وفتحت عينيها بعد أن فوجئت بالضحكة الساخرة, تراجعت الى الوراء وأنقلب الحلم الجميل الى كابوس مخيف وسمعته يصرخ بسيطرته المعتادة :
" قبل أن ننجرف أكثر , عليك أن تقولي من أنت؟".
سكنت ذاكرتها وبقيت صماء مندهشة تتأمله بعينيها الخضراوين , كان الموقف قاسيا جدا , وكانت تحتاج الى شجاعة العالم في هذه اللحظة لتستعيد نفسها ... وصرخت:
"كل هذا لترضي فضولك , يبدو أنك تحملت كثيرا من العذاب من ليديا حتى تنتقم من الأخريات على هذا الشكل؟".
" يا الله... ما هذا الذي تقولينه؟".
ولم يكن يتوقع هذا الأنفجار المفاجىء الذي أبدته , وفي هذه اللحظة كان لوقع جرس التلفون الذي رن في الغرفة كصوت أنفجار القنبلة , وتوقعت جين بأنه لن يجيب , ولكنه رفع السماعة بدون أن يرفع بصره عنها وأجاب:
" 313 هاي لينتون نعم".
أستغلت جين الموقف لتتمالك نفسها وأستندت الى المكتبة , عندما سمعته يطلق تعجبا مكتوما ... أنه خبر سيء بدون شك, وبعد كلمات الشكر وضع السماعة , ونظر الى جين بتأمل وقال:
" أنها الشرطة , مارك أصيب بحادث سيارة ونقل الى المستشفى , ويجب أن أذهب معه".
نظرت اليه بخوف وسألت:
" هل ليديا معه؟".
" نعم , ولكن مارك وحده المصاب , وأصابته غير خطرة كما أخبروني ولكنه يرفض الكلام قبل أجراء الفحوصات الطبية الكاملة , ولذلك, يجب أن أذهب فورا وستأتين معي بالتأكيد".
" لا سأبقى هنا , لأن ماري ستقلق لغيابي عندما تعود".
" سنترك لها ورقة , وقد تكوم ليديا بحاجة الى وجود نسائي بجانبها لأنها لا تزال تحت تأثير الصدمة".
ليديا ... دائما ليديا , ستستغل غيابه لكي ترحل وبدون أي شرح لأنها لا تملك الشجاعة لتجابه أحتقاره .
" أرجوك, أنني متعبة ولا أستطيع ذلك".
أنحنى شارل وعانقها بخفة وكأن شيئا لم يحدث ثم توجه نحو الباب.
" لقد كان يوما متعبا بالنسبة اليك وسأوصلك الى المزرعة".
ولم تعد جين تفهم شيئا , فنسيت سترتها في المكتب وصعدت الى السيارة بدون أن تفوه بكلمة وحاولت أن تتذكر فقط اللحظات الحنونة التي لا تستطيع نسيانها .... وضغط شارل على يدها قائلا:
" ما رأيك أن نتابع غدا الحديث , وأعدك بألا أكون فضوليا , تصبحين على خير والى اللقاء غدا".
دخلت جين المنزل وأخذت حقيبتها وأستعارت سيارة ماري بعد أن تركت لها رسالة عبرت فيها عن أسفها وشكرها ووعدتها أن تعيد اليها سيارتها في صباح اليوم التالي مع السائق , وبعد أن أمضت ليلتها في فندق المدينة , أستقلت سيارتها وتوجهت الى الطريق المؤدي الى برادفورد , وفي الطريق فكرت أن تتصل بالمستشفى , وشعرت بأرتياح عندما علمت بأن حالة مارك لا تدعو الى القلق , وأنه مصاب بكسر في ذراعه....
وعندما وصلت الى البيت حاولت أن تجيب على أسئلة والدتها بطريقة التي ترضيها , أما والدها فقد كان يكفيه أن ينظر الى وجه ابنته الشاحب حتى يفهم كثيرا من الأمور .
وكان مسرورا بعودتها , ولحسن الحظ فأن أنهماكه في العمل جعله أقل فضولا من أمها , ورغم الأهتمام الكبير الذي أظهرته أمها, شعرت بأنها غير مرتبطة بهذه العائلة وأن قلبها ما زل في هاي لينتون.
عادت جين الى وظيفتها في مشروع والدها بشكل مؤقت , ووالدتها لم تعد بحاجة اليها في الأعمال المنزلية بعد أن أستعادت صحتها , هكذا بدأت الأيام , وهي تعيش أسوأ الحالات , وعادت بتفكيرها الى المزرعة , كانت تسمع صفير الهواء بين الأشجار , كذلك صهيل هاموند وجنيفر وترى وجه ماري , أما ظل شارل فقد ظل لا يفارقها مهما حاولت أن تطرد هذه الأفكار وهذه الخيالات , ولكنها عقدت العزم بألا تراه ثانية.
ذات مساء عادت الى المنزل مبللة بعد أن تعطلت سيارتها ورفضت دعوة فيليكس في أصطحابها مما أضطرها أن تمشي تحت المطر , وعادت الى ذاكرتها آخر ليلة أمضتها في هاي لينتون ولأول مرة تركت نفسها تستعيد التفاصيل الصغيرة للساعات الأخيرة مع شارل.
أرتجفت وهي تسرع الخطوات , وتذكرت بأن أهلها سيتناولون طعام العشاء خارج المنزل , وعليها أن تصل قبل خروجهم , وبدخولها من الباب سمعت صوت رجل يتحدث الى أهلها , وشعرت بأن الأرض تميد من تحت قدميها , أنها تعرف تماما هذا الصوت .... أنه صوت شارل , وخفق قلبها بشدة ولكن كيف عرف عنوانها , ونظرت اليه بدون أن تصدق وتسمرت في مكانها.
" السيد غريرسون , أحضرلك السترة التي نسيتها عنده ".
هذا ما قاله صوت والدها بصوت أجش بينما صرخت أمها فرحة:
" تصوري أن لديه أولاد عم يسكنون بوردو".
بدأت جين بخلع معطفها وهي ترتجف من الأنفعال وخاصة بعد أن لمحت الأبتسامة الساخرة على شفتي شارل , وقالت:
" شكرا ولا أود أن أضيع وقتك أكثر من ذلك , ومن الأفضل أن تستعجل عودتك لأن الطقس سيء في الخارج".
أقترب منها بنظرات غامضة وبدأ يساعدها في خلع معطفها , ودوى في الخارج صوت زمور سيارة فقال السيد براون:
" أنه السائق , نعتذر لأننا سنذهب بهذه السرعة ".
ثم أضافت السيدة براون:
" السيد غريرسون سيمضي ليلته هنا, وسيكون العشاء اهزا في السابعة , لذلك عليك أن تبدلي ثيابك بسرعة".
وخرجوا بدون أن يشرحوا أكثر من ذلك لأبنتهم , لم تصدق ما سمعته وأعتراها شعور غريب أترتمي على صدره لتؤكد له أنها بخير , ورأته يشد على فكيه وهو يبتعد وكأنه أدرك مشاعرها.
" لقد قبلت دعوة أهلك في قضاء الليلة هنا وعليك أن تتبعي نصائح أمك في تغيير ملابسك لأنه ليس من الأدب أن أقدم لك منشفة في بيتك".
" يا لك من وحش".
قالتها وهي تصعد السلم المؤدي الى غرفتها , أخذت حماما ساخنا وأختارت أجمل ثيابها...
وتاهت في دوامة من التساؤلات:
وعندما سمعت دقات الساعة السابعة نظرت الى نفسها في المرآة وتساءلت ما أذا كان بالأمكان أن تؤثر عليه بمظهرها الأنثوي هذا , نزلت السلم ببطء وهي تقول في سرها , لماذا اليأس قد تكون هذه الليلة ه ضربة العمر.
وعندما رآها تدخل الصالون بدا الأعجاب في عينيه , أن هذا الفستان الجورسيه قد أظهر جمال قوامها وذلك اللون الأزرق عكس نقاء بشرتها الصافية , وحاول أن يخفي أضطرابه , دعته جين الى غرفة الطعام , وأستمر الحديث طيلة الفترة , ولم تستطع جين أن تبتلع الطعام , وبذلت مجهودا كبيرا لتحتفظ بهدوئها أمام هدوء شارل , ثم عادا الى الصالون لأخذ القهوة , ولم تعد تستطع الا أن تطرح السؤال الذي كان يحرق شفتيها:
" كيف عرفت عنواني؟".
وحاولت أن تتحاشى النظر اليه فشغلت نفسها بصب القهوة.
" تقصدين أنني تأخرت في الوصول".
أمسكت جين ثورتها أمام وقاحة هذا الرجل الذي تابع بهدوء:
" لمن الغباء بالنسبة الي أن أذهب قبل أن أسمع تفسيرك لهذه الأمور... أليس هناك ما يدعو للمفاجأة".
وأرادت جين أن تنشق الأرض وتبتلعها أمام نظراته وأجلبت:
" ولكن ألا تعتقد بأنك تبالغ؟".
أجاب وهو يكاد ينفجر من الغيظ:
" ألم تقولي بأن والدك يعمل في مصنع؟".
" أنه يعمل أكثر من أي عامل في المصنع...".
" أن أباك ليس عاملا.... أنه واحد من أرباب المشاريع الأكثر أهمية في هذا البلد, وقد تحدثنا بذلك مفصلا قبل عودتك".
" ولكنني لست مسؤولة عن ذلك".
" لا ... ولكنك مسؤولة عن أستغلال ثقتي بك وهذا أحد أسباب زيارتي".
أنه يتكلم دائما بالألغاز.
" ولكن كيف وصلت الى هنا؟".
" أنسيت الوكيل الذي جاءنا في أحد الأيام من برادفورد وقال بأنه يعرفك".
أذن لقد أستطاع أن يسخر منها , هي التي أعتقدت أنها أختفت بدون أن تترك أثرا....".