كاتب الموضوع :
السنيورا الغامضة
المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
الحلقة الخامسة .... الشهود
منذ بدأت عملي مع الأستاذ (حازم)، بمرتب أخجل أن أذكره، أو حتى أتذكّره، تعلّمت حقيقة هامة جداً، خالفت كل ما كنت أتصوّره، عن المحاكم والقضايا...
وعن السينما أيضاً...
ففي الأفلام القديمة، كنت أشاهد (حسين رياض) أو (عماد حمدي)، وهو يترافع في قضية ما، مرافعة بليغة، ثم يأتي بشاهد إثبات في اللحظة الأخيرة، فيقلب الأمور كلها رأساً على عقب، ويدفع حكم البراءة إلى فم القاضي دفعاً، وتلتهب عيوننا بالبكاء، وأكفنا بالتصفيق، و...
وينجح الفيلم...
وفى آخر فيلم شاهدته، كان (أحمد عز يحل اللغز في المحكمة، ويبرئ (غادة عادل)، ويضع نور في السجن، ونحن محتارون، هل نفرح لأنه برّأ (غادة) الرقيقة، أم نبكي لأنه أدخل نور الجميلة السجن؟!..
ولكن في المحاكم الحقيقية، تعلمنا أن الصورة تختلف تماماً....
وبالذات في الجنايات...
فرجال القانون يؤكدون دوماً، أن القضاء المدني قضاء مستندات، في حين أن القضاء الجنائي قضاء وجدان...
وبالطبع لم أفهم هذا في البداية...
لم أفهم بالضبط ما يعنيه...
وخصوصاً أن لي جارة اسمها (وجدان)، تنتظر عودتي كل ليلة، وأنا منهك مهدود ومكدود؛ من العمل المضني في مكتب عم (دهب)، الشهير بالأستاذ (حازم)، فقط لتلقي عليّ تحية المساء، وهي تبتسم ابتسامة واسعة، كما أخبرني أهل الخير؛ لأنه لا نظري، ولا الحالة التي أعود عليها، يسمحان لي برؤية أي شيء، عندما يأتي المساء...
ولقد أدهشني في البداية أن يكون لـ(وجدان) صلة بالقضاء، ولكن (حلمى هولمز) أفهمني في صبر، ما تعنيه العبارة...
ففي القضاء الجنائي، قد يأتي المتهم بعشرات الشهود، الذين يحلفون ألف يمين، على أنهم يشهدون بالحقيقة، ولكن وجدان المحكمة، المتمثلة في القاضي، لا يطمئن لشهادتهم، فلا يأخذ بها، وكأنك يا أبو زيد ما غزيت.....
لهذا، فأي محام قديم، مثل الأستاذ (حازم)، لا يمكن أن يلقي ثقله أبداً على أقوال الشهود فقط...
ولكن في حالة الأستاذ (منير)، لم يكن هناك سبيل آخر...
وجاء الشهود إلى النيابة...
والشهود كانوا في الواقع: سكرتيرته الجديدة (ماسي)، وبعض عملاء مكتبه، الذين كانوا موجودين في حجرة السكرتيرة، في نفس الموعد، الذي حدّده الطبيب الشرعي، لوقوع الجريمة...
ما بين الثالثة والخامسة ظهراً...
ولقد استمعنا جميعاً لأقوالهم... بمنتهى الدقة...
السكرتيرة (ماسي) أكّدت بشدة أن الأستاذ منير لم يغادر مكتبه في ذلك اليوم، من منتصف النهار وحتى الخامسة والنصف، على الرغم من أنه كان شديد العصبية طوال الوقت، ورفض أن يقابل مخلوقاً واحداً...
"هذا يعني أن أحداً غيرك لم يره، في ذلك اليوم.."..
ألقى عليها وكيل النيابة السؤال على نحو مفاجئ، فقالت مصدومة:
- كلا بالطبع.
ثم استدركت، في سرعة وعصبية:
- ولكنهم جميعاً سيشهدون بأنه كان هناك.
لم أفهم سر تأكيدها، ومن الواضح أن الأستاذ حازم ووكيل النيابة أيضاً لم يفهماه، فقد سألها ألأخير في صرامة:
- وكيف هذا؟!..
أشارت بيدها في حماس سينمائي، قائلة:
- لقد اتخذ قرارات حاسمة، في كل ما يخصّهم، وبعضهم سمعه بنفسه، وهو يصرخ فيّ لإغلاق الباب خلفي، و....
استفاضت في الدفاع عن موكلها، الذي ظل صامتاً منكسراً طوال الوقت، حتى اكتفى منها وكيل النيابة، واستدعى باقي الشهود، الذين أكّدوا كلهم ما قالته، وأضاف إليه بعضهم أنهم يعرفون صوت الأستاذ (منير) جيّداً، وأنه من المستحيل ألا يكون هو من سمعوه، حتى ما بعد الخامسة بقليل...
وبناءً عليه، صار الأمر متأرجحاً، بين جهات أمنية، تصرّ على اتهام الأستاذ (منير)، وشهود يؤكدون براءته، ولم يعد أمام وكيل النيابة عندئذ، سوى أن يصدر قراره بالإفراج عنه بكفالة مالية كبيرة، وتحويل الأمر برمته للقضاء..
"لست أدري ماذا أقول!!.. هذا أفضل ما كنت أتمناه"...
هتف بها الأستاذ (منير)، فور خروجنا من النيابة، بعد أن دفعت (ماسي) كفالته، فرسم الأستاذ (حازم) على وجهه ملامح الصرامة والرصانة، وهو يقول:
- الأمر لم ينته بعد يا أستاذ (منير)؛ فمازالت هناك قضية، ومازالت الجهات الأمنية تصرّ على اتهامك.
اندفعت (ماسي) قائلة في حماس حار:
- أنا واثقة من براءة الأستاذ (منير).
بدا لي حماسها زائداً عن الحد، ولكنني أعزيته لحظتها للظروف، ولأنه مخدومها، في وظيفة جديدة، ولكنني –وكالمعتاد- اندفعت أقول:
- هذا لا يهم.
توقّف الأستاذ حازم، والتفت إليّ بتلك النظرة النارية، التي تبدو لي دوماً، وكأنها تقول: "كيف لتافه مثلك أن يتدخّل في عمل أساتذة؟؟!!.."؛ مما جعلني أبحث ببصري عن أقرب بالوعة، يمكنني أن أختبئ فيها؛ لأن ما سأجده داخلها، سيكون حتماً أفضل مما سأجده، في المكتب، عنذ عودتي...
ولكن العجيب أن الأستاذ (منير) سألني في اهتمام بالغ، ودون أدنى ضيق:
_ لماذا تقول هذا؟!..
اختلست نظرة إلى الأستاذ (حازم)، الذي أشاح بوجهه عني في ازدراء، وهو يركب سيارته، التي فتح الأستاذ (منير) بابها الآخر، وهو مازال ينظر إليّ في اهتمام؛ منتظراً الجواب؛ مما جعلني أجيب في خفوت:
- لأنه ليس المهم أن تثق سكرتيرتك في براءتك... المهم أن يثق فيها القضاة..
ركب السيارة، في المقعد الخلفي، وهو يهز رأسه مفكراً ومتفهماً، وركبت إلى جواره (ماسي)، في حين تردّدت أنا لحظات، حتى قال الأستاذ (حازم)، في لهجة صارمة، أعرفها، وأدرك تبعاتها جيداً:
- اركب.
وركبت...
وبعد أن رحل الأستاذ (منير) وسكرتيرته، وصعدنا إلى المكتب، استقبلنا الجميع بنظرات فضول وتساؤل، حوّلتهما الآنسة (حنان) وحدها إلى لغة مسموعة، وهي تقول:
- ماذا تمّ في النيابة ؟!..
أجابها الأستاذ (حازم) في صرامة، وهو يتجه مباشرة إلى مكتبه:
- كيف يمكنك أن تقلقي؟..
ثم استدار إلينا، قبل أن يغلق باب المكتب خلفه مباشرة، وأكمل:
- لقد كان الأستاذ (خالد) معي هناك.
قالها، وصفق الباب بكل قوته...
وران على المكان كله صمت رهيب....
صمت نطقت خلاله العيون بألف ألف اتهام....
ثم فجأة تحوّلت كل هذه الاتهامات الصامتة، إلى صوت مسموع...
بل متفجّر...
"ماذا فعلت أيها التعس؟!.."..
هتف بها (حلمي) في استنكار، في نفس اللحظة التي صاحت فيها الآنسة (حنان)، في لهجة مدرسة، تؤنب تلميذاً خائباً:
- كنت أعلم أنك ستفسد الأمر!..
غمغم (حسن):
- إعدام؟!..
قلت في سخافة متعمّدة:
- إفراج بكفالة..
هزّ (حلمي هولمز) رأسه في رصانة، وهو يقول:
- هذا يعنى أنه هناك قضية.
أجبته في شيء من الإحباط، أردته معبراً:
- وهل كنتم تتصوّرون غير هذا ؟!..
مالت الآنسة حنان نحوي، قائلة:
- المهم ماذا فعلت بالأستاذ؟!..
قبل أن أفتح فمي لأجيب، فتح الأستاذ باب مكتبه، وقال في هدوء شديد:
- تعال.
وامتقع وجهي، وأنا أنهض إليه؛ فمن طبيعة الأستاذ، أنه إذا ما تحدث بهدوء شديد، إلى شخص يغضب منه؛ فهي دلالة على أنه أعد له انتقاماً رهيباً...
وبقدمين مرتجفتين، دخلت مكتبه، ولم أنطق بحرف واحد....
ونطق هو....
وعندئذ أدركت أنني كنت على حق فيما توقّعته...
الأستاذ (حازم) لم يعد يلعب دور عم (دهب)...
إنه يلعب الآن دور (عادل أدهم)...
في فيلم (المنتقم)
* * *
|