كاتب الموضوع :
السنيورا الغامضة
المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
الحلقة الثامنة .... السكرتيرة
وفقاً لما رواه لي بوَّاب البناية؛ فالسكرتيرة (ماسي) كانت تتردَّد بانتظام على (صفوت)، مرة واحدة شهرياً على الأقل، وتقضي معه ما يقرب من نصف الساعة، ثم تنصرف..
وخلال الشهرين الماضيين، زادت نسبة ترددَّها عليه، على نحو ملحوظ؛ فقد أصبحت تزوره مرة أسبوعياً، ولمدة ساعة كاملة، ثم تنصرف بعدها مسرعة، متحاشية أن يراها أحد...
ولقد كانت آخر زيارة لها، قبل مقتل (صفوت) بيوم واحد بالضبط..
وعلى الرغم من أنني لم ألقي على البوَّاب سؤالاً آخر، فقد أطلق ما عرفته في ذهني سؤالاً خطيراً للغاية.....
ما علاقة (ماسي) بالقتيل بالضبط؟!...
وهل يعلم الأستاذ (منير) بهذه العلاقة؟!...
هل؟!....
تركت البناية، وعدت أستقل مترو (مصر الجديدة)؛ متجهاً إلى محطة (رمسيس)، وذهني يموج بأسئلة فرعية، كادت تلتهم رأسي بلا رحمة....
ثم، هل أخبر الأستاذ (حازم) بهذا الجديد، وأحتمل اتهامه لي بالغباء مرة أخرى، أم أخفي هذا في أعماقي؟!...
لم يكن الجواب عسيراً، فور أن تذكَّرت كيف كنت أقف أمامه مرتجفاً كالفأر المذعور، الذي ينكمش أمام أكبر قط بكرش، في الدنيا كلها، مرتجفاً مذعوراً، ينتظر لحظة التهامه....
وأنا نحيل للغاية، لن يشبع التهامي أحد، اللهم إلا كلباً من الكلاب الشرهة، التي تهوى قرقشة العظام.....
انتفض جسدي، وأنا أتخيل صوت قرقشة عظامي، ووجدت نفسي أهتف:
- يا للبشاعة!
التفت إليّ كل ركاب المترو في دهشة مستنكرة، وشعرت أنهم جميعاً يُرَدّدن الكلمة نفسها، وهم ينظرون إلى وجهي القبيح، وجسدي النحيل غير المتناسق...
ولأنني قوي العزيمة شديد الحساسية، فقد تركت المترو، قبل أن يصل إلى محطة (رمسيس)،قبل أن تخترقني نظرات الركاب، وتصم أذنيَّ همهماتهم الساخطة....
وعلى مسار محطتي مترو، رحت أسير في الطريق، وأنا ألعن تلك الكلمة، التي أفلتت مني، دون أن أشعر...
ولكن هذه التمشية الإجبارية، كان لها تأثير كبير على ترتيب أفكاري في هذا الشأن.
الأستاذ (منير) لا يعلم حتماً علاقة (ماسي) بـ(صفوت) شقيق سكرتيرته الراحلة، والذي ظل يبتزه بتهديداته المستمرة، بأن يشوَّه سمعته، عن طريق اتهامه المستمر بقتل شقيقته، ولكي يتفاداه الأستاذ (منير) ويحافظ على سمعته، استجاب لتهديداته، وراح يسددَّ عنه إيجار شقته في انتظام، وفقاً للاتفاق...
لهذا رفض دفع راتب بوَّاب البناية؛ لأنها خارج الاتفاق...
أما (ماسي)؛ فقد دسَّها (صفوت) على (منير)، حتى تنقل إليه أخباره أوَّلاً بأوَّل؛ فيظل تحت سيطرته طوال الوقت....
تحليل ممتاز، جعلني أشعر وكأنني (ماجد المصري)،بجسده الضخم، وعضلاته المفتولة، وهو يلعب دور مخبر سري عبقري، و.....
وفجأة، ارتطم ذهني بسؤال، حوَّلني من (ماجد المصري) إلى (ماجد الكدواني) دفعة واحدة...
كل هذا جميل؛ ولكنه لا يجيب السؤال الأساسي...
من قتل (صفوت)؟!....
من صاحب المصلحة من قتله؟!....
الأستاذ (منير) لديه شهود عديدون، على أنه كان بعيداً عن مسرح الجريمة، عند ارتكابها.....
و(ماسي) كانت معه، ولا مصلحة لها في مقتل (صفوت)....
والبوَّاب....
لحظة.... لماذا لم يتهم أحدٌ البوَّاب؟!....
إنه يكره (صفوت)، وتشاجر معه أكثر من مرة، وبصماته ستتواجد حتماً في مسرح الجريمة، وهو بررَّها بدخوله إلى هناك، عقب انصراف الأستاذ (منير) مباشرة....
فلماذا نفترض أنه صادق في هذا؟!...
الأستاذ (منير) قال: إن (صفوت) كان صريعاً، عندما وصل إليه؛ فلماذا لا يكون البوَّاب قد قتله قبلها؟!...
لماذا؟!...
انتبهت فجأة إلى أنني قد تجاوزت محطة (رمسيس)، وأصبحت قريباً من ميدان التحرير، دون أن أنتبه إلى هذا، في غمرة انشغالي بالتفكير في الأمر....
وفور انتباهي إلى هذا، شعرت بآلام مبرحة في ساقيَّ النحيلتين، وبدت الرؤية مشوَّهة أمام عينيَّ؛ فتوقفت مستنداً إلى جدار قديم، وأنا أسب الأستاذ (حازم) في أعماقي؛ لأنه لولا تقمصه لشخصية عم (دهب)، لوجدت ما يكفي لأستقل سيارة تاكسي إلى منزلي...
وعلى الرغم مني، أكملت السير حتى ميدان التحرير، ومن هناك استقليت ميكروباصاً إلى منزلي....
ونمت...
لا أستطيع أن أصف إلا بأنني قد نمت؛ فما إن وصلت إلى منزلي، حتى ألقيت ملابسي، وقفزت إلى السرير.... ونمت...
وعندما استيقظت في الصباح التالي، شعرت بثقل كبير يجسم على صدري، ويرهق أنفاسي...
لم يكن مرضاً والحمد لله؛ وإنما كان شعوري بأنه يجب أن أبدأ كل شيء من جديد....
وبمنتهى الإرهاق، أنهيت الروتين اليومي، وغادرت منزلي في تكاسل معتاد، وانتظرت الميكروباص التقليدي، وركبته، وأنا أقاوم رغبتي الشديدة في استمرار النوم، حتى لا أفقد نقطة نزولي، وقررَّت التركيز على الطريق؛ حتى وصلت إلى قرب المكتب؛ فاتجهت إليه، وأنا أشعر بضيق شديد؛ لأنني سأواجه الأستاذ (دراكيولا)...
أقصد الأستاذ (حازم) مرة ثانية، و....
وفى بلاهة، كادت تصبح سمة من سمات شخصيتي، وقفت أحدَّق في باب المكتب المغلق....
إنها التاسعة إلا ست دقائق، ومن غير الطبيعي أن يكون الباب مغلقاً حتى هذه اللحظة.
صحيح أن (حلمي) والآنسة (حنان) يصلان في التاسعة، أو بعدها بقليل... أو كثير، ولكن (حسن) يصل دوماً في الثامنة؛ ليقوم بتنظيف المكتب، وترتيبه، وإعداده لوصولنا، و...
توقفَّت أفكاري دفعة واحدة، عندما وقع بصري على تلك اللوحة الصغيرة، المعلَّقة على باب المكتب...
اللافتة التي تحوي مواعيد العمل الرسمية...
وشعرت في أعمق أعماقي بغضب، ما بعده غضب...
المكتب، كمعظم مكاتب المحامين، يحصل على إجازته الأسبوعية يوم الخميس؛ باعتبار أن الجمعة إجازة محاكم، والسبت يوم عمل، ومعظم العملاء لا يحضرون المستندات المطلوبة لقضيتهم؛ إلا في آخر لحظة، مما استتبع أن تكون مكاتب المحامين، في أغلبها مفتوحة أيام الجمع، ومغلقة أيام الخميس.....
وأنا لم أنتبه إلى هذا، وانتزعت نفسي من فراشي، وتحملت زحمة وضوضاء الميكروباص، وجئت إلى مكان أبغضه.. في يوم الإجازة...
مرة أخرى، شعرت أننا داخل مجلة (ميكي)، وأنني واحد من أهم وأشهر شخصياتها
(بندق)....
* * *
أرجوكم، لا تسألوني كيف حدث هذا، ولا كيف قادتني قدماي إلى هناك، ولكنني وجدت نفسي فجأة، في مكتب الأستاذ (منير)، في شارع جامعة الدول العربية....
ولقد استقبلتني السكرتيرة (ماسي) في دهشة، وهي تقول:
- أستاذ (خليل).... يا لها من مفاجأة!
قلت مصححاً:
- (خالد)... اسمي (خالد) يا آنسة (ماسي).
ألقت نظرة طويلة عليَّ، من أعلى إلى أسفل، قبل أن تمط شفتيها، قائلة:
- (خليل) يناسبك أكثر.
لم أفهم بالضبط ما تعنيه بهذا، واشتممت فيه رائحة سخرية من نوع ما، ولكنني كتمت هذا في أعماقي، وأنا أقول:
- والداي لم يوافقاك الرأي.
ابتسمت ابتسامة غامضة، وهي تقول:
- ربما لم يتوقعا ما ستكون عليه..
هضمت هذا أيضاً في صعوبة، وشعرت أنه أصابني بشيء من عسر الهضم، وهي تضيف، في لهجة أشبه بالتحذير:
- هل تريد مقابلة الأستاذ (منير)؟!..
تجاهلت سؤالها تماماً، وأنا أسألها مباشرة:
- منذ متى تعملين هنا يا آنسة (ماسي)؟!
بدا وكأن السؤال قد فاجأها، فتراجعت بحركة حادة، وهي تقول في عصبية:
- وما شأنك بهذا؟!
كنت أهم باختراع جواب ما، عندما سمعت صوتاً هادراً يهتف في غضب:
- ماذا تفعل هنا؟!
وكاد قلبي يتوقَّف بالفعل..
فالصوت كان صوت (دراكيولا)..
الأستاذ (حازم).. شخصياً.
* * *
|