الفصل الثامن
1
لم أهنأ بالنوم تلك الليلة . فقد كانت أجزاء اللغز تسبح أمام ذهني . وأعتقد أنني لو فكرت فيها بإمعان , لكن قد توصلت إلى حل اللغز بأكمله عندئذٍ وأنا مستلقي على فراش , وإلا فلماذا تلح هذه الأجزاء على مخيلتي بهذا الشكل ؟
ما مقدار ما نعرفه في أي وقت ؟ أعتقد أننا نعرف أكثر مما ندرك معرفتنا به ! ولكننا لا نستطيع النفاذ إلى تلك المعرفة الخفية . إنها هناك , ولكننا لا نستطيع الوصول إليها .
استلقيت على سريري وأخذت أتقلب متململاً , ولم يطرأ على ذهني سوى أجزاء غامضة من اللغز , الأمر الذي عذبني طوال الليل .
كان هناك نمط منتظم في إرسال هذه الخطابات , فقط لو استطعت لإمساك بهذا الخيط . كان يجب أن أعرف كاتب هذه الرسائل اللعينة : هناك في مكان ما , فقط لو استطعت تتبعه ...
حينما أغمضت عيني لأنام , تراقصت الكلمات أمام ذهني المشوش دونما ترتيب .
" لا دخان بلا نار . " لا دخان بدون نار . دخان .... دخان ؟ الساتر الدخاني .... لا , كان ذلك في الحرب ـ عبارة حربية. حرب ... قصاصة ورق ... مجرد قصاصة ورق . بلجيكا ـ ألمانيا.
رحت في نوم عميق , وحلمت بأنني آخذ السيدة دين كالثروب , للتنزه بعد أن تحولت إلى كلب صيد في عنقه طوق أمسكه بحبل .
2
استيقظت فجأة على رنين هاتف , رنين متصل ملح . جلست في الفراش ونظرت إلى ساعتي . كانت الساعة السابعة والنصف . لم ينادني أحد . كان الهاتف يدق في الطابق الأسفل في الردهة .
قفزت من على الفراش , وارتديت ملابس النوم , وهرعت للأسفل . سبقت بارتريدج التي كانت قادمة عبر الباب الخلفي للمطبخ . رفعت السماعة .
" مرحباً . "
" أوه ـ كا بالصوت نبرة استغاثة ـ أهذا أنت ؟ "
إنه صوت ميجان . بدا صوتها مذعوراً ؟ " أوه , من فضلك تعال ـ تعال . أوه أرجوك تعال . هل ستأتي ؟ "
" سآتي فوراً . هل تسمعيني ؟ فوراً ؟ "
صعدت السلم درجتين درجتين وهرعت إلى جوانا .
" جوانا , إنني ذاهب إلى منزل سيمنجتون . "
رفعت جوانا شعرها الأشقر من على الوسادة وفركت عينيها كطفلة صغيرة .
" لماذا ـ ماذا حدث ؟ :"
" لا أعرف , إنها تلك الطفلة ــ ميجان . لقد بدت مذعورة ! "
" ما الذي حدث في اعتقادك ؟ "
" إنها الفتاة آجنس , إن لم أكن مخطئاً . "
" انتظر , سوف آتي معك لأوصلك بالسيارة . "
" لا داعي لذلك , سأقودها بنفسي . "
" إنك لا تستطيع قيادة السيارة . "
" بل , أستطيع . "
وقد قدتها فعلاً . وقد آلمتني ساقي ولكن ليس كثيراً . اغتسلت وحلقت ذهني وارتديت ملابسي , وأخرجت السيارة وقدتها متوجهاً إلى بيت سيمنجتون حتى وصلت هناك خلال نصف ساعة من تلقي مكالمة ميجان الهاتفية . وهذه فترة لا بأس بها .
لابد أن ميجان كانت ترقب وصولي , فقد خرجت من المنزل بسرعة واحتضنتني . كان وجهها الصغير ممتقعاً ومرتعشاً .
" أوه , ها قد أتيت ـ ها قد أتيت . "
قلت : " تماسكي يا عزيزتي , نعم لقد أتيت , والآن ما الأمر ؟ "
بدأت ترتجف , فوضعت ذراعي حولها .
" لقد ـ لقد وجدتها . "
" وجدت آجني ؟ أين ؟ "
زادت حدة الارتعاش .
" أسفل الدرج , هناك خزانة تحته , بها طعم الصيد وأدوات الجولف وأشياء أخرى كما تعرف . "
أومأت , إنها تلك الخزانات المعتادة .
" كانت هناك , ملقاة و ... وباردة ـ باردة جداً . لقد كانت ـ كانت ميتة . يا له من أمر فضيع ! "
سألتها بفضول : " ما الذي جعلك تنظرين هناك ؟ "
" لا ـ لا أعرف , بعدما اتصلت بنا ليلة الأمس , بدأنا نتساءل عن مكان آجنس . وقد انتظرنا لبعض الوقت , ولكنها لم تأت . وأخيراً ذهبنا إلى لننام . لم أنم جيداً واستيقظت مبكراً ولم يكن هناك سوى روز ( الطاهية , كما تعرف ) . كانت غاضبة جداً لعدم عودة آجنس . وقالت إنها كانت من قبل في أحد البيوت عندما هربت فتاة بمثل هذه الطريقة . ثم تناولت بعض الخبز واللبن والجبن في المطبخ , وفجأة دخلت علي روز وهي تبدو غريبة , وقالت إن ملابس الخروج الخاصة بآجنس لا تزال في حجرتها . لقد كانت أفضل ملابسها التي ترتديها عند الخروج . فبدأت أتساءل ما إذا كانت قد تركت المنزل من الأساس , وبدأت البحث عنها ثم فتحت الخزانة الواقعة تحت السلم . و ــ ووجدتها هناك . "
" هل اتصل أحدكم بالشرطة ؟ "
نعم , إنهم هناك الآن . لقد اتصل زوج أمي على الفور . وعندئذٍ شعرت ـ شعرت بأنني لا أستطيع تحمل الموقف فاتصلت بك . هل لديك مانع ؟ "
قلت : " كلا , لا مانع لدي على الإطلاق . "
نظرت إليها بفضول .
" هل أعطاك أحدهم شاياً أو عصيراً أو قهوة بعدما ـ بعدما وجدتها ؟ "
هزت ميجان رأسها بالنفي .
صببت اللعنات على كل أهل بيت سيمنجتون . ذلك المغرور لم يفكر سوى بالإتصال بالشرطة . ويبدو أنه لا إلسي هولاند ولا الطاهية فكرتا بتأثير ما حدث على تلك الطفلة الصغيرة الحساسة التي اكتشفت أمر الجثة . "
قلت : " تعالي يا عزيزتي , سوف نذهب إلى المطبخ . "
درنا حول البيت ودخلنا إلى المطبخ من الباب الخلفي . كانت روز ـ تلك المرأة البدينة ذات الوجه المنتفخ بجوار المدفأة . حيتنا بسيل دافق من الكلام ويدها على قلبها .
قالت لي أنها قد فزعت وأصيبت بصدمة عنيفة عند اكتشافها هذا الأمر الرهيب ! فقط فكر في الأمر , كان يمكن أن تكون هي , كان يمكن أن يكون أي واحد منهم , مقتولاً على الفراش .
قلت : " صبي قدحاً من الشاي للآنسة ميجان , فهي من تلقت الصدمة كما تعرفين . تذكري أنها من اكتشفت أمر الجثة . "
مجرد ذكر الجثة أصيبت روز بالفزع مرة أخرى , ولكنني رمقتها بنظرة حادة فصبت كوياً من الشاي الثقيل .
قلت لميجان:" اشربي هذا يا فتاتي العزيزة.أعتقد أنك لم تشربي أي عصير , أليس كذلك يا روز؟ "
قالت روز بتشكك إن هناك بعض عصير البرتقال منذ البارحة .
قلت : " هذا يفي بالغرض . " ثم صبت كوباً من العصير لميجان . رأيت في عيني روز استحسان تلك الفكرة .
قلت : " هل أستطيع الاعتماد عليك للاعتناء بالآنسة ميجان ؟ " ردت روز بطريقة مطمئنة : " أوه, نعم سيدي . "
ودلفت إلى الغرفة . ومن خلال معرفتي بنوعية الشخصيات المشابهة لشخصية روز كنت متأكداً من أنها ستجد أنها عليها أن تتناول القليل من الطعام لكي تحافظ على قواها , وهذا أمر جيد بالنسبة لميجان أيضاً . يا لهؤلاء الجاحدين , لماذا لا يعتمون بتلك الطفلة ؟
وتوجهت إلى إلسي هولاند بالردهة وأنا أكاد أنفجر من شدة الغيظ والغضب . لم تبد عليها المفاجأة لرؤيتي . أعتقد أن الإثارة الشديدة الناتجة عن اكتشاف أمر الجثة , جعلت أهل المنزل لا يبالون بمن يأتي ويذهب . كان المفتش , بيرت روندل , يقف عند الباب الأمامي . تنهدت إلسي هولاند قائلة : " أوه , سيد بيرتون و أليس هذا رهيباً ؟ من ذا الذي يستطيع ارتكاب هذا الشيء الفظيع ؟ "
" هي جريمة قتل إذن ؟ "
" أوه , نعم , لقد ضربها أحدهم على مؤخرة رأسها . إنها مغطاة بالدم والشعر ـ أوه ياله من أمر رهيب ـ وتم حشرها داخل تلك الخزانة . من ذا الذييستطيع الإقدام على فعل هذا الأمر الشرير ؟ ولماذا ؟ مسكينة آجنس , أنا متأكدة أنها لم تؤذ أحداً . "
قلت : " كلا , لابد أن أحدهم رأى أن التخلص منها أمراً ضرورياً . "
حدقت إلي , أدركت أنها ليست ذكية ولكنها قوية الأعصاب . كان مزاجها عادياً ولكنها كانت تشعر ببعض الاهتمام والإثارة , حتى أنه قد هيئ لي أنها تستمتع بهذه الأحداث الدرامية بطريقة ما , على الرغم من رقة قلبها .
قالت معتذرة : " علي أن أذهب لأعتني بالأطفال , فالسيد سيمنجتون حريص جداً على عدم إصابتهم بالصدمة . إنه يريدني أن ~أبقيهم بعيداً . "
قلت : " لقد سمعت أن ميجان هي من اكتشف أمر الجثة , هل اعتنى أحد بها ؟ "
للحق بدت إلسي هولاند متألمة الضمير .
قالت : " أوه , يا عزيزتي , لقد نسيتها تماماً . أتمنى أن تكون بخير . لقد كنت مرتبكة , كما تعرف , بالإضافة إلى وجود الشرطة وما إلى ذلك ـ ولكن كان هذا خطأ مني . يا للفتاة المسكينة , لابد أنها منهارة الآن . سوف أذهب وألقي نظرة عليها . "
شعرت ببعض الارتياح , وقلت : " إنها بخير , وروز تعتني بها . يمكن أن تذهبي إلى الأطفال . "
شكرتني , فابتسمت وكشفت عن صف من الأسنان البيضاء , وهرعت صاعدة الدرج .
فعلى كل حال , فإن مهمتها رعاية الطفلين , وليست ميجان ـ ميجان ليست مهمة أحد . لقد عينت إلسي للاعتناء بأبناء سيمنجتون , ومن ثم لا يستطيع المرء لومها على ذلك .
بينما كانت عند منحنى الدرج , حبست أنفاسي . حيث لمحت في عينيها بريق الانتصار , فبدت أقرب إلى امرأة قوية وجميلة منها إلى مربية حية الضمير .
عندئذ فتح الباب ودخل المفتش ناش إلى الردهة والسيد سيمنجتون خلفه .
قال : " أوه , سيد بيرتون , كنت على وشك الاتصال بك . إنني سعيد لرؤيتك . "
لم يسألني عن سبب مجيئي الآن .
" سأستخدم هذه الحجرة إذا سمحت . "
كانت حجرة صغيرة بها نافذة تطل على الجانب الأمامي من المنزل .
" بالطبع يمكنك ذلك سيدي . "
كان سيمنجتون رابط الجأش , ولكن بدا عليه الإرهاق الشديد .
قال المفتش ناش بلطف : " لو كنت مكانك لتناولت بعض الطعام يا سيد سيمنجتون . فسوف تشعر أنت والسيدة هولاند وميجان بتحسن كبير إذا تناولتم بعض القهوة والبيض واللحم . فمن الصعب مواجهة جريمة قتل بمعدة خاوية . "
كان يتحدث بطريقة ودية كما لو كان طبيب الأسرة .
ابتسم سيمنجتون ابتسامة واهنة وقال : " شكراً لك أيها المفتش , سوف آخذ بنصيحتك . "
تبعث ناش إلى الحجرة الصغيرة , حيث أغلق الباب , وقال : " لقد جئت إلى هنا بسرعة , كيف عرفت بالخبر ؟ "
أخبرته بأن ميجان حادثتني . وشعرت بالود تجاه ناش , فهو لم ينس أيضاً أن ميجان في حاجة لتناول إفطار .
" سمعت أنك اتصلت ليلة أمس يا سيد بيرتون لتسأل عن الفتاة , فما الأمر ؟ "
أعتقد أن هذا كان غريباً . فأخبرته باتصال آجنس ببارتريدج ثم عدم مجيئها , فقال : " نعم , أفهم ... "
قالها ببطء وتمعن وكان يحك ذقنه ثم تنهد , قائلاً : " حسناً , إنها جريمة قتل الآن وهذا الأمر واضح لنا ؛ اعتداء بدني مباشر . السؤال الذي يطرح نفسه الآن : ما الذي كانت تعرفه هذه الفتاة ؟ هل قالت أي شيئ لبارتريدج ؟ أي شيء محدد ؟ "
" لا أعتقد هذا , ولكن يمكن سؤال بارتريدج عن هذا . "
" نعم , سوف آتي إليكم وأسألها حالما أنتهي من هنا . "
سألته : " ما الذي حدث بالضبط ؟ أم أنك لم تعرف بعد ؟ "
" لقد كان يوم عطلة الخادمتين ـ "
" كلتاهما ؟ "
" نعم , يبدو أنه كانت هناك شقيقتان تعملان هنا , وقد طلبتا أخذ عطلتهما في يوم واحد معاً , وقد وافقت السيدة سيمنجتون على ذلك . ثم عندما جاءت هاتان الخادمتان أبقيتا على نفس النظام . وقد اعتادتا على ترك العشاء بارداً في حجرة الطعام , فيما تقوم السيدة هولاند بإعداد الشاي . "
" نعم . "
" الأمر واضح حتى هذه النقطة . إذ إن أسرة روز الطاهية تعيش في " نيزر ميكفورد " ولكي تصل هناك في يوم عطلتها , يجب عليها ركوب حافلة الثانية والنصف . لذا فإن آجنس تضط إلى تجهيز الغداء تماماً . وقد دأبت روز على مكافأتها بغسل صحون العشاء . "
" وهذا ما حدث في الأمس ؛ حيث خرجت روز للحاق بحافلة الثانية والنصف إلا خمس دقائق , وخرج سيمنجتون إلى مكتبه في الساعة الثانية والنصف وخمس دقائق . وخرجت إلسي هولاند والطفلان في الثالثة إلا ربع , وخرجت ميجان هنتر على دراجتها بعد خمس دقائق تقريباً . ويفترض أن تكون آجنس وحدها بالمنزل عندئذٍ وعلى حد علمي , فإنها اعتادت مغادرة المنزل بين الثالثة والثالثة والنصف . "
" أتعني أن المنزل لم يكن به أحد عندئذٍ ؟ "
" أوه , إنهم لا يهتمون بذلك هنا . فالناس في هذه البلدة لا يحرصون على إغلاق بيوتهم . وكما قلت , ففي الساعة الثالثة إلا عشر دقائق كانت آجنس وحدها في البيت . ومن الواضح أنها لم تغادره أبداً , لأنها كانت ما تزال ترتدي قبعتها وملابس العمل عندما وجدنا جثتها . "
" هل عرفتم موعد وفاتها على وجه الدقة ؟ "
" لم يقطع الدكتور جريفيث بموعد محدد لوفاتها . وقد قال في تقريره أنه توفيت بين الثانية والرابعة والنصف . "
" كيف قتلت ؟ "
" ضُربت أولاً بشيء ثقيل على مؤخرة رأسها . وبعد ذلك تم إدخال سيخ المطبخ ـ ذي الرأس الحاد ـ في قاعدة الجمجمة , مما أدى إلى الوفاة الفورية . "
أشعلت سيجارة , فلم تكن الصورة الوصفية جميلة .
قلت : " جريمة بدم بارد . "
" أوه , نعم , هذا ما أشرنا إليه . "
أخذت نفساً عميقاً ثم قلت : " من الذي فعلها ؟ ولماذا ؟ :"
قال ناش ببطء : " لا أعتقد أننا سنعرف السبب تحديداً , ولكننا نستطيع التخمين . "
" أكانت تعرف شيئاً ؟ "
" كانت تعرف شيئاً . "
" ألم تلمح لأحد هنا أو تعطيه فكرة عما يحدث ؟ "
" كلا , على حد علمي . لقد كانت قلقة , منذ وفاة السيدة سيمنجتون , هكذا قالت روز . ووفقاً لأقوال هذه الطاهية فإن قلها كان يتزايد أكثر وأكثر,وظلت تقول أنها لا تعرف ما يجب عليها فعله"
أخرج تنهيدة غيظ , قائلاً : " إنها نفس الطريقة دائماً ؛ فهم لا يأتون إلينا أدباً . لقد استقر في النفوس كراهية (( التورط مع الشرطة )) . لو جاءت إلينا وأخبرتنا بما كان يُقلقها , لربما كانت حية الآن . "
" ألم تلمح لأي امرأة أخرى بأي شيء ؟ "
" كلا , على حسب قول روز , وأنا أميل لتصديقها . لأنها لو كانت أخبرتها بشيء , لسارعت بإخبارنا به مع إضافة كم لا بأس به من الزركشة من خيالها الخصب . "
" ولكن لا نزال نستطيع التخمين يا سيد بيرتون . إن نقطة البداية غير محددة , لابد أن يكون هناك شيء يلح على مخيلتك حتى يزداد قلقك . أتفهم ما أعنيه ؟ "
" نعم . "
" في الحقيقة , فإنني أعلم ما كنت تفكر به . "
نظرت إليه باحترام .
عمل جيد أيها المفتش ناش . "
حسناً يا سيد بيرتون , إنني أعرف شيئاً لا تعرفه أنت . في عصر اليوم الذي انتحرت فيه السيدة سيمنجتون , كان يفترض أن تكون الخادمتان بالخارج . فقد كان يوم إجازتهما . ولكن آجنس عادت إلى المنزل . "
" أمتأكد من ذلك ؟ "
" نعم , آجنس لديها صديق ـ ذلك الشاب الذي يدعى ريندل الذي يعمل في متجر السمك . حيث يغلق المتجر مبكراً يوم الأربعاء ويأتي لمقابلة آجنس ويذهبان للتنزه , أو يذهبان للمتحف إذا كان الجو مطيراً . وفي ذلك اليوم الأربعاء تشاجرا بمجرد تقابلهما . وقد كانت صاحتنا كاتبة الرسائل تمارس نشاطها , وأوحت إلى ريندل بأن آجنس علاقة مع شاب آخر فاغتاظ ريندل وتشاجرا مشاجرة عنيفة وعادت آجنس أدراجها إلى المنزل , وقالت إنها لن تخرج مع فريد ريندل حتى يأتي ويعتذر لها . "
" وبعد ؟ "
" حساً , يا سيد بيرتون , المطبخ يواجه الجانب الخلفي للمنزل , ولكن حجرة الخازن تطل على الجهة التي نطل عليها نحن الآن . ولا يوجد إلا بوابة واحدة للدخول فتمر بها إما للصعود إلى الباب الأمامي , أو السير عبر الممر الواقع بجانب المنزل حتى تصل إلى الباب الخلفي . "
سكت قليلاً , ثم أضاف : " والآن لأخبرك بشيء . تلك الرسالة التي تلقتها السيدة سيمنجتون عبر لابريد لم ترسل عبر البريد , بل كان عليها طابع بريد مستعمل وختم مزيف باستخدام سخام مصباح , وذلك حتى تبدو وكأن رجل البريد قد ألقاها مع رسائل ما بعد الظهيرة . ولكنها في الحقيقة لم تُرسل عبر البريد . أتفهم ما يعنيه ذلك ؟ "
قلت ببطء : " يعني أنها ألقيت باليد داخل صندوق الرسائل قبل مجيء بريد العضر , بحيث تكون بين الرسائل الأخرى . "
" تماماً , إن بريد العصر يأتي في الساعة الرابعة إلا ربع تقريباً . وأنا أرى أن الفتاة كانت جالسة في حجرة الخزين تنظل من النافذة ( لقد كانت مغطاة بالشجيرات ولكن يمكن الرؤية من خلالها ) مترقبة مجيء صديقها والاعتذار إليها . "
قلت : ورأت من ألقى تلك الرسائل ؟ "
" هذا ما أظنه يا سيد بيرتون , وقد أكون مخطئاً بالطبع . "
" ولا أظنك مخطئاً ... إن الفكرة بسيطو ـ ومقنعة ـ وتعني أن آجنس عرفت هوية كاتب الرسائل المجهولة . "
" نعم . "
" ولكن لماذا لم ـ "
سكتُّ مقطباً جبيني . فقال ناش بسرعة : " يهيأ لي أن الفتاة لم تعي ما رأته , في البداية على الأقل . وقد ترك أحدهم رسالة بالمنزل , نعم ـ لكن ذلك الشخص لم يكن شخصاً تحلم بأن يكون له صلة بالرسائل المجهولة . لقد كان من تلك الشخصيات التي يُطلق عليها : " فوق مستوى الشبهات " ولكن كلما فكرت في الأمر أكثر ازداد قلقها . ربما كان عليها إخبار أحدهم بالأمر , في خضم ارتباكها وحيراتها فكرت في بارتريدج خادمة السيدة بيرتون التي أعتقد أنها شخصية مسيطرة وتقبل آجنس حكمها على الأمور دون تردد . فقررت أن تسأل بارتريدج عما يجب عليها أن تفعله . "
قلت متفكراً : " نعم , إن هذا منطقي للغاية . وقد اكتشفت صاحبة القلم المسموم ذلك بطريقة ما , ولكن كيف اكتشفته أيها المفتش ؟ "
" إنك لم تعتد العيش في الريف يا سيد بيرتون . فالأخبار تنتشر هنا بطريقة سريعة . أولاً , هناك المكالمة الهاتفية . من الذي سمعها من الطرف الآخر ؟ "
فكرت ثم قلت : " لقد كنتُ أنا من أجاب على الهاتف في البداية ثم ناديت على بارتريدج التي كانت في الطابق العلوي . "
" هل ذكرت اسم الفتاة ؟ "
" نعم , نعم , ذكرته . "
" هل سمعك أحد آخر وأنت تذكره ؟ "
" أختي والآنسة جريفيث سمعاني أيضاً . "
" آه , الآنسة جريفيث ؟ ماذا كانت تفعل ؟ "
شرحت له ما جاءت لأجله .
" هل عادت إلى القرية ؟ "
" ذهبَت إلى السيد باي أولاً . "
تنهد المفتش ناش .
" إذا هناك طريقتان يمكن من خلالهما انتشار الخبر . "
نظرت إليه غير مصدق .
" هل تعني أن أياً من الآنسة جريفيث أو السيد باي يأبه بنقل معلومة تافهة كهذه ؟ "
" أي شيء يعتبر خبراً في بلدة كهذه . فإذا ظهر ورم في قدم أم الخياطة فسوف يعرف الجميع بالخبر ! ثم عندنا من كانوا في الجانب الأول من الخط : السيدة هولاند وروز ـ ربما تكونا قد سمعتا ما قالته آجنس . وهناك فريد ريندل . فربما انتشر خبر رجوع آجنس إلى المنزل عصر ذلك اليوم من خلاله . "
ارتعدت بينما كنت أنظر إلى النافذة وأمامي قطعة مربعة من العشب والممر وبوابة قصيرة .
فتحت إحداهن البوابة , وسارت مطمئنة نحو المنزل , ثم ألقت الرسالة في صندوق الرسائل . ورأيت في خيالي صورة غائمة لتلك المرأة . الوجه خالٍ من أية مامح ـ ولكن لابد وأنه وجه أعرفه ...
كان المفتش ناش يقول : " وهذا يحدد نطاق البحث أكثر , وهكذا نستطيع الإمساك بالفاعل في النهاية . الثبات والصبر , فليس هناك الكثير من المشكوك فيهم الآن . "
" أتعني ـ ؟ "
" أعني أن نستثني أي امرأة عاملة كانت في عملها عصر ذلك اليوم . ويستثنى كذلك مديرة المدرسة , فقد كانت في مدرستها , وأيضاً الممرضة , فأنا أعرف أين كانت بالأمس , على الرغم من أنني لم أشك فيها منذ البداية , ولكننا الآن متأكدون . وكما ترى يا سيد بيرتون , فإن لدينا الآن وقتان يجب أن نركز عليهما ـ عصر الأمس , والأسبوع السابق . في يوم وفاة السيدة سيمنجتون , لنقل من الساعة الثالثة والربع ( أول وقت يمكن أن تكون آجنس قد عادت فيه إلى المنزل بعد شجارها مع صديقها ) ولكنني أستطيع أن أعرف الموعد بدقة من ساعي البريد . والأمس من الثالثة إلا عشر دقائق ( عندما تركت الآنسة ميجان هنتر المنزل ) وحتى الثالثة والنصف أو ربما الثالثة والربع بما أن آجنس لم تغير ملابسها . "
" ما الذي حدث بالأمس في رأيك ؟ "
مط ناش شفتيه , قائلاً : " أعتقد أن هناك سيدة ما سارت حتى الباب الأمامي , ودقت الجرس , وهي هادئة تماماً ومبتسمة , متظاهرة بأنها تحمل بطاقات دعوة ... ربما سألت عن السيدة هولاند , أو ربما أحضرت معها طرداً . على أية حال ذهبت إليها آجنس لتأخذ بطاقة الدعوة أو الطرد , ثم ضربتها صاحبتنا على مؤخرة رأسها . "
" بأي شيء ضربتها ؟ "
قال ناش : " النساء هنا يحملن حقائب ذات حجم كبير يمكن أن تتسع لأي شيء يخطر ببالك . "
" ثم طعنتها في مؤخرة عنقها ووضعتها في الخزانة , أليس هذا أمراً صعباً على امرأة ؟ "
نظر إلي المفتش ناش باستغراب , قائلاً : " المرأة التي نطاردها ليست امرأة عادية ـ ليست عادية إلى حد بعيد ـ وتلك النوعية من النساء المختلات عقلياً يمتلكن قوة مدهشة , كما أن آجنس لم تكن فتاة قوية البنيان . "
صمت برهة , ثم سأل : " ما الذي جعل ميجان هنتر تفكر في النظر بداخل الخزانة ؟ "
قلت : " إنها الغريزة المحضة . "
ثم سألته : " لماذا تم سحب آجنس إلى الخزانة ؟ ما الذي دعاها إلى ذلك ؟ "
" لأنه كلما طالت مدة اكتشاف الجثة , زادت صعوبة تحديد موعد الوفاة بدقة . أما لو عثرت السيدة هولاند , مثلاً , على الجثة بمجرد دخولها إلى المنزل لاستطعنا تحديد موعد الوفاة بدقة تبلغ عشر دقائق أو ما يقرب من ذلك ـ وهو الأمر الذي كان من شأنه أن يحرج صاحبتنا . "
قلت متجهماً : " لكن لو كانت آجنس تشك في هذه المرأة ـ "
" لم تكن تشك . ليس حد الشك القاطع . كل ما فكرت فيه أن أمرها غريب . وأعتقد أنها لم تكن فتاة حادة الذكاء , وكان كل ما يدور في مخيلتها شكوك غامضة مصحوبة بسعور بأن ثمة خطأ ما . وبالتأكيد لم تشك بأنها تواجه امرأة يمكن أن تقتل . "
" هل شككت أنت في ذلك ؟ "
" كان علي أن اعرف . فمسألة الانتحار كما ترى ! قد أخافت صاحبة القلم المسموم . قد وقع يا سيد بيرتون ما لم يكن في حسبانها . "
" نعم و الخوف , هذا كل ما ينبغي علينا التنبؤ به . الخوف ـ في عقل مختل ... "
قال الفت ناش : " كما ترى , فإننا نطارد امرأة تحظى بالاحترام والتقدير ـ امرأة ذات مكانة اجتماعية مرموقة ! " . وقد جعلني كلامك أشعر بمدى فظاعة الموقف !
3
قال ناش عندئذ أنه سوف يستجوب روز مرة أخرى . فسألته ما إذا كان من الممكن أن آتي معه إن لم يكن في الأمر إحراج له . ولدهشتي رحب بعرضي .
" إنني مسرور جدتً بتعاونك يا سيد بيرتون . "
قلت : " يبدو هذا مثيراً للشك , ففي القصص البوليسية عندما يرحب المحقق بمساعدة شخص ما , فعادة ما يكون هذا الشخص هو الجاني "
ضحك ناش وقال : " من المستبعد أن تكون من تلك النوعية التي تجلس وتكتب الرسائل المجهولة , يا سيد بيرتون . "
ثم أضاف : " بصراحة , يمكن أن تفيدنا كثيراً . "
" يسرني ذلك , ولكنني لا أعرف كيف يمكن أن أكون مصدر عون ؟ "
" هذا لأنك غريب هنا , وليس لديك أفكار مسبقة عن الأهالي هنا , ولكنك في الوقت ذاته لديك الفرصة لمعرفة الأمور بالأسلوب الذي أطلق عليه الذكاء الاجتماعي . "
تمتمت قائلاً : " الجاني شخص له مكانة اجتماعية . "
" تماماً . "
" أيعني ذلك أن أكون جاسوساً لكم ؟ "
" ألديك اعتراض ؟ "
فكرت في الأم , ثم قلت : " كلا , بصراحة ليس لدي اعتراض . فإذا كانت هناك امرأة مختلة تقود سيدة مسالمة إلى الانتحار وتقتل خادمة صغيرة بدم بارد , فليس لدي اعتراض على عمل شيء قذر كالتجسس بهدف القبض على تلك المختلة . "
" ها لطف منك , سيدي . واسمح لي بأن أقول لك أن المرأة التي نطاردها خطيرة , فهي كأشد العابين فتكاً . "
ارتعدت ثم قلت : " في الحقيقة , علينا أن نسرع . "
" هذا صحيح , لا تظن أن الشرطة متكاسلة , فنحن نعمل على عدة خطوط . "
قالها بتجهم .
كنت أتخيل شبكة عنكبوتية واسعة تهدف إلى اصطياد الجاني ...
أوضح لي نا أنه يريد سماع قصة روز مرة أخرى لأنها أخبرته بروايتين مختلفتين , وكلما زاد عدد رواياتها , زادت احتمالات تجميع نقاط الحقيقة معاً .
وجدنا روز تغسل صحون الإفطار , ثم توقفت فجأة وأدارت عينيها ووضعت يدها على قلبها وهي تقص علينا مرة أخرى كيف اطلعت على هذا الأمر الرهيب هذا الصباح .
كان ناش صبوراً معها ولكن حازماً , وأخبرني بأنه كان يحاول تهدئتها في المرة الأولى , وكان حاسماً في المرة الثانية . أما الآن , فهو يعاملها بمزيج من الأسلوبين .
أخذت روز تقص تفاصيل الأسبوع الماصي بسعادة , وروت كيف أن آجنس كانت في غاية الخوف , ثم ارتعدت عندما حثتها روز على قول ما الذي كان يخيفها , وقالت : " لا تسأليني . " فلو أخبرتني لكنت أنا أيضاً ميتة الآن " كان هذا هو كل ما قالته روز , منهية حديثها وهي تقلب النظر إلينا بسعادة .
" ألم تلمح آجنس بما كان يخيفها ؟ "
" كلا , فيما عدا أنها كانت خائفة . "
تنهد المفتش ناش وابتعد عن هذا الموضوع , وأخذ يسأل روز عن أنشطتها في اليوم السابق .
روت روز ذلك بصراحة , حيث قالت أنه استقلت حافلة الثانية والنصف وقضت فترة العصر والمساء مع أسرتها , ثم عادت في الثامنة والنصف من نيذر ميكفورد . وقد تعقدت روايتها بفعل ما قالته عن الاحساس الغريب الذي راودها بأن ثمة شراً يحدث عصر الأمس وكيف علقت أختها على ذلك وكيف أنها لم تستطع لمس قطعة واحدة من كعكة البذور .
تركنا المطبخ بحثاً عن إلسي هولاند , التي كانت تصحح دروس الطفلين , وكعادتها كانت إلسي هولاند متعاونة . رفعت رأسها وقالت : " والآن يا كولين أنت وبراين سوف تحلان هذه المسائل الثلاث إلى أن أعود . "
ثم قادتنا إلى حجرتها . " أليس ذلك أفضل ؟ فأنا أعتقد أنه من الأفضل ألا نتحدث أمام الطفلين . "
" شكراً لك يا آنسة هولاند . فقط أخبريني مرة أخرى ؛ هل أنت متأكدة من أن آجنس لم تخبرك بقلقها بخصوص أي شيء , أقصد منذ وفاة السيدة سيمنجتون ؟ "
" كلا , لم تقل أي شيء . لقد كانت فتاة هادئة جداً , كما تعرف , ولم تكن تتحدث كثيراً . "
" على عس الخادمة الأخرى إذا ؟ "
" نعم , فروز تتحدث كثيراً . وعلي أن أخبرها بأن تكف عن وقاحتها تلك بعض الأحيان .
" والآن , هلا أخبرتني بما حدث بالضبط عصر أمس ؟؟ كل شئ تتذكرينه ."
" حسنا , لقد تناولنا غداءنا كالعاده ، بعدها بساعه خرجنا لنزهه , فأنا لا أدع الطفلان يملان أبداً . دعني أتذكر . لقد عاد السيد سيمنجتون الى مكتبه أو ساعدت آجنس في إعداد المائده ـ بينما كان الطفلان يلعبان في الحديقة ريثما أتجهز للخروج معهما . "
" أين ذهبتم ؟ "
" إلى كومبي آكر , فقد أراد الطقلان صيد الأسماك , ولكني نسيت الطعم لذا عدت إحضاره . "
" متى كان ذلك ؟ "
" دعني أتذر , لقد خرجنا حوالي لساعة الثالة إلا الثلث ـ أو بعدها بقليل , وكام من المقرر أن تأتي ميجان معنا ولكنها غيرت رأيها , وقررت أن تخرج للتنزه على دراجتها , فهي تعشق ركوب الدراجات . "
" أقصد متى عدت لإحضار الطعم ؟ هل دخلت المنزل ؟ "
" لا , لقد تركتها في السقيفة خلف المنزل . ولا أعرف بالضبط كم كان الوقت حينئذ ـ حوالي الثالثة إلا عشر دقائق تقريباً . "
" هل رأيت ميجان أو آجنس ؟ "
" أعتقد أن ميجان كانت قد غادرت . أما آجنس فلم أراها . لم أر أي أحد . "
" وبعدها ذهبتم للصيد ؟ "
" نعم لقد ذهبنا للجدول . ولم نصطد شيئاً , فنحن لا نصطاد شيئاً تقريباً , ولكن الطفلين يستمتعان بذلك . وقد بلل براين ملابسه . كان يجب أن أغير ملابسه عندما عدنا . "
" هل تقومين بإعداد الشاي كل يوم أربعاء من كل أسبوع ؟ "
" نعم , فالشاي يكون معداً في غرفة الاستقبال من أجل السيد سيمنجتون . إنني أعد الشاي فقط عندما يحضر إلى المنزل . أما أنا والطفلان فنتناوله في حجرة الدراسة . فلدي أدوات الشاي والأدوات الأخرى في الخزانة الموجودة أعلى هناك . "
" ومتى عدت ؟ "
" في حوالي الخامسة إلا عشر دقائق . أخذت الطفلين إلى الطابق العلوي وبدأت فس إعداد الشاي . ثم عندما عاد السيد سيمنجتون ونزلت لأقدم له الشاي , ولكنه قال إنه سيتناوله معنا في غرفة الدراسة . وقد فرح الطفلان لذلك , ولعبنا معاً , يبدو لي الأمر فضيعاً الآن عندما أفكر فيه ـ حيث كانت تلك الفتاة المسكينة مقتولة في الخزانة في ذلك الحين . "
" هل يذهب أحد إلى تلك الخزانة في العادة ؟ "
" أوه كلا , إنها لا تستخدم إلا لحفظ الأشياء البالية , أما القبعات والمعاطف فنعلقها في الحجرة الصغيرة الواقعة على يمين الباب الأمامي عند الدخول . ولم يذهب أحد إلى الخزانة الأخرى منذ شهور . "
" حسناً , ولكن ألم تلاحظي شيئاً غريباً عندما عدتِ ؟ "
اتسعت عيناها الزرقاوان , قائلة : " أوه , كلاأيها المفتش لم ألحظ أي شيء على الإطلاق . كان كل شيء كالمعتاد , وهذا هو الرهيب في الأمر . "
" وفي الأسبوع السابق ؟ "
" أتقصد اليوم الذي انتحرت فيه السيدة سيمنتون ؟ "
" نعم . "
" أوه , كان ذلك فظيعاً , فظيعاً . "
" نعم , نعم , أعرف , هل كنت في الخارج أيضاً عصر ذلك اليوم ؟ "
" أوه نعم , فدائماً ما أخرج وآخذ الطفلين بعد الظهر ـ إذا كان الطقس مناسباً . حيث أعطيهما الدروس في الصباح . وفي ذلك اليوم ـ على ما أذكر ـ ذهبنا إلى ناحية المستنقعات ـ ومشينا كثيراً , حتى أنني كنت أخشى أننا تأخرنا في العودة لأنني عندما دخلت من الباب رأيت السيد سيمنجتون عائداً من مكتبه ولم أكن حتى وضعت إناء الشاي على النار , ولكنها كانت الساعة الخامسة إلا عشر دقائق . "
" ألم تذهبي للسيدة سيمنجتون في غرفتها ؟ "
" أوه , كلا , فأنا لم أفعل ذلك أبداً , فهي دائماً ما تأخذ قسطاً من الراحة بعد الغداء بسبب النوبات العصبيى التي تعاني منها ـ وعادة ما كانت تداهمها بعد تناول الوجبات . وقد أعطاها الدكتور جريفيث بعض المهدئات , واعتادت الاستلقاء على الفراش ومحاولة النوم . "
قال ناش بصوت خفيض : " إذن ألا يأخذ لها أحد البريد ؟ "
" بريد العصر ؟ كلا , إنني أنظر داخل صندوق البريد وأضع الرسائل على المائدة في الردهة عندما أدخل . ولكن غالباً ما تأخذها السيدة سيمنجتون بنفسها . فهي لم تكن تنام طوال فترة العصر , بل عادة ما كانت تستيقظ قبيل الساعة الرابعة . "
" ألم تعتقدي أن شيئاً مريباً حدث لأنها لم تستيقظ عصر ذلك اليوم ؟ "
" أوه كلا , إنني لم أتصور حدوث شيء كهذا . لقد كان السيد سيمنجتون يعلق معطفه في الردهة , وقلت له : " الشاي ليس جاهزاً بعد , ولكنني على وشك الانتهاء من إعداده . "
فأومأ برأسه ونادى على السيدة سيمنجتون و قائلاً : " مونا , مونا ! " ـ وعندما لم ترد عليه صعد إلى الطابق العلوي متوجهاً نحو غرفة نومها , ولابد أنها كانت أفضع صدمة تعرض لها . وقد نادى علي , وعندما جئته , قال لي : " أبق الأولاد بعيداً . " ثم اتصل بالدكتور جريفيث ونسينا أمر إناء الشاي حتى احترق الجزء السفلي بالكامل ! آه يا عزيزتي ! لقد كان أمراً رهيباً , فقد كانت السيدة سيمنجتون سعيدة ومبتهجة على الغداء . "
قال ناش بسرعة : " ما رأيك في تلك الرسالة التي تلقيتها يا آنسة هولاند ؟ "
قالت إلسي هولاند بشيء من الغضب : " أوه , أعتقد أنها عمل شرير ـ شرير ! "
" نعم , نعم , لم أقصد ذلك . هل كنت تعتقدين أنها حقيقة ؟ "
قالت إلسي هولاند بحزم : " كلا , في الحقيقة لا أعتقد ذلك , لقد كانت السيدة سيمنجتون شديدة الحساسية في الحقيقة . كانت تضطر إلى أخذ جميع المهدئات العصبية المتوافرة , كما كانت محافظة للغاية , وأي عمل حقير كهذا من شأنه أن يسبب لها صدمة . "
صمت ناش للحظة , ثم سألها : " ألم تتلقي أياً من هذه الرسائل يا آنسة هولاند ؟ "
" كلا , كلا , لا أتلق أياً منها . "
" هل أنت على ثقة من ذلك ؟ من فضلك " ـ ثم رفع يده ـ " لا تتسرعي الإجابة , أعرف أنها أشياء بغيضة , ولا يحب الناس أحياناً الاعتراف باستلام واحدة منها . ولكن من المهم جداً في هذه القضية أن نعرف الحقيقة , ونحن نعلم تماماً أن كل ما يَرِد بها محض أكاذيب , لذا لا داعي للشعور بالحرج . "
" لكني لم أتلق سشيئاً فعلاً أيها المفتش ؟ لم أتلق شيئاً من هذا القبيل على الإطلاق . "
كانت ساخطة وأوشكت على البكاء , وبدا إنكارها صادقاً . "
عندما عادت إلى الطفلين , وقف ناش ونظر من النافذة . قال : " حسناً ’ إنها تدعي أنها لم تتلق أياً من هذه الرسائل , ويبدو أنها صادقة فيما تقول . "
" بالقطع , أنا على ثقة من ذلك . "
همهم ناش , ثم قال : " ما أريد معرفته إذن هو لماذا لم يقع عليها اختيار تلك الشيطانة كاتبة الرسائل المجهولة ؟ "
واصل كلامه دونما صبر , بينما كنت أحدق إليه .
" " إنها جميلة , أليس كذلك ؟ "
" أكثر من مجرد جميلة . "
" بالضبط , وهي حسنة المظهر بشكل غير عادي , وفي سن الشباب في الحقيقة إنها مطمع لأي كاتب رسائل مجهولة . إذن لماذا استثنيت ؟ "
هززت رأسي .
" إنها مسألة مثيرة , ويجب أن أذككر لجريفيث هذلك , فقد طلب مني أن أخبره عن أي شخص لم يتلق رسائل مجهولة . "
قلت : " إنها المرأة الثانية , تذكر أن هناك إيميلي بارتون أيضاً . "
ضحك ناش ضحكة باهتة .
" لا تصدق كل ما يقال يا سيد بيرتون , فقد تلقت السيدة بارتون واحدة بالفعل ـ بل أكثر من واحدة . "
" كيف عرفت ؟ "
" تلك المخلصة سليطة اللسان التي تعيش معها خادمتها أو طاهيتها السابقة فلورنسا إلفرود . لقد كانت ساخطة جداً بسبب تلك الرسالة , وكانت تود أن تقطع صاحبتها إرباً . "
" لكن لماذا قالت إيميلي بارتون إنها لم تتلق أي رسالة من هذا النوع ؟ "
" إنها الرقة ؛ فلغة هذه الرسائل ليست لطيفة . والسيدة بارتون الصغيرة قضت حياتها وهي تتجنب كل ما هو بذيء وغير مهذب . "
" وماذا قالت الرسالة ؟ "
" الكلام المعتاد , وإن كان يبعث على الضحك في حالتها . وقد لمحت الرسالة إلى أنها وضعت السم لأمها العجوز ومعظم شقيقاتها . "
قلت غير مصدق : " أتقصد أن هذه المرأة المجنونة الخطرة ستظل طليقة ولن نستطيع التعرف عليها وإيقافها عند حدها ؟ "
قال ناش بصوت كئيب : " حسناً , سوف نكشفها , فسوف تكتب الكثير من الرسائل الأخرى ."
" ولكنها لن تكتب المزيد من الرسائل , على الأقل الآن . "
نظر إلي قائلاً : " بلى , ستفعل . فهي لا تستطيع التوقف الآن , فهذا نوع من الأمراض المستعصية . والرسائل ستستمر , لا شك في ذلك . "
يتبع ...