كاتب الموضوع :
السنيورا الغامضة
المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
الحلقة الحادية عشر ... الشريك ...
ربع الساعة، قضتها (ماسي) تتحدَّث إلى بوَّاب البناية، في مودة شديدة، توحي بأنهما يعرفان بعضهما البعض منذ زمن، وفي نهاية المحادثة رأيتهما يتصافحان...
لم تكن مصافحة بالمعنى المعروف، ولكن (ماسي) كانت تضع في يده رزمة مالية، من فئة المائتي جنيه، التقطها هو متظاهراً بمصافحتها، قبل أن يدس الرزمة في جيبه في سرعة، وتنصرف هي....
زمن طويل مضى، منذ أن رأيت ورقة مالية من فئة المائتي جنيه، فما بالك برزمة كاملة منها؟!....
ثم إنني، ودون أن أشعر، وجدت نفسي أحقد على ذلك البوَّاب، وأتساءل: لماذا أخطأت في اختيار مهنتي؟... لماذا؟!....
كانت (ماسي) تقرب من حيث أختبئ، وهي تتحدَّث عبر هاتفها المحمول، فتواريت خلف كشك صغير، وشعرت بها تمر إلى جواري، وهي تقول عبر الهاتف:
- إنه يعلم، ولكنه لن يخبر أحداً.... اطمئن.
أدهشتني تلك العبارة تماماً، فمنذ لحظات، تصوَّرت أنني قد حللت اللغز، وعرفت من هو شريك (ماسي)....
كنت أتصوَّر أنه البوَّاب، ثم انسحق هذا التصوَّر سحقاً بعبارتها هذه، والتي تشير إلى أنها كانت ترشوه، ولا تتحدَّث فقط معه..
هناك شريك آخر... شريك خفي...
تبعتها سراً في حذر، في محاولة لمعرفة شيء عنها...
أي شيء....
وهناك... عند الناصية التالية، كانت هناك سيارة تنتظرها، وبداخلها شاب وسيم قوي، مفتول العضلات، يحاول إخفاء ملامحه بنظارة شمس ضخمة....
وفي خطوات سريعة، اتجهت (ماسي) نحو السيارة، وقفزت داخلها، فانطلقت بها السيارة على الفور....
وكما ينبغي أن يفعل أي مخبر يقظ، أسرعت التقط وأدوَّن رقم السيارة ، قبل أن تختفي عند نهاية الشارع..
ودون إضاعة ثانية واحدة ، استقللت ميكروباصاً آخر، إلى إدارة المرور مباشرة..
لم تكن السيارة مسجَّلة في إدارة مرور القاهرة، ومشكلة الأرقام الجديدة، ذات الحروف الثلاثة والأرقام الثلاثة، أنها لا تحدَّد إلى أية إدارة مرور تنتمي السيارة..
والمشكلة في أنها لا تتبع إدارة مرور (القاهرة) أنني مضطر لركوب ميكروباص آخر، حتى إدارة مرور (الجيزة)...
كان الأمر يستلزم دفع إكرامية، التهمت تقريباً كل ما تبقى من راتبي، حتى أحصل على اسم وعنوان مالك السيارة..
(أحمد منصور شوكت)..
كان الاسم يظهر لأول مرة في القضية، ولكنني حملت الورقة، التي تحمل اسمه وعنوانه، وعدت إلى المكتب؛ لأستدين خمسة جنيهات من الآنسة (حنان)، التي رمقتني بنظرة ساخرة، وهي تسألني:
- ماذا أصابك؟ هل تلعب القمار هذه الأيام؟!
أجبتها في حسرة:
- بمرتب كالذي نتقاضاه هنا، يمكن أن يفلسنا إدمان الفول السوداني واللب.
ضحكت بشدة، وراقت لها عبارتي، على الرغم من مرارتها، ولكن الأهم هو أنها قد أعطتني الجنيهات الخمسة، التي اختطفتها من يدها اختطافاً، وأنا أعدو خارجاً كالمجنون..
كان الأمر قد سيطر عليَّ تماماً، حتى لم يعد بالنسبة لي مجرَّد قضية، من قضايا المكتب، بل صار قضية شخصية..
وشخصية جداً أيضاً..
فبعد محاولة قتلي أمس، أصبح حل لغز القضية بالنسبة لي، مسألة حياة أو موت، فماداموا قد فعلوها مرة، فلن يمنعهم أي شيء من فعلها مرة ثانية، أو حتى ثالثة، حتى يضمنوا سكوتي..
إلى الأبد..
مرة أخرى حقدت على ذلك البوَّاب؛ لأنهم اكتفوا برشوته، حتى يغلق فمه، ولم يحاولوا رشوتي بدلاً من قتلي!!!
يا للأوغاد!!..
خرجت من البناية، ورأيت لحسن الحظ سيارة ميكروباص تتجه نحوي، فأسرعت أعبر الطريق، وأنا أهتف بسائقها:
- قف.
وفجأة، سمعت صرير إطارات قوية يقترب مني..
ثم شعرت بالصدمة..
صدمة عنيفة، طار معها جسدي في الهواء بمعنى الكلمة، ودون أدنى مبالغة، وارتطم بذلك الميكروباص، ثم سقط على الأرض" لقد فعلوها مرة أخرى"..
كان هذا آخر ما جال بخاطري، قبل أن تظلم الدنيا من حولي..
تماماً..
* * *
للمرة الأولى في حياتي أعرف ما هي الغيبوبة، التي تحدث كثيراً لأبطال معظم الروايات التي أقرأها طوال عمري..
للمرة الأولى أمر بها، وأفقد وعيي فجأة، وافتح عينيَّ، وأحدق في الوجوه التي مالت تتطلَّع إليَّ، وأنا مازلت أرقد على أرض الشارع، مما يعني أنني لم أستغرق وقتاً طويلاً بين فقدان الوعي واستعادته...
كانت هناك وجوه عديدة مجهولة بالنسبة لي، وبينها وجهان فقط اعرفهما.. (حسن)، و(حلمي هولمز)..
كانا مذعورين حقاً، ولقد هتف الثاني في لهفة، في نفس اللحظة، التي فتحت فيها عينيَّ:
- أأنت بخير؟!
سألته في دهشة :
- ألم أمت بعد؟!
ابتسم (حلمي) وهو يقول:
- للأسف!
وأضاف (حسن) في لهفة متوترة:
- لقد كنت تعبر الشارع مسرعاً، فصدمك ميكروباص آخر.
هتفت في دهشة:
- ألم يحاولوا قتلي؟!
سمعت صوتاً يهتف في غضب:
- ولماذا نحاول قتلك يا أستاذ؟! أنا لا أعرفك أصلاً!
كان سائق الميكروباص الذي صدمني، يدافع عن نفسه؛ فقلت في سرعة، وأنا أحاول النهوض:
- لا بأس.. أنا المخطئ.. لقد عبرت الشارع في سرعة، ودون أن أنظر.
عاونني (حلمي) على النهوض، وهو يقول للسائق مهدداً:
- نحن مكتب محامٍ، وسنلاحقك قضائياً.
راح السائق يحاول الدفاع عن نفسه، وعن رعونة قيادته، واستهتاره بكل قوانين المرور، وتجاهلته أنا تماماً، وأنا أستند إلى ذراعَي (حسن) و(حلمي)، الذي هتف بنفسي اللهجة التهديدية، ونحن نتجه إلى البناية:
- لقد حصلنا على رقمك، وستبيع هذا الميكروباص؛ لتسدَّد التعويض الذي سنطلبه.
هتف السائق بعبارتين ساخطتين، كل ما فهمته منهما هو أن كل الركاب قد غادروا الميكروباص بعد الحادث، دون أن يدفعوا الأجرة، و..
وفجأة قفزت إلى ذهني فكرة، بدت لي آنذاك عبقرية، فتملَّصت من ذراعَي (حسن) و(حلمي)، وأنا ألتفت إلى السائق قائلاً:
- إلا إذا..
رمقني (حلمي) بنظرة صارمة غاضبة، و(حسن) بنظرة مندهشة حائرة، في حين تساءل السائق في لهفة:
- إلا إذا ماذا؟!
أجبته في حزم، تقمصت خلاله شخصية (رشدي أباظة):
- إلا إذا أوصلتني إلى شارع الثورة في (مصر الجديدة) .
وتفجرَّت دهشة الجميع..
بلا استثناء..
ولكنه فعلها..
وأوصلني إلى هناك..
إلى عنوان (أحمد منصور شوكت)..
كان يقيم في الطابق الثالث من بناية جديدة، في منتصف شارع الثورة تقريباً، وأسفله مطعم شهير، آلمت الروائح المنبعثة منه معدتي، وذكّرتها بالجوع الذي أعانيه منذ الأمس، وبأن الجنيهات الخمس في جيبي، لن تكفي حتى ثمن ساندويتش صغير منه..
المهم أنني قاومت جوعي، وسددت أنفي، وأنا أسرع إلى البناية وأتجه مباشرة إلى مصعدها الفاخر، وحارس البناية يلاحقني، هاتفاً:
- إلى أين يا أستاذ؟!
تظاهرت بالدهشة، وأنا أقول:
- ألم يخبرك (أحمد بك شوكت) بأنني قادم إليه؟! لقد طلب مني الحضور على وجه السرعة..
أجابني في صرامة:
- لابد وأن أتصل به أولا.
اتجه نحو الهاتف الداخلي، فأسرعت استقلّ المصعد إلى الطابق الثالث، وأنا أسمعه يهتف خلفي:
- انتظر يا أستاذ.
لم يكن العثور على شقة (أحمد) عسيراً، في الطابق الذي يضم أربع شقق؛ فقد كانت تحمل لافتة باسمه، فأسرعت أضغط جرس الباب، وسمعت خطوات تقترب، و..
و... و... وفتح الباب..
وكدت أشهق بمنتهى القوة..
فالذي فتح الباب لم يكن (أحمد)..
كان (ماسي)..
السكرتيرة (ماسي) .
* * *
|