الفصل التاسع
1
ذهبت لأرى ميجان قبل مغادرة المنزل . كانت في الحديقة وبدت وكأنها عادت إلى حالتها الطبيعية تقريباً , حيتني مبتهجة .
اقترحت عليها العودة إلينا مرة أخرى لفترة , ولكن بعد التردد هزت رأسها : " هذا لطف منك ـ ولكني أعتقد أنني سأبقى هنا . فهو على أية حال ـ حسناً , يفترض أنه بيتي . وأزعم أنني أستطيع مساعدة الطفلين . "
قلت : " حسناً , كما تشائين . "
" إذن أعتقد أنني سأبقى . هل أستطيع ـ هل أستطيع ؟ "
قلت لكي أحثها على الكلام : " نعم . "
" إذا ـ إذا حدث أي شيء رهيب , أستطيع الاتصال بك لتأتي إلي , أليس كذلك ؟ "
تأثرت لكلامها , فقلت : " بالطبع , ولكن ما هو الشيء الرهيب الذي تعتقدين أنه قد يحدث ؟ "
" أوه , لا أعرف . "
بدت غامضة بعض الشيء وهي تقول : " أوه , لا أعرف . أشياء مثل ما يحدث الآن . "
قلت , بالله ليك , لا تكوني متشائمة إلى هذه الدرجة , فلن يكون هناك المزيد من الجثث ! فهذا ليس جيداً لكي . "
ابتسمت لي ابتسامة خاطفة , قائلة : " كلا , إنه ليس جيداً بالمرة . قد جعلني أشعر بالغثيان . "
لم ترق لي فكرة تركها هناك , ولكنه على أية حال , كما قالت و بيتها . وتخيلت أن إلسي هولاند ستشعر بمزيد من المسؤولية تجاهها .
ذهبت أنا وناش إلى ليتل فيرز . وبينما كنت أقص باختصار أحداث هذا الصباح على جوانا , كان ناش يتحدث مع بارتريدج ليسألها عما إذا كانت آجنس قد قالت لها شيئاً محدداً عندما اتصلت بها . ثم عاد إلينا موهو يبدو محبطاً .
" لم تفدنا كثيراً , فطبقاً لهذه المرأة , فإن الفتاة لم تقل شيئاً سوى أنها قلقة بخصوص أمر ما ولا تعرف ماذا تفعل وأنها تود طلب النصيحة من لسيدة بارتريدج . "
سألته جوانا : " هل ذكرت بارتريدج هذا لأي أحد ؟ "
أومأ ناش متجهماً .
" نعم , فقد أخبرت السيدة موري ـ خادمتكم التي تأتي في الصباح ـ بأن هناك بعض الفتيات اللاتي يرغبن في طلب النصح ممن هن أكبر منهن سناً ولا يعتقدن أن بمقدورهن البت في أي شيء بمفردهن ! وربما لم تكن آجنس فتاة ذكية , ولكنها كانت فتاة مهذبة وعلى خلق . "
تمتمت جوانا : " إن بارتريدج تمدح نفسها في الحقيقة . وهل يمكن أن تكون الآنسة إموري قد أضشاعت الخبر في البلدة ؟ "
" هذا صحيح ! يا آنسة بيرتون . "
قلت : " هناك شيء يصيبني بالدهشة , لماذا كنت أنا وأختى من ضمن متلقي الرسائل المجهولة ؟ فنحن غربء هنا ـ ولا يكن أحد لنا ضغينة ؟ "
" إنك لا تستطيع فهم عقليات أصحاب الأقلام المسمومة ـ إنهم يصوبون سهامهم إلى الجميع . ويمكنك القول إنهم يكنّون الضغينة للإنسانية كلها . "
قالت جوانا متفكرة : " أعتقد أن هذا هو ما قصدته السيدة كالثروب . "
نظر إليها ناش نظرة متسائلة , ولكنها لم توضح له , فقال : " لا أعرف ما إذا كنت قد نظرت بتأن إلى مظروف الرسالة التي تلقيتها يا آنسة بيرتون ولو أنك فعلت لربما لاحظت أنها كانت سترسل إلى الآنسة بارتون ثم تم تحويل حرف الألف إلى ياء . "
لو تم ملاحظة ذلك , لكان يمكن أن يكشف لنا جزءاً من الغموض الذي يكتنف الأمر , ولكن أحداً منا لم يعرها اهتماماً .
غادر ناش , وبقيت أنا وجوانا . قالت : " إنك لا تعتقد أن الرسالة كان مقصوداً بها إيميلي حقاً , أليس كذلك ؟ "
أوضحت لها قائلاً : " لو كانت إيميلي هي المقصودة ما كانت الرسالة لتبدأ بعبارة : (( أيتها الساقطة المتبرجة . )) " فوافقتني جوانا .
ثم قلت إنه ينبغي علي الذهاب إلى وسط البلدة .
" يجب أن تسمعي ما يقوله الجميع , لكن لدهشتي رفضت وقالت إنها ستتسكع في الحديقة .
توقفت عند الباب وأخفضت صوتي , قائلاً : " أعتد أنها بارتريدج . "
" بارتريدج ! "
جعلتني الدهشة التي غلفت صوت جوانا أشعر بالخجل من فكرتي هذه , فقلت معتذراً : " كنت فقط أتساءل . فهي غريبة الأطوار إلى حد ما ـ فهي عانس متجهمة ـ ذلك النوع من النساء اللاتي يمكن أن يكن متعصبات دينياً . "
" ولكن موضوعنا هذا لا علاقة له بالتعصب الديني ـ أو أن هذا ما قاله جريفيز على حد قولك . "
" حسناً , فهو الهوس الجنسي إذن . إنهما مرتبطان ببعضهما على ما أعتقد . فهي تشعر بالكبت وتحظى بالاحترام وقد عاشت حبيسة البيت هنا لسنوات مع سيدات عجائز . "
" ما الذي دفع الفكرة إلى ذهنك ؟ "
قلت ببطء : " حسناً , إننا لم نسمع إلا روايتها هي بخصوص ما قالته الفتاة , ربما طلبت آجنس من بارتريدج أن تخبرها عن سبب مجيئها وتركها رسالة في ذلك اليوم ـ ثم قالت بارتريدج أنها ستأتي بعد الظهر وتشرح لها الأمر . "
" ثم موهت على الأمر بأن جاءت إلينا وسألتنا ما إذا كان من الممكن أن تأتي الفتاة إلى هنا . "
" نعم . "
" لكن بارتريدج لم تخرج عصر ذلك اليوم . "
" وما أدراك ؟ تذكري أننا كنا بالخارج . "
" نعم , هذا صحيح . أعتقد أن ذلك ممكن . " ثم قلبت جوانا الأمر في رأسها وقالت : " ولكني لا أعتقد ذلك فأنا لا أعتقد أن عقلية بارتريدج تستطيع حبك كل هذه الخدع للتمويه على أمر الرسائل المجهولة ؛ أي أن تزيل بصمات الأصابع وما إلى ذلك . فالأمر لا يحتاج إلى الدهاء فقط , بل والمعرفة أيضاً . وأنا لا أعتقد أنها تمتلك هذه القدرات . أظن أن ـ " ترددت جوانا , ثم قالت ببطء : " هم متأكدون أنها امرأة , أليس كذلك ؟ "
صحت غير مصدق : " أتظنين أنه رجل ؟ "
" كلا ليس رجلاً عادياً ـ ولكنه نوع معين من الرجال . إنني أفكر حقاً في السيد باي . "
" إذن قد وقع اختيارك على باي ؟ "
" ألا تشعر أنت نفسك أنه محل للشبهة ؟ فهو يعيش وحده ـ وغير سعيد ـ ومكروه من الآخرين . فالجميع يسخرون منه كما ترى . ألا ترى أنه يحقد على كل الناس الغير طبيعيين السعداء ويستمتع بشكل غريب بما يفعله ؟ "
" ولكن جريفز قال إنها امرأة عانس في أواسط العمر . "
قالت جوانا : " والسيد باي عانس في أواسط العمر . "
قلت ببطء : " مختلف عمن حوله . "
" وهو هكذا بالفعل . إنه غني , ولكن المال ليس كل شيء . وأعتقد أنه ليس متزناً . إنه رجل قصير ومخيف . "
" تذكري أنه هو نفسه تلقى رسالة . "
" لسنا متأكدين من ذلك , كل ما لدينا مجرد اعتقادات . وعلى كل ربما ادعى ذلك لحبك تمثيليته . "
" أتعتقدين أنه يخدعنا ؟ "
" نعم , ولديه من الذكاء ما يكفي للتفكير في ذلك ـ ةعدم المبالغة في أداء دوره . "
" لابد وأنه ممثل قدير . "
" بالفعل يا جيري , إن من يفعل ذلك لابد وأن يكون ممثلاً قديراً . فهذا أحد جوانب المتعة والسعادة بالنسبة له . "
" بالله عليك يا جوانا لا تتحدثي بذلك اليقين ! فأنت تجعليني أشعر بأنك ـ بأنك تفهمين عقلية هذه الرسائل . "
" أعتقد أنني أفهمها . أقصد أنني أستطيع تصور الحالة المزاجية والنفسية لكاتبها . فلو لم أكن جوانا بيرتون ولو لم أكن شابة وجذابة إلى حد معقول وقادرة على الاستمتاع بوقتي , ولو كنت ـ كيف أقولها ؟ ـ خلف القبضان وأشاهد الآخرين وهم يستمتعون بحياتهم , فهل كان الشر الأسود يتملك مني , ويجعلني أريد إذاء الآخرين وتعذيبهم ـ بل وتحطيمهم ؟ "
أمسكتها من كتفها وهززتها , قائلاً : " جوانا ! " فتنهدت وارتغشت ثم ابتسمت لي قائلة : " لقد أخفتك يا جيري , أليس كذلك ؟ ولكن يراودني شعور بأن هذه هي الطريقة الصحيحة لحل هذا اللغز . حيث تتقمص دور الشخص المعني كي تعرف أحاسيسه ومشاعره وما الذي يجعله يتصرف على هذا النحو , وعندئذٍ ـ وعندئذٍ ربما تعرف تصرفه التالي . "
قلت : " أوه , اللعنة ! وأنا الذي جئت إلى هنا لكي أقلد مملكة الخضراوات وأهتم بالفضائح المحلية التافهة . فضائح محلية تافهة ! قذف , بذاءات , كلام فاحش وجرائم قتل ! "
2
كانت جوانا محقة تماماً . فقد كان الشارع الرئيسي بالبلدة مكتظاً بالكثير من المهتمين بما جرى. وعقدت العزم على معرفة ردة فعل كل منهم . قابلت جريفيث أولاً . وقد بدا متعباً ومرهقاً , حتى أنني تعجبت لأمره . فالقتل بالتأكيد ليس حدثاً يومياً يعانيه الأطباء , ولكن تخصصه يؤهله لمواجهة معظم الأمور ومنها المعاناة والوجه الوقح للحقيقة البشرية وحقيقة الموت .
قلت له : " تبدو متعباً . "
كان غامضاً وهو يقول : " أبدو كذلك حقاً ؟ أوه لقد كان لدي بعض الحالات المقلقة مؤخراً . "
" ومنها حالة مجنونتنا ؟ "
" نعم , بكل تأكيد . " نظر بعيداً عني عبر الشارع فرأيت عصباً دقيقاً يرتعش في جفنه .
" أليست لديك شكوك في هويتها ؟ "
" كلا , كلا , وأتمنى لو هداني الله إليها . "
ثم سألني فجأة عن جوانا , وقال بتردد إن معه بعض الصور التي أرادت رؤيتها .فعرضت عليه أن آخذها إليها .
" أوه , لا أريد أن أثقل عليك , سوف امر ببيتكم في وقت لاحق من الصباح . "
بدأت أخشى أن يكون جريفيث قد وقع في الشباك . اللعة على جوانا ! فقد كان جريفيث أطيب من أن توقع به في شباكها .
تركته ينصرف , لأنني رأية أخته آتية وكنت أريد التحدث إليها .
بدأت إيمي من وسط الحوار كما لو كانت معنا . حيث انفجرت قائلة : " يا لها من جريمة مروعة ! لقد سمعت أنك ذهبت هناك ـ مبكراً . "
لقد كان كا منها يحمل صيغة السؤال , ولمعت عيناها وهي تؤكد على كلمة " مبكراً " . ولم أكن لأخبرها أن ميجان اتصلت بي , لذا قلت لها : " لقد كنت قلقاً الليلة الماضية , فقد كان من المقرر أن تأتي في الصباح لتناول الشاي معنا ولم تحضر . "
" لذا خشيت وقوع الأسوأ , يا لك من عبقري ! "
قلت : " إنني أمتلك حاسة قوية لتشمم الجرائم . "
" إنها جريمة القتل الأولى التي تشهدها لايمستوك , وقد بلغت الإثارة مبلغها . أتمنى أن تستطيع الشرطة كشف الجاني . "
" أنا واثق من ذلك , فهم رجال أكفاء . "
" لا أستطيع حتى تذكر شكل الفتاة , على الرغم من أنني أعتقد أنها فتحت لي الباب عشرا المرات . إنها فتاة ضئيلة الحجم . لقد أخبرني أوين أنها قد ضربت على راسها , ثم طعنت في مؤخرة عنقها . يبدو لي أن الجاني أحد أصدقائها . فما رايك ؟ "
" أهذا هو تفسيرك للأحداث ؟ "
" يبدو لي أن هذا هو التفسير الأقرب لى الصواب . لابد أنها تشاجرت , فهي مثل الكثير من الناس هنا تنقصها التربية السوية , إن هذا السلوك متوارث من ذويها . "
توقفت ثم استطردت : " لقد سمعت أن ميجان هنتر هي من اكتشفت أمر الجثة . لابد وأنها قد أصيبت بصدمة . "
قلت باختصار : " بالفعل . "
" أعتقد أن هذا ليس جيداً بالنسبة لها . وأنا أرى قواها العقلية ضعيفة ـ وشيء مثل ذا قد يذهب بعقلها تماماً . "
اتخذت قراراً مفاجئاً , فقد كان علي أن أعرف شيئاً ما . قلت : " أخبريني يا آنسة جريفيث , هل أنتي من أقنع ميجان بالعودة إلى منزلها أمس ؟ "
" حسناً , لا يمكنني القول إنني أقنعتها . "
أصررت على المعرفة , فقلت لها : " ولكنك قلت لها شيئاً . "
ضربت إيمي جريفيث الأرض بقدمها حدقت النظر إلي . وكانت في موقف دفاعي إلى حد ما , وقالت : " ليس من الجيد أن تتملص تك الفتاة من مسؤولياتها . وهي صغيرة ولا تعرف ما يقوله الناس في المدينة , لذا شعرت أن من واجبي أن أبين لها الموقف . "
انفجرت من شدة الغضب , قائلاً : " ما يقوله الناس ؟ "
واصلت إيمي كلامها بتلك الثقة المثيرة للجنون والتي تحيلها إلى فتاة ذات شخصية متسلطة : " أوه , أنت لا تسمع كل النميمة التي تدور هنا . ولكني أسمعها ! وأعرف ما يقوله الناس , بالرغم من أنني لا أصدق أي كلمة مما يقال ـ ولا كلمة واحدة ! ولكنك تعرف طبيعة البشر ـ فإذا استطاعوا قول شيء مشين , فإنهم لا يتورعون عن قوله ! وسيكون من الصعب على الفتاة كسب قوتها . "
قلت مندهشاً : " كسب قوتها ؟ "
واصلت إيمي كلامها : " إنه موقف صعب عليها بالطبع , وأعتقد أنها فعلت اصواب . أعني أنها لم تكن تستطيع الرحيل هكذا وتترك الطفلين دون أن يرعاهما أحد . لقد كانت رائعة ـ رائعة حقاً . إنني أقول ذلك للجميع ! ولكنه موقف لا تحسد عليه , حيث سيتكلم الناس عليها ولن يتركوها في حالها . "
سألتها : " عمّن تتحدثين ؟ "
قالت إيمي بصبر نافد : " عن إلسي هولاند بالطبع , فأنا أرى أنها فتاة لطيفة للغاية , ولم تفعل إلا ما يمليه عليها الواجب . "
" وما الذي يقوله الناس ؟ "
ضحكت إيمي جريفيث , أعتقد أنها كانت ضحكة غير بريئة .
" يقولون أنها تفكر فعلياً أن تكون السيدة سيمنجتون الثانية ـ بحيث تسري عن الزوج المترمل وتجعل من نفسها شيئاً لا غنى عنه . "
قلت مصدوماً : " يا إلهي ! ولكن لم يمض على وفاة السيدة سيمنجتون سوى أسبوع ! "
هزت إيمي كتفيها , قائلة : " بالطبع , ما هي إلا شائعات سخيفة ! ولكنك تعرف الناس وألسنتهم ! فالآنسو هولاند في ريعان شبابها وعلى قدر عالٍ من الجمال , وهذا يكفي . ولعلك تعرف أن العمل كمربية ليس مطمح الفتيات . وما كنت لألومها لو أنها أرادت أن تتزوج وتستقر , ولقد قامت باللعب بأوراقها جيداً . "
واصلت كلامها : " وبالطبع , فإن السيد ديك سيمنجتون المسكين ليست لديه أدنى فكرة عن كل هذا ! فهو لا يزال متأثراً بوفاة زوجته مونا سيمنجتون . ولكنك تعرف طبيعة الرجال ! فإذا كانت المرأة بجواره دائماً , وتعمل على راحته , وتعتني به , وتكرس نفسها لأولاده ـ حسناً , فسوف يعتمد عليها . "
قلت بهدوء : " إذن أنت تعتقدين أن إلسي هولاند تخطط للإيقاع به ؟ "
احمر وجه إيمي جريفيث وقالت : " إطلاقاً , إنني آسفة لتلك الفتاة , ولما يقوله الناس عليها من كلام منحط ! ولهذا أخبرت ميجان بضرورة العودة إلى المنزل . فهذا يبدو لي أفضل من ترك ديك سيمنجتون , إلسي هولاند وحدهما بالبيت . "
بدأت الأمور تتضح لي . ضحكت إيمي جريفيث ضحكتها الخبيثة .
" لقد صُدمت يا سيد بيرتون بما تفكر فيه بلدتنا الصغيرة النمامة . يمكنني القول إنها دائماً ما تفكر في الأسوأ ! "
ضحكت ثانية ثم أومأت وواصلت سيرها مبتعدة .
قابلت السيد باي عند دار العبادة . كان يتحدث مع إيميلي بارتون التي بدت محمرة الوجه ومنفعلة .
حياني السيد باي بحفاوة بالغة .
" أوه , بيرتون , صباح الخير , صباح الخير ! كيف حال أختك الفاتنة ؟ "
أخبرته أن جوانا على ما يرام .
" ولكنك لن تنضم إلى رلمان القرية , إننا جميعاً متشوقون للأخبار . فهي جريمة قتل ! جريمة قتل حقيقية من تلك النوعية التي تُنشر في صحف الأحد ! أخشى ألا تكون أكثر الجرائم إثارة , فهي إلى حد ما مقتل خادمة وحشية بطريقة وحشية . ولا يوجد حرفية في ارتكاب الجريمة , إلا أنها لا تزال خبراً , "
قالت الآنسة بارتو وهي ترتعش : " إنها صدمة ـ صدمة فظيعة . "
التفت إليها السيد باي قائلاً : " ولكنك تستمتعين بها , يا عزيزتي , نعم تستمتعين بها . اعترفي بذلك الآن . إنك ترفضينها وتعترضين عليها , ولكن هناك عنصر الإثارة . وأنا أصر على أن هناك إثارة . "
قالت إيميلي بارتون : " تلك الفتاة اللطيفة . لقد جاءت إلي من ملجأ كلوتيدس للأيتام وهي ساذجة ولكن لديها القابلية للتعلم , قم تحولت إلى خادمة لطيفة ولكن بارتريدج سعيدة بها . "
قلت بسرعة : " كان من المقرر أن تأتي عصر أمس لتناول الشاي مع بارتريدج " , ثم التفتُّ إلى السيد باي وقلت : " لعل إيمي جريفيث أخبرتك بذلك . "
كانت نبرة صوتي عادية جداً , ورد باي بلهجة غير المتشكك أبداً : " نعم , لقد ذكرت ذلك . أتذكر إنها قالت إنه شيء جديد على الخدم أن يستخدموا هواتف مخدوميهم . "
قالت الآنسة إيميلي : " ما كانت بارتريدج لتحلم بفعل شيء كهذا , وأنا مندهشة تماماً من إقبال آجنس على ذلك . "
قال السيد باي : " إنك ما زلت تعيشين في الماضي يا سيدتي العزيزة , فخادماي يستخدمان الهاتف باستمرار وكانا يدخنان في كل مكان بالمنزل حتى اعترضت على ذلك . ولكن إحقاقاً للحق , فإن بريسكوت طباخ ماهر , بالرغم من حدته , وزوجته خادمة مثيرة للإعجاب . "
" نعم , إننا جميعاً نعتقد أنك محظوظ . "
حولت مجرى الحديث , حيث أنني لا أريد أن يدور الحوار حول الشؤون الشخصية المحضة . فقلت : " لقد انتشر خبر الجريمة بسرعة . "
قال السيد باي : " بالطبع , بالطبع , فالجزار والخباز وصانع الشموع والجميع يتحدثون عن الجريمة ويتناقلون أخبارها بعدما يضيفون إليها ما تجود به ألسنتهم . يا حسرتي على لايمستوك ! إنها تنحدر للأسوأ باستمرار , رسائل مجهولة , جرائم قتل , وعدد من الميول الإجرامية . "
قالت إيميلي بارتون بعصبية : " إنهم لا يفكرون ـ ليست لديهم فكرة ـ بأن ـ بأن الجريمتين مرتبطتين ببعضهما . "
التقط السيد باي الكرة , فقال : " رأي مثير , لقد عرفت الفتاة شيئاً , لذا قتلت , نعم , نعم هذا منطقي . يا لك من عبقرية ! "
" لا ـ لا أستطيع التحمل . "
قالتها إيميلي بارتون وسارت مبتعدة بسرعة . نظر إليها باي , وارتسمت على وجهه الملائكي علامات الدهشة .
نظر إلي وهز رأسه , قائلاً : " امرأة حساسة , مخلوقة فاتنة , أليس كذلك ؟ إنها تحفة أثرية من الماضي البعيد . إنها لا تنتمي جيلها , وإنما للجيل السابق . لابد أن أمها كانت امرأة قوية الشخصية إلى حد كبير . فقد أوقفت تطور العائلة عند عام 1870 . وقد حر جميع افراد الأسرة على عدم كسر القفص الزجاجي . لكم أحب ذلك النوع من الناس . "
لم أكن أريد الحديث عن التحف الأثرية .
سألته : " ما رأيك حقاً فيما يحدث ؟ "
" ماذا تقصد ؟ "
" الرسائل المجهولة وجريمة القتل ... "
" موجة جرائمنا المحلية ؟ ما رأيك أنت ؟ "
قلت بمرح : " لقد سألتك أولاً . "
فقال السيد باي بلطف : " أنت تعرف أنني أهوى الأشياء الغريبة فهي تثيرني , مثل أن يقوم أشخاص غير متوقعين بفعل أشياء غريبة . خذ مثلاً قضية " ليزي بوردين " فلم يكن هناك تفسير منطقي لما حدث . وفي مثل هذه القضية أنا أنصح الشرطة بدراسة الشخصية . دعم من بصمات الأصابع وقياس خط اليد والفحوض المجهرية , وركزوا بدلاً من ذلك على حركات أيدي الناس , وتفاصيل سلوكياتهم الدقيقة , والطريقة التي يتناولون بها طعامهم , وإذا كانوا يضحكون أحياناً دونما سبب واضح . "
رفعت حاجبي , وقلت : " أتقصد أنه مجنون ؟ "
" مجنون للغاية , للغاية . "
ثم أضاف : " ولكنك لن تعرف أبداً . "
" من ؟ "
التقت عيناه بعيناي , ثم ابتسم , قائلاً : " كلا , كلا يا بيرتون , هذا من شأنه أن يكون قذفاً , ولا ينبغي أن نضيف المزيد من القذف إلى ما نحن فيه بالفعل . "
ثم سار وغاب عن الأنظار .
3
بينما كنت أحدق إليه وهو يختفي مبتعداً , فُتح باب دار العبادة وخرج منه كايب كالثروب .
ابتسم لي ابتسامة توحي بأنه لا يتذكرني .
" صباح ـ صباح الخير , سيد ـ سيد ـــ "
ساعدته قائلاً : " بيرتون . "
" بالطبع , بالطبع , لاتظن أنني لا أتذكرك , كل ما هنالك أن اسمك قد غاب عن بالي للحظة . إنه يوم جميل . "
قلت باقتضاب : " نعم . "
حملق إلي , قائلاً : " ولكن شيئاً ـ شيئاً ـ آه , نعم , تلك الفتاة المسكينة تعيسة الحظ التي كانت تعمل في الخدمة في بيت السيد سيمنجتون . يجب أن أعترف بأنني أجد صعوبة في تصديق أن هناك قاتلاً يعيش بيننا , يا سيد ـ بيرتون . "
قلت له : " إنه أمر سيء . "
مال برأسه ناحيتي وقال : " لقد سمعت شيئاً آخر , لقد علمت أن هناك رسائل مجهولة يتلقاها سكان البلدة , هل سمعت أنت شائعات عن شيء كهذا ؟ "
" نعم , لقد سمعت . "
" مل خسيس وجبان " توقف ثم أخذ يقول الكثير من الكلام باللغة اللاتينية وقال : " هذه المعاني تنطبق على ما يجري هنا , أليس كذلك ؟ "
قلت : " تماماً . "
4
لم يبد لي أن هناك أحد يمكنني أن أتحدث إليه حديثاً مفيداً , لذا عدت إلى البيت , وفي طريقي قررت شراء تبغ , فسمعت بعض الآراء المتواضعة حول الجريمة .
" متسول حقير . " يبدو أن البائع هو المتحدث .
" إنهم يطرقون الأبواب وهم سكارى ويطلبون المال , ثم إذا وجدوا أنها وحدها في المنزل , فإنهم يهاجمونها . لقد تعرضت أختى دورا التي تعمل في كومبي أكر لتجربة كهذه يوماً ما ـ وقد كان المتسول مخموراً ويبيع تلك الأشعار المطبوعة ... "
واصل البائع سرد حكايته حتى انتهى إلى أن دورا أغلقت الباب بشجاعة في وجه الرجل وتحصنت في مكان لم يصرح به , وإن كنت قد فهمت من تحرجه من ذلك أنه المرحاض .
" وظلت هناك حتى عادت سيدتها إلى المنزل . "
وصلت إلى ليتل فيرز قبل موعد الغداء ببضع دقائق . كانت جوانا تقف أمام النافذة بحجرة الرسم لا تفعل شيئاً على الإطلاق وإن كانت تبدو مشغولة البال إلى حد كبير .
سألتها : " فيم تفكرين ؟ "
" أوه , لا أدري ,ليس شيئاً محدداً . "
ذهبت إلى الشرفة فوجدت مقعدين حول منضدة معدنية وكوبي عصير فارغين , وعلى كرسي آخر كان هناك شيء نظرت إليه بذهول .
" ما هذا بحق السماء ؟ "
قالت جوانا : " أوه , أعتقد أنها صورة لطحال مريض أو شيء من هذا القبيل . يبدو أن السيد جريفيث ظن أنني مهتمة برؤيتها . "
نظرت إلى الصورة ببعض الاهتمام. فلكل رجل طريقته الخاصة للتعبير عن إعجابه بالمرأة . وأنا عن نفسي ما كنت لأختار صور طحال مريض , أو غير مريض , للتعبير عن إعجابي , ومع ذلك فإن جوانا هي من طلبتها دون شك !
قلت : " إنها تبدو مثيرة للاشمئزاز ! "
وافقتني جوانا على ذلك .
سألتها : " كيف كان حال جريفيث ؟ "
" بدا متعباً وحزيناً جداً . أعتقد أن هناك شيئاً يشغل باله . "
" طحال لم يستجب للعلاج ؟ "
" لا تكن سخيفاً , فأنا أعني أن هناك شيئاً حقيقياً يشغله . "
" أعتقد أنه مشغول بك . وأتمنى أن تبتعدي عنه يا جوانا . "
" أوه , اصمت , فأنا لم أفعل شيئاً . "
هرعت جوانا إلى الغرفة غاضبة . بدأت صورة الطحال المريض تتجعد نتيجة لتعرضها للشمس , لذا أمسكتها من إحدى زواياها وذهبت إلى حجرة الرسم . لم تكن ذات أهمية بالنسبة لي , ولكنني افترضت أنها أحد كنوز جريفيث .
انحنيت وسحبت كتاباً ثقيلاً من الرف السفلي للمكتبة حتى أضع الصورة بين دفتيه كي ترجع كما كانت بلا تجاعيد .
وبطريقة مفاجئة انفتح الكتاب في يدي , وسرعان ما عرفت السبب . فهناك عدد من صفحاته قد انتُزعت من منتصفه بإتقان .
لم ينته الفصل التاسع بعد
والتكملة قريبة ان شاء الله