3- ( آدم ) .
لدقيقة أو بزيد , ظل مدير المخابرات المركزية الأمريكية واقفًا فى مكانه , أمام تلك الزنزانة الحصينة , القابعة فى قلب جهاز المخابرات الأمريكية , وبدا مترددًا لعدة لحظات أخرى , قبل أن يحسم أمره ويقول بصرامة :
- افتح الباب .
قالها وشد قامته , فى نفس اللحظة التي انفتح فيها الباب الإليكتروني ببطء ..
ولعدة لحظات أخرى , ظل واقفًا أمام الباب المفتوح , قبل أن يلتقط نفسًا عميقًا ملأ به صدره , ثم يدل إلى الداخل ..
كانت زنزانة واسعة , بها مقعد واحد ومنضدة صغيرة وفراش بسيط , وملحق بها دورة مياه صغيرة ..
وللحظات أخرى , ظل المدير يتطلع فى صمت إلى تلك الفاتنة المسترخية فوق الفراش ..
إلى ( سونيا جراهام ) ..
وفى بطء , التفتت إليه ( سونيا ) , ورمقته بنظرة قاسية , تجاهلها وهو يقول بصوت حاول أن يجعله هادئًا :
- كيف حالك يا ( سونيا ) ؟
أدارت وجهها , قائلة بلهجة شبه ساخرة :
- أنت إذن ألعوبتهم الجديدة .
حافظ المدير على هدوء أعصابه , وهو يقول :
- عظيم .. مازلت تتحلين بروح السخرية رغم سجنك .
قالت بلهجة مستفزة مقلدة أسلوبه :
- عظيم .. يبدو أن دقة الملاحظة فى جهازكم فى زيادة .
تجاهل تعليقها الساخر , وهو يقول بلهجة هادئة :
- لعلك تتساءلين : لماذا أبقينا على حياتك كل هذه المدة , رغم كل ما فعلتيه ضدنا ؟
تجاهلت سؤاله تمامًا , ولم يبد عليه أنه ينتظر منها جوابًا , فقال :
- كان من المفترض بعد كل ما سببتيه لنا من مشاكل ومخاطر , أن نقتلك .. وبمنتهى القسوة .
ضغط على كلمتيه الأخيرتين , فارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيها , وقالت :
- يا لرقة مشاعركم !
تجاهل تعليقها الساخر مرة أخرى , وهو يستطرد قائلًا :
- ولكننا رأينا أن بقاءك حية سيفيدنا أكثر من قتلك .
رمقته بنظرة ساخرة دون أن تعلق هذه المرة , فالتقط هو نفسًا عميقًا , قبل أن يتابع :
- وحتى نضمن ولاؤك وخضوعك لنا , كان يجب أن نراجع تاريخك كله .. بمنتهى الدقة .
وصمت لبرهة , ثم أضاف بلهجة خاصة :
- حتى وجدنا الوسيلة المثلي لهذا .
تطلعت إليه ( سونيا ) فى حذر , فى حين صمت المدير لبضع لحظات , ثم أضاف ببطء :
- ابنك .
انعقد حاجبا ( سونيا ) بعنف , ورمقته بنظرة قاسية شرسة , فسرت فى جسده قشعريرة باردة , إلا أنه تماسك فى سرعة وهو يشعل سيجارة , نفث دخانها , قائلًا :
- اسمه ( آدم ) .. أليس كذلك ؟
لم تجب سؤاله , واكتفت بالنظر إليه فى شراسة , فعاد يقول ببطء :
- ( آدم أدهم صبري ) .
وصمت لعدة لحظات , تأملها خلالها فى برود , قبل أن يقول :
- من كان يصدق أن ( سونيا جراهام ) تتزوج ( أدهم صبري ) , وتنجب منه ابنًا ؟
واستطرد بسخرية :
- حقًا الحب يصنع المعجزات .
قالت بشراسة :
- ماذا تريد بالضبط ؟
قال بصرامة :
- التعاون الكامل معنا .
عقدت حاجبيها فى شراسة , فاستطرد هو بصرامة أكبر :
- فى مقابل بقاء ابنك حيًا آمنًا .
هتفت بنفس لهجتها الشرسة :
- وما الذي يجبرني على فعل هذا ؟ .. إنه ليس فى حوزتكم .. وأنا لن أخبركم مكانه مطلقًا .
كان يريد أن يخدعها , إلا أن شيئًا ما بداخله جعله يعدل عن هذا , ويقول بصرامة :
- إنها مسألة وقت فحسب .. العشرات من رجالنا انطلقوا للبحث عنه فى جميع أنحاء العالم .
واستطرد بصرامة أكبر :
- وسيجدونه حتمُا .. إن عاجلًا أو آجلًا سيجدونه .
وأضاف ببطء :
- وحينها ..
قالت بشراسة :
- إذا مسستم شعرة واحدة منه سـ ..
قاطعها بلهجة صارمة :
- هذا يعتمد على مدى تعاونك معنا .
رمقته بنظرة بغض هائلة , إلا أنه تجاهلها , وهو يسحق السيجار بقدمه , قبل أن يقول بصرامة :
- أمامك خمس ساعات لتحسمى رأيك يا (سونيا ) .
واتجه نحو الباب , وتوقف على بعد سنتيمترات منه , واستطرد قائلًا :
- وضعي فى اعتبارك , أنه توجد وسيلة أخرى للاستفادة من ( آدم ) غير إيذاؤه .
بدأ الباب ينفتح ببطء , وازداد انعقاد حاجبي ( سونيا ) , قبل أن يضيف المدير بلهجة خاصة :
- كإرجاعه لوالده مثلًا .
قالها وغادر الحجرة - التي عاد بابها ينغلق خلفه - وهو يعلم جيدًا أن عبارته الأخيرة أثارت جنون ( سونيا ) ..
أثارته بحق .
***
هبت نسمات رياح هادئة , في ذلك الوقت من الصباح , على تلك الفيلا الفخمة , وأطلق ذلك الطفل الصغير ضحكة صافية , وهو يداعب كرة قدم بقدمه الصغيرة في حديقة الفيلا الواسعة , وصفق بيديه في فرح لأنه استطاع أن يسجل بها هدفا في ذلك المرمى الصغير في مقابلته ..وغير بعيد عنه , جلس رجلان مفتولا العضلات يراقبان تحركات الطفل , ويجولان بنظرهما في الفيلا كلها بشيء من الترقب ..*و في إحدى شرفات الفيلا المطلة على الحديقة , وقف رجل وامرأة يراقبان الطفل , وغمغمت الأخيرة وهي ترمق الطفل في ضيق :
- لست ادري لماذا أشعر أن مراقبة طفل طوال اليوم والعناية به , هو أسخف عمل أقوم به في حياتي .
قال الرجل في هدوء :
- هذا العمل السخيف تتقاضين عنه أجرا ضخما.. تذكري هذا جيدا .
مطت المرأة شفتيها ثم قالت :
- وما قيمة العمل إذا لم أستمتع به , حتى و لو كنت أتقاضى عنه الآلاف ؟
أجابها :
- ومن أدراك أن هذا العمل سخيف .. هذا الطفل الذي نقوم برعايته طفل غير عاد أبدا .. إنه ابن السيدة شخصيا .
التفتت إليه قائلة :
- هل تعتقد أنه مجرد أن يكون ابنا للسيدة , يقتضي هذه الدرجة من الحذر في المراقبة ؟.. إننا نغير مكاننا بشكل دائم ومفاجئ , وفق إجراءات أمنية غاية في التعقيد .. كلا .. هناك سر ما يتعلق بهذا الطفل .. سر خطير .
لم يعلق على قولها , فأضافت هي في حنق :
- و الأكثر مدعاة للحنق أننا نجهل تقريبا كل تفاصيل العمل الذي نقوم به ... فقط تصلنا التعليمات من جهة ما , تحدد المكان الجديد الذي سننتقل إليه , مع طاقم جديد من الحراسة يتعامل معنا بمنتهى الجفاء , وكأننا رجال آليون دون أن يكون لنا الحق في أن نناقش أي شيء مما نقوم به .
تطلع الرجل إلى الطفل عبر الشرفة في برود , وقال لها بصوت أكثر برودا :
- هذا يدخل يا عزيزتي في أمور السرية .. فاستبدال طاقم الحراسة كل مرة , يزيد من درجة الحماية , فالسيدة تخشى أن تقوم جهة ما باستقطاب احد الحراس ليعمل لحسابها .
ثم التفت إليها متابعا بنفس الهدوء :
- ثم إن جهلنا لأية تفاصيل , يجعل موقفنا أكثر أمانا .. فحتى لو وقعنا في قبضة أية جهة لن نمثل أية خطورة على السيدة وطفلها .. أما لو كنا نعرف أكثر مما ينبغي عن السيدة , فهذا يعني ببساطة أنها ستتخلص منا ذات يوم , حفاظا على سريتها وسرية طفلها .
شحب وجه المرأة , فى حين استطرد هو قائلًا :
- و هذا يعني أنه من الأفضل ألا نعرف سوى أقل القليل , وألا نسأل عن طبيعة العمل الذي نقوم به , ما دمنا نتقاضى أجرنا بالكامل .
قال عبارته هذه وهو يرمق الطفل ببرود , وصمت لحظة بدا خلالها وكأنه لن يواصل حديثه , إلا انه قال فجأة دون أن يستدير إلى المرأة :
- ثم لا تنسي أيضا , أنه من المحتمل أننا أيضا تحت المراقبة .. بل المفروض ان نكون كذلك .. وهذا يعني أن أية محادثات نتبادلها هنا , قد تصل بحذافيرها إلى السيدة .. ولا أظن أن اعتراضاتك هذه ستروق لها .. أليس كذلك ؟
شحب وجه المرأة أكثر , وهتفت بذعر :
- أنا لا اعترض أبدا.. بل يروق لي العمل الذي أقوم به .. يروق لي جدا .
التفت إليها , ورمقها بنظرة قاسية دون أن يجيب , فأدارت وجهها الشاحب إلى الطفل , وتطلعت إليه فى توتر , وهي تتساءل عن طبيعة هذا الطفل بالضبط , دون أن يخطر ببالها مطلقا , أن ذلك الطفل بالذات , يحوز في هذه الأيام تحديدا , على اكبر قدر ممكن من الأهمية , من أقوى دولة في العالم ..
" استعدي .. سنغادر المكان مرة أخرى "
انتفضت المرأة في مكانها , ونفضت عن نفسها موجة التفكير التي تغوص فيها , عندما نطق الرجل عبارته الأخيرة , فالتفتت إليه وهتفت بسرعة :- بالتأكيد.
مع قولها , دلف أحد الرجال إلى الحجرة , وقال في صرامة :
- هيا بنا .. سنغادر الآن .
كان الرجل و المرأة مستعدان دائما للمغادرة وفي أية لحظة , نظرا لطبيعة مهمتهما , لذا فقد اكتفيا بأن حملا حقيبتين بسيطتين معهما ثم اتجها نحو الباب , وغادراه مع الرجل , دون أن ينبسا ببنت شفة ..
و ما هي إلا دقائق معدودة , حتى كانت سيارة أنيقة , تقل الجميع إلى مكان مجهول , وبداخلها ذلك الطفل ..
الطفل الذي يحمل اسما مميزا , لا يعرفه هو نفسه ..
( آدم أدهم صبري ) .
***
ارتفعت طرقات هادئة على باب حجرة مدير المخابرات العامة المصرية , فقال الأخير دون أن يرفع عينيه عن الأوراق الموضوعة أمامه فوق سطح المكتب :- ادخل .
دلف ( أدهم صبرى ) إلى داخل الحجرة , قائًلاً بابتسامة هادئة :
- صباح الخير يا سيدى .
رفع المدير عينيه عن الأوراق , وخلع منظاره الطبى قائلًا :
- صباح الخير يا ( أدهم ) .
وأشار إليه بالجلوس , فأطاعه ( أدهم ) , ومضت لحظات من الصمت , قبل أن يتراجع المدير بمقعده إلى الوراء ويقول :
- كم مضى على توليك إدارة التدريب يا ( أدهم ) ؟
غمغم ( أدهم ) :
- شهر ونصف الشهر تقريبًا يا سيدى .
سأله باهتمام :- وكيف تسير الأمور هناك ؟
أجابه :- على خير ما يرام يا سيدى .. هناك تقرير كامل سيكون على مكتبك فى خلال يومان على الأكثر .
غمغم المدير :- عظيم .
واستطرد فى شغف :- وما تقييمك للعناصر الجديدة ؟
أجابه ( أدهم ) :
- معظمهم يتقدمون على نحو ملحوظ وهناك ثلاثة أو أربعة متميزون بحق , ولهم مستقبل باهر فى عالمنا بإذن الله .
غمغم المدير مرة أخرى :
- عظيم .. عظيم .
وصمت لبرهة ثم سأله :
- ماذا عنك يا ( أدهم ) ؟ .. كيف تجد وظيفتك الجديدة ؟
تنهد فى حرارة مجيبًا :
- لا بأس بها يا سيدى .. أظن أنني كنت فى حاجة لمثلها فى هذه الفترة .
تطلع إليه المدير فى صمت , ثم غمغم مرة ثالثة :
- عظيم .
مرة أخرى عاد الصمت يسود المكان , إلى أن قطعه ( أدهم ) متسائلًا :
- أما من أخبار جديدة عن مستر ( × ) و .. ( سونيا ) ؟
مط المدير شفتيه مغمغمًا:
- لا جديد .. الأمريكيون مازالوا رافضون تمامًا فكرة منحنا أية معلومات تتعلق بهما , رغم أننا السبب الرئيسي لسقوطهما
غمغم ( أدهم ) :
- هذا شيء متوقع يا سيدى .. فالاثنان كنز لا يقدر بثمن , ووجودهما فى قبضة أية جهة , كفيل بمنحها أطنانًا هائلة من المعلومات والخبرات , تتيح لها التقدم خطوات كبيرة فى عالمنا .
وصمت لبرهة , ثم استطرد قائلًا :
- فقط لو امتلكوا ما يمكن به السيطرة عليهما .
سأله المدير باهتمام :
- أتظن أنه فى موقفهما الحرج هذا , سيرفض مستر ( × ) و ( سونيا ) الخضوع للأمريكيين ؟
أجابه :- بل أنا واثق من هذا .. الاثنان بالغا العناد والشراسة , ولن يكون من السهل إخضاعهما .
واستطرد ببطء :- إلا إذا توصل الأمريكيون لنقط ضعفهما .
تطلع إليه المدير لحظات , ثم قال :
- مستر ( × ) مازلنا نجهل هويته , لذا فلن نستطيع التكهن بنقطة ضعفه .. أما ( سونيا ) فلست أظن أن لديها نقطة ضعف , من واقع خبراتنا معها .
هز ( أدهم ) رأسه نفيًا , مغمغمًا :
- بالعكس يا سيدى .. ( سونيا ) لها بالفعل نقطة ضعف .. نقطة ضعف بالغة القوة .
تطلع إليه المدير فى تساؤل , فاستطرد ( ادهم ) ببطء :- ( آدم ) .
تمتم المدير :- ابنك !
غمغم ( أدهم ) بأسف :- وابنها .
انعقد حاجبا المدير فى شدة , وغمغم :
- ولكنه ليس فى قبضتهم , و( سونيا ) لن تخبرهم مكانه أبدًا .
غمغم ( أدهم ) :
- سيفعلون مثلما أفعل أنا حاليًا .. سيطلقون العشرات من رجالهم فى جميع أنحاء العالم , للبحث عنه وإحضاره .. وبأي ثمن .
تمتم المدير :- يا إلهى ! .. لقد تحول الصغير إلى طريدة .
تمتم ( أدهم ) :- للأسف .
وزفر فى حرارة , متابعًا بلهجة حملت بعض التوتر :
- وما سيزيد إصرار الأمريكيون على البحث عن ( آدم ) , أنه ليس نقطة ضعف ( سونيا ) وحدها .
ولم يكمل عبارته ..
وفهم المدير ما يقصده ..
وعاد حاجباه ينعقدان ..
وبشدة .
***