فخ المرايا
وقفت كارولين دوغلاس أمام محطة " ريدنغ " تتساءل عما قد تفعله ان لم تجد من يستقبلها كما كان الاتفاق . كان عليها أن تسأل عن العنوان . لكنها تعرف اسم مستخدمها واسم الفتاة التى ستعلمها . وتعرف ان الاجر اكثر من سخى , فما الذى تحتاج الى معرفته اكثر من ذلك ؟ ولعل السبب الذى جعلها لا تطرح المزيد من الاسئلة هو عدم توقعها الحصول على العمل , فمنذ اللحظة التى دخلت فيها الى غرفة الانتظار المحاذية للجناح الفاخر فى أحد أفخم فنادق لندن ورأت القائمة النهائية للمتقدمات , اقتنعت ان حظها قليل . فالنساء الاخريات اللاتى كن ينتظرن المواجهة بدون جميعا اكثر خبرة . اما مؤهلات كارولين القادمة حديثا من مدرسة لإرسالية دينية فى سيريلانكا فبدت غير جديرة بالاعتبار .
منتديات ليلاس
لقد تملكها العجب لأنهم وافقوا اساسا على إجراء مقابلة معها . ولكن دورها حان اخيرا .. دخلت الى الغرفة التى تجري فيها المقابلة حيث كانت امرأة فى سن غير محدد , ربما فى الاربعينات كما ظنت كارولين , واسمها السيدة فروبيشر , القت عليها كثيرا من الاسئلة الشخصية . وبدا ان المرأة مهتمة بخلفيتها اكثر من اهتمامها بخبرتها .
فى نهاية المقابلة , عادت كارولين الى غرفة الانتظار فجلست مع سائر النساء بانتظار النتيجة , وكم كان ذهولها بالغا عندما برزت السيدة فروبيشر بعد دقائق لتعلن أن كارولين قد حصلت على الوظيفة . وفيما بعد فقط , تمكنت من التأمل فى الأسباب التى جعلتهم يختارونها , فالفتاة التى ستعلمها فى السادسة عشرة ولعل أهلها فضلوا اختيار مرافقة شابة لها .
ثار غضب تيم بطبيعة الحال ولكنها تتوقع ذلك .. لقد أمضت السنتين الاخيرتين فى سيريلانكا , لذا من الطبيعى ان يعترض على رحيلها مرة اخري . بعدما رأته يوميا لمدة عشرة أسابيع . ادركت ان عليها ان ترحل . نعم تيم يعجبها لأنه بالغ الظرف ,.ولكنها لم تكن تحبه ولن تحبه ابدا . لم تعرف كيف ادركت ذلك , ولكن هذا ما حدث . فهو الشخص الوحيد الذى مالت اليه حقا , ومع ذلك لا تتصور نفسها تقضى العمر معه . بوجه عام , لم يكن لديها وقت للرجال . فالرجال أنانيون عدوانيون لايحبون سوى أنفسهم , يريدون كل شئ دون أن يقدموا مقابل ذلك اى شئ من أنفسهم . ففى سنوات مراهقتها تعرضت لتجربة أليمة تعلمت منها الدرس جيدا .
راحت تنتظر خارج محطة قطار " ريدنغ " , وليس لديها معلومات اكثر من ان رجلا اسمه غروم سيستقبلها ويحملها بسيارته الى وجهتها ,.وهو سائق السيدة فروبيشر الخاص . لقد تأخر , نظرت الى ساعتها التى تحيط بمعصمها النحيل . تأخر ربع ساعة بالضبط .
- أنسة دوغلاس ؟
لم تنتبه الى من يقترب منها بسبب استغراقها فى افكارها , فرفعت بصرها بدهشة الى الشخص المرتدى البزة الرسمية الرمادية الواقف أمامها . ادركت انه السائق غروم . كان رجلا معتدل الطول اشيب الشعر .
نظر اليها معتذرا , فاجابت كارولين ببرودة : " نعم "
لوى قسمات وجهه بشكل هزلى وهذا ما اشعرها بالعطف عليه : " الحمد لله لذلك ..فقد كنت شبه خائف من ان يتعبك الانتظار فتذهبين للتنزه فى مكان ما . لو فقدتك لقتلتنى السيدة بوث "
" السيدة .. بوث ؟ "
تسمرت فى أرضها قليلا . ولكن ما لبث ان سري عنها . ربما السيدة بوث هي مدبرة المنزل !
نظر غروم الى حقيبتى الثياب بجانبها واجابها :
- نعم . اهذه كل أ متعتك يا آنسة ؟
حملت كارولين الحقيبة الصغيرة المحتوية على حاجياتها الخاصة وأومأت قائلة : " نعم , هذا كل شئ "
- إنها خلف الزاوية , يا آنسة .. اعنى السيارة , هلا اتيت من هذه الناحية ؟
اتسعت عينا كارولين ذهولا عندما رأت سيارة المرسيدس السوداء المستطيلة التى تنتظرهما . كانت من نوع السيارات التى لم ترها الا فى الافلام ,.وعندما جلست فى المقعد الخلفى , شعرت بانها من الاسرة المالكة . سرت فيها رجفة من الرهبة فعلي ما يبدو ان فروبيشر من ذوي الثراء الفاحش .
صعد غروم الى مقعده خلف القيادة بعد ان وضع حقيبتها فى صندوق السيارة ثم سألها : " هل أنت مرتاحة ؟ " فابتسمت : " أنت تمزح بالتأكيد "
- نعم هي فسيحة , أليس كذلك ؟ كما انها رائعة عند السير ايضا . إنما على الاتوستراد , فهذه الطرق ليست لها .
وافقته كارولين على ذلك عندما قاد بخبرة بالغة فى الشارع الجانبي الضيق , وعندما توقفا امام اول اشارة سير حمراء , تابع يقول :
- يجب أن اوضح سبب تأخرى . السبب ان الانسة لورا اختفت , فمنذ الثانية من بعد الظهر ونحن نبحث عنها ولكنني أظن تلك القردة الصغيرة فى فينبورن .
شعرت كارولين بالانزعاج وسألته : " الانسة لورا ؟ اتعنى الفتاة التى جئت لأعلمها ؟ "
- نعم يا انسة , ليس هناك سوى انسة لورا واحدة .
- أمن عادتها الاختفاء بهذا الشكل ؟
- آه , لا , ليس من عادتها ذلك . ولكن .. حسنا , أظنها تعبر بذلك عن احتجاجها .
هزت كارولين رأسها قائلة : " تعبر عن احتجاجها ؟ انا اسفة لأننى بطيئة الفهم . إنما ما الداعي الى الاحتجاج ؟ "
رمقها غروم من خلال المرآة أمامه : " ليس من شأنى ذكر ذلك يا آنسة "
- لا . ولكن بما أنك قلت الكثير . فمن المؤكد ان بإمكانك ان تذكره بشكل استثنائى .
قطب غروم حاجبيه : " آه , الحقيقة انها لا تقبل فكرة المربية فى مثل هذا العمر "
- فهمت , افهم من هذا اننى لست الاولى إذن ؟
قالت ذلك وهى تستوعب هذا الكلام باستسلام . كان عليها أن تعلم ان الامور لن تكون كلها سهلة .
قال غروم وهو يتخطي مشاكل السير بسهولة الخبير المدرب : " بل أنت كذلك , يا أنسة . كانت السيدة الصغيرة فى بوسكومب فى الفصل الدراسي الماضى . ذهبت الى هناك منذ كانت فى الثالثة عشرة "
شعرت برغبة فى أن تسأل السائق بصراحة عن السبب الذى يمنع الفتاة من العودة الى هناك , ولكنها سيطرت على نفسها . لعلها طردت .. واذا كان هذا هو السبب فهذا لا يبشر بعلاقة مسالمة .
- ولماذا برأيك ذهبت الى " فينبورن " ؟ انه المكان الذى ذكرته , أليس كذلك ؟
- نعم يا آنسة , حسنا . ففى فينبورن أمكنة للاتصالات التليفونية , والانسة لورا من المولعات بالاتصالات التليفونية
عقدت كارولين حاجبيها : " أليس فى المنزل تليفون ؟ "
ضحك غروم قائلا : " بل يوجد العشرات منه .. ولكن الاتصالات فى المنزل مراقبة من قبل السيدة فرينتش وهي مدبرة منزل السيد بوث , وانا ... "
- السيد بوث ؟
- نعم , يا آنسة . تحب الانسة لورا ان تكون اتصالاتها التليفونية خاصة , ويمكنك ..
عادت كارولين تقول : " السيد بوث ؟ من ... من هو السيد بوث ؟"
نظر غروم اليها من فوق كتفه بسخرية : " هل تمزحين ؟ "
هزت كارولين رأسها : " لا "
عقد غروم حاجبيه : " وانت الانسة دوغلاس ؟ الانسة كارولين دوغلاس التى تقصد ميتلاندس ؟ "
- حسنا , لم اعرف بالضبط المكان الذى سأقصده , أننى كارولين دوغلاس فعلا . لماذا ؟
- أرجو المعذرة , لاننى اظن انه كان عليك معرفة من هو مخدومك .
- مخدومى
- نعم , يا آنسة . السيد بوث .
هتفت كارولين مبهوتة : " ولكننى توظفت عند سيدة تدعى فروبيشر "
عقد غروم حاجبيه : " احقا يا انسة ؟ آه . نعم . لابد انها السيدة أيرين فروبيشر ,وهى صديقة حميمة للسيدة بوث , لعل السيدة بوث أوكلت اليها هذه المهمة فالسيدة معاقة "
خفق قلب كارولين بعنف وشعرت بشئ من الغثيان : " السيدة بوث .. معاقة ؟ أتعنى انها تلازم كرسيا بعجلات ؟ "
- نعم , انها كذلك فى الواقع . فهل سبق ان سمعت بها ؟ كان على ان احزر ذلك نظرا لمكانة زوجها الاجتماعية .
قالت كارولين وهي تلعق شفتيها الجافتين :
- آه , نعم . سمعت بها .
أومأ غروم برأسه ثم أبطأ سيره لأن جماعة من التلامذة يقطعون الشارع بقيادة مرشد . إنهما الان فى ضواحي ريدنغ . ولابد انهما اصبحا غير بعيدين عن .. عن ماذا ؟ ميتلاندس ؟ نعم , هذا هو الامر . ميتلاندس ! لم تعرف قط اسم المنزل , ولكنها حينذاك لم تعرف الكثير عن حياته الخاصة لأنه حرص على ذلك .
- انا ..
سكتت عندما التقت عيناها بعينى غروم فى مرآة السيارة .
- نعم يا آنسة .
- آه , لا شئ .
جذبت نفسا ثابتا وهي تحاول ان تفكر بشكل مترابط . ماذا ستفعل ؟ لقد أقحمت نفسها فى عمل عند الرجل الوحيد الذى كانت ترجو ألا تراه مرة اخرى ولكن كيف حدث هذا ؟ لم تعد من سريلانكا منذ وقت طويل , والاعلان الذى قرأته فى صحيفة " التايمس " كان ملائما كليا . لاشك انه علم بذلك فخطط للأمر , وهذا هو السبب الذى جعل تلك السيدة تختارها دونا عن أولئك المتقدمات . ما هي لعبته ؟ وكيف يجرؤ على إدخال الفتاة التي أراد ذات يوم أن يجعلها خليلته الى منزله ؟ ألا يشعر بالخجل ؟ ألا يخشى انها قد تذهب الى زوجته وتخبرها بعلاقتهما السابقة ؟ يا له من عمل حقير !
تحركت فى مقعدها بضيق . ماذا تفعل بهذا الشأن ؟ لقد دفعوا لها أجر شهر مقدما والواقع انها أنفقت قسما من ذلك المبلغ ,. فالاجر الذى كانت تتقاضاه فى سريلانكا كان قليلا . وعندما عادت الى لندن وجوها البارد احتاجت الى ملابس جديدة مناسبة , كما كان عليها ان تدفع اجر مسكنها المؤقت وثمن الطعام . لولا كل ذلك لطلبت من غروم ان يعيدها الى المحطة , ولكن كيف لها ذلك مع ظروفها تلك ؟
هاهما الان يجتازان حقول الذرة الخضرا التى كانت بطور النضج , كان الجو دافئا فى عصر ذلك اليوم من شهر أيار وكان عليها ان تشعر بالغبطة لأنها ستعمل فى هذه المنطقة . ولكن كل ما استطاعت التفكير فيه هو انها سجنت , وقعت فى الفخ ...
كان غروم يراقبها من خلال مرآته . فجأة انتهبت الى تحديقه الفضولى بذلت جهدا لتسيطر على ملامح وجهها ثم راحت تركز بصرها على مشهد القرية التى استطاعت رؤيتها أمامهما .
سألته باتزان ملحوظ : " أية قرية تلك ؟ "
قال غروم وهو ينظر حوله متفحصا على أمل العثور على المراهقة الضائعة :
- هذه فينبورن وهي مكان صغير
قالت له : " شكرا , هل هي بعيدة عن .. ميتلاندس ؟"
- ليس أكثر من ميلين او ثلاثة , فالأنسة لورا تأتى احيانا الى هذا المكان على دراجتها الهوائية ..انها تلح على ابيها للحصول على دراجة ولكن اباها لم يسمح لها بذلك . وهذا ليس بمستغرب فى الواقع , فالانسة لورا فتاة عنيفة الطباع لذا قد تسبب لنفسها كارثة .
________________________________________
لوت كارولين طوق حقيبة يدها بأصابعها بشدة وقالت متلعثمة : " هل .. هل السيد بوث .. والد متشدد ؟"
ضحك غروم بهدوء : " أحيانا يا آنسة , احيانا . لا لزوم للقلق من تلك الناحية يا آنسة ,.فهو مخدوم جيد عادل ولكنه حازم لذا لن تتعرضى لأية مشكلة معه . اذا كان هذا ما تفكرين فيه .
هل هذا صحيح ؟ ليتها قادرة على الشعور بكل هذه الثقة !
استدارت السيارة حول منعطف فى الطريق , فرأت أمامها جدارا قرميديا عاليا يمتد على طول الطريق لينتهى ببوابة من الحديد المشبك كانت مغلقة أمامهما .
- ها نحن هنا يا آنسة في ميتلاندس .
اعلن السائق ذلك وهو يضغط بوق السيارة أثناء اقترابه , ثمة شقة للبواب قرب البوابة خرج منها رجل فلما عرف غروم , رفع يده بالتحية ثم عاد الى داخل الغرفة ليحرك بعض الالات وهذا ما جعل البوابة تتحرك .
قال غروم : انها تتحرك أليا . على المرء ان يكون حذرا هذه الايام .
عندما دخلت السيارة من خلال البوابة , عاد جسم كارولين يقشعر خشية : إنه سجن حقا .. وكم ضايقتها هذه الفكرة
ما لبثت خشيتها أن زايلتها مؤقتا عندما لمحت المنزل . انه مبنى من الحجر ويتعرش نبات اللبلاب على جدرانه , وشجر الياسمين يتسلق الاعمدة التى تسند الشرفة الواسعة . كانت النوافذ مستطيلة مقوسة , ثم رأت بابين واسعين يؤديان الى الشرفة من الخلف .
وللشرفة درجات منخفضة . والواقع ان المكان يحتوى على كل ما كانت تتصور ان يحتويه منزل , وما كانت لتكون من البشر ان لم تشعر بالمتعة البالغة لمظهره هذا , ثم فجأة عادت الى الواقع فقد رأت شخصا على كرسى بعجلات يخرج الى الشرفة من الباب المفتوح .
أوقف غروم السيارة امام درجات الشرفة ورفع قبعته محييا المرأة الجالسة فى كرسى العجلات ثم فتح باب كارولين الخلفى فترجلت بدورها انما بتمهل تشعر بتوتر فى أعصابها ونظرت الى ملابسها بحركة الية لكي تطمئن بذلتها المصنوعة من الصوف الممتاز بسيط الطراز انما انيقة للغاية وملائمة لمربية مثلها . كذلك كان شعرها ممشطا الى الخلف عن وجهها ومكوما عند رقبتها باستثناء خصلتين التفتا بجانب اذنيها .
تقدمت كرسي العجلات الى مسافة تبعد قدما عن درجات الشرفة.نادت المرأة : " اصعدي يا آنسة دوغلاس . فمن الصعب علي النزول اليك كما ترين "
فصعدت الدرجات الى الشرفة بساقين مرتجفتين . ومدت السيدة بوث يدها : " كيف حالك يا آنسة دوغلاس ؟ ما أحسن أن نراك أخيرا "
صافتحها كارولين بأدب وقالت : " كيف حالك ؟ "
شعرت بالاحتقار تجاه نفسها لأنها لم ترغب فى لمس المرأة التى كانت زوجته , ولكن جمالها كان من الروعة بحيث لايمكن إنكاره . عادت تتساءل من جديد كيف بإمكانه ان يفعل شيئا كهذا .. لزوجته ؟
كانت السيدة بوث قد عادت تقول : " هل استمتعت برحلة جيدة ؟ آسفة لتأخر غروم فى استقبالك ولكنه شرح بلا ريب ما وقع لدينا "
- لقد .. لقد قال شيئا ما .
عند ذلك كان غروم يصعد الدرجات حاملا حقيبتي كارولين , فحولت السيدة بوث انتباهها اليه لحظة : " احملهما الى الردهة فقط يا غروم وستتصرف السيدة فرنتش بهما فيما بعد , شكرا "
نفذ غروم التعليمات اما المرأة فأعادت انتباهها الى كارولين : " هيا بنا الى الداخل , لاشك أنك متلهفة الى كوب شاي او شراب منعش فى مثل هذا الجو البديع "
انساب كرسي العجلات امام كارولين مجتازا العتبة المقوسة الى ردهة فسيحة باردة مكسوة بخشب السنديان . وكانت على الأرض سجادة مشمشية اللون تمتد على الدرج العريض اما على الجدران فكانت عدة رسوم أحبت كارولين تأملها , ولكن السيدة بوث كانت تتقدمها الى غرفة جلوس فسيحة وسرعان ما انصرف انتباه كارولين الى نماذج مصغرة لصور رائعة اصطفت على الرف الرخامي القائم فوق المدفأة.
سألتها المراة وهي ترى اهتمامها : " هل تحبين جمع التحف يا آنسة دوغلاس ؟"
هزت كارولين رأسها بسرعة : " لا افهم فيها الا قليلا , ولكنها رائعة الجمال "
حولت كارولين انتباهها بعيدا عن الصور , قائلة : " إنها غرفة رائعة "
وكانت كذلك . فقد كانت السجادة العاجية اللون منسجمة كليا مع الاثاث الخشبى الداكن اللون , ومع الستائر الحريرية العاجية والذهبية . هذه الغرفة من الغرف التى لم تر كارولين مثلها الا فى الافلام . ومع ذلك , فلم تكن غرفة يمكن للمرء ان يستريح فيها .
قالت السيدة بوث وهي تستدير بكرسيها : " اننى مسرورة لانها اعجبتك "
ثم سمعت نحنحة شخص ما عند الباب فقالت : " اه , هذه هى السيدة فرينتش . احب ان اقدم اليك مدبرة منزلنا , يا انسة دوغلاس , هل لك ان تهتمى بنقل حقائب الانسة دوغلاس الى غرفتها ؟ كما اننا نريد تناول الشاى "
خرجت مدبرة المنزل التى بدت امرأة صموتا , طويلة القامة نحيلة البنية سوداء الشعر والعينين , خالية من الجمال والغريب انها لم تفه بكلمة ترحيب بالمربية الجديدة .
اشارت السيدة بوث الى كرسى تدعوها الى الجلوس : " ألا تجلسين ؟ انك بوقوفك هناك تجعلين وضعى صعبا .انك طويلة القامة , اليس كذلك يا انسة دوغلاس ؟"
سارعت كارولين للجلوس على الكرسي المشار إليه .
قالت بلهجة آلية : " طولى مئة وسبعون سنتمترا .. سيدة بوث "
ثم قالت بلهجة عرجاء : " انا .. هل .. هل عثرت على ابنتك ؟"
- لورا ؟ آه , نعم . عثرنا عليها اخيرا . لقد كانت فى نزهة على دراجتها الهوائية . اخبرتها ان عليها فى المستقبل ان تخبرنا عن المكان الذى تقصده .
قالت كارولين وهي تتحرك فى جلستها : " فهمت . بالنسبة الى .. الى المقابلة "
- نعم ؟
- لقد فهمت ان السيدة فروبيشر
- هل حسبتها صاحبة العمل ؟ اه , لا . كيف واتتك هذه الفكرة ؟ ألم تشرح لك الامر ؟
- لا , مع الاسف
فبدا الاهتمام الصادق على المرأة :
- آه , هذا امر سئ , سئ جدا . ولكن هل شكل الامر فرقا ؟
اطمئنك الى ان سمعتنا مشرفة كسمعة آل فروبيشر تماما .
- واثقة من ذلك لكن ..
فتنهدت المرأة الجالسة امامها بعمق :
- آنسة دوغلاس , آنسة دوغلاس انك ترين حالتى , أليس كذلك ؟
امرأة عاجزة مرغمة على قضاء بقية حياتها فى هذا الكرسى مقعدة بشعة . انك لا تعرفين ما يعنى هذا يا آنسة دوغلاس , وهو ان تكونى معتمدة كليا على الاخرين . تخجلين من الشفقة التى يبديها نحوك اى شخص . اننى اتجنب مقابلة الغرباء ولا احتمل استعلاء الاخرين على . اه , قد تظنيننى حمقاء انانية وربما كنت كذلك ولكننى خلقت هكذا . ولهذا لم استطع القيام بالمقابلة .. لم استطع اجراءها . ومن حسن الحظ ان السيدة فروبيشر وهي صديقة لي عزيزة , تطوعت بالنيابة عني فى هذا , فارجو الا تشعرى بالغيظ للاختلاط البرئ الذى حدث بالنسبة للأسماء . اؤكد لك ان لورا بحاجة ماسة الى مشرفة جامعية عليها , وانا متلهفة الى فتاة شابة اتحدث اليها .
ابدت كارولين اشارة تنبئ عن عجزها : " انا .. انا فقط اتساءل عما اذا كنت املك المؤهلات الضرورية "
- انا مسرورة بمؤهلاتك وكذلك زوجي .
سكتت مرة اخرى فغضت كارولين بصرها واخذت تنظر الى يديها المشتبكتين فى حجرها وتورد وجهها قليلا
أردفت المراة : " انك من تحتاجها لورا بالضبط , فتاة شابة مرنة الطباع , فتاة قد تكون صديقتها ومربيتها فى آن "
لم تستطع كارولين التفكير فى جواب لهذا , ومن حسن الحظ ان السيدة فرينتش اختارت هذه اللحظة لتعود . كانت تدفع أمامها صينية موضوعة على عربة بعجلات وضعت عليها طقم شاي من الخزف الصينى غاية فى الجمال والرقة . هذا عدا عدة أطباق فيها شطائر وكعك وقطع حلوي .
أشارت السيدة بوث الى مدبرة المنزل بدفع العربة الى قربها وهي تهتف : " آه ,الشاي , شكرا يا سيدة فرنتش هل غرفة الانسة دوغلاس جاهزة ؟ "
- نعم يا سيدتى
سكبت السيدة بوث الشاي . فى هذه الاثناء راحت كارولين تتأملها عن قرب .
هي امراة جذابة فى اواخر الثلاثينات من عمرها , نحيفة سوداء الشعر قد سرحت شعرها يد خبيرة , وبشرتها خالية من التجاعيد . قبل الحادثة كانت قادرة على جذب عدد كبير من المعجبين المتحمسين بمن فيهم جايمس بوث , ولهذا تزوجها . ثم عندما سئم من القيام بدور الممرضة لزوجة معاقة , اخذ يفتش عن متعته فى مكان اخر .
قالت السيدة بوث : " فهمت انك عدت منذ فترة وجيزة من الهند يا آنسة دوغلاس . اهذا هو سبب هذه السمرة الرائعة التى أراها ؟"
ارغمت كارولين نفسها على التصرف بشكل طبيعى :
- انا .. كنت فى سيلان , فى الواقع . سريلانكا , نعم عدت منذ شهرين فقط .
- هل أعجبتك الحياة هناك ؟
- الجو هناك حار غالبا , والرطوبة شديدة . ولكنني اكتسبت خبرة فى الحياة .
قالت المرأة وهي ترشف الشاي متأملة : " نعم , هل تحبين .. الخبرات , يا آنسة دوغلاس ؟"
عقدت كارولين جبيتها : " ليس تماما "
ابتسمت السيدة بوث معتذرة : " أسفة لاننى عبرت عن ذلك بشكل سئ .. كان على أن اقول هل تحبين المغامرات ؟ "
هزت كارولين كتفيها : " آه , فهمت . ظننت ان العمل فى بلاد اجنبية سيكون امرا ممتعا "
- وهل كان كذلك ؟
- نعم , ولكن العودة الى البيت شئ حسن .
عقدت السيدة بوث حاجبيها : " وهل لديك بيت ؟ فهمت من السيدة فروبيشر أنك .. "
- آه , لا . فهمت ما تقصدينه .. عنيت بيتى وطني انكلترا . ولكنك على صواب , ليس عندي بيت حقيقى هنا لقد توفى والداي عندما كنت فى العاشرة , فأمضيت السنوات السبع التالية من حياتي في بيوت للرعاية . ثم .. ثم ذهبت الى الجامعة .
- وماهى هواياتك آنسة دوغلاس ؟
ترددت كارولين : " ليست كثيرة . اننى استمتع بالقراءة والموسيقى وكنت اسبح كثيرا فى سريلانكا . اننى احب السباحة "
أشارت السيدة بوث الى الحديقة الظاهرة من خلال النافذة المستطيلة : " حسنا , لدينا بحيرة سباحة طبيعية هنا غالبا ما يستعملها زوجي , وهناك ايضا مسبح فى المنزل استعمله كجزء من علاجي , ولكن إذا أردت ان تسبحي معي فيه .. "
- أشكرك
- وماذا بالنسبة الى .. الاصدقاء الشبان ؟
اجابت كارولين التى شعرت بالضيق مرة اخرى : " انا .. لا , ليس لدي صديق بشكل جاد . هذا هو الامر "
لو سمع تيم ما قالته لامتعض واغتاظ !
- جيد .. جيد
ابتسمت السيدة بوث مرة اخرى , وشعرت كارولين بالدفء لما تراه منها من مودة .
- أظننا سننسجم معا كليا . فأنت ما تحتاجه لورا بالضبط , وما نحتاجه جميعا , والان هل اقدم لك مزيدا من الشاي ؟
رفضت كارولين ذلك , وساد الصمت بينهما عدة لحظات , ثم وجدت كارولين نفسها مرغمة على ان تسال :
- متى أقابل .. لورا سيدة بوث ؟
كانت ضحكة المرأة الاكبر سنا مرحة موسيقية :
- من الطبيعى ان تشعرى بلهفة للقاء تلميذتك ,. لقد استمتعت بحديثنا هذا كثيرا حتى نسيت سبب وجودك هنا .
لم تستطع كارولين ان تصدق هذا , ولكنها تجاوزت عنه .
- هل لدى ابنتك مربيات اخريات يا سيدة بوث ؟
ترددت المرأة ثم قالت : " لا , ألم تشرح لك السيدة فروبيشر الأمر ؟ كانت لورا فى مدرسة داخلية , ولكنها قبل عيد الفصح بالضبط أصيبت بالتهاب رئوي . فقد كانت من الحماقة بحيث خرجت بدون معطف اثناء العاصفة . فقررنا انا وزوجى ان من الافضل لها ان تتعلم فى البيت "
- فهمت , ولكنها شفيت الان ؟
- آه , نعم , انها معافاة الان . ولكنك تعلمين كيف يكون الامر عندما يكون الولد وحيدا لوالديه ؟ فهما يكونان شغوفان به للغاية.
لم يكن هذا متطابقا مع ما حدثها به غروم . ولكن كارولين من الفطنة بحيث علمت ان الوالدين لايرون دوما الامور من الزاوية التى يراها بها الاخرون , وما زاد فى انزعاجها هو ان جايمس كذب عليها بالنسبة الى لورا ايضا , فقد اكد لها دوما ان زوجته لا تجد وقتا تنفقه على ابنتهما ,وان لورا ستعانى كثيرا اذا طلب الطلاق , فلو طلب الطلاق لما استطاع رؤية الطفلة مرة اخرى الا نادرا .
قالت المراة الاخرى : " لا اقول ان لورا موافقة على ترتيباتنا هذه بشأنها . فهى ... فتاة مستقلة الشخصية , وبرأيها اننا نبالغ كثيرا فى اثارة هذه الضجة بشأن مرضها . ولكن هكذا هم الآباء "
جاءت جينى الخادمة فرافقت كارولين الى غرفتها . تقع غرفتها فى اخر الممر المتشعب الى الشمال فى قمة الدرج وعند اليمين ثمة درابزين رائع الجمال شكل فسحة تشرف على الردهة وكانت الابواب تفتح على هذه الفسحة , وبينها كانت تقوم تحف فنية .
الغرفة التى خصصت لها بالغة الاتساع . سقفها العالى المنحوت يشرف على سرير مربع ذى اربعة اعمدة , وكان هناك مكتب صغير ذهبي الجوانب وكرسي مريح مواجه للتليفزيون , كانت النوافذ المستطيلة تطل على حدائق المنزل الخلفية , واسفل منها هناك الشرفة التى تؤدى الى مرج اخضر وحديقة ورود . وخلف ذلك كانت هناك شبكة حديدية خلفها تألق مياه خضراء , ربما تشير الى وجود البحيرة تلك البحيرة الطبيعية التى غالبا ما يستعملها جايمس ..
عادت تواجه الغرفة مرة اخرى , مبعدة تلك الافكار المزعجة جانبا . كان الحمام الملحق بالغرفة يماثلها جمالا واناقة . كانت المرايا تغطى الجدران فسبب لها هذا صدمة اذ رأت فيه نوعا من عدم الحشمة , وكانت هناك خزانة فى الجدار تحتوى على مجموعة كبيرة من عطور الحمام والبودرة والمحاليل وكل ما يساعد على لذة الاسترخاء فى المياه الدافئة المعطرة .
فتحت كارولين صنابير المياه لعل الحمام يهدئ من اعصابها ويساعدها على تحليل الامور التي تواجهها .
* * *
لم يرد الاستحمام الى كارولين غير القليل من ثقتها بنفسها , فأخذت تنقب فى حقائبها التى احضرتها السيدة فروبيش الى غرفتها . لقد طلبت السيدة منها موافاتهم هى وزوجها ولورا الى المكتبة فى تمام السابعة , ولم تكن كارولين تعلم سبب هذا الاستدعاء كانت تسرح شعرها امام مرآة منضدة الزينة عندما سمعت طرقا على الباب .
سرعان ما توترت اعصابها ولكنها قررت اذا كان جايمس نفسه وراء الباب ان تخرج من البيت مباشرة .
- نعم ؟
جاء صوتها فظا عنيفا , ولكن ما لبث الضعف ان تملكها وهي تسمع صوتا أنثويا فتيا ينادي : هل استطيع الدخول ؟ " قطبت كارولين حاجبيها وتركت الفرشاة من يدها , ثم تناولت معطفها المنزلي الحريري الذى ارتدته لدي خروجها من الحمام واجابت : نعم , ادخلى.
الفتاة التى دخلت هى ابنة جايمس حتما , لانها من الشبه به بحيث شعرت كارولين بصدمة حقيقية لذلك . كانت نحيفة القد ذات شعر قاتم وعينين عميقتين بنيتن وبشرة سمراء . دخلت الى الغرفة وهي تنظر الى ما حولها بحذر وكأنها شبه خائفة من ان تكون كارولين برفقة احدهم ..
بعدما أغلقت الباب , قالت : مرحبا .. انا لورا .
انقبضت اصابع كارولين في جيبي معطفها وهي تواجه الفتاة التى ترتدي بنطلون الجينز : " نعم , أدركت انك قد تكونين القادمة "
منحتها لورا ابتسامة مختصرة : " وانت الأنسة دوغلاس طبعا . رأيتك عندما وصلت "
- رأيتنى ؟
فقالت لورا بسرعة :
- من نافذة غرفتي . إنها تشرف على طريق البيت , لقد كنت مسجونة هناك منذ عودتي من فينبورن منذ فترة .
شعرت كارولين بعينها تتسعان وهي تقول : " احقا ؟ "
- نعم , ألم تخبرك أمي ؟ يبدو ان غروم تأخر فى الذهاب لاستقبالك والسبب انا
لم تشأ كارولين الانحياز فى هذا الشأن , فقالت : "ربما قالت شيئا بهذا الخصوص "
- أظنها فعلت , اذا كان عليها ان تقدم اليك سببا لعدم لقائى بك , أليس كذلك ؟
فاجابت كارولين بلين : "هذا غير ضرورى .. فقد فهمت اننى سأقابلك فيما بعد هذا المساء "
- آه ! حسنا , على كل حال , اريد محادثتك اولا . اريد منك ان تعلمى باننى لا احتاج , ولا اريد , مربية . فإن لم يكن بإمكانى ان اكمل تعليمى بالطريقة التى يكمل بها كل اصدقائى تعليمهم , فلن أتعلم شيئا بعد الان. وان ظننت اننى قد اتعلم بهذه الطريقة فاعلمى انك تهدرين وقتك .
- أحقا ؟
شعرت كارولين رغما عنها بالاعجاب بصراحتها التى قد يعتبرها بعضهما وقاحة .
عادت تقول : " ألا تظنين ان والديك يستحقان منك مقدارا اكبر من الاعتبار ؟ "
رفعت لورا كتفيها : " والداي ؟ لا اعلم ما الذى اخبرتك به امى ولكننى استطيع التكهن , لا أظنها اتت على ذكر جون , اليس كذلك؟"
- جون ؟
قالت لورا بعناد : " انت لا تعرفين . آه , حسنا , سأخبرك على كل حال , انهم يبعدوننى عن المدرسة لأننى احببت شابا يعمل فى طريقة ينشتونه قرب المدرسة "
قالت كارولين مبهوتة : " لورا , ارجوك , لا اريد ان اعلم "
- ولم لا .. فأنت ستعلمين ذلك عاجلا ام آجلا إذا انت بقيت هنا , لأننى لن أتخلى عنه .
حدقت كارولين الى الفتاة التى كانت تواجهها ثائرة , ثم تنهدت . اذن فهذا هو الامر ؟ يبدو هذا منطقيا اكثر من الحديث عن مرض سابق .
ان شابا يعمل فى بناء طريق لايبدو مناسبا على الاطلاق لصغرى فتيات أسرة بوث . تسلل الى نفسها شعور خفي بالعطف عليه , مع انها كانت مقتنعة ان لورا اصغر من ان تقع فى غرام اى شخص كان.
ثم سألتها وقد تملكها الفضول :
- و ... وما هو عمل ذلك الشاب ؟
أجابت لورا بحرارة وحماسة : " إنه مهندس واسمه جون موني "
قالت كارولين بلهجة جافة : " ما دام مهندسا فهذا يعنى انه يكبرك بكثير "
عاد التمرد الى ملامح لورا والتهبت عيناها غصبا : " وماذا فى ذلك ؟ وما شأن العمر بهذا ؟ فالمهم المشاعر "
تنهدت كارولين : " أفهم من هذا انه سبق لهذا الجدال ان قام بينك وبين والديك "
- هما لا يتفهمان .. إنهما اكبر سنا من ذلك
- أليس قول ذلك سهلا ؟ ربما هما أكثر تفهما منك
ارتفع صوت لورا بحدة لما شعرت به من خيبة الامل .
- آه , ان عليك ان تقولى ذلك فأنت بجانبهما . كان على ان اكون اكثر حكمة من ان اظن ان اى شخص يعمل عند امى سوف ..
فجأة انفتح الباب بعنف ووقف بالعتبة رجل جذاب يحملق فى الفتاة الصغيرة وهو يقول بغضب بالغ : " لورا , ماذا تظنين انك تفعلين بحق الله ؟ اسمع صوتك من اخر الممر . كيف تجرؤين على القدوم الى هنا لإزعاج .. "
انتقلت عيناه الى الفتاة الاخرى فى الغرفة ثم إذا بهما تضيقان بعدم التصديق : كارولين !
تمتم بذلك ثم تمالك نفسه بجهد شعرت هي أنه بالغ للغاية .
عندما رأت كارولين ان لورا قد استدارت الان لتنظر الى مربيتها الجديدة بفضول بالغ , علمت انه من المنتظر منها ان تقول شيئا فاستطاعت ذلك بهدوء لم تكن تعلم انها تملكه : " مر .. مرحبا يا سيد بوث , ما أجمل ان أراك مرة أخري "
- هل تعرفان بعضكما بعضا ؟
منحها سؤال لورا واستغرابها وقتا يقومان فيه الوضع . ولولا شعور كارولين بمثل هذا الغضب البالغ والازدراء لدي رؤيتها هذا الشخص الطويل القامة الرشيق الجسم , لربما تملكها الاعجاب لسرعة تملكه لاعصابه . فقد محا زلة لسانه هذه وكانها لم تكن .
التفت الى ابنته قائلا : " لقد تعارفنا انا والانسة دوغلاس منذ سنوات , عندما كانت تعلم لمدة معينة . ولكن مع ذلك يا لورا اريد منك تفسيرا لتصرفك هذا "
اجابت لورا وهى تزم شفتيها : " اسفة اذا كنت سمعتنى . كنت فقط اضع الانسة دوغلاس فى الصورة "
نظر جايمس الى ابنته برصانة , فأخذت كارولين تراقبهما وقد قارت الذكريات المؤلمة فى نفسها . ان هذا بيته , وزوجته , وابنته . وقد كان على استعداد لتعريضهم جميعا للخطر مقابل عدة ساعات يمضيها فى فراشها .
وكان الان يقول : " اذهبى الى غرفتك يا لورا وغيري ملابسك الى شئ مناسب ثم التحقى بنا انا وامك والانسة دوغلاس الى غرفة المكتبة , هل تفهمين ؟ "
تمتمت لورا بوجه متجهم الملامح : " أنا لست جائعة "
- ومع ذلك ستنفذين ما أطلبه منك . ام تريدين ان تظن الانسة دوغلاس انك اصغر مما كانت تظن ؟
- آه , آه , لا بأس
اندفعت لورا خارجة من الغرفة اما جايمس فرافقها حتى اصبحت فى الممر ثم توقف والتفت ناظرا الى كارولين , وقال بلهجة ملؤها التكلف : " اننى اسف , ان لورا صعبة المراس كما ترين "
- نعم .
ولم تستطع ان تفكر بجواب غير ذلك .
عاد جايمس يحدق اليها لحظة اخرى , ثم حرك كتفيه وقال : " المعذرة ! زوجتي تنتظرني "
سار مبتعدا فاندفعت كارولين تصفق باب الغرفة ثم استندت اليه وهي ترتجف . كان الاضطراب والذهول يتملكانها , فبقيت عدة دقائق فى هذا الوضع تجاهد لتتمالك نفسها . واخيرا , انتصبت واقفة , ثم سارت الى منضدة الزينة حيث التقطت فرشاة الشعر مرة اخرى وهي تفكر شاعرة بالدوار , بأن وجهها ما زال يبدو كما هو بالضبط , باستنثاء انه اكثر شحوبا عما كان عليه عندما خرجت من الحمام . أخذت تفكر وهي تمشط شعرها الكث . يقولون ان الكراهية تبدو فى العينين . ولكن لم يبد فى عينيها سوي الارتباك ومع ذلك فقد شعرت الان انها تكرهه اكثر مما كرهته قط .
* * *
________________________________________
عندما أتمت كارولين زينتها وارتدت ملابسها وهبطت الدرج , كانت الساعة قد تجاوزت السابعة . كانت يداها من الارتجاف بحيث لطخت وجنتيها بالكحل , ثم أراقت عطرها المفضل على السجادة , وهذا ما جعل رائحة غرفتها أشبه برائحة معمل تقطير الكحول ومع ذلك أصبحت جاهزة اخيرا , رشيقة القامة , جذابة . كانت ترتدى سروالا مخمليا اسود وبلوزة بيضاء طويلة الكمين . وكان شعرها كالعادة معقودا على رقبتها من الخلف وهذا ما جعلها تبدو هادئة كما كانت ترجو .
عندما وصلت الى الطابق السفلى , كانت السيدة فرنتش فى الردهة , فأرشدتها الى غرفة المكتبة حيث واجهها باب مغطى بالجلد . لما سمعت غمغمة اصوات فى الداخل , طرقت الباب وسرعان ما انفتح . ورأت المرة الثانية هذا اليوم جايمس الذى حياها بإيماءة خفيفة من رأسه , اما هى فحولت انتباهها الى المرأة الجالسة الى يمين مدفأة ضخمة مؤطرة بالخشب . رأتها السيدة بوث فأشارت اليها بأن تتقدم هاتفة : " ادخلى , يا آنسة دوغلاس . كنا نتحدث عنك , اسفة لما لقيته من ازعاج من لورا "
دخلت كارولين الى الغرفة المليئة بالكتب على كره منها وهي تقول : " لم يكن هناك ازعاج , اسفة لأننى جعلتكم تنتظرونني "
- لا داعى للأسف
بدت المرأة , هذا المساء , انيقة فى ثوب طويل احمر اللون مطرز الحواشي والعنق .
قالت السيدة بوث : " تفضلى بالجلوس , اخبرنى زوجي انه سبق ان قابلك "
تورد وجه كارولين ولكن لم يكن هناك سبيل الى منعه , فتمتمت تقول بشئ من السخافة : " أحقا ؟ "
نظرت زوجة جايمس اليه مازحة .
قالت : " نعم , أليس كذلك يا عزيزى ؟ "
انغرزت اظافر كارولين فى راحتيها . ما الذى تقصده ؟ وماذا قال لها جايمس ؟
نظرت عيناه الى كارولين . بدتا غامضتين مبهمتين لا تفحصان عن شئ ثم قال ببرودة : " لقد اوضحت انك الشابة التى كانت تعلم جيوفري وفنسنت فى منزل " آل فورستر " منذ سنوات"
استلمت زوجته الحديث : نعم , ويالها من مصادفة . أن آل فورستر اصدقاء حميمون لوالد زوجي . وانا واثقة انهم سيدهشون عندما يعلمون انك مربية لورا . أليس كذلك يا جايمس ؟
قال جايمس ببطء : " سيدهشهم ذلك جيدا . والان , يا انسة دوغلاس , هل اقدم اليك عصيرا او شيئا ما ؟ "
ترددت كارولين لحظة , ثم أومأت تقول : " شكرا عصير الكرز رجاء "
عندما كان يسكب لها العصير فى الكوب راحت كارولين تراقبه بعداء . لقد اقنعتها تصرفاته بأنه لا يشعر بوخز الضمير بسبب ما فعل .. وكان السخط قد احدث لديها دفعة من الشجاعة فقالت بتكلف مصطنع : " ادهشنى ان تتذكرنى يا سيد بوث , فتعارفنا لم يدم الا فترة قصيرة للغاية "
ما إن انطلقت هذه الكلمات من فمها , حتى استغربت كيف سمحت لها اعصابها بالنطق بها , ولكنها شعرت بالرضى وهي ترى انه ارتبك لسماعها . اما زوجته فاستمعت باهتمام لما قالته كارولين فتدخلت متمتمة : "انها نقطة هامة يا آنسة دوغلاس . جايمس , يا عزيزي و هل تحاول ان تجعلنى أغار ؟ "
قيل هذا كله فى معرض المزاح , ولكن جايمس اتخذ سبيل الدفاع , فقال : " قابلت " أيرين فروبيشر " فى المدينة بعد ظهر هذا النهار , فذكرت اسم الانسة دوغلاس , وكان هذا , وليس وجهها رغم جاذبيته التى لاشك فيها هو الذى جلب الذكرى "
عندما انهى حديثه , كانت شفتا زوجته قد توترتا بشكل ما . اما كارولين فجلست على كرسي بجانبها , ولكن ذلك لم يمنعها من الشعور بالغضب والاحتقار , وعندما تناولت كوب العصير من يده سمحت لمشاعرها بالخروج من اعماق عينيها الملتهبتين , واذا كان جايمس قد لاحظ هذا , فهو لم يبد ما ينم عن ذلك بل انتقل ليقف بجانب المدفأة الخالية واضعا قدمه على حاجزها النحاسى .
ران الصمت عدة دقائق قطعته ديبوراه التى غيرت دفة الموضوع , وهذا اشعر كارولين براحة كبري :
- أخبرينى آنسة دوغلاس عما قالته لك لورا بالضبط
فتنهدت كارولين ثم قالت ببطء : " تستطيعين ان تحزري لانه جدال سبق ان قامت به معك من قبل "
عضت المرأة الاكبر سنا شفتها السفلى : " إممم .. اظنها حدثتك عن هذا الرجل .. موني ؟ "
- نعم
ارتجفت فتحتا أنف ديبوراه بوث وهي تقول :
- هذا أسوأ الامور . كيف يجرؤ هذا الرجل , هذا البناء الايرلندي و ان يعتبر نفسه مساويا للورا ؟
قال جايمس بهدوء : " ليس هذا هو الموضوع يا ديبوراه . فخلفية موني هي اخر ما يهمنا ..والموضوع يختصر بأن لورا اصغر من ان تتورط بعلاقة مع اى شخص . خصوصا بعلاقة مع رجل يكبرها بعشر سنوات تقريبا "
عند ذلك رأت كارولين عينيه تستقران عليها , فشعرت انهما تتحديانها ان تعلن ان الفارق بين عمريهما لم يكن غير مهم بالنسبة اليه .
قالت ديبوراه : " ومع ذلك , فالوضع صعب للغاية فهو لم يقتنع بأنه تسبب فى اصابة الفتاة بالتهاب رئوي بل لحق بها الى هنا , الى فينبورن , محدثا توترا مستمرا فى المنزل "
- كانت إصابة لورا بالالتهاب الرئوى مصادفة .
ولكن زوجته قاطعته قائلة : " لايمكن ان اسمى الاصابة بالتهاب رئوي مصادفة , يا جايمس "
وعادت ديبوراه بانتباهها الى كارولين قائلة : " فى هذا اليوم , قابلت ذلك الرجل فى فينبورن "
- آه .
- هذا الرجل مجرد حشرة ضارة . أليس لديه عمل يقوم به ؟
قال جايمس : " انه مهندس يا ديبوراه . سألت عنه فى شركة البناء التى يعمل فيها "
- ولكن ماذا يفعل فى فينبورن ما دام يعمل فى الطريق القريب من بوسكومب ؟
قال جايمس ساخرا : " يخيل الى ان لديه ايام عطل . هل تريدين كوبا اخر من العصير يا انسة دوغلاس ؟ "
وبما ان كارولين لم تكد تمس الشراب الذى فى يدها فقد هزت رأسها نفيا ,منتدياولكن ديبوراه كما يبدو لم تكن مهتمة بموضوع كهذا , فقالت بحدة : " مهما يكن وضعه , على لورا ان تعلم اننا لن نسمح لها بالقيام بما تحب , فالرجال فى سنه يهتمون بالفتيات اللاتي فى سن لورا من اجل شئ واحد فقط , وعندما ينالون مبتغاهم .."
سكتت ثم نظرت مباشرة الى كارولين : " أليس كذلك آنسة دوغلاس ؟ فانا واثقة بانك , بخبرتك الكبري , تعلمين بالضبط ما اعنيه "
شعرت كارولين بجفاف فى فمها وهذا ما جعلها غير قادرة على اية اجابة منطقية : " انا .. انا .. "
قالت ديبوراه بإصرار : " ألم تتعرضى قط لمثل هذا من الامور , آنسة دوغلاس ؟ "
شعرت كارولين بالراحة عندما انفتح باب المكتبة وبدت لورا نفسها .
لقد تنازلت تنازلا بسيطا من اجل المناسبة , فقد استبدلت بنطلون الجينز ببنطلون انيق , ولكن القميص القطني الذى كانت ترتديه معه كان مطبوعا عليه رسالة صريحة هي ( اشعلني يا حبيبي ) , ولم يكن هذا يساعد على تعزيز علاقة جيدة بينها وبين ابويها . ومع ذلك فقد حول مجيئها انتباه ديبوراه عن كارولين .
قالت لورا بتحد وهى تدير نظراتها بينهم جميعا : " ها أنذا , لا تتوقفوا عن الحديث عني لمجرد قدومي "
- يزيد غرورك من عدم نضجك
قال ابوها ذلك بهدوء , ورأت كارولين كيف فجرت كلماته ثقتها بنفسها , وهتفت قائلة بلهجتها الثائرة التي استعملتها فى غرفة كارولين : " اما كنتم تتحدثون عنى اذن ؟ "
قالت ديبوراه بلهجة حازمة : " كنا نتحدث عما يمكن ان تكون نوايا رجل ناضج من تلميذة مدرسة . كانت الانسة دوغلاس تهم بمحادثتنا عن خبرتها فى هذا الشأن "
قال جايمس بغلظة : "اشك ان لخبرات الانسة دوغلاس اى علاقة بهذه الحالة , فسلوك الانسة دوغلاس ليس موضع نقاش هنا يا ديبوراه , وارى ان نكرس انفسنا للمسألة التى بين ايدينا "
شكرت كارولين فى قلبها جايمس لانه جنبها هذا الامر . ولكن بالرغم من ارتياحها , ازداد عداؤها للرجل الذى كان يظن ان بإمكانه ان يبدد بسهولة اى إحراج فى هذا الموقف .
تحركت لورا بضيق ثم انفجرت غاضبة :
- هذا كل ما تفكرون فيه أليس كذلك ؟ الجنس والمال , المال والجنس!
انقبضت يدا ديبوراه على ذراعي مقعدها , وقالت ببرودة :
- إن استعمالك لجمل حمقاء بهذا الشكل يقصد جعل الاخرين يستمعون اليك ,. لن يحل اى شئ يا لورا .
- ليست جملا حمقاء , بل هى الحقيقة , فهذا كل ما يهمكم فى الواقع.
- لورا .
امتدت يدا جايمس بصفعة على وجنة لورا التى رفعت يدها لتغطى العلامة الفاضحة وصاحت باحتجاج صامت . اما هو فقال ببرودة الثلج : " اذهبى الى غرفتك , وسأتحدث معك فيما بعد "
ارتدت لورا على عقبيها خارجة من المكتبة , ثم سمعت كارولين شهيقها وهي ترتقي درجات السلم اثنتين اثنتين . وساد صمت اخر مشحون بالتوتر .
قالت زوجته : " انه امر لا يغتفر يا جايمس .. "
كانت ديبوراه تعبث باللآلئ الملتفة حول عنقها باضطراب يناقض هدوء كلماتها . وظنت كارولين لحظة انها تتحدث عن صفعة لورا. ولكنها بعد دقيقة , ادركت غلطتها فقد استطردت ديبوراه قائلة : " كيف تكون ابنتى بمثل هذه الوقاحة .. "
ولكنها ما لبثت ان نظرت الى كارولين معتذرة : " آه , ياعزيزتى . ما عساك تظنين بنا ؟ اؤكد لك ان لورا ليست متمردة الى هذا الحد بطبيعتها "
ابدت كارولين اشارة تساهل : "آه , ارجو منك عدم الاهتمام بي فأنا اعرف المشاكل التى يواجهها الآباء مع ابنائهم المراهقين هذه الايام"
قالت ديبوراه التى بدت في عينيها فجأة نظرة تقويم :
- أحقا ؟ لاشك بذلك نظرا لخلفيتك .
إنها كلمة غامضة ولكن كارولين تجاهلتها , اما المراة فأردفت : " عاشت لورا حتى الان حياة محافظة , ليس لديك فكرة عن الالم الذى اشعر به عندما افكر فى ان هذا .. هذا الرجل قد يجرؤ ان يمد يده عليها .. "
قال جايمس بصوت عنيف : " دعي هذا بحق الله يا ديبوراه . المعذرة فسأذهب لارى الى متى يتأخر العشاء"
وقفت كارولين عندما وصل الى الباب وهي تقول : "آه , ولكن .. اعنى ان بإمكانى ان اتناول العشاء فى غرفتي "
رد جايمس : " ولماذا تفعلين هذا ؟ أطمئنى فقد انتهى المشهد الهزلي فى هذا المساء . سترين أننا نأكل نحن ايضا بالشوكة والسكين كسائر الناس المتمدنين "
كادت كارولين تتقوقع على نفسها إزاء كلامه الخشن هذا اما ديبوراه فهتفت : لاتجعل الوضع اصعب مما هو عليه بالنسبة الى الانسة دوغلاس , يا عزيزى . فأنا واثقة انها قالت ذلك عن لياقة فقط "
قالت كارولين بهدوء : " اتساءل حقا عما إذا كان ثمة موجب لبقائى هنا , فما دامت لورا .. "
قاطعتها ديبوراه مبددة أى أمل قد راود كارولين لتركهم بكياسة . قالت بحزم : ستنفذ لورا ما تطلبه منها , فقد استخدمناك يا آنسة دوغلاس , وسنعفيك من العمل عندما يحقق وجودك هنا غرضه , هل كلامى مفهوم ؟ "
- نعم يا سيدة بوث
جذبت كارولين نفسا عميقا بينما ترك جايمس الغرفة بعدما ألقى نظرة مختصرة عليهما .
* * *