كاتب الموضوع :
redroses309
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
الفصل الرابع
عطش الحب
لازمت بليندا الفراش في اليوم التالي. و عندما حضر غارث ليراها قبل أن يذهب إلى عمله قالت إنها تشعر بأنها أحسن حالا ، و مد يده ليلمس جبهتها فبادرته:
-ليس هناك حرارة... و لا لزوم للطبيب!
-و الطعام؟... هل تستطيعين تدبير أمرك؟.. لقد أحضرته لك..
-لطف منك أن تهتم بي يا غارث...
و هز كتفيه و خرج... و بدت و كأنها بعيدة عنه أكثر مما مضى. لن تستطيع لوم أحد لهذا سوى نفسها.
-سوف تمضي السيدة هوغند النهار معك إلى أن أعود ، لقد رتبت الأمر معها.
و مر اليوم ببطء ، و اتصلت السيدة هوغند بالمدرسة و إعتذرت عن بليندا. و بوجودها في المنزل ، لم تحتج بليندا إلى شيء ، فهي لا تزال شابة و عندها أطفال تربيهم ، و عاملت بليندا و كأنه من أطفالها ، حتى أمها لم تدللها هكذا من قبل:
-يجب أن أعتني بفتاة السيد غارث الجميلة.. تعليماته أن أبقى بين يديك.
-و لكن ، سيدة هوغند ، أنا لست...
و توقفت عن الكلام فلم تكن ترغب في أن تزعزع ثقتها. لقد دعاها "بفتاته الجميلة". و كيف له أن يصف الفتاة التي تشاركه المنزل؟ أكان يضع في ذهنه هذا عندما سألها عما ستفعل بمالها إذا تزوجته؟ و في الواقع ، كم من الوقت يستطيعان الإستمرار في العيش معا هكذا دون إثارة الأقاويل؟ و تابعت ردها على السيدة هوغند:
-أنا لست مريضة كثيرا... إنه إلتهاب خفيف ، و سوف يمر...
-علي أن أستدعي الطبيب إذا ساءت حالتك... هكذا قال السيد غاردنر!
عندما وصل غارث إلى المنزل ، أبكر من المعتاد ، صعد فورا إلى غرفتها. و كانت السيدة هوغند هناك ، تأخذ صينية الشاي. و جلس غارث على طرف السرير ، و أخذ يدها الساخنة و قبلها. فابتسمت السيدة هوغند و تركتهما و خرجت.. و سألته بليندا:
-و لماذا فعلت هذا؟
-إنه نوع من التغطية يا حبيبتي! فأنت فتاتي ، و الأكثر من هذا أنت خطيبتي ، و التقاليد تفرض هذا ، فنحن نعيش معا.. أليس كذلك؟
-لا تكن سخيفا يا غارث ، لنفترض أن عمتك سمعت بهذا ، فماذا ستقول.
-سترسل لي طالبة صور حفلة الزفاف.
-لن يكون هناك زفاف... لا يمكن. لا تستطيع الزواج مني.. فأنت لا تحبني!
-و هل يجب أن يكون الحب دائما من شروط الزواج؟
-بالطبع.. و كيف تفكر بطريقة أخرى؟
-كم عمرك؟ أثنان و عشرون؟ أم ثلاثة و عشرون؟ و لا تزالين في هذا العمر تحلمين بالحب الرومانسي مثل المراهقين؟
-منذ متى يعتبر الزواج عن حب حلم المراهقين فقط. الزواج دون حب لا يمكن أن ينجح... أتذكر الكلمات المنقوشة فوق الباب في الردهة: "غبي هو الرجل الذي يتخذ زوجة في حياته ، فيوم زفافه هو يوم مماته".
و ضحك ، ثم دخلت السيدة هوغند ، فانحنى غارث و قبل خد بليندا ، و دفعته بغضب عنها ، و لكن بإبتسامة عذبة على وجهها ، لأن السيدة هوغند كانت تراقبهما. و اضطرت لأن تقول:
-ستلتقط العدوى.
و ابتسم بكسل:
-قد أحب ذلك.
و قالت السيدة هوغند:
-هل هناك شيء آخر سيد غاردنر؟
و اجابها بالنفي ، و شكرها على عنايتها "بفتاته" فتنهدت:
-عمتك ستكون مسرورة جدا... هذا ما كانت تريده تماما.. أن تتزوجا.
و رن جرس الهاتف في الردهة و خرج معها ليرد.. و عندما عاد كان وجهه مكفهرا ، و كأن ما جرى بينهما لم يكن ، و قال بجفاء:
-صديقك رقم واحد.. أم هو رقم أثنين ، براد سترونغ ، يريد أن يعرف إذا كان يستطيع زيارتك؟
-الأفضل لا.. قد يلتقط العدوى.
و عندما عاد ، قال:
-أبلغت الرسالة ، و استقبلها بإستياء و عدم تصديق. أنت تعاملين أصدقاءك الرجال بقساوة أليس كذلك؟ أنا سعيد أنني لست واحد منهم!
-و لكنك قلت للسيدة هوغند إنك صديقي...
-هذا يسعدها ، فأخلاقها من الطراز القديم.. هل تريدين بعض الطعام؟ لا لزوم للامتعاض.. فأنا طباخ ماهر ، لو كنت رئيس طباخي جيميز ، لتضاعف عدد زبائنهم.
فابتسمت و قالت ساخرة:
-حسنا... أرني أسوأ ما عندك.
و نظر إليها متوعدا:
-أسوأ ما عندي أفضل من أحسن ما عندك ، أيتها الفتاة.
و لم تستطع إنكار هذه الحقيقة ، و أكلت كل ما قدمه لها بشهية.
و عندما أخذ الصينية علق قائلا:
-الطبق الفارغ أفضل إطراء للطباخ.
و قالت ضاحكة:
-هذا شيء لن أعرفه أنا أبدا...
و أخذ يضحكان ، و رن جرس الهاتف ، و وقف ممتعضا ، و خرج ، ثم عاد فورا:
-صديقك رقم أثنين: نويل جيميز ، يأسف لسماعه بمرضك و يسأل إذا كان يستطيع زيارتك.. نفس الرسالة السابقة؟
-أجل.. أرجوك..
فتنهد و قال:
-لم أكن أعتقد بأنني مدير الفرع الرئيسي ، و الذي ينحني لي كل الموظفين و يرتجفون و ينادونني يا سيدي ، سألعب يوما دور الحاجب لمدرسة فنون شابة غير معروفة.
و عندما عاد قال:
-لقد بلغت الرسالة.. و لكنه لم يوافق.. توقعي حضوره بعد عشر دقائق.
و نظر إليها ساخرا:
-بقليل من المكياج و تسريح شعرك قد تقنعينه بالإنضمام إليك ، و لكن يجب أن تفسحي له مكان في السرير لأن الأسرة الإفرادية ليست مريحة لشخصين.
-و كيف تعرف؟.
-أعرف بالممارسة...
و خرج ، فصاحت به:
-غارث... غارث... الأمر ليس كما تعتقد!
و حضر نويل ، و انحنى ليقبل رأسها ، و جلس قربها على السرير ، فابتسمت له و قالت:
-نويل أنا أريد ن أستفيد منك.
-أطلبي كل ما تريدينه يا حبيبتي! أنا في خدمتك! متى تريديني...؟
-توقف عن المزاح يا نويل و استمع : يوم السبت ، سأكون قد تحسنت ، و كنت وعدت أولاد صفي بأن أخذهم إلى الريف في نزهة ، و تمرين للرسم أيضا...
-و كيف أستطيع المساعدة؟
-هل تأخذنا بسيارتك ، إنها كبيرة...
-و ماذا أفعل أنا و أنتم ترسمون؟
-تجلس و ترتاح... و ستبدو جميلا حتى أنني قد أرسمك...
-شكرا للمديح.. حسنا سآخذكم.. و لكن العدل عدل.. يجب أن تقدمي لي معروفا بالمقابل
و أخرج علبة كبيرة من جيبه و فتحها ، و بدا فيها خاتم ماسي ضخم يلمع بشكل لا يصدق في العلبة المخملية، و قال:
-البسي هذا.
-و لكننا لسنا مخطوبين يا نويل.
-لقد قلت لك إنني لجوج.. هيا إلبسيه يا حلوتي!
-آسفة يا نويل...
-هل أستعجلك؟ حسنا.. سأنتظر!
-و لكنك ستأخذنا إلى الريف يا نويل ؟ أرجوك؟
-عندما تنظرين بهاتين العنين الواسعتين ، كيف لرجل أن يرفض؟
-شكرا..
-ألا أستحق أكثر؟
-إنني مريضة و هذا يجعلني ضعيفة.
فضحك و وقف:
-سأراك يوم السبت. في أي وقت؟ الساعة الثانية؟
و بعد أن خرج دخل غارث... و لا حظ وجهها المتورد فسألها:
-هل حددتما الموعد؟
-بالطبع لا.. و لكنه قدم لي خاتم الخطوبة.
و رفع يدها لينظر إليها فقالت:
-لقد أعدته إليه.
-إنك فتاة طيبة ، كم تحبين أن تبقي رجلك معلقا.(redroses309) أشكر الله إنني لست واحد منهم.
في الصباح التالي كانت لا تزال في السرير عندما دخل غارث ، بعد أن قرع الباب أولا.
-هل أنت أفضل الآن؟
-أجل شكرا لك. سأخرج من الفراش اليوم. و غدا أعود إلى عملي.
-و هل هذا أمر حكيم؟ و هل هو ضروري؟ على كل غدا آخر يوم في الدراسة ، أليس كذلك؟
-أجل إنه ضروري ، فمعلمين آخرين يتولون حصصي ، و هذا ليس عدلا لهم. على كل ، يوم السبت وعدت أن آخذ مجموعة من الأولاد إلى الريف ليرسموا ، و يجب أن أرتب أمر اللقاء بهم و ما إلى ذلك.
-و من سيوصلكم إلى هناك؟
-سيوصلنا نويل...
-سيمثل دور الأب؟ يتمرن منذ الآن على رعاية الأطفال.
-هذا لطف منه...
-لطف كبير أن يساعد فتاة يحبها.
و قطبت جبينها و أخذت ترتب الشراشف و هي تقول:
-مع السلامة.
-أنت تعرفين كيف تجعلين الرجل يشعر بأنه غير مرغوب فيه.. أليس كذلك؟
أحضر رجل البريد رسالة من السيدة دونيكان تقول فيها :
-أخبريني عن أحوالك يا بليندا. لقد كتبت لغارث و لكنه لم يرد ، كيف حالكما معا؟ هل خطبتما؟ لقد مضى شهران ، و بقي أربعة فقط لتستفيدا أو تستفيد القطط! أنا واثقة أن بإمكانك تحطيم حواجزه ، مع أنني أعترف أنها صلبة".
"أنتي جميلة جدا يا عزيزتي. و لك طبع جميل.. كيف يستطيع أن يعيش في نفس المنزل معك و لا يقع في حبك؟ أنت جزء من خطتي ، و أعلم أنني عجوز مزعجة ، لا بد أن طباعه أصعب مما تصورت ، بما أنه قادر على أن يقاوم سحرك حتى الآن! اكتبي لي ، و أتمنى أن تكون أخبارك جيدة... عمتك المحبة.. إيلين دونيكان"...
و بعينين دامعتين طوت الرسالة ، ثم استغرقت بالرسم ، لونت قليلا ، ثم رسمت قليلا ، و تجولت في البيت على غير هدى...
كان باب غرفة جلوس غارث مفتوحا ، فأدخلت رأسها عبر الباب بحذر و كأنه داخل الغرفة.
جلست في مقعده المفضل ، و أمالت رأسها على وسادة المقعد ثم دفنت رأسها فيها و كأنها تعانقه. و تركتها منزعجة من أفكارها و مشاعرها ، و سارت نحو الغرفة. على حافة المدفأة ،(منتديات ليلاس) كانت هناك صورة ملونة لإمرأة في أوائل الثلاثينات من عمرها ، طويلة نحيلة ، و جذابة ، و كانت تبتسم ، عند الزاوية هناك كتابة جميلة الخط و منمقة:
-"إلى غارث من لوسيا.. سأفتقدك".
إذا هذه هي الفتاة التي تركها هناك ، إنها لا تشبهني ، و مررت يدها على شعرها الأشقر الطويل ، و نظرت إلى شعر المرأة القصير البني المتجعد ، و تفرست بملابسها ، أنيقة و مكلفة ، مع لمسة من عالم الأزياء ، ثم قطبت جبينها و قد تذكرت طريقة لبسها.
بعد دوام المدرسة ، اتصل بها براد و سألها إذا كان بمقدوره زيارتها ، و كانت تشعر بالسأم ، فلماذا لا يزورها؟ و قال:
-سأحضر بعد عشر دقائق.
و استقبلته في غرفة طعامها ، فجلس و أشعل سيجارة و نفخ دخانها و فتح حقيبته و أخرج بعض الرسومات و قال:
-هذه بعض الأعمال التي قام بها الأولاد في صفك. متى ستعودين إلى المدرسة؟ غدا؟ هذا جد. لقد قلق الأولاد الذين ستأخذينهم في الرحلة.
-آمل أن لا تمطر ، أنت تعرف الريف ، لا يمكن الحصول على طقس جيد هناك في مثل هذا الوقت من السنة.
-إذا أمطرت دعيهم يرسمون المطر... المطر الحقيقي ، إنه تمرين جيد.
الساعة بلغت الخامسة و النصف ، و في أي دقيقة قد يحضر غارث و براد لا يزال هنا. و لكن لماذا عليها أن تهتم إذا وجد غارث براد هنا؟ إنها ليست تابعة له!
لا بد أن غارث قد لاحظ رائحة دخان براد ، و بدلا من أن يصعد مباشرة إلى غرفته كما يفعل دوما ، دفع باب غرفة جلوسها. و أحنى رأسه لبراد بالتحية ، و نظر إلى بليندا بغضب ، ثم نظر إلى الرسومات المنتشرة على الطاولة و خرج ، تاركا الباب مفتوحا.
و عندما غادر سألها براد:
-لماذا فعل هذا؟ ماذا كان يظن أننا نفعل؟ نقوم بخيانته؟
-براد.. إنني لست متزوجة منه.
-قد يظن أي شخص آخر أنك متزوجة منه. لا أستغرب أن يقوم بتقييدك إلى الباب ، و بدلا من أن يكتب أمامك "إحذروا هذا الكلب" يكتب "إحذروا هذه الإمرأة" إنها لي...
و ضحكت بليندا:
-لك أفكار غريبة يا براد. لقد قلت لك إنه يعترف بنفسه بأنه يكره النساء.
-ليس هناك رجل طبيعي يكره النساء يا عزيزتي ، و خذي كلامي على محمل الجد ، هذا الرجل طبيعي تماما...
-إنه لا يطيق رؤيتي!
-ما بالك؟ لست واقعة في حبه؟
و احمرت وجنتاها ، فبراد يلاحظ بدقة كبيرة.
-أحبه؟ أستطيع أن أحب قطعة من الصخر بسهولة أكثر. إنه مصنوع من الصخر...
و جمع الرسمات و هو يقول:
-سأذهب عند أهلي لقضاء الأعياد.
ثم سار نحو الردهة و عاد ليقول:
-ألن أحصل على قبلة وداع؟
فأجابته:
-آه منكم أيها الرجال و من العناق.
و تقدمت نحوه و عانقته قليلا ، فقال:
-أيجب عليكي أن تكوني جذابة هكذا؟ لولا ذلك لما غازلك الجنس الآخر.
بعد أن حضرا وجبة عشائهما ، أخذ غارث طعامه و ذهب إلى غرفة الطعام. و أرادت أن تسأله لم هو غاضب منها؟ و ماذا فعلت له هذه المرة؟ و لكن الجو المتوتر بينهما منعها من السؤال.
بعدما أنهت غسيل أطباقها ، مرت من أمام غرفة الطعام بصمت ، فتقدم نحو الباب و قال:
-من سمح لك بدخول جناحي الخاص أثناء غيابي!
و احمر وجهها... كيف عرف؟ هل ملأ الغرفة بأجهزة تجسس؟
-و لكنني... لم...
-بل دخلتي.. لدي دليل أنك دخلتي...
و لحقت به إلى الداخل.. و مد يده إلى وسادة صغيرة موضوعة ، على الطاولة و قال: -الدليل رقم واحد.
و أشار إلى شعرتين شقراوين طويلتين متعلقتين بالمخمل الأزرق. و نظر إلى شعرها و نظر إلى الشعرتين:
-إنها لك.
-أنا آسفة.. و لكني لم أفعل شيئا خاطئا.. إنني فقط ...
فقط ماذا؟
هل عانقت الوسادة ظانة أنها أنت؟.. لقد جلست هنا فقط!
-و لكن لماذا؟ لديك جناحك الخاص.
-لقد كنت ضجرة... لا يوجد أحد أتكلم معه ، و لا شيء لأعمله. و أنا لن أمانع لو دخلت إلى غرفتي. فليس لدي شيء أخفيه ، فأنا أثق بك و عليك أن تثق بي.
-أوافق... و لكنني لا أحب أن تنتهك أملاكي على يد...
-تابع كلامك.. قلها.. قل على يد إمرأة ، و خاصة إمرأة تكرهها.
-يا فتاتي العزيزة.. أنا لا أكرهك... إنني فقط...
-إنك لا تهتم بي... و كأنني لا أعرف هذا!
و استدارت لتبتعد ، و لكنه أمسك بيدها و جذبها إليه.
-هل يهمك أن لا أهتم بك؟
-الأمر فقط.. أن لا أحد يحب أن يتجاهله الأخرون ، و أن يعامل و كأن الأمر لا يهم إذا كان موجودا أم لا...
-و لكن... لديك أصدقاء شبان كثيرون "يهتمون" بك. فلماذا تهتمين إذا لم أفعل أنا؟
و سحبت يدها منه و قالت بغضب:
-لقد قلت إنني آسفة ، لن يحدث هذا مرة ثانية.
و رد عليها:
-لقد سمعت هذا القول من قبل.
-لقد أغلقت باب غرفة نومك ، حسنا ، أقفل أبواب كل الغرف، فأنا لا أهتم!
و استدارت لتركض صاعدة السلم ، و رمت نفسها على الأريكة في مرسمها ، و حدقت في السقف ، كم ستسطيع تحمل الصدام معه؟ لقد قالت عمته "حطمي حواجزه" و لكن كيف لأية إمرأة أن تجد طريقة لأختراق دفاعاته الصلبة؟
صباح يوم السبت ، بعدما تناول غارث إفطاره ، حضرت لنفسها بضع سندويشات و بعض الكعك ، و زادتها قليا إحتسابا للطوارئ. كانت ستلتقي الأولاد عند باب المدرسة ، فقد وعد نويل أن يلتقي بهم هناك. و رن جرس الهاتف ، و كان نويل المتكلم ، و كان صوته ملئ بالإعتذار و الأسف:
-آسف حبيبتي... هذا المؤتمر يجبرني على البقاء. والدي غائب ، لذا يجب أن أبقى... ثم هناك عشاء سيتبع المؤتمر ، و من واجبي أن أكون موجودا ، أكره أن أخذلك. ربما تستطيعين إستئجار باص؟ و إلا عليك بإلغاء الرحلة.. آسف يجب أن انهي المكالمة...
و جلست بليندا على السلم و وضعت رأسها بين يديها. ماذا ستفعل؟ هل تخيب أمل الأولاد؟ و سمعت وقع خطوات وراءها ، و تنحت لتسمح لغارث أن يمر. فقال لها:
-آسف ، لقد سمعت حديثك هل خذلك نويل جيميز.
-ليس الذنب ذنبه.
-أنا لا أقول أن الذنب ذنبه... كنت فقط أنوي عرض المساعدة ، و لكن...
و استدار ليعود أدراجه ، و لكنها ركضت وراءه و هي تصيح:
-غارث!
و وقفت أمامه:
-أرجوك.
و وضعت يدها على ذراعه
-هل ستساعدني؟ سيكون رائعا لو أنك أخذتنا.
-الأطفال سيخيب أملهم إذا لم يذهبوا.. سآخذك من أجلهم فقط...
و سقطت يدها عن ذراعيه.. من أجلهم فقط... و ليس من أجلها. حسنا! ماذا كانت تتوقع منه؟ و ابتسمت:
-إذا تغذيت الآن.. أجل.. ما رأيك بتناول الشاي؟
و ركضت نازلة السلم نحو المطبخ و هي تصيح:
-سأصنع بعض السندويشات لك...
-سأصنعها بنفسي...
-كما تحب... لقد صنعت إبريقا من القهوة..
-سأصنع واحدا لي...
و عضت شفتها ، أليس هناك شيء يرغب في مشاركته معها؟
و جلس المراهقون الخمسة ، ثلاث بنات في الثالثة عشرة ، و صبيين في نفس العمر ، في السيارة على أحضان بعضهما. و ساد الهرج و الضحك في المقعد الخلفي لسيارة غارث. و كانت المرة الأولى التي تركب فيها بليندا في سيارة غارث. و قالت هذا ، فرماها بنظرة غريبة ، مقطبا:
-من النادر أن أسمح لإمرأة أن تجلس بقربي ، المقعد الأمامي لم يستخدم بعد.. و يجب أن يستخدم...
-أتفكر بأن تتخذ لنفسك صديقة ، و لكن لديك واحدة ، أليس كذلك؟
-و ماذا تعنين؟
تلك الصورة في غرفة الجلوس.. لوسيا.. التي تشتاق إليك.
و إبتسم قائلا:
-ظننت أنك لم تسترقي النظر في ذلك اليوم عندما دخلتي الغرفة.
-لو علمت عمتك بأمرها ، لما وضعتك في هذا الموقف السخيف المتعلق بي! لماذا لم تكن صادقا معها؟ لماذا لم تخبرها عن صديقتك التي تركتها تنتظر؟
-هذا ليس من شأنك! على كل أنا مصنوع من حجر ، أليس هذا رأيك! لذا فما نفعي لأية إمرأة؟
-لقد سمعت ما قلته لبراد!
-ألم تقصدي أن أسمع؟ كم من المؤسف أنني لست قطعة من الصخر المنحوت. لكنت وقعت في حبي بسهولة أكثر... أليس هذا ما قلتيه؟
-و ما نفع وقوعي في حبك؟ مكان قلبك يضيع فيه نهر جوفي!
و إبتسم غارث إبتسامة ساحرة..
و وصلوا إلى الوادي حيث يقصدون. كتل من الصخر المستطيل تقبع بروعة على ضفتي النهر. و ركضت البنات نحوها ليستكشفنها ، و أخذ الصبيان يضحكان و يلاحقانهن ، مهددان بدفعهن إذا لم يسرعن في سيرهن ، و وصلوا إلى الجانب الآخر من النهر.
و أمسك غارث بيد بليندا.
-تعالي... سأتأكد من وصولك إلى الضفة الثانية دون أن تقعي في الماء الجاري.
و خاضا إلى أول صخرة ، ثم إلى الأخرى ، تاركا لها الوقت لتدوس على الصخر المنزلق من الماء ، و صاح أحد الصبية:
-ادفعها في الماء يا سيدي.
-إذا لم تحسن تصرفها سأفعل!
و مضيا في طريقهما ، صخرة خلف صخرة ، و كانت بليندا مسرورة لأن غارث يمسك بيدها عندما كانت قدمها تنزلق مرة بعد مرة.
و عندما وصلا إلى الضفة الأخرى ، رفعها غارث و طوق خصرها بذراعه و أمسك بها قريبة منه للحظات قطعت أنفاسها. و تمتم قائلا:
-لا أريدك أن تقعي إلى الخلف...
و بينما ساروا جميعا ، انزلقت يده نحو يدها و أمسكها و كأنه لا ينوي أن يدعها تهرب من قبضته. و لأنها لم تكن ترغب في أن تترك يده ، كان من المستغرب أنه يرغب في أن يمسكها ، و سارت إلى جانبه ، و وجهها يعبق بالسعادة ، و ألوان عينيها تماثل ألوان النبات و الشجيرات و الأزهار من حولها.
كان يوما ممتازا للرسم و التلوين. و تجمع الفريق حول بليندا التي أخذت تشير إلى تباين الظلال و الشمس ، و كان فوقهم الصخور العالية ، و العشب الأخضر اللامع يحاذي المياه ، و شرحت لهم ، ما يفعله الماء و الريح عبر العصور في أماكن محددة من الصخور ليشكلها بأشكال غريبة ، مثل تلك الصخرة التي تماثل الأسد الجاثم ، لمن لهم الخيال ، و إبتسمت بسعادة لغارث الذي وقف يراقبها و يستمع. و قالت لهم:
-تستطيعون رسم و تلوين أي شيء تحبونه. نفذوا ما ترسمونه بطريقتكم الخاصة ، و حاولوا أن تتذكروا كل ما علمتكم في المدرسة حول "النظرة الخاصة" عوضا عن التطلع فقط. إذا كنتم تتطلعون إلى شجرة ، لا تنظروا فقط إلى أوراقها و أغصانها ، بل إلى المسافات بين هذه الأوراق و الغصون ، تستطيعون في الواقع أن ترسموا هذا الفراغ بدل الشجرة نفسها. و ستكون النتيجة مهمة...
و تفرقت المجموعة ، غير بعيد ، و أخرجت أدوات الرسم الخاصة بها و تجول غارث قليلا ، ثم قرر أن يستكشف الوادي بعمق أكثر. و خاب أمل بليندا ، فقد تمنت لو أنه بقي معها ، و لكن روحه الاستقلالية لا تتركه يستقر في مكان واحد ، و هذا ما سيعذب أية إمرأة قد يتزوجها في يوما ما.
و بدأت الغيوم تتجمع في السماء ، ثم تتكثف ، و لكنها لم تلاحظها. كما لم تلاحظ أن غارث قد رجع ، و جلس على مسافة قريبة منها يحدق بها.
كانت تسمع ضحك البنات و الصبيان و هم يتجولون بعض الأحيان مفتشين عن منظر أجمل. و استلقى غارث ليرتاح على كوعه ، و هكذا استرعى انتباهها. و حضرت بسرعة ورقة رسم جديدة و بدأت ترسمه ، و هو ثابت في مكانه مثل الصخور التي تحيط به ، مستغرق في أفكاره. و حاولت أكثر من أي شيء آخر أن تلتقط في رسمها الذكاء الذي يشع من عينيه ، بينما كانتا تجولان في المكان ثم تستقران ثانية عليها. و عندما أنهت الرسم خبأته بين الأوراق الباقية. و تنهدت دون قصد فنظر إليها، ثم وقف و انضم إليها و أخذ قلبها يتجاوب خافقا.
-يبدو أنك تحبين عملك.
-إنه حياتي...
-التدريس أم الرسم؟
-الأثنان معا. أحب أن أفتح عيون الأولاد على الأشياء من حولهم. ليس الجمال فقط ، بل الحزن أيضا ، الظلال كما ضوء الشمس أعلمهم الفن ، أعتقد أن هذا يعلمهم الحياة نفسها.
-إذا أنت لست فنانة عصرية ، أعني تلك التصميمات الغامضة و الألوان التي لا معنى لها؟
-بالطبع أنا فنانة عصرية. و لكنني لم أترك الفن التقليدي. كل منهما لديه شيء يعطيه للآخر.
-مثل الرجل و الإمرأة؟
-طبعا.. و لكنك لن تستطيع تصديق هذا لكرهك الأعمى للمرأة!
-أعترف أن لدي قناعات معينة.
-أنت صعب المراس!
-حسنا.. لقد عشتي معي لفترة شهرين الآن ، و يجب أن تكوني تعرفينني الآن جيدا..
-أنا لم "أعش معك" و أنت تعرف هذا.
-و لكن زملاءك لا يعرفون هذا. ماذا تعتقدين أنهم يظنون؟
-لا أهتم بماذا يفكرون! كل العالم يتوقع أن يكون تصرف الفنان شاذا ، و ماذا عن زملاءك؟
-إنهم لا يعرفون شيئا عن حياتي الخاصة. و هم يعتقدون أنني أعيش وحيدا.. لقد.. وصلتني رسالة من عمتي..
-و أنا كذلك.
-أعتقد أنها قالت نفس الشيء لك... متى الزفاف؟
-تقريبا... ماذا ستقول لها؟
-لا شيء... لن أرد على رسائلها.
-هكذا قالت. أظن أن هذا أمر ردئ منك. إنها عجوز رائعة...
-اكتبي لها عن كلينا ، و أخبريها أننا نتقدم بنجاح. قولي لها إننا نمسك بخناق بعضنا أكثر من الأول. لو كتبت أنا فماذا سأقول؟ هل أقول إن لديك اثنان على الأقل يحبانك و يتوسلان إليك للزواج منك؟
-هذا كلام خاطئ... فهما لا يحباني بالمعنى الذي تقصده.
-لا؟..
-لا.. إنهما مجرد أصدقاء.
و ضحك... و عاد الأولاد بسرعة بعد أن بدأت قطرات المطر تتساقط ، و ساعدها غارث بتجميع أدواتها و نظر من حوله:
-لنجد مكانا نلجأ إليه.
و قال صبي يدعى كنيث:
-هناك مغارة هناك.
و تبعه الجميع و وصلوا إلى المغارة. و كانت المغارة مظلمة و لا يوجد معهم ما يشعلونه. فتجمعوا معا قرب فتحتها ، و كان هناك بعض الحجارة التي جلسوا عليها و تناولوا الطعام و الشاي و هم ينظرون إلى المكان و قد غرق بالمطر. و إلى النهر الذي تسارع تدفقه كثيرا ، و الأغصان التي أنحنت بفعل ثقل المطر. و شعرت بليندا بإرتجاف من البرد مفاجئ... فتقدم نحوها و جذبها إلى قربه واضعا ذراعه حول خصرها. فحاولت أن تبتعد عنه ، و لكنه قال لها بصوت خفيض:
-إذا لم يكن هناك شيء أستطيع إعطاؤه لك ، فعلى الأقل سأعطيك بعض الدفء من جسمي. دعيني أقول لك سرا. أنا لست من حجر. لدي مشاعر و حرارة ، و عاطفة.. أنا من دم و لحم.
و إرتجفت ثانية ، ليس من البرد ، بل من شعورها بقربه منها ، و من ضغط جسده عليها. و للود المثير في صوته. و لكنها قالت محاولة أن تسخر:
-لن تستطيع خداعي.
-هل هذا تحدي.
-لا...
و شدها إليه أكثر و حاولت أن تبتعد ، و لكن متأخرة ، فقد وجدت نفسها بين ذراعيه ، و لفترة قليلة ، ثم جذبت نفسها مبتعدة عنه. و بجهد تمالكت نفسها ، و قالت للآخرين محاولة إيجاد جو تستطيع التوازن فيه:
-المطر بدأيخف لذا لنحاول أن نركض ، لا تتركوا شيئا خلفكم.
و أوصل غارث الأولاد واحدا واحدا إلى منازلهم ، و تلقى شكرهم و لوح بيده مودعا لكل منهم. و تمتم كنيث لهما و هو يضحك:
-حظا سعيدا سيدي ، آنستي.
و شكرته بليندا بإبتسامة ، و لكن عندما ذهب التفتت إلى غارث:
-سيعتقدون الأولاد أن هناك شيئا بيننا و سيقولون لأباءهم ، و...
-ظننت أنك قلتي إن الأمر لا يهمك؟ على كل هناك شيء بيننا... كمية ضخمة من المال.
و نظرت بليندا من نافذة السيارة ، و لاحظت أن الطريق الذي يسيران عليه لا يقود إلى منزلهما.
-أين أنت ذاهب؟
-لنتعشى...
-و لكن... بهذه الثياب؟
-و ما بها هذه الثياب؟
-وجهي... و شعري...
-هيا.. مشطي شعرك ، و ضعي بعض المكياج... و لكن ليس من أجلي ، أنا واثق أن نويل جيميز سيحبك كما أنت.
-أتأخذني إلى جيميز؟ لا أستطيع الذهاب إلى هناك...!
-و لماذا لا؟ إنه أفضل مطعم في المدينة. و أفضل مكان هو ما يناسب المرأة التي إختارتها عمتي لي لأتزوجها.
-لا تكن غبيا هكذا يا غارث ، فنحن لن نتزوج...
-ها قد وصلنا...
و أوقف السيارة ، ثم رافق بليندا إلى المطعم ، و بينما هما يدخلان وضع ذراعه حولها و جذبها نحوه. و كان نويل يقف في الردهة. و اتسعت عيناه بالدهشة ، ثم انقلبت إلى عدائية عندما شاهد غارث ، و لكن لتعلمه ضبط أعصابه في عمله ، إبتسم لهما إبتسامة زائفة... و أحنى غارث رأسه و قال لها هامسا:
-خلصي نفسك من هذا الموقف.
و زجرته بنظرة من عينيها ، فابتسم لها إبتسامة ساخرة. و رفع نويل يده مرحبا:
-أهلا بليندا... كيف كانت الرحلة؟ من أخذك ، أحد الأباء؟
-لا.. لقد أخذنا غارث.
-أوه.. هذا جيد.. عذرا يجب أن أذهب.. تمتعا بوجبتكما. سأعطي تعليماتي لرئيس السقاة ليخدمكما.. هذا أقل شيء أقدمه لفتاتي الجميلة!
و تناولا طعامهما ، و كانت الخدمة ممتازة و الطعام شهي. أفضل ما يمكن أن يقدم هذا المطعم الفاخر. و كان غارث يحاول جهده أن يرضي الفتاة التي ترافقه.
و علمت بليندا سبب ما يقوم به.. لمجرد إزعاج نويل... الذي كان يتجول في المطعم ، و في إحدى المرات و هو يمر ، وضع غارث يده على يد بليندا ، و سألهما نويل ، كمدير للمطعم ، إذا كانا يتمتعان بطعامهما. و أجابه غارث بكل كبرياء رجل الأعمال الناجح:
-بشكل ممتاز سيد جيميز! سنعود أنا و بليندا إلى هنا مرة أخرى!
و تركهما و ذهب. و التفت إليها غارث :
-هل نذهب إلى المنزل يا بليندا؟
و بينما هما يغادران توقف غارث لينظر إلى لوحات بليندا. و حدق بكل واحدة منها عن كثب متفحصا. و ظهر نويل و وقف عند طاولة الاستعلامات. فتقدم غارث نحوه و أومأ برأسه محييا ثم دفع فاتورة العشاء. و قال:
-أحب أن أشتري واحدة من هذه اللوحات.
-و لكن يا غارث... أستطيع أن أعطيك واحدة.. لا حاجة لأن...
-أعطني لوحة المنظر الطبيعي ، أرجوك.
و التفت إلى بليندا:
-و هل أقبل هدية من الفتاة التي أسكن معها؟ حبيبتي.. يجب أن يكون الأمر معكوسا. يجب أن أعطيك أنا الهدايا، لكل ما تقدمينه لي... من لطف..
و أعاد النظر إلى وجه نويل.
-كم ثمنها سيد جيميز؟
و ذكر له نويل الثمن و تحرك نحو الجدار ليحضر اللوحة ، و أخرج غارث دفتر شيكاته و قال:
-سأضاعف المبلغ.
و تمتمت بليندا و هي تجذب أكمامه:
-غارث.. لا حاجة لذلك.. اللوحة لا تستأهل كل هذا.
فابتسم لها ، ثم أخذ اللوحة التي غلفها له نويل.
-أنت متواضعة كثيرا يا حبيبتي! لا يجب عليك أن تقللي من قدرك هكذا.
هل أستطاع نويل أن يلاحظ السخرية في صوته و الزيف في قوله؟
و لاحظت على وجهه الاضطراب و البؤس... و كان غارث قد خرج...
****************************
|