت التحقيق مع قائد المجموعة.
زرته في زنزانته. كان مستيقظاً وقد بدا عليه النشاط وكأنه نام دهراً جدّد به حيويته. كان عاري الصدر فبان منكباه العريضان وعضلاته المفتولة التي تدل على امتهان قديم للحياة العسكرية، وهذا ما قضى على كل شكوكي نحوه... سألته متى انضم إلى المقاومة فأجاب منذ خلق الله آدم! سخريته مريرة واستفزازية. لم يتح لي الفرصة للتفرس في عينيه. كان يسارع إلى الهروب بهما وكأنه يخشى أن أنجح في سبر غوره. حين قلت له إن نصفي فلسطيني من جهة أمي لم يبد أي اهتمام. أدركت أنه لا يريد رفع الكلفة بيني وبينه. خطر لي فجأة إزاء الشرود الذي لاحظته في حركاته، أنه ربما يعاني من لوثة عقلية. ولا يحارب بهذه الطريقة إلا المهووسون. تساءلت في سري عن حقيقة هذا الرجل. مستحيل أن يكون مجرد فدائي نكرة جاء من المجهول ليمضي إلى المجهول عصرت ذهني مجدداً. الفارق كبير بين طارق مناف المدني المتأنق المتقلب المزاج المسالم وبين هذا المقاتل المحترف المتمرس الواثق بنفسه إلى حد الغطرسة. انبعث فيّ مجدداً نفوري وتحفظي حيال طارق لينصب على هذا الرجل. رأيت فيه بحماقة، لا بد أنها نتجت عن ظروف تلك الأيام، مشروع منانسي جديد على قلب عواطف حبيبتي المأسورة في مدينتها المهزومة والتي أنتظر بفارغ الصبر اطلاق سراحها لنلتقي مجدداً! ماذا سيحصل إن التقت به هو؟ هل عليّ أن أخوض غمار صراع جديد من أجلها؟ وتبين لي. بالحماقة ذاتها. أن كل حروبي ما كانت إلا ضد هذا المنافس بهيئتيه واسميه وشخصيتيه طارق مناف وغيفارا. من هو هذا الغيفارا؟ لا يمكن أن يكون طارق مناف. فمن يكون؟ ولماذا اختارني القدر أنا بالتحديد لأواجهه وأأسره؟.
قررت تأجيل عملية ترحيل الأسرى وطلبت من أحمد أن يحقق مع الرجل باعتباره طارق مناف. بدت عليه الحيرة وهو يسألني:
-ومن هو طارق مناف يا سيدي؟.
-ستعرف حين يعترف..
عاد بعد ساعتين ليبلغني أنه مصر على غيفارا. شعرت بخيبة أمل. كنت واثقاً أنه ليس طارق مناف فهذا ميت من أربع سنوات وعظامه صارت رميما. لكني في سري تمنيت أن يكون طارق مناف.. لعلي توهمت أنني سأستطيع أن أثأر منه آنئذ. أن أستعيد كل ما أخذه مني. عواطف وسعادتي وآمالي. لم تكن في ذهني نية محددة حين طلبت من أحمد أن يحتجزه في غرفة منفردة ويمنعه من الاتصال برجاله. لكن الفكرة تبلورت في ذهني وأنا أعد تقريري المفصل عن المعركة. زرته في منتصف الليل فرحب بي بحرارة وكأنه كان ينتظر قدومي. دخلت في صلب الموضوع مباشرة وأبلغته أنني أريد مساعدته على الهرب. لم يبد أية دهشة وكأنه كان ينتظر ذلك مني، لكنه قال بسخرية:
-وأين تريدني أن أذهب؟.
لم يستطع اخفاء ذهوله حين قلت:
-إلى بيتي في عمان...
-عش رجباً ترى عجباً!.
همس وهو ينهض متجهاً إلى النافذة الضيقة ذات القضبان الحديدية حيث راح يدقق من العتمة الحالكة. التفت نحوي بعد وهلة متسائلاً:
-وماذا يهمك من أمري؟.
-لا شيء خاص، لكن لا تروقني فكرة أن يتعفن رجل مثلك في زنزانة تحت الأرض!.
-أما تزال تعتقد أنني هذا الذي تدعوه طارق مناف؟
-الشبه غريب بينكما.
-ألا تكون تنوي قتلي بحجة محاولتي الهرب؟.
-حسبتك أذكى من أن تراودك تلك الفكرة. لا مصلحة لي في قتلك أولاً، وإن أردت قتلك ثانياً فليس أسهل من أن أفعل ذلك الآن. أتعتقد فعلاً أن هناك من يعرف ماذا يجري هنا؟.
-ولماذا تتحمل هذه المخاطرة من أجلي إذن؟.
-قلت لك السبب.
لوح بيديه في حيرة:
-وكيف لي أن أثق برجل استخدم النساء والأطفال درعاً للانتصار في معركته؟.
-المعركة التي خضناها لا تسمح لأي منا بإدعاء النبل والشهامة والأخلاق. هذا إن كان ثمة نبل وشهامة وأخلاق في أية حرب. أموافق أنت؟.
-مهما يكن فهو أفضل من التعفن... وحتى لو قتلتني فالموت أرحم من معتقلاتكم!
تمت العملية بسهولة كبيرة. في السادسة صباحاً كنا نتناول الإفطار في البيت. حين انتهينا، وقد أكل بشراهة عجيبة، أعددت له إبريق قهوة وصببت لنفسي كأس وسكي وجلسنا في المضافة المطلة على الجبل. مرت عدة دقائق بصمت ثم تنحنح:
-ما حدث يبدو أقرب إلى الخيال بحيث أشعر بالعجز عن استيعاب أي شيء. لقد هيأت نفسي للموت أو الاعتقال لكن لم يخطر في ذهني أبداً أن أنتهي في دار عدوي. أعتقد أنه صار من حقي أن أسألك من أنت وماذا تريد مني؟.
ابتسمت محاولاً إخفاء حيرتي وكنت صادقاً وأنا أرد:
-لعلي مثلك ما زلت حتى الآن عاجزاً عن استيعاب ما جرى.. أتعرف بماذا أفكر .
الآن. تفرس بي ثم هز كتفيه دلالة النفي.
-لا أخفيك أنني بدأت أشعر بجسامة وخطورة ما قمت به. لقد جازفت بتهريبك وأنا أجازف الآن بإيوائك عندي ولا أعلم إن كان باستطاعتي النوم باطمئنان واثقاً أنك لن تستغل الفرصة فتقتلني وتهرب.
ضحك الرجل بخبث:
- وكأنك تريد أن تغريني بذلك! الاحتمال وارد لكن عليك الوثوق بي كما وثقت بك. لقد أعطيتني كلمة شرف وسأعطيك مثلها. أظن أننا أكتفينا من حربنا المجنونة وأصبح من حقنا استعادة بعض طباعنا الإنسانية. وما نحن الآن إلا رجلين مرهقين ضجرين يرغبان في امرأة جميلة وضحكة نابعة من القلب علّهما ينسيان كل ما مضى.
نهض وملأ فنجانه ثانية وشرب منه متلذذاً قبل أن يردف بغير قليل من التهكم:
-كم هي غريبة النفس البشرية يا سيدي. بالكاد أصدق أنك، بكل ما تبديه من لطف ودماثة اليوم، كنت البارحة على استعداد للتضحية بعشرات الأطفال والنساء لإرغامنا على الاستسلام..
-لكل حالة لبوسها..
-دكتور جيكل ومستر هايد؟.
-في كل واحد منا يقيم هذان الثنائيان ويتبادلان الأدوار حسب الظروف والمواقف على ما أعتقد. لا أريد الدفاع عن نفسي لكن إصرارك على تذكيري بمسألة الرهائن يفتقر إلى اللباقة .. لم أجد وسيلة أخرى لإنهاء المأساة بأسرع وقت ممكن ودون مزيد من الخسائر. كان كل شيء يدل على أنكم في وضع يائس وتقاتلون دون أمل معتقدين في أن الموت في المعركة قد يكون أرحم وأنبل من الاستسلام والموت إعداماً بالرصاص. فوجدت أن الرهائن ستوفر لكم الذريعة للاستسلام بشرف.
-ولإنقاذي بشرف؟.
سألني ساخراً وعاد يجلس:
-لماذا أنقذتني؟ ماذا تريد مني؟ أحاول الوصول إلى تفسير مقنع يريحني. فكرت في عدة احتمالات. أولها شبهي بهذا الرجل طارق مناف. لكن لا علاقة بيني وبينه. ثانيها أنك فعلاً معجب بشجاعتنا أو أنك متعاطف مع الثورة الفلسطينية لكن لماذا تنقذني وحدي؟ ثالثها..
ضيّق عينيه وتضاحك بلؤم:
-أرى أن البيت تنقصه لمسة امرأة وتعشش فيه البرودة والكآبة. إنه وكر أعزب يعيش دون امرأة وأطفال. أرجو ألا تكون شاذاً جنسياً وألا أكون وجدت هوى في نفسك فأنا رجل طبيعي لا أميل إلى...
حدجته بشزر قائلاً باشمئزاز:
-كفاك سخفاً... نعم البيت كئيب دون امرأة لكن ليس لما تلغو به فلا تجعلني أندم على صنيعي معك.
-وكأنك تهددني بإعادتي إلى حيث كنت.
-يجوز. لكن ليس قبل أن أعرف من أنت يا سيد غِيفارا!.
عبس الرجل ووضع الفنجان بنزق على الطاولة:
-من أنت؟ من أنا؟ إنني غيفارا قائد الجماعة الفدائية المكلفة بالدفاع عن القطاع الجنوبي في مفرق جرش. هذا أنا لا أكثر ولا أقل.
-أين كنت في حرب حزيران؟.
سكت وحدق إليّ بثبات قبل أن يتساءل:
-ولماذا تريد معرفة ذلك؟ قل لي على الأقل ماذا تريد مني فلربما أطمئن إليك وأشفي غليلك. أرغب في أن أثق بك لكن حدسي يمنعني.
-أنت فعلاً جاحد للجميل. ألا يكفيك أنك مستريح في بيتي الآن بعيداً عن الموت والعذاب؟.
-إنها وجهة نظرك. أعتقد أنني كنت أكثر راحة واطمئناناً في الأحراش. فهناك أعرف أين أنا وماذا ينتظرني. أنا معك فلا أعرف شيئاً. لا أنكر جميلك لكنني بحاجة إلى تفسير مقنع والا فإنني أفضل العودة إلى حيث كنت.
-قد أحقق رغبتك إن تبين لي أنك لست رجلي.
-ومن هو رجلك؟
-لم تقل لي أين كنت قبل الأحراش. أريد معرفة شيء عن ماضيك طفولتك. مسقط رأسك.
-لنقل أنني فدائي مقطوع من شجرة.
-وحرب حزيران.
-أوصلتنا إلى هنا.
-تحليل رائع! أين كنت خلال الحرب؟.
-لنقل أنني كنت أتبع دورة عسكرية في دولة عربية وحين رجعت كان كل شيء قد انتهى.
-ثمة رجل يشبهك مات في تلك الحرب.
-هذه هي المسألة إذن؟ كثيرون ماتوا في تلك الحرب. لعلنا جميعنا متنا في تلك الحرب. ألم تمت أنت؟.
الثامنة صباحاً استلقيت على سريري مرهقاً كئيباً مشوش الأفكار. راح شخير الرجل يحز في أعصابي المهترئة بقسوة. انتابتني الغيرة لاستغراقه في نوم عميق كطفل هادئ البال هدّه التعب بعد يوم حافل باللعب والبهجة. ماذا يفعل في بيتي وكيف رميت نفسي في هذه المغامرة الطائشة التي قد تدمر كل ما حققته حتى الآن من مركز وشأن؟.
طارق مناف ميت فلماذا أنقذت هذا الشبيه والإم أرمي؟.
لا أخفيك أنني ذُهلت حين تلقيت رسالتك عن طريق الصليب الأحمر تتحدثين عن ملابسات اختفاء طارق وتطالبينني بالبحث عنه في الأردن. شعرت، بغير قليل من الغبطة،أن الحرب نفسها عجزت عن التفريق بيننا، بل إنها أضاعت طارق، وربما قتلته، لتظلي على اتصال بي، وبحاجة إليّ. وللمرة الأولى منذ انسحابي المهين من محور الخليل تحت وطأة الضغط العسكري الإسرائيلي، سمحت لابتسامة دافئة بأن تداعب شفتي الممرورتين من مذاق الهزيمة... ولم أقصر في بذل كل جهد استطعته في البحث عنه.
حين بلغني بعد عدة أسابيع خبر وفاته ترحمت عليه وأقمت قداساً لراحة نفسه. لشد ما وددت لو أصل إليك لأواسيك وأقف معك في تلك الظروف العصيبة.. تذكرت آخر لقاء لي معك. معكما... دبرت ساعتي إجازة رغم حالة الاستنفار القصوى وذهبت مباشرة لعندكما فاستقبلتماني بحرارة وأعددتما لي عشاء سريعاً مع بعض المازاوات الشهية وكأسي عرق. سهرنا في الحوش تحت شجرة الياسمين المتلألئة بشريط من المصابيح الحمراء مما أضفى على جلستنا جواً من الإثارة الهادئة كنت في أشد الحاجة إليه بعد أيام الاستنفار الطويلة المرهقة... استرخيت محرراً حواسي الخمس من قيودها تاركاً لها أن تصطخب بمتع ناعمة تؤطرها ابتسامة ساحرة لم تفارق ثغرك. بدوت لي وكأنك طالعة من بحر أحلامي وأنت تنضمين إلينا بعد أن أنمت طفليك. زادك الحمل جمالاً وجاذبية بحيث لم أتمالك نفسي وأطلقت آهة إعجاب قوية سارعت بلفلفتها قائلاً إنك تزدادين حسناً مما يدل على أنك ستنجبين بنتاً. علّق طارق بمرح إنه ينتظر بنتاً تكمل عقد أخويها. وأضاف إنه يتوقعها في جمال أمها وذكائه! لا أعرف سبب انقلاب مزاجي عندئذ. سيطرت عليّ الكآبة وأنا أرى السعادة التي تبديانها والتي كان يمكن أن تكون من نصيبي أنا لو.!..
رحت تتحركين بغنج وغبطة وكأنك تناكدينني وتستفزين مشاعري. اشتهيتك كما لم أشتهك من قبل قط ورحت أتميز غيظاً في سري حانقاً على الدنيا كلها. كرهت نفسي وطارق والجيش والاستنفار لكني سيطرت على أعصابي ودخلت في نقاش حاد مع طارق حول الأوضاع السياسية السائدة واحتمالات الحرب. أبدى شكوكاً حول الموقف السوري وتهديدات ناصر ونوايا الملك لكنه توقع وقوع الحرب وأمل أن يحقق العرب الانتصار حين تحق الحقيقة. لعلي كنت من رأيه لكني اندفعت إلى معارضته بحماسة مؤكداً أن تجربتي /48/و/56/ لم تتركا لدي أية ثقة في قدرة العرب ورغبتهم في القتال لهذا استبعدت الحرب تماماً.
جلست أنت باسترخاء تاركة لفستانك الأخضر الفضفاض الطويل أن يتماوج مع تعرجات جسدك مكتفية بالإصغاء وقد أغمضت عينيك نصف إغماضة وعانقت بطنك بذراعيك المرمريتين. حين بلغ خلافنا أشده عدلت جلستك وطالبتنا بأن نكف عن نقارنا ثم قلت بعذوبة أدارت رأسي إنك تؤيدين طارق فأنت متفائلة وواثقة أن الحرب ستقع وسننتصر. أضفت بثقة أنك لن تضعي طفلتك إلا في يافا مسقط رأس طارق!..
كم هي لئيمة الأقدار في سخريتها... الهزيمة وموت طارق ووقوعك في الأسر! ماذا ستقولين إن علمت أنني قنعت بالانتصار على زمرة من المقاتلين اليائسين بينهم شبيه مسحور لزوجك الراحل؟ أيكون طارق مناف بُعث في ذلك الحرش المحروق أم هي الأجساد تتناسخ بدل الأرواح في عصر أفعواني ملعون؟ ماذا يمنع حدوث ذلك في وقت تترى فيه الأنباء عن ظهور الأولياء والقديسين فوق مآذن المساجد وقبب الكنائس في العواصم العربية المدحورة المذعورة ليهرول المؤمنون خاشعين متضرعين يرفعون إلى نصب حجرية أناشيد دينية صاغوها من مخاوفهم وهواجسهم وأوهامهم... هللويا... هللويا... هللويا.... المجد لله في الأعالي وعلى الأرض الخراب وفي الناس العذاب. طارق مناف ينبعث حياً من جيب فدائي محاصر. يسخر مني ويستعيد عواطف لأطرد من ملكوت الله مجدداً!. لكنه ليس بطارق، وإنما شبة لي ..أهرّبه من الأسر وأخفيه في داري... القدر أعمى لكنه يبصر بحدة الصقر ويلعب لعبته العشواء وقد أثملته الخمر المقطرة من دماء المساكين.. يسربلني الاحساس بالعار وأنا أتلقى أمر الإنسحاب الكيفي من قطاع الخليل. القدس تسقط .. الضفة... سيناء... الجولان... حسين يبكي... ناصر يستقيل. الكل يسقط. عواطف تفر من أحلامي فزعة. طوق ناري يحاصرني فتتفتت الأرض وتهوي السماء لينسحق حلم المجد والفخار تحت سنابك جنازير صدئة. خدعوني بقولهم الحرب مكرمة أمارسها في أجواء ملحمية مهيبة تتوفر فيها كل شروط الانتصار المؤزر!.
حين صحوت من كابوسي معانياً من حالة ضنك شديد كان الرجل قد رحل. على طاولة السفرة رسالة مكتوبة على عجل بخط مشوش "صباح الخير أيها المحسن الكريم. أرحل غصباً عني حاملاً لغزاً مؤرقاً لن يقيض لي حله على ما أحسب. أظن أننا لن نلتقي ثانية إلا إن وقعت معجزة موصوفة... أشكرك على كل ما فعلته سواء كانت دوافعك طيبة أو شريرة كان بودي البقاء لمعرفة نواياك بل إنني فكرت بأن أبقى متحملاً كل النتائج لكني فضلت في النهاية أن أخمنها وأنا بعيد مطمئن البال من أن أعرفها وأنا في موقف قد لا أحسد عليه! سمحت لنفسي باستعارة أحد بناطيلك وقمصانك و/20/ دينار وجدتها في جيب سترتك. أرجو أن تعذرني وتصفح عني وإن كتب أن نلتقي ثانية فسيكون من دواعي سروري أن أردها لك مع الفوائد. سأذكرك دائماً بتقدير وحيرة. شخيرك المزعج دل على مقدار ما تعانيه من إرهاق وعلى وثوقك بي.. أرجو لك نوماً عميقاً طويلاً خالياً من الأحلام المزعجة. ودمت لصديقك غيفارا".
امتعضت لكني تنفست الصعداء لتخلصي منه. ولحسن حظي لم يثر هروبه المزعوم أي إشكال لي مع القيادة. بعد أشهر طويت صفحته معتبراً أن تلك القضية تدخل في باب الحوادث الغريبة التي ليس أمامي غير القبول بها كما هي.
الآن فقط، وبعد مضي كل تلك السنوات عرفت أنه كان تقصيراً ملحوظاً مني ألا يخطر في بالي، رغم إلمامي الواسع بمبادئ علم النفس، أنه قد يكون طارق مناف ولكن بذاكرة مفقودة ..إلا أن تلك الفكرة تبدو لي مستحيلة بقدر ما هي سخيفة. ولشد ما أذهلني انسياقك وراء وهم أنه طارق. لم أتصور قط أن ينهار بنيانك العقلي المتين لترمي نفسك في شراك أوهام لا يمكن لعقل سويّ أن يتقبلها. اعتقدت في البداية أنك ستكتشفين الحقيقة سريعاً وتعوديي إلى رشدك. لكن إصرارك على رأيك شوّشني وجعلني أشك حتى في يقيني. فكان أن قررت التدخل. راقبت الرجل عدة أيام ثم رتبت الالتقاء به أثناء انصرافه من عمله مساء أحد الأيام وبشكل يبدو معه الأمر وكأنه حصل بالمصادفة. صعق الرجل ما إن رآني ووقف فاغر الفم مذهولا وقد شحب لونه وكأنه رأى شبحاً. تبعني مسلوب الإرادة ولم يستعد روعه إلا ونحن نقتعد زاوية خافتة الإضاءة في فندق القدس. رحنا نتبادل النظرات الباردة وقد خلا وجهه من التعابير. عيناه ما تزالان على حدتهما وإن استبدلتا الحذر الشارد بالحيرة القلقة. الملامح هي ذاتها لكن الوجنتين غارتا وتغضنتا والجلد ترهل فيما غز الشيب شعره. لا أعرف إلام كنا سنظل صامتين لولا الغرسون الذي جاء يسألنا ماذا نريد. طلبت وسكي فيما اكتفى هو بالقهوة. نفخ بهدوء ثم قال بصوت مهزوز:
-ما خطر لي أبداً أنناً سنلتقي ثانية يا سيادة..؟.
ونظر إلى كتفي فقلت برفق راغباً في طمأنته:
-ابراهيم يكفي. تقاعدت منذ عدة سنوات. وأنا كذلك ما خطر لي أن المعجزة الموصوفة ستقع وأننا سنلتقي مرة ثانية يا..؟.
-عامر كمال..
-أعرف لكنني أحببت أن أتاكد... الدنيا دولاب فعلاً... لا بد للأحياء أن يلتقوا كما يقول المصريون!.
-كيف عرفت اسمي؟ كنت تلاحقني؟.
سألني بقلق فأجبت مازحاً بعد أن وضع الغرسون الطلبين على الطاولة:
-أنسيت دينك لي؟ أنا لم أنسه. مع الفوائد المتراكمة منذ /15 سنة لا بد أنه صار ثروة!.
حافظ على جديته وهو يقول ببرود:
-بحساب الفائدة الجارية والتضخم وثمن البنطلون والقميص يكون لك بذمتي مئة دينار... لكنك لم تجبني على سؤالي هل كنت تلاحقني؟..
رفعت كأسي شارباً في صحته
-يبدو أنك أنت الذي كنت تتوقع ظهوري في أية لحظة لأطالبك بديني؟.
- مجرد احتياط.
حسا من قهوته ثم استدرك بقلق:
-أي دين تعني؟.
مرت فترة صمت تبادلنا النظر فيها بريبة قبل أن أغير دفة الحديث:
-أراك في أحسن حال كأنما العمر لا يتقدم بك. صحة جيدة وشباب نضر. أظن أنك تقاعدت بدورك من ثورتك المظفرة؟.
دقق النظر في عيني يحاول استشراف مرامي. إذ حافظت على جديتي قال بهدوء:
-لم يكن ثمة مفر من ذلك. على كل حال لقد قمت بواجبي كما قمت أنت بواجبك!.
-كلنا وصلنا إلى هذه النتيجة... لا أخفيك أنك خيبت أملي. ضايقني هروبك كالحرامي من بيتي. اعتقدتك شجاعاً إلى حد المجازفة بالبقاء لإشباع فضولك.
نقر الطاولة بعقب فنجانه قبل أن يقول متضاحكاً:
-كان الوضع مربكاً ومعقداً. على كل حال شرحت لك موقفي في الرسالة. لم يكن بإمكاني تسليم أمري إلى رجل غامض كان حتى اليوم السابق عدوي الذي لا يتورع عن قتلي. آسف لاستخدامي تلك الصفة لكنك كنت عدواً غريباً من نوعه عجزت عن فهمه وإدراك نواياه. لهذا قررت أن أنفذ بجلدي قبل الوقوع في المصيدة. قلت لك وقتذاك على ما أذكر أنني أستصعب فهم التناقض بين العسكري الفظ الذي لم يجد حرجاً في استخدام الرهائن لتحقيق نصر تافه على زمرة من المقاتلين، وبين الإنسان الذي أنقذني من موت محقق لسبب لا أعرفه. أقول موتاً محققاً لأن وعدك لنا بأن نُعامل كأسرى حرب كان مجرد كلام في الهواء. لا بد أنك عرفت أن ثلاثة من عناصر جماعتي ماتوا تحت التعذيب أما الخمسة الآخرون فقد أفرج عنهم أواخر السبعينات وهم أشباه رجال ومات اثنان منهم بعد أشهر!.
أحرجني كلامه فقلت بفتور:
-أنا شديد الأسف لكني غير مسؤول عما حدث لرفاقك. لقد سبق واتفقنا أنها كانت حرباً قذرة لا مكان فيها للأخلاق والشرف، لنعف عما مضى لأن أوان الندم فات والدهر كله لا يكفينا للتكفير عن أخطائنا الماضية.
-وهل يعفو الماضي عنا؟.
تساءل الرجل بكآبة. تفرست فيه محاولاً تخمين ما يعني، فأردف:
-هذا هو السؤال! الماضي يلاحقنا ولا مهرب منه. إنه يمسك بتلابيبنا كما تمسك العنكبوت بفريستها. هل سبق لك وراقبت مهارة العنكبوت في تلك العملية. كانت الكهوف في الأحراش مليئة بالعناكب السوداء الكبيرة الشرسة. وكنت أهوى مراقبتها. إنها تكمن غير مرئية في مكان ما وراء خيوطها الحريرية المتينة. تلطي هادئة ساكنة أشبه بناسك معتكف في صومعة منعزلة يزجي وقته في التأمل والتفكير والعبادة. لكن كل شيء ينقلب رأساً على عقب ما إن تقع في الفخ حشرة ما. يدب في العنكبوت نشاط محموم وتتحول إلى وحش ضار تنقض على فريستها ناسجة حولها بمتعة خيوط الموت الحريرية. هذا هو الماضي المتربص بنا.
-إنه. حسب مثالك يتربص بسيئي الحظ فقط. ماذا في ماضيك لتخشاه حتى الآن؟.
-ألا تخشى ماضيك أنت؟.
-لا ... لقد قلت لتوك أننا قمنا بواجبنا فماذا تخشى أنت؟.
حدق إليّ هنيهة شارداً ثم ضحك وقال بسخرية:
-أنت مثلاً. قد تكون أحد عناكب الماضي...
صمت فجأة وجرع بقية فنجانه قبل أن ينظر إلى ساعته. فسارعت أقول:
-لم تجب على سؤالي!.
-وكأنك تجهل الجواب؟.
-لا أعني ماضيك في الثورة.
-أي ماضٍ تعني؟.
تساءل بدهشة صادقة أربكتني وحين تلكأت في الإجابة تابع:
-أتعرف أن زوجتي نفسها لا تعرف شيئاً عن قصتي معك. لم أحدث أحداً بها.
-لماذا؟ هل تخجل منها؟.
رمقني بحنق:
-نعم. إن ضميري ما يزال يؤنبني لأنني رضيت بإنقاذ نفسي وتخليت عن رفاقي . كان عليّ أن أبقى وأشاطرهم مصيرهم لكن عرضك أغواني وأنساني نفسي وواجبي.
-غلط... لم يكن بقاؤك ليغيّر من الأمر شيئاً.
-بل كان غيّر أشياء كثيرة. فأنا القائد ولربما كانوا اكتفوا برأسي وحدي.
قاطعنا الغرسون فطلبنا دورة ثانية من الشراب تابع من ثم:
-لا يكابد هذا الشعور إلا من يعانيه. للآن لم أنس ولم أصفح عن نفسي.
-أهذا هو الماضي العنكبوتي الذي تتحدث عنه؟.
تشاغل بقضم حبة فستق غير مهتم بالإجابة فسألته:
-وكأنك لم تعد تهتم بمعرفة لماذا أنقذتك؟.
مط شفته السفلى دليل عدم الاهتمام.
-ربما من باب الفضول لا أكثر.
-وكأنك تسعى لقطع كل صلة بماضيك؟.
-في الحقيقة أفضل أن أبقى على جهلي مواصلاً حياتي بهدوء وراحة بال.
-استسلمت إذن؟
-أهناك خيار آخر؟ وأنت... ألم تستسلم؟.
شعرت بالحيرة إذ لاحظت أن الحديث يتشعب في مسارات غير التي أريدها.. طارق مناف وعامر كمال... ثمة جناس أو طباق أو لا أدري ماذا بين الاسمين. طارق - عامر. مناف- كمال. لكن الشخصين بعيدان عن أن يكونا الشخص نفسه بعد الأرض عن السماء... من أين طلعت أيتها المخبولة عواطف بأسطورة فقدان الذاكرة؟ الرجل الماثل أمامي سويّ طبيعي لا يشكو من شيء. ومن المحال أن يكون طارقك الميت وغريمي الراحل... وبالرغم من ذلك وجدت نفسي أجيب على سؤاله:
-وأنا أيضاً استسلمت. تركت الجيش عام /75/ فقد كفتني ثلاثة حروب كاريكاتورية في سبع سنوات فقررت خوض حروبي الخاصة.
-عاقل. ويبدو لي أنك حققت انتصارات مهمة في تلك الحروب. المرسيدس التي تقودها هي أحد أوسمتك الرفيعة على ما أعتقد؟.
أغاظتني سخريته فحدجته بشزر. انكمش بلطف وكأنه يعتذر:
-ألم يحن الوقت لتفصح؟.
-بالتأكيد فأنا شخصياً مللت وتعبت من اللف والدوران. المسألة إن كنت ما تزال تذكر هي أنك تشبه رجلاً يهمني أمره وتشبهه إلى حد أنني مستعد لأقسم أنك هو رغم ثقتي أنك لست هو!.
-طارق مناف؟.
تهجأ الاسم ببطء وهو يحدق إلي بثبات فشعرت بالحيرة:
-أتعرفه إذن؟.
رشف من فنجان قهوته ثم قال ببرود:
-لا أعرف أحداً بهذا الاسم. وعلى حد علمي ليس هناك كائن يشبهني في هذا العالم سوى صورتي في المرآة، وهي خيال وهمي كما مر معي أثناء تدريسي لابني. سبق وقلت هذا لمساعدك النقيب أحمد قبل /15/سنة!.
لفتت انتباهي حدة ذاكرته فهو لم ينس اسم ورتبة أحمد رغم مضي تلك السنوات وهذا بالطبع لا يتلاءم مع قصة فقدان الذاكرة. حين خرجت من شرودي كان يراقبني باستغراب وهو يتابع:
-رغم ذلك ينتابني حالياً هاجس غريب بأن هذا الرجل يحوم حولي بطريقة من الطرق منذ اسبوعين. ورد اسمه مرتين أمامي من قبل سيدتين غريبتي الأطوار. الأولى عجوز جاءت تطلب مساعدتي في توظيف ابنها رغم أنه لا معرفة لي بها وبابنها والثانية أرملة أكرم النحاس الثري الكبير. وهي سيدة لا يستطيع أحدنا الحفاظ على ثبات رأسه أمامها. وقد عرضت عليّ العمل معها بشروط مغرية ومثيرة للريبة في آن. من هو هذا الطارق مناف وما علاقتي به وعلاقتك أنت وهاتين السيدتين؟.
تشاغلت بالشرب شاعراً بالضياع. تساءلت لماذا لايكون طارق فعلاً بالنظر إلى التشابه الكامل بينهما من جهة وإلى إصرارك على أنه طارق من جهة ثانية؟ .خطر لي أن أفرد أمامه الحقيقة كلها لأرى ردة فعله. لكن التفكير بك كبح جماحي. تناولت جرعة كبيرة من الكأس ثم قلت بلا مبالاة:
-أعتقد أنها مصادفات ليس إلا. إن طارق مناف اسم شائع ولعلك توهمت أنك سمعته من المرأتين.
-لم أتوهم.
قاطعني حانقاً بصوت ثاقب لفت نظر الرواد إلينا فارتبك وأطرق برأسه مردفاً بهدوء:
-ذكرت المرأتان اسم الرجل أمامي بشكل مقصود وكأنهما تعتبرانه مفتاحاً لكشف سر أو لغز ما. صدقني لا أعرف هذا الطارق ولا سمعت باسمه إلا في الأحراش منك وقبل أيام من المرأتين.
-وماذا كنت قبل الأحراش؟ قبل غيفارا؟.
بدت عليه الدهشة الحقيقية ثم ضحك ببلاهة:
-أأنت تمزح أم ماذا؟.
-على العكس أنا جاد جداً. ماذا كان اسمك قبل غيفارا؟.
-منذ وعيت الدنيا وأنا عامر كمال.
-ولماذا كنت مصراً على كتم اسمك؟.
حين تلكأ في الاجابة قلت راغباً في استفزازه:
-أعتقد أن هناك كمية كبيرة من عدم الصدق في أقوالك.
تجهم وضم قبضته حول فنجانه بقوة ثم غمغم باستهجان:
-أنا لست مضطراً إلى تحمل اتهاماتك المهينة!.
-لا أريد إهانة أحد بل أورد حقائق ثابتة. لقد كذبت عليّ من البداية. وأنا متأكد أنك انتحلت اسم عامر كمال بعد أحداث أيلول لتخفي شخصيتك الحقيقية.
حدجني شزرا ثم أخرج بطاقته الشخصية من جيب قميصه ودسها تحت أنفي قائلاً ببرود:
-وهذه الهوية كاذبة أيضاً؟.
-محتمل! لقد كانت الفوضى تسود البلاد أيامذاك، وكان بإمكان أي شخص أن..
-مهلاً يا رجل... مهلاً...
قاطعني بحدة واقترب برأسه مردفاً بصوت خافت:
-الآن بدأت أفهم... أنت تدعي إذن أنني صاحب شخصيتين مختلفتين. الأولى قبل معارك أيلول والثانية بعدها... يا للخيال... هذا هراء. ثم ما الذي يدعوني إلى ذلك؟ كان هناك الآلاف مثلي ولم يضطر أحد منهم إلى تغيير شخصيته سواء شارك في أحداث أيلول أو اعتبر معادياً للنظام.
-لكن ليس هناك سوى شخص واحد يشبه طارق مناف وهو أنت.
-اللعنة على هذا الرجل!. وما محله من الإعراب لتكون له هذه الأهمية بالنسبة إليكم. أهو مجرم كبير أم جاسوس خطير أم ماذا؟.
-لا أستطيع البوح بأي شيء قبل حسم الأمر.
أخذت نفساً عميقاً وأردفت بهدوء:
-مهما يكن الأمر فإنني أريدك أن تثق بي وتعتبرني صديقاً يريد لك الخير ولا تنسى أنك إن كنت ما تزال حياً فهذا بفضلي. لا أمنّنك ولا جئت لمطالبتك برد الجميل. لقد نسيت الماضي فانسه بدورك وتأكد أنني أسعى لمعرفة الحقيقة كي أساعدك على التخلص من الأخطار المحدقة بك لشبهك بطارق مناف. إن كنت طارق فسأتركك لتتحمل وزر شرورك وحدك وأنا مرتاح الضمير. أما إن كنت مجرد شبيه وهذا ما أعتقده فإنني أشعر أن من واجبي حمايتك ودرء خطر داهم عنك وعن أسرتك. إن أعداءك المتربصين بك قساة شريرون لا تعرف قلوبهم الرحمة.
كانت مجرد رمية طائشة لكنها أصابت، على ما بدا لي، نقطة ضعفه الأكبر. شحب وجهه رغم المجهود الكبير الذي بذله للسيطرة على أعصابه، وراحت نقط العرق تتفصّد من جبينه فيما ضاقت عيناه وتصلبت يداه. تيقنت إذّاك أن ثمة سراً في حياته، لا علاقة له بشبهه بطارق، تقودني المصادفة إلى نبشه دون وجه حق. خطر لي أن اعتذر منه وأرحل. وتساءلت ماذا أريد منه ومنك؟. إنه ليس بطارق مناف ولا يمكن أن يكون أما أنت فقد آن الأوان لفك ارتباطي بك وتركك لمصيرك..
استطاع أخيراً أن يتمالك نفسه ويضحك باستهتار قبل أن يقول بسخرية:
-ليس هناك ذرة حقيقة في لغوك.
ورفع يده يشير إلى الغرسون طالباً الحساب. أنزلت يده قائلاً ببرود:
- الهروب والإنكار لن يفيداك يا صديقي وعليك أن تواجه استحقاقات الماضي إن عاجلاً أو آجلاً!
سكن وتطلع إليّ بحيرة. إنه ليس طارق مناف فلماذا لا أصنع منه طارق مناف؟ ومضت تلك الفكرة في ذهني فجأة. راح نصفي الشرير، دون أن يلقى أية مقاومة، يحتل مساحة كياني كلها. نعم. ليصبح طارق مناف ولنر ماذا يحصل. ليس هناك ما أخسره أكثر مما خسرت. طلبت دورة شراب جديدة وسألته:
-ألا تشعر أحياناً أن شخصاً ما يشاركك ذاتك؟.
بدا عليه الاستغراب فأوضحت:
-كأن تتقمصك روح تشعر وكأنها جاءت من عالم آخر، أو أن تشعر وكأنك عشت حياة أخرى ومرت بك أحداث لا تذكرها تماماً، كما لو أنها... لو أنك كنت في حلم أو كابوس!.
أطلق الرجل ضحكة صفراء وقال برجاء:
-كف شرك عني يا سيدي. أنا إنسان بسيط أعيش في حالي وإن كنت أتكتم على ماضيّ فذلك لأسبابي الخاصة ولا علاقة لي من قريب أو بعيد برجلك فأرجوك دعني بسلام.
-أريد من كل قلبي أن أدعك بسلام. لكن تشابهكما يثير الشكوك والقلق والحيرة ولقد طرحت عليك السؤال بقصد اختبار فكرة خطرت لي. فأنا مثلاً أذكر أنني بعيد حرب حزيران وصلت إلى تخوم الانهيار العصبي وسيطرت عليّ حالة من الاستلاب تخيلت معها أنني لست أنا وأن ما يحدث لا يحدث لي أو معي بل مع شخص آخر غريب عني كل الغرابة.
حدق إليّ بامعان ثم رفع حاجبه الأيسر وقال بفتور:
-إنها هلوسات تنتج عن الضغط الهائل الذي يتعرض له المقاتلون ولا سيما إذا انتهت المعركة إلى الهزيمة. هي حالة مؤقتة تزول على ما أعتقد بعودة المقاتل إلى الحياة الطبيعية. بالنسبة لي فإنني والحمد لله لم أصب بمثل هذه الحالة... ولا أظنك جئتني بعد كل تلك السنوات لتناقشني في هذا الموضوع. لقد أخذنا الوقت وليس من عادتي التأخر في العودة للبيت دون إبلاغهم مسبقاً. أرجو أن تعذرني.
نهض فقلت مازحاً:
-يعجبني الملتزمون. سيكون من دواعي سروري التعرف إلى أسرتك.
صرّ ما بين عينيه وحدجني بريبة قبل أن يقول بحزم أقرب إلى التهديد:
-لا أريد زج اسرتي في تلك القضية.
وغادر وكأنه يولي الأدبار. على كل حال خرجت من هذا اللقاء وقد قطعت الشك باليقين. فهو ليس طارق. لكن الأحداث راحت تأخذ منحى أثار قلقي ولا سيما حين تكررت لقاءاتك معه. هاتفته إلى عمله أكثر من مرة فقيل لي إنه غير موجود. فلم أجد بداً من مهاجمته في عقر داره رغم تحذيره.
صعق حين فتح الباب وشاهدني. وأظن أنه كان سيغلقه في وجهي لولا مسارعتي إلى الدخول وأنا أعتذر لحضوري دون موعد مسبق. أجبره ظهور امرأته على ضبط نفسه وقدمني إليها باعتباري صديقاً قديماً باعدت ما بيننا الأيام. رحبت بي باستغراب وتقدمتنا إلى الصالون وهي تغمغم معتذرة عن الفوضى السائدة في البيت.
أول ما لفت انتباهي وجود قدر من الشبه بينها وبينك. لم يكن شبهاً حسيّاً ملموساً بقدر ما كان ايحاءً بالشبه!... لعله تمثل في الجسد الرشيق والبشرة الناعمة والعينين العشبيتين الصافيتين. كانت حسناء لكن جمالها أقرب إلى النوع المدجّن الهادئ الحيي منه إلى جمالك البري الذي يستفز رغبات الرجل ويلهب عواطفه. وعلى الرغم من أن الفارق في العمر بينكما لا يقل عن العشر سنوات فإن المقارنة كانت، كما قررت دون تلكؤ، لصالحك أنت... نعم ليست هناك امرأة مثلك ولن تشبهك امرأة. فلجمالك ذلك السحر الذي لا يستطيع رجل مقاومته. فهل صمد عامر كمال أمامك؟ حين سألتني امرأته عن صداقتنا القديمة قلت مازحاً:
-رفقة سلاح طويلة.
لم أكن أتقصد استفزاز الرجل بل كانت مجرد رغبة في دفعه لكشف المزيد من أوراقه. طافت في عينيه نظرة غضب سرعان ما سيطر عليها قبل أن يطلب من امرأته بنبرة أقرب إلى الأمر أن تعد لنا فنجان قهوة. حين خرجت استعاد جفاءه وقال باستياء:
-زيارتك غير مرحب بها يا سيدي. قلت لك إن زوجتي لا تعلم شيئاً عنك. لا أنكر فضلك لكن هذا لا يجيز لك أن تفرض نفسك عليّ بهذا الشكل. كنت...
قاطعته بهدوء:
-لا داعي لخوفك مني... اتصلت بك عدة مرات إلى عملك فتهربت مني. لذا لم أجد بداً من الحضور.
-ولم؟ ماذا تريد مني؟.
-لماذا أخفيت عليها أمري؟.
-وماذا تريدني أن أقول لها؟ أنقذني المقدم ابراهيم نصار دون أفراد جماعتي كلهم لمجرد أنني أشبه هذا المدعو طارق مناف؟ لا أعتقد أنك، على سبيل المثال، أفشيت لأحد سر انتصارك علينا!.
امتعضت وكدت أخرج عن طوري وأنا أقول:
-لم آت لنتبادل التجريح. وإن كانت زيارتي قد أزعجتك لهذه الدرجة فأعدك ألا أعيدها. كل ما في الأمر أنني أرغب في متابعة ما أعتبره قضية مشتركة بيننا... ولا تنسى أنني الرجل الذي أنقذ حياتك!.
حدق إليّ بامعان وكأنه يتساءل إلى أي مدى يستطيع الوثوق بي، حين عادت امرأته، وقد عجلت في إعداد القهوة وكأنها لاتريد أن يفوتها حديثنا، تناول منها الصينية وطلب إليها أن تسبقه إلى بيت أختها وسيوافيها بعد قليل نظرت إليه بدهشة لا تخلو من امتعاض، لكنها أطاعته وخرجت بعد أن اعتذرت مني بفتور. قلت برفق:
-أكرر اعتذاري. أرجو ألا تسبب زيارتي أي إشكال بينك وبين زوجتك... أرى أنها امرأة رائعة وأظن أنكما متفاهمان!.
أثار كلامي حفيظته على ما بدا لي. حدق إليّ بحدة ثم قال بجفاء:
-انقاذك حياتي لا يعطيك الحق في التدخل بشؤوني الخاصة. لهذا أرجوك أن تفي بوعدك وتبتعد عني. لا تحسب أنني أخشى شيئاً أو أحداً لكني مرتاح لوضعي الحالي ولا أريد لشيء أن يعكر صفو حياتي ويزعج عائلتي، وبخاصة إذا كان له علاقة بالماضي...
نفخ بقوة وعاد يحدق إليّ... طال الصمت فقلت أستحثه:
-عليك أن تثق بي..
وبدا عليه أنه حزم أمره:
-يبدو أنني مرغم على الوثوق بك! أتريد الحقيقة؟ إنها كما خمنت... بعد مغادرتي لمنزلك لجأت إلى عشيرة أمتّ إليها بصلة قرابة بعيدة فأواني شيخها إلى أن عادت الحياة إلى طبيعتها. لقد أمضيت عامين كاملين متوارياً عن الأنظار في البادية أعاني من هاجس أنني مطارد ومطلوب ثم تمكنت من استخراج هوية جديدة باسم عامر كمال.
حدقت إلى الرجل بذهول...لم أستوعب ما قال للوهلة الأولى... لكنه أردف بهدوء قبل أن يترك لي الوقت لقول أي شيء.
-تزوجت مكتفياً بالعيش في دائرة مغلقة تقتصر على بيتي وعملي. والقول نفسه ينطبق على علاقاتي. لا معارف لي سوى ما تفرضه أواصر القرابة بالنسبة لامرأتي وعلاقات الجيرة. لهذا كان من حق زوجتي أن تندهش حين قدمتك لها باعتبارك صديقاً قديماً، ولا بد أنها ذهلت حين أدعيت أنت أننا تربطنا رفقة السلاح! -أنا المذهول. وأنا الذي بت لا أفهم شيئاً... من أنت إذن قبل غيفارا وعامر كمال؟ إنك تشوّشني و... ألا تكون طارق مناف؟.
ضحك بسخرية:
-لا لست طارق مناف. كن على ثقة من ذلك...
نظرت إليه وقد أسقط في يدي... كنت محتاراً بين أن أصدق ما سمعت أو أكذب... لم تساعدني ملامحه على سبر أغواره. فعدت أسأله بإلحاح:
-من أنت وماذا تخفي كي تتستر على ماضيك؟.
-إنه ماضيّ أنا ولا علاقة لأحد به. لهذا أرجوك أن تتركني بسلام وتبلغ المهتمين بأمري أنني لست رجلهم.
نهض واقفاً في إشارة إلى أن الوقت حان لأنهي زيارتي. لكنني تجاهلته وقلت:
-وهل تعرف زوجتك كل شيء عن ماضيك؟.
-تقريباً... إنها تعرف أنني عملت مع المقاومة وشاركت بشكل ثانوي في أحداث أيلول.
-من يسمعك يحسبك جئت من فراغ قبل أيلول!
-لا.. أعرف تماماً من أين جئت.
-لكن دورك في أحداث أيلول لا يبرر كل هذا التكتم والخوف... عرفات نفسه عُفى عنه!.
حدجني شزرا ثم قال بحنق:
-لولاك لما حصل ما حصل. كنت سأعتقل كرفاقي فإما أن ألقى حتفي وإما أن أمضي عدة سنوات في السجن ثم يطلق سراحي. أنت المسؤول عن المسار الذي أخذته لنفسي بعد الأحراش..
صمت هنيهة ثم استدرك صارخاً:
-أتعرف معنى أن يتخلى رجل مثلي عن رجاله ويتركهم لمصيرهم الأسود مكتفياً بأن ينجو برأسه؟ أتعرف معنى أن أعيش منذ /15/ سنة بشعور أنني كائن نذل وضيع خان ثقة رجاله؟ إنني..
توقف وأخذ نفساً عميقاً وهو يرمقني ببغض... استأنف كلامه لكن بحدة أقل:
-أتذكر حديثنا عن الهلوسات التي تصيب المقاتل بعد الحرب؟ لقد كذبت بالقول إنني نجوت منها، على العكس، إنني ما أزال حتى الآن أعاني منها. كثيرة هي الليالي التي استيقظت فيها من نومي أرتجف فزعاً من نظرات الإدانة والإزدراء التي يلاحقونني بها. لقد حسبت أنني إن غيرت اسمي سأنساهم. سأنسى جريمتي التي أنت مسؤول عنها وأبعدهم عني. لكنهم لا يبتعدون... إنهم يريدونني أن أدفع الثمن..
استمعت إليه بهدوء لكن بريبة. بدا لي أقرب إلى ممثل أتقن دوره منه إلى رجل صادق. كان ثمة افتعال في كلامه وفي حركاته. تركت له الوقت ليأخذ أنفاسه قبل أن أقول ببرود:
-هذا لا علاقة له بما أريد معرفته.. من كنت قبل أيلول؟.
أجاب بإصرار:
-لا يعنيك من كنت.
-القضية تتعقد حتى بت أنا نفسي أرتاب في الأمر... نعم.. إن قصتك تزيد الأمر غموضاً وتبلبل أفكاري أكثر مما هي مبلبلة..
-هذه مشكلتك أنت لا مشكلتي.
قال بنفاد صبر فنهضت وواجهته بانفعال:
-بل مشكلتك. وما أدراني أنك صادق وإنك لست طارق مناف.
-لأنني لست طارق مناف..
-قد أقتنع وأوافقك الرأي. لكن هل سيقتنع الذين يبحثون عن طارق مناف؟
بلع ريقه قبل أن يغمغم:
-أتعني السيدتين وعرض العمل؟.
هززت رأسي ببطء فاردف:
-تريدني أن أعمل معها بأي ثمن السيدة عواطف بشارة!..
-ألم تتساءل عن السبب؟.
-بالطبع هي مثلك تعتقد أنني طارق مناف.
-أو تعرف ماذا تريد منك. بالأحرى من طارق مناف؟.
هز كتفيه دلالة جهله قبل أن يقول:
-في البدء حسبت أنها تظنني خبيراً متمكناً في مجالي لهذا رغبت في أن أعمل معها.
لكن بعد لقائي معك الأسبوع الماضي ربطت الأمور ببعضها و..
صمت هنيهة ثم سألني بشبه ضراعة:
-من هي عواطف بشارة أرملة أكرم النحاس ومن هو طارق مناف بل من أنت يا سيدي؟ لا بد أنك تعرف الاثنين عواطف وطارق..
تشاغلت باحتساء بقية قهوتي قبل أن أسأله:
-ألم تتحدث عواطف معك في أمور خارجة عن نطاق العمل؟.
-لا..
أجاب بسرعة وإصرار لفتا انتباهي وجعلاني أتأكد بأنه يكذب. حين هرب بعينيه من نظراتي دهمتني فكرة بأنه قد قامت علاقة ما بينكما... لا شيء يمنعك من استخدام كل وسيلة لديك لتكتشفي حقيقة الرجل، فهل اكتشفتها أيتها ال***** الصغيرة؟ أطاح بي شعور قوي بالحقد وأنا أفكر أنك تمنحينه ما أبيته عليّ لمجرد أنه يشبه طارق... لكنني تماسكت وقلت بهدوء:
-علاقتي بعواطف وثيقة جداً. إنها فعلاً تبحث عن طارق مناف... ولكن للانتقام منه. وأعتقد أنها لم تتأكد بعد بأنك هو وإلا لما كنت حياً حتى الآن.
شحب وجه الرجل ورمقني بهلع جعلني أشفق عليه لكنني أردفت:
-إنه ابن عم زوجها الأول واسمه طارق مناف أيضاً. أسس الإثنان شركة في القدس عام /65/ لكنهما سرعان ما اختلفا...وقبل الحرب بشهر قُتل زوجها واختفى ابن العم ومبلغ مئة ألف دينار. وأدت الحرب ونتائجها إلى إغلاق القضية، لكن عواطف لم تفقد الأمل في العثور على قاتل زوجها.
-إنك تخرف يا رجل!.
زعق بصوت مخنوق وهو يحدق إليّ برعب... أردف بعد وهلة وقد بدت عليه أقصى درجات الحيرة:
-تدعي أنني أشبه قاتل زوجها، وهي تبحث عنه للانتقام منه، فكيف يمكن لها أن.. أن...
أكملت كلامه ببرود:
-أن تنام معك؟.
فتح عينيه على وسعهما فيما تعابير الدهشة والذهول والخوف تتواتر على محياه:
-إنني مطلع على كل شيء وعليك أن تثق بي وتصدقني.
حين ظل صامتاً جامداً أردفت بنبرة تحذير:
-أتذكر العناكب التي كنت تراقبها في كهفك في الأحراش؟ ألم تر أنثى العنكبوت الأسود وهي تقتل شريكها بعد النوم معه؟ هكذا هي عواطف بشارة إنها شيطان في ثوب امرأة. وقد لا تكتفي بقتلك وحدك. لا شيء يردعها عن إيذاء أفراد أسرتك أيضاً!
لم يكن يصغي إليّ أو أنه لم يفهم ما قلت. اقترب مني وقال بضراعة:
-لكني لست طارق مناف ولم أكن.
-ولماذا فزعك طالما ليس هناك ما تخشاه؟.
-كيف ليس هناك ما أخشاه؟ عليّ أن أخشى كل شيء. أمعقول أن تتوافق كل تلك المصادفات معاً وفي هذا الوقت بالذات؟ ابنا العم يحملان الاسم نفسه أحدهما زوجها والثاني قاتله!.. أنا أشبه زوجها لكني عاجز عن إثبات براءتي لأنني أعيش منتحلاً شخصية أخرى. لا أجرؤ على كشف شخصيتي الحقيقية لأنني بذلك أميط اللثام عن جبني وعاري في التخلي عن رجالي!... لن يصدق أحد أنك أنقذتني لأنني أشبه طارقك اللعين هذا بل سيقولون إنني بعتهم لأنقذ حياتي. لقد ظنوا أنني قضيت في الأحراش وأنا أقاتلك واعتبروني شهيداً. فهل تريدني أن ألوّث هذه الذكرى الآن؟ الآن وبعد أن استقرت أوضاعي وخلت أن الماضي قرر إطلاق سراحي وتحريري من إساري أجد نفسي في ورطة ليست في الحسبان!. منذ تلك المقابلة التلفزيونية وأنا أعيش في خوف داهم من.. أوه.. إن عقلي عاجز عن استيعاب أي شيء..
كذلك كان عقلي. فالمصادفات، ولعلها المفارقات، أكثر من أن يتمكن واحدنا من تصديقها. وها كل شيء يسقط مجدداً في متاهة سرمدية لا مخارج لها فلا أعرف من أصدق وبمن أثق وماذا أفعل... بل ماذا فعلت!..
حين قلت له بهدوء إن عليه أن يتوارى عن الأنظار حفاظاً على نفسه وأسرته كنت واثقاً أن هذا ما سيفعله. أضفت أنني أنقذته مرة وسأنقذه ثانية. لم يسألني لماذا وماذا أريد... غريب أمره.. لقد طاش صوابه فعلاً... لقد طاش صوابنا كلنا. من هو هذا الرجل!. لن أعرف ولا يهمني أن أعرف.
أيتها المرأة الملعونة التي لم تكفي عن تعذيبي... لقد زرعت الريح وها أنتذي تحصدين العاصفة.







- 12 -
طوت عواطف رزمة الأوراق:
-والآن؟.
كانت طبيعية جداً ومتماسكة أكثر من أي وقت مضى من الليل. في عينيها نظرة غضب هادئ أقرب إلى اللامبالاة. قدمها اليمنى تنقر الأرض دون صوت. تبادلوا النظرات فيما بينهم بوجوم وتقطيب وكأنما يستمهلون أنفسهم لاستيعاب ما سمعوه. حين طال الصمت قالت بهدوء:
-لا أصدق كلمة واحدة. لقد فقد عقله وصار يخرف!.
كشر غسان وتنحنح قبل أن يقول ببرود:
-لست من رأيك... قصة غريبة لكنها ليست أغرب من قصتك. وأظن أن المسألة باتت واضحة جداً يا عزيزتي. هذا الرجل ليس طارق مناف. إنها خيبة أمل قاسية لكن عليك التسليم بالأمر. لقد التبس عليك...
-لا.
قاطعته عواطف وهي تخبط الأرض بقدمها بانفعال. نهضت مردفة بحدة:
-أنت لا تعرف ابراهيم كما أعرفه. إنه لا يتورع عن شيء للانتقام مني وإفشالي. الحقد ينقط من كل كلمة كتبها... لم يجرؤ على مواجهتي فترك قريته وهرب. أتصدق حقاً قصته عن الأحراش والمعركة وإنقاذه الرجل لأنه يشبه طارق؟ لو كانت حقيقية لكان قتله بكل برودة دم. أم تريدني أن أصدق أن الرجل صدق فعلاً أنني أريد قتله لأنه... اوه.. ليس هناك عاقل يقبض ذلك اللغو..
-لا أظن أنه بقي عقلاء بيننا!.
قال يوسف بتقريرية وهو يمد يده إلى عواطف طالباً الرزمة. لكنها تمنعت:
-ثمة خصوصيات أفضل الاحتفاظ بها لنفسي.
حدجها بدهشة خالطها غير قليل من الاستياء ثم أرجع يده بخيبة:
-الم تقرئي لنا كل شيء إذن؟.
-المهم فقط.
ردت بجفاء وهي تطوي الأوراق. قال يوسف بضيق:
-هذا حقك. يبدو أننا نطلع من متاهة لندخل في أخرى أسوأ ولا أعرف إلى متى ستستمر هذه اللعبة المزعجة. لقد حان الوقت لنخلص ونرتاح قليلاً..
وتدخلت عطاف تؤيده:
-كلنا تعبنا ونريد أن نرتاح قليلاً. أنت محقة فيما يتعلق بابراهيم يا أمي. إن قصته فعلاً ضرب من الخيال، وهو خيال واسع على ما يبدو لي لكنه سقيم وغير مقنع. إنها مكيدة من ابراهيم.
-والنتيجة؟ هل سنرجع إلى قصة إبريق الزيت من جديد؟.
دمدم غسان بعصبية ثم نهض وواجه عواطف:
-ما خلصنا بعد من مشكلة طارق حتى وقعنا في مشكلة ابراهيم. ولماذا يكذب؟ ما ذكره يفرض عليك إعادة حساباتك من جديد.
-ماذا تعني؟.
-ما أعنيه واضح. لقد بنيت قضيتك على نظرية مفادها أنه طارق فاقد الذاكرة. وعلى هذا الأساس جمعتنا لنتفق على أسلوب معين للتعامل معه. وهذا يدل على حكمة معهودة فيك أولاً،وعلى أنك لن تقدمي على أي تصرف لا ينال موافقتنا جميعاً ثانياً. وأنت نفسك اعترفت بوجود كمّ هائل من الصعوبات والعراقيل أمامك..
أجال بصره فيما حوله ليرى تأثير كلامه ثم استطرد بلطف:
-والآن طرأت مستجدات لا يمكن لأحد تجاهلها. هناك ثلاثة أشخاص فقط يعرفون طارق وقادرون على التحقق من شخصه. أنت ومريم وابراهيم. وعلى شهادات هؤلاء الثلاثة يتحدد موقفنا. وعندما يقول أحدهم إن الرجل ليس طارق مناف فإنني مضطر لأخذ كلامه بأكبر قدر من الاعتبار وإغلاق القضية نهائياً...
-حتى إن كان هذا القائل شاهد زور؟.
تساءل نضال بنبرة ساخرة فرد غسان بحنق:
-لا أعتقد أنه شاهد زور. ثم كفانا تحاملاً على الرجل. من العار أن ننسى أفضاله علينا وخدماته لنا كل هذه السنين!.
لوحت عطاف بيدها وقال بضجر:
-لم يبق إلا مواجهة عامر كمال إذن. وأنا واثقة أننا لن نخسر شيئاً.
-لا..
زعق غسان محتداً وهو يستدير نحوها:
-لا أعهدك ساذجة إلى هذا الحد يا صغيرتي. لقد ناقشنا تلك الفكرة بما فيه الكفاية ولن أسمح بأية مجازفات. لا أستطيع تقبل هذا الرجل أياً كان كأب لي أو كزوج لأمي إن كان عامر كمال فلا علاقة لنا به ولا علاقة له بنا، وإن كان طارق مناف فهو نسينا ولم تعد له أية علاقة بنا أيضاً. هو نفسه لم يعد يريد الماضي بسبب حادثة الأحراش!.
-أفهم من هذا أنك حسمت أمرك؟.
سألت عواطف ببرود فرد بتحد:
-نعم!.
حافظت عواطف على ملامحها جامدة وهي تلتفت إلى نضال ثم عطاف.
-وأنتَ... وأنتِ؟.
بدت الحيرة على الاثنين وتجاهلا الإجابة. فقال غسان بازدراء:
-إنهما أجبن من أن يقولا رأيهما.
اكفهرت عواطف وصرخت فيه وقد فقدت السيطرة على أعصابها.
-أنت الجبان والعاق يا غسان. إنه أبوك الذي نتكلم عنه. أتدرك ماذا يعني أنه أبوك وماذا يعني أن تنكره وترفضه؟ ستكون ملعوناً بقية عمرك...
حدق إليها بحنق ثم هز رأسه دلالة يأسه وقال بتهكم:
-لا مشكلة ما دامت اللعنة ترافقنا منذ ولدنا... لم يعد لديّ ما أقوله ولا أرى أي معنى لبقائي افعلي ما يحلو لك لكن لا تستنجدي بي حين... حين..
استدار وغادر الغرفة بخطا سريعة دون أن ينظر إلى أحد. تبادلوا نظرات واجمة فيما مريم تقترب من عواطف وتقول مواسية:
-لا تغضبي منه يا عواطف... لا أحسبه يقصد الإساءة إليك.
أشعلت عواطف سيكارة بيد مرتجفة وقالت بحنق:
-سايرته أكثر مما يجب فحسب حلمي ضعفاً وصبري قلة حيلة. يريد أن يكون رجل العائلة فليكن. هذا حقه لكن ليس على حسابي. لن أسمح لأحد بفرض وصايته عليّ... لا أبي ولا طارق ولا أكرم أشعروني في يوم من الأيام أنهم أوصياء عليّ، ولن أسمح بذلك لأبنائي. إنني ما زلت سيدة نفسي وسأبقى كذلك..
تنحنح يوسف ثم قال بحذر:
-أنا مع رأي مريم يا عواطف. غسان عصبي وعنيد لكنه طيب القلب.
-منذ زمن طويل لم أر منه هذه الطيبة!.
تمتمت بسخرية مريرة فنهض يوسف واقترب منها قائلاً بحدة:
-أنت تقسين عليه كثيراً. لقد عشت معه شهرين في بيروت وبإمكاني الإدعاء أنني أعرفه جيداً. حين يعيش الإنسان الستين يوماً التي عشناها في الحصار محاطاً بالموت والألم والخوف فإنه لا يستطيع إلا أن يكون على حقيقته دون رتوش وأقنعة. غسان رجل شهم وشجاع وهو يحبك ويحترمك أكثر بكثير مما تتصورين. مشكلته الوحيدة هي.. هل يمكنني أن أتكلم بصراحة؟.
حدقت إليه هنيهة بإمعان ثم هزت رأسها بالإيجاب:
-تكلم بما تشاء..
-مشكلته هي أكرم.
نفخت عواطف بنفاد صبر:
-لم يعد غسان طفلاً... من المعيب وقد صار في الخامسة والعشرين أن يظل متحاملاً عليّ لأنني تزوجت أكرم..
-إنه ليس متحاملاً... لكن زواجك سبب له عقدة ما يزال يعاني منها حتى الآن وهذه العقدة هي التي تفسر موقفه منك. إنه يخشى أن يلدغ من نفس الجحر مرتين لهذا يرفض أن يمثل دور الشاهد الأخرس في تلك المسألة. وهو لن يسكت لأنه مقتنع أن الرجل ليس طارق.
-يجب أن ننتهي من تلك القضية. إنه طارق وكفى..
زمجر يوسف بحنق وقال بجفاء:
-غير معقول عنادك يا عواطف. وكأنك تريدين فرض الرجل علينا فرضاً!؟.
-ليس هذا صحيحاً. لو أردت ذلك لتصرفت بطريقة أخرى. كنت أبلغته الحقيقة ووضعتكم أمام الأمر الواقع.
-لو فعلت ذلك ما كنا وصلنا إلى هنا يا ماما!.
لم يفاجئهم تدخل ناديا في الحديث خارجة عن الصمت المطبق، وإنما فاجأتهم الصفة التي استخدمتها في مخاطبة عواطف. بدت الدهشة على وجه هذه الأخيرة ودققت النظر إلى كنّتها محاولة سبر غورها. تابعت ناديا بود موجهة كلامها إلى عواطف:
-كنت مقررة أن أحتفظ برأيي لنفسي مكتفية بالاستماع وذلك خوف أن يفسر أي شيء أقوله على غير معناه. فأنا حديثة العهد بكم ولا أستطيع الزعم أنني أعرفكم معرفة طيبة. لكني لو كنت المعنية بالأمر، أي مكانك يا ماما، لتصرفت حسبما يمليه عليّ رأيي كنت واجهت الرجل رأساً لرأس فإن تبين أنه هو أعلنت الأمر وإن وجدت أنني مخطئة أغلقت الموضوع وجنبّت نفسي المحنة التي تعانينها الآن!.
ابتسمت عواطف بامتنان لكنها سارعت تقطب ويوسف يقول بهزء:
-إن عزيزتنا ناديا لم تعمل سوى دق الماء وهو ماء! لا أريد أخذ دور غسان في المعارضة والتشكيك. لكن لا مفر من قول ما يجب قوله. أرى أن القضية باتت أشبه بالمماحكة الفكرية بما تطرحه من احتمالات وافتراضات. دعونا نقرر الآن أنه طارق وقد استعاد ذاكرته فما هي الاحتمالات القائمة؟.
وجه السؤال إلى ناديا التي تفرست فيه بحيرة فأردف ملتفتاً إلى عواطف:
-الاحتمال الأول -وهو الأرجح والأقوى والمنطقي- أن يقرر البقاء مع أسرته الحالية فهي أولى به وأقرب إليه منكم. أرجو ألا يزعجك كلامي يا عواطف؟.
سألها بحذر فهزت رأسها نفياً... استطرد:
-سيبقى إذن معها لأن استعادته الذاكرة لا تعني بالضرورة أن يستعيد معها حبه القديم لك ولغسان ونضال فهو لا يعرف عطاف. أو أن يتبخر حبه لزوجته وأولاده الجدد وفي هذا السياق سيفضل أن يستمر كعامر كمال كي لا يتورط في المشاكل والتعقيدات القانونية المرتبطة بتغيير هويته... أما الاحتمال الثاني...
صمت لحظة وهو يتفرس في عواطف:
-الاحتمال الثاني- وهو ضعيف جداً- أن يقرر العودة إليك لأنه وجد أن مكانه الطبيعي بينكم باعتباره طارق مناف لا عامر كمال.. والآن أفترض أنني طارق مثلما افترضت ناديا أنها عواطف. فما هي النتائج المترتبة على قراري باستعادة شخصيتي الحقيقية؟
حسب السجلات المدنية في القدس أنا ميت من عشرين سنة. فما هي الفرص المتاحة لي للعودة إلى تلك السجلات لإثبات أنني لم أمت بل أنا حي أرزق؟ ولا فرصة!. إذن لنترك القدس ونحصر عملنا في عمان. في سجلاتها أنا عامر كمال. فما هو الدليل الذي سأقدمه لإقناعهم أنني طارق مناف وأن عامر كمال ما هو إلا أكذوبة؟ وما هي المشاكل القانونية والأمنية التي سيثيرها إدعائي هذا. هل هو اسم مزور اخترته لا على التعيين أم يوجد مواطن باسم عامر كمال انتحلت شخصيته! إن كان يوجد فماذا حصل له؟ لا بد أنه مات حتى تمكنت من وضع يدي على وثائقه. فهل مات ميتة ربه أم قتلته لأنتحل شخصيته مستغلاً أحداث أيلول وموقعي في الثورة؟وحسب قصة ابراهيم- وأميل إلى تصديق قسمها الأول رغم كل شكوكي في الرجل وحيرتي إزاء تصرفاته ومواقفه- فإنني أخفي كثيراً من الأسرار عن تلك الفترة من حياتي فهل قمت بكل ذلك بمفردي وأنا فاقد الذاكرة أم أن هناك من ساعدني؟.
سكت يأخذ نفساً عميقاً قبل أن يستدرك:
-لا أريد اتهام هذا الرجل أو التشكيك به، بل أعرض لأولى النتائج التي سيثيرها إعلان أنه طارق لا عامر. أنتقل بعد ذلك إلى مسألة مهمة أيضاً وهي دين الرجل. بفقده ذاكرته لم يتذكر حتى اسمه. فكيف تذكر أنه مسيحي؟ وكيف عثر على عامر كمال المسيحي لينتحل شخصيته؟ ثم كيف نجح في الانضمام إلى الثورة وهو فاقد الذاكرة؟.
وسارعت عواطف تقاطعه رغم اعتراضه:
-تفسير ذلك بسيط. لا علاقة للذاكرة بالغريزة لدى الإنسان. يرى الدكتور جلال أن الدين طقس إنساني أقرب إلى الغريزة منه إلى الفعل العقلاني الواعي. الإنسان يكتسب دينه كما يكتسب اللغة التي يتكلمها والطباع التي ينشأ عليها فيترسخ في عقله اللاواعي. فلو افترضنا أن طارق فقد الذاكرة في القدس لكان محتملاً جداً أن تقوده قدماه بشكل غريزي إلى بيته. إن حالته ستكون كحالة بعض الحيوانات التي يبعدها أصحابها إلى مناطق نائية لكنها تعود معتمدة على غريزتها. أما طارق ففقدها في بيئة غريبة عليه وضاع تماماً. لكنه ظل بالغريزة مسيحياً ولعله لجأ، أول ما لجأ إلى أول كنسية مرّ بها. أما انضمامه للثورة، إن صدقنا قصة ابراهيم، فقد كان كل من هب ودب يومذاك قادراً على ذلك دون صعوبة. كانت الثورة تبحث عن مقاتلين لا عن حكماء وأبناء ذوات وزعماء!.
خنخن يوسف باستسلام:
-يبدو أن لديك جواباً لكل سؤال!... دعيني الآن أنهي مرافعتي- قال بسخرية ثم استدرك بجدية- أرى أن المسألة تعرض نفسها علينا في صورة فلسفية ذات متعة ذهنية لا يمكن مقاومة إغراءاتها. إنها تقودنا إلى طرح تساؤلات حول الوجود والإنسان والعلاقات الاجتماعية والأسرة والالتزام والحب..
صمت هنيهة وقد بدا عليه الشرود ثم تابع:
-كل ما قلته قبل قليل قام على افتراض أنني طارق... إنه افتراض ليس إلا... أما الواقع، الواقع الملموس والحقيقي، فهو أن الرجل عامر كمال ليس إلا. وكل شيء يدل على ذلك. لقد انضم إلى الثورة وقاتل في صفوفها ونجا من أحداث أيلول بسبب ذلك الشبه بينه وبين طارق. أما لماذا أنقذه إبراهيم بدل أن يقتله فلأنه أثار فضوله وأراد أن يكتشف حقيقته. لكنه أفلت منه وعاد لممارسة حياته الطبيعية وتزوج وأنشأ أسرة ومن الممكن جداً أنه غير اسمه للتغطية على ما اعتبره جريمة اقترفها بحق رجاله.أما ادعاء ابراهيم بأنه أقنع الرجل بأنك تلاحقينه للثأر منه فهذا ما لايمكن لعاقل أن يأخذ به...
تهدج صوته وكانت كلماته الأخيرة غير واضحة. أطبق صمت متوتر ما إن انتهى وراح يجيل بصره فيما حوله. حافظت عواطف على جمود تعابيرها إلا أن شفتيها المزمومتين ويديها المطبقتين دلت على توترها. أجالت نظرة سريعة فيهم ثم قالت بخواء:
-قد يكون ما قلته صحيحاً نظرياً... لكن الحياة ليست نظريات جبرية منزلة حيث الأبيض أبيض والأسود أسود والـ..
سكتت تأخذ نفساً عميقاً وقد بدا عليها الذبول. مسحت عينيها اللتين ترقرقتا بالدمع ثم هزت رأسها بقوة أشعلت سيكارة:
-قلت لكم وأعيد أنني راودتني كل الأفكار والشكوك والافتراضات التي راودتكم وهي منطقية. بل إنها المنطق نفسه. لكن متى كان المنطق هو القوة السائدة في هذا العالم العجيب الغريب؟ أي منطق في أن أعيش أرملة وزوجي حي؟ أي منطق في أن نطرد من وطننا ونفقد بيتنا وسعادتنا وأمننا كي يحل محلنا أعداء يبحثون عن وطن ومأوى وأمن على حسابنا؟ أي منطق في أن يموت الآلاف من التخمة والملايين من الجوع؟ إنني أرفض هذا المنطق وكل ما أعرفه أنه طارق وليذهب المنطق إلى الجحيم.
لوحت بيديها واستدركت بحدة:
-أنتم تستخدمون منطقكم في خلق افتراضات تؤكد استحالة أن يكون طارق. أما أنا فأستخدم منطقي في البحث عن افتراضات تؤكد أنه طارق.
اختتمت كلامها بنبرة مسرحية فنهضت عطاف واقتربت منها قائلة بصوت متهدج:
-لنذهب ونقابل الرجل ما دمت على هذه الثقة..
-أنت معي إذن؟.
-حتى النهاية.
-انصري أمك ظالمة ومظلومة!.
غمغم يوسف بسخرية فيما نضال ينهض ويغمغم بقلق:
-يبدو أنكما نسيتما غسان!.
تطلعت إليه عواطف بحيرة فأوضح:
-الأمر واضح يا أمي غسان لم يترك لك أي خيار. إما هو وإما هذا الرجل.
ازداد شحوب وجه عواطف:
-لا تبالغ لن يبتعد كثيراً وسيرجع بأسرع مما تحسب.
-أنت متفائلة أكثر مما يجب. أنسيت أم تتناسين؟
-وأنتما تتكلمان بالألغاز!.
قالت ناديا بحيرة وهي تجيل بصرها بين عواطف ونضال. بدا على هذا التردد ثم أوضح متجاهلاً نظرة التحذير الصارمة التي رمته بها أمه:
-ناديا من العائلة ومن حقها أن تعرف أسرارنا الصغيرة، وكذلك يوسف. مشكلتنا هي أن أزماتنا العائلية تنتهي دائماً بمصائب! بعد زواج أمي ترك غسان المدرسة وتورط مع زمرة من رفاق السوء واعتقل معهم بتهمة السطو على أحد المنازل. ولولا نفوذ أكرم والرشوة الكبيرة التي دفعها لكانت العاقبة وبيلة. وبعد بيروت أدمن المخدرات. لكن ابراهيم أجبره على الإقلاع عنها وأخضعه لعلاج طبي. والله وحده يعلم ما قد يفعل الآن!.
-لن يفعل شيئاً... اطمئن يا أخي الصغير.
أجفلوا على صوت غسان وهو يدخل راسماً ابتسامة صفراء على وجهه. استدار إلى ناديا مردفاً قبل أن يتغلبوا على المفاجأة.
-ها قد عرفت كل أسرارنا الصغيرة والخطيرة يا زوجة أخي العزيزة!.
سارعت عواطف تقف بينه وبين نضال قائلة بلطف:
-كنت واثقة أنك سترجع ولن تتخلى عني!.
حدجها بنظرة غامضة ثم قال ببرود:
-رجعت لأنني التقيت بإبراهيم..
-أرجع هو أيضاً؟.
سألت ناديا بصوت مفعم بالحيرة. فهز غسان رأسه نافياً:
-لا. إنه راحل كما أكد لي، راحل دون عودة.
-إذن؟
سأل نضال بنفاد صبر. فأطلق غسان ضحكة قصيرة ساخرة:
-يبدو أنه لن تشرق الشمس إلا ونكون قد صرنا كلنا على أبواب الجنون... وجدته ينتظرني في السيارة. قال إنه كان واثقاً من أنني.. لا يهم.
فقدت عواطف أعصابها فصرخت به:
-وما المهم إذن؟.
تلكأ غسان هنيهة ثم قال بهدوء:
-سألته عن قصته مع عامر كمال فأقسم إنه لم يقل إلا الحقيقة...
وسأله نضال:
-ورجعت لأنك صدقته؟.
-لأنه... لأنه أبلغني أنه قرر إسدال الستارة على قضية طارق مناف. ألم أقل لكم إننا سنصاب بالجنون جميعاً! بل لعلنا فقدنا عقولنا وانتهى الأمر ... يبدو لي وكأننا نتخبط في كابوس خانق ليس فيه إلا الهذيان والضياع قال أبراهيم إنه أقنع عامر كمال بمغادرة الاردن إلى الطرف الآخر من المعمورة.
بدت الحيرة بأجلى معانيها على عواطف التي أمسكت بساعده وسألته بقلق:
-ماذا تعني؟.
-أوهمه أن بقاءه في عمان بات يشكل خطراً داهماً على حياته ما دمت تلاحقينه.. لا أعرف كيف نجح في ذلك لكني صرت مقتنعاً أن هناك سراً غامضاً في حياة هذا الرجل أرغمه على الرضوخ... بصراحة لست أدري... لست أدري!..
ضغط على يد عواطف وأردف وقد خالطت صوته نبرة إشفاق:
-قد تقولين إنها ذاكرته المفقودة التي فشل في استعادتها فخشي أن يكون مطلوباً فعلاً للعدالة بسبب جريمة اقترفها كما أوهمه إبراهيم. وقد يكون صاحب سوابق حقيقية وقد خاف افتضاح أمره. أو أن للأمر علاقة بدوره في المقاومة وأحداث أيلول. أو أنه مجرد إنسان ساذج وغبي استطاع إبراهيم أن يتلاعب به!... وربما ليس هناك شيء من هذا كله وقصة إبراهيم مجرد كذبة كبيرة!... لا أعرف... لا أعرف... المهم أن الرجل رحل... هاجر... وسفره بهذه السرعة يؤكد أنه كان مستعداً دائماً لمغادرة البلاد لدى أي خطر.
-إبراهيم كذاب.. إنه.. إنه كذاب وضيع...
فحّت عواطف وقد امتقع لونها..
- ليس هناك سبب واحد يجعله يخشاني أو يهرب من ماضيه كما يدعي إبراهيم قابلته الأحد الماضي وكان طبيعياً جداً و... أبلغني أنه قرر قبول الوظيفة وسيباشر بالعمل ما إن يرجع من دمشق فهو... لقد... لقد... أنا لا أصدق... إنني... مستحيل. سيرجع غداً وإبراهيم يكذب وأنا..
-اهدئي... اهدئي أرجوك يا أمي.
قاطعها غسان بإشفاق.
-لا أعرف ماذا يريد إبراهيم ولماذا فعل ما فعل. لكني أعتقد أنه صادق هذه المرة يا أمي. الرجل لم يذهب إلى دمشق كما قال لك. وإنما إلى أبعد منها بكثير... إلى كراكاس
اقتربت عطاف منه قائلة بسخط:
-أنا أيضاً لا أصدق. لا يستطيع الرجل أن يترك كل شيء فجأة ويهاجر بهذه السهولة إلى كراكاس.
-لكنه هاجر... شقيق زوجته مغترب في فنزويلا وقد أرسل له فيزا الهجرة منذ عدة أشهر لكنه تريث لافتقاره إلى المال والحماسة. ويبدو أن إبراهيم وفرهما له بسخاء. دفع له ثمن بطاقة الطائرة وأقرضه ألف دولار. أراني إبراهيم صورة عن الفيزا والبطاقة. وستلحق به امرأته في نهاية الصيف بعد أن تنهي معاملة استقالتها من الوكالة وتصفّي أمورها المالية.
-هذا هو انتقام إبراهيم إذن!.
غمغم يوسف بصوت مخنوق. نظرت إليه عواطف هنيهة بشرود ثم اتجهت إلى النافذة. رفعت الستارة وألقت نظرة ساهمة إلى الخارج.. سقطت أولى أشعة شمس الصباح على وجهها المتغضن فتوضحت ملامحها مرهقة محبطة ذابلة فيما شفتها السفلى ترتجف بقوة... أغمضت عينيها لحظات وراحت تتنفس ببطء وعمق. حين التفتت تواجههم بدا عليها الثبات. حدقت إليهم واحدا إثر الآخر ثم قالت بثقة:
-كان عليّ أن أتوقع كل شيء من إبراهيم.. كل شيء.. لم أستبعد أن يفقد صوابه ذات يوم ويقتلني... ولو كان رجلاً لقتلني من زمن بعيد... على كل حال قصتنا لم تنته بعد، نحن ما زلنا في البداية. فنزويلا ليست بعيدة. إنه طارق وسيرجع... نعم.. سيرجع!.












صدر للمؤلف

- عكا و الرحيل - رواية - دار العلم - دمشق 1989.
- اللعبة الحقيقية - مجموعة قصصية - دمشق 1990 - اتحاد الكتاب العرب.
- طقوس المنفى - رواية - عمان 1994 - الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب.







رقم الايداع في مكتبة الأسد - الوطنية

حصاد العاصفة : رواية الياس أنيس خوري - دمشق اتحاد الكتاب العرب 1998 - 214 ص ؛ 24 سم.

1- 813.03 خ و ر ح 2- 813.009561 خ و ر ح
3- العنوان 4 -خوري
ع -579/4/98 مكتبة الأسد





هـذا الـكتاب

تتبنى هذه الرواية المشهديات الاجتماعية وقد فتكت بأهلها أثار الحرب وألامها. وذلك عبر الانتقال من بيئة معطوبة إلى أخرى أكثر عطباً، وسط حمى انشغال الشخصيات بالبحث عن روافع الخلاص والنجاة من واقع انزاحت فيه بعض القيم الإنسانية عن مواقعها، ولا يغفل الكاتب عن العودة إلى الماضي الماجد لإمداد الحاضر بماء الحياة الرائق بما فيه من ذاكرة شعبية حية، وأمثلة وأفكار سائرة بلغة بسيطة لا تخلو من العفوية والبلورية .

 
 

 

عرض البوم صور جيرمون111  

قديم 01-11-09, 09:44 PM   المشاركة رقم: 2
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو راقي


البيانات
التسجيل: Feb 2008
العضوية: 62940
المشاركات: 1,517
الجنس أنثى
معدل التقييم: **أميرة الحب** عضو على طريق الابداع**أميرة الحب** عضو على طريق الابداع**أميرة الحب** عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 247

االدولة
البلدItaly
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
**أميرة الحب** غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : جيرمون111 المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

واااااااااااااااااااااو القصة غييييييييييييييير عن جد روعة تسلم الأيادي،أنا ما قريتها بس راح أقرأها وأعطيكي رئي

 
 

 

عرض البوم صور **أميرة الحب**  
قديم 25-11-09, 06:47 PM   المشاركة رقم: 3
المعلومات
الكاتب:

البيانات
التسجيل: Jul 2008
العضوية: 86405
المشاركات: 0
الجنس أنثى
معدل التقييم: زهرة الماس عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
زهرة الماس غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : جيرمون111 المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

يسلموووووووووووووووووووو000000تحياتي

 
 

 

عرض البوم صور زهرة الماس  
قديم 24-07-10, 11:01 PM   المشاركة رقم: 4
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
نور ليلاس


البيانات
التسجيل: Nov 2006
العضوية: 15929
المشاركات: 1,707
الجنس ذكر
معدل التقييم: بدر عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 21

االدولة
البلدJordan
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
بدر غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : جيرمون111 المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

 
 

 

عرض البوم صور بدر  
 

مواقع النشر (المفضلة)
facebook




جديد مواضيع قسم الارشيف
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 06:19 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية