المنتدى :
الارشيف
رواية ( البعد الخامس ) للكاتب طالب عمران ...
... البعد الخامس ...
مقدمة
لا شيء يتكرّر في حياة الإنسان، ما ذهب لن يعود، اللحظات التي يعيشها تنقضي ولا رجعة إلى الماضي.. للزمن اتجاهه الإيجابي، نحو الأمام، وهو اتجاه واحد ليس لـه إياب...
نحن في هذه اللحظة نختلف عمّا سنكون بعد ساعة لأنه سيمر علينا ساعة سيتغيّر فيها مكاننا الفيزيائي، يتغيّر فيها موضع الأرض في الفضاء، وموضع المجموعة الشمسيّة أيضاً وموضع المجرة..
ربما كانت ساعة لا شيء في عمر الكون.. لو حسب الإنسان أنه مهما امتد عمره سيموت، ولا خالد إلا الله عزّ وجل لو فكّر بالموت لقلّت أطماعه، ولما اعتدى على أخيه أو ارتكب أعمالاً دنيئة.. ولكنه يتناسى ذلك ويتصرّف كأنه يعيش أبداً
عمر الإنسان ليس سوى لحظة صغيرة في عمر الكون لكنه رغم ذلك يؤثر ويتأثر ويترك بصماته أحياناً..
ليس الموت هو نهاية الإنسان المطلقة، ربما كانت نهاية جسد وليست نهاية كائن عاقل تغلفه الأسرار ويغلفه الغموض..
-1-
ها قد عدتُ أخيراً إلى الهند، البلد الذي عشت فيه أجمل سنوات عمري.. وما زال السفر إليه يشدّني بقوة..
أقف مشدوهاً أمام لوحة في معرض من الصور والتماثيل والرسوم المعقدة يقام بمناسبة دينية عند الهندوس هي مناسبة (الدوشارا) ذكرى انتصار (راما) على (راوان) ملك لانكا، كما روتها ملحمة الراميانا الجميلة.. وقربي يقف رجل كهل كان يتأمل اللوحة بعمق كانت لوحة ساحرة فعلاً تمثل شجرة البشرية، وقد عُبّر عنها بشخص متقدم في السنّ له أيدٍ كثيرة وخيالات ترتبط برأسه تبدو متقنة في رسمها..
-أترين كم هي جميلة يا لينا؟
-فعلاً تبدو معبّرة عن الإنسان بطموحاته وخيالاته.. بأحلامه وكوابيسه..
-لنتابع جولتنا، توجد صور أخرى هامة أيضاً.
أتابع وزوجتي الجولة في المعرض.. نقف أمام مشهد من (المهاباراتا) يمثله ممثلون شبان طلوا وجوههم بالأبيض والأخضر.. يشرعون حرابهم وأقواسهم في لقطة جامدة بلا حركة.. كأنها لوحة مجسّمة لآل (باندو) بصحبة كريشنا..
-الوقوف هكذا ليس سهلاً..
-بالطبع يا لينا، ولكنهم يمارسون اليوغا وقد اعتادوا على القيام بمثل هذه الأعمال
-انظر إلى (شجرة البشرية) اللوحة المدهشة، ذلك الرجل ما زال يقف أمامها محدّقاً مذهولاً
-مضى عليه أكثر من ربع ساعة.. يبدو غريباً عن هذه البلاد
فكرت: ((ترى ما الذي توحي له هذه الصورة، حتى غرق في خيالاته معها إلى هذا الحد؟))
أيقظتني لينا من شرودي: ((لقد تعبت.. سنعود غداً إن سمح لنا الوقت))
نستقلُّ (سكوترا) في طريقنا إلى الفندق، همست لي:
-هذا أول يوم نقضيه في الهند، يجب علينا أن لا نضيّع الوقت دون أن نستثمره جيداً، ونحن في بلد الأساطير.
بعد الاستحمام، جلست على طرف الكنبة أقلّب إحدى المجلاّت المصوّرة كانت لينا منشغلة بكّي بعض الثياب..
غفوت قليلاً وقد استبدّ بي خدرٌ لذيذ وأنا أُحلّق بخيالاتي في المعرض.. صحوت على يدها تشدّني: -انهض.. حان وقت العشاء
وأنا أرتدي ثيابي سمعت صراخها:
-تعال إلى هنا.. عجّل
-ما الذي حدث؟
-انظر إلى هذا الرجل الذي يجري المذيع حواراً معه، أليس هو الرجل الذي لفت نظرك في المعرض اليوم؟
-فعلاً.. يبدو أنه شخصيّة هامة
-كتبوا اسمه.. إنه الدكتور (ماهر الضامن) عربي.. ترى ماذا يفعل الرجل هنا؟
تابعت بعض الحوار على الشاشة الصغيرة، كان الدكتور ماهر يتحدّث الإنكليزية بطلاقة.. ويحكي عن قدرات الإنسان الخارقة، وبعض التجارب التي أجراها في هذا الاتجاه..
هبطنا مطعم الفندق للعشاء، وبين من كانوا يتناولون العشاء، كان الدكتور ماهر الضامن، إنه في نفس الفندق إذن؟ همست:
-يبدو وحيداً.. هي فرصة لنتعارف
-ما رأيك لو دعوته بعد العشاء لفنجان من القهوة التركية؟
-فكرة معقولة
كنت ملهوفاً وقد رأيته أنهى طعامه، أن أتجه إليه، وأبدأ الحديث معه، قابلني بابتسامة ودعاني للجلوس إلى طاولته، فاعتذرت بأنني لست وحيداً وأنني وزوجتي نزورُ الهند، لبعض الوقت وعرفته على اختصاصي العلمي.
-أنا أحضر مؤتمراً علميّاً عن طبّ النفس والخوارق.. والهند محطّة هامة في حياتي.
-وأنا درست فيها أيضاً لسنوات، وأشعر نحوها برابطة ساحرة تشدّني إليها باستمرار .
-تلك المرأة هناك هي زوجتك؟.
-نعم.. ونتمنى أن تشاركنا في تناول القهوة التركية!
كان الدكتور (ماهر) يزور الهند بدعوة رسمية من جامعة (جواهر لال نهرو) للمشاركة في مؤتمر (طب النفس والخوارق) وقد اشتغل فرصة وجوده في الهند، وهو عالم نفس مشهور بأبحاثه فجال في الهند في المناطق التي تمارس فيها اليوغا، والتقى مع أناس مشهورين بقدراتهم الخارقة:
سألته وأنا أستمع لحديثه بعمق:
-وما الذي شدّك في ذلك المعرض إلى تلك الصورة التي تمثل كهلاً كأنه شجرة متفرّعة؟
-لو كنت تهتم بأسرار النفس البشرية، لعرفت أن الصورة تعبّر عن اتساع العقل البشري وآفاقه الكونيّة، إنها مصورة بطريقة مدروسة تدهش المتعمّق في دراسة النفس البشرية.
-اسمع يا سيدي، منذ زمن طويل وأنا أهتم بالبحوث عن الخوارق وأسرار الدماغ، ولكن خيالي ليس جامحاً إلى الحدّ الذي ينقلني إلى عوالم خرافيّة.
ابتسم وأطرق للحظات قبل أن يرفع رأسه وهو يحدجني بعينيه النفاذتين:
-لو تعرّفت على أسرار عوالمنا الداخلية، لأيقنت أن قوانا المجهولة خرافيّة بطاقتها الكامنة.
-أحاول أن أفهمك.
-يبدو الحديث غريباً عليك؟
-ليس إلى هذه الدرجة يا دكتور.. أرجو أن لا تفهمني بشكل مغاير لما أنا عليه.. آه يا سيدي.. ربما كان انغماسنا بمشاكل العصر الماديّة، قد طغى على الجانب الآخر من تفكيرنا..
ولكن ثق يا سيدي أنني مندهش لحديثك، وأتوق لسماع المزيد منه
-حسنٌ، أتعلم ما الذي أوحت لي به الصورة؟
-لا..
-أوحت لي أن ما فعله جدّي الدكتور (حامد) لم يكن خيالاً..
-جدّك الدكتور حامد؟
-إنها قصة طريفة، لا أدري إن كان لديك الوقت لسماعها..
-أكون سعيداً لو سمعتها..
-جدّي الدكتور حامد هو عالم (بيولوجي) معروف..
-ما زال يعيش حتى الآن؟
-رغم أن عمري يزيد عن الخامسة والخمسين، ولكن جدي ما زال حيّاً، قد يبدو هذا الكلام مبالغاً فيه.. ولكنها الحقيقة.
-إذن جدّك من المتقدمين في السن الآن؟
-عمره (139) عاماً..
-إنه من المعمّرين إذن؟ هل يعيش بينكم؟
-لا نراه إلاّ في فترات متباعدة.. تصوّر أنني منذ ثلاث سنوات لم أره
-وكيف تعرفون أنه حيّ؟
-من رسائله.. إنه يرسلها بانتظام، وهي ليست رسائل طويلة.. فقط تحوي عبارات قليلة تتحدّث أنه بخير، ويجب أن لا نقلق عليه..
-وأين يعيش؟
-لا أحد يعلم.. حاولنا معرفة مسكنه أكثر من عشرين مرّة ففشلنا كان يختفي بسهولة عن أعيننا ونحن نتابعه
-وما سرّ هذه القوّة التي ما زال يتمتّع بها؟
-إنه يبحث في سرّ الخلود، وقد نجح في إطالة عمره على طريقة (فولكا نللي).
-حجر الفلاسفة؟
ضحك وهو ينظر إلي ثم قال بهدوء:
-توصّل إلى تركيب يشبه في مفعوله، مفعول حجر الفلاسفة الخرافي..
-يبدو شخصية فريدة فعلاً..
-وماذا أقول؟ إنه حديث طويل.
همست لينا بخجل: -ما رأيك يا دكتور لو نغيّر المكان؟ أقصد أن ندعوك لتناول القهوة العربية في غرفتنا في الفندق.. هناك سوف..
قاطعها: -بل اسمحا لي أن أدعوكما للجلوس في مكان هادئ في دلهي القديمة إنه أكثر جاذبية من الفندق..
لم تعترض على فكرة الدعوة.. شدّنا إليه بحديثه الساحر وشخصيته الهادئة المتدفقة بالمعرفة والعلم..
قطعت السيارة مسافة كبيرة وهي تخترق الشوارع العريضة وقد امتلأت الأرصفة بالمشردين وباعة السجائر والأطعمة المطبوخة بالبهارات الهندية التي وصلت روائحها إلينا.
كان الدكتور (ماهر) يتحدث الهندية بطلاقة.. وقد استغرب اتقاني لها.. سألني:
-كيف تعلمت الهندية؟
-اختلاطي بالناس وسفري المتواصل متجولاً في الهند خلال فترة دراستي جعلني أتعلّم الحديث بالهندية، وبالتدريج تعلّمت القراءة والكتابة.. في البداية شعرت بصعوبة، لاختلاط الأحرف الكبير ببعضها، ولكنني تمكنت أخيراً من تعلمها جيداً.
أوقف السائق السيارة في مكان مزدحم قليلاً.. وأصرّ الدكتور ماهر على دفع الأجرة..
دخل يتقدمنا إلى بناء بدا لي عادياً، وحين أصبحنا في الداخل، ميّزت الديكور المتقن، والزخرفة الجميلة والكتابات بالهندية والأردو.. استقبلنا خادم المكان يقودنا إلى جناح صغير، إضاءته ممتازة، ويبدو منعزلاً تماماً.. طلب منه الدكتور ماهر أن يزيح الستائر، فطالعنا منظر (الريدفورت) القلعة الحمراء، وهي مزدانة بأنوارها الخلاّبة في الليل..
وقد بدت المساكن والنهر الصغير، إضافة للقلعة، بتشكيلها الرائع كلوحة جميلة متقنة الرسم.. همس الدكتور ماهر بالهندية، جملاً لم نستطع سماعها، للخادم فانحنى باحترام وخرج..
-المكان هنا أكثر شاعرية وهدوءاً.
-معك حق.. مع أنني قضيت في دلهي أكثر من سنتين.. تجولت فيها حتى في حاراتها الضيقة لم أر مثل هذا المكان.
-إنه مكان قديم.. يذكّرني بأشياء كثيرة.
تنهد بحزن: -الحياة حافلة بالأسرار.. التي تبدو أحياناً مستحيلة التصديق.
صمت لدقائق.. شدّت لينا على يدي بصمت.. كان العالم الكهل غارقاً بذكرياته يتأمل القلعة الحمراء، وقد لمحت أو خيل إلي دمعاً يترجرج في عينيه
دخل الخادم يحمل صينية، عليها فناجين مزخرفة.. وضعها أمامنا، وصبّ فيها قهوة نفذت رائحتها الذكيّة إلى خياشمنا..
-إنها قهوة عربية كما نصفها في بلادنا.. (الهيل) فيها خالٍ من الشوائب.. آه.. لا بد وأنكما متشوقان لسماع بقية الحديث عن جدي الدكتور حامد.
-بالطبع يا دكتور.
-حاولت مراراً أن أتابع جدي في اختفائه.. وسؤاله عن حياته، وعمله وأين يقيم؟
ولكنه كان يبتسم ثم يختفي فجأة من أمامي..
-كأنه يخترق الزمن؟
-لا أعتقد أنه توصل إلى اختراق الزمن.. لأن اختفاءه لم يكن على هذه الصورة التي تفكر فيها.. كان يتحرك باستمرار بسرعة حتى تأتي لحظات لا أتمكن فيها من متابعة حركته إذ أنه يختفي أمامي..
-ولم يرض أن يحدثك عما يفعل؟
-بعد إلحاح شديد، ترك لي بضعة أوراق من مذكراته، كانت كافية للحكم على تجاربه المذهلة..
-أتحمل هذه المذكرات؟
-وكيف أستطيع أن أتركها.. أحملها دوماً معي ككنز ثمين، لأن فيها خلاصة تجارب يحلم الإنسان بالوصول إلى تحقيقها.. سأحدثك أولاً عن شخصية جدي الدكتور حامد، قبل أن أطلعك على المذكرات..
-تفضل يا دكتور.. هل تدخّن سيجارة؟ مع القهوة؟
-لم أدخن طيلة حياتي.. شكراً لك.
-إذن لن أدخن أنا أيضاً.. نعم يا سيدي.. أكمل حديثك.
-كان الدكتور حامد مثالاً للإنسان العصامي المكافح، نشأ في بيئة قروية وتعلق بالطبيعة، وتمكن بفضل فهمه الشديد للقراءة أن يصل إلى ثقافة موسوعية وهو في سن مبكرة، وقد انتسب لقسم العلوم الطبيعية في الجامعة.. ثم سافر إلى دولة أوربية في أوائل ثمانينات القرن الماضي وأقام فيها لعدّة سنوات أدهش فيها أساتذته، ونال الدكتوراه في علم الخلية بدرجة شرف..
-كانت حالته المادية جيدة إذن؟
-بفضل تفوقه، كان يحصل على المنح المجانية ولم يكلف والده فلساً واحداً خلال دراسته الجامعية وتحضيره للدكتوراه
-وعاد إلى الوطن بعد ذلك؟
-نعم.. في بداية هذا القرن (القرن العشري) وكان يملك مبلغاً محترماً من عمله هناك عاد إلى الوطن، واشترى مزرعة وأقام فيها مخبراً متطوراً للبحث في علم الحياة..
-هل زرت المزرعة؟
-بالطبع.. زرتها بعد هجرة جدي إلى مكان مجهول لا نعرف عنه شيئاً وهي لا تزال مهجورة، حافظ عليها والدي وطلب منّا قبل موته عدم بيعها، لأن جدي طلب المحافظة عليها ما دام على قيد الحياة.. سأعود بك قليلاً إلى الوراء.. عندما عاد جدي من سفره إلى الوطن، كان متزوجاً من أجنبية، وكان يصطحب ولديه (والدي وعمي) أقامت الأجنبية معه، تخدمه بإخلاص، وكانت نموذجاً للمرأة المكافحة المخلصة، تحمّلت نزواته وظلّت تنظر إليه كرجل متفوّق وتعمل في سبيل إرضائه ما في وسعها.
-غريب أن تتّصف أجنبية بهذه الصفات..
-كان جدي يقول أنه انتقاها من بين مليون امرأة، وأن حدسه عنها كان صادقاً.. فلم تزعجه طوال حياتها بكلمة أو بتصرّف لا يقبله..
-منذ متى بدأ اختفاء جدك؟ أقصد هجرته الغامضة؟
-عام (1940) حين توفيت زوجته، أقصد جدّتي، وكان عمره عند ذلك (90) عاماً وكانت جدّتي في عامها الثامن والسبعين.. اختلى بعد دفن جدتي، بأبنيه، والدي وعمي، لعدّة ساعات، ثم حمل حقيبته الضخمة، وودعهما، ولم يره أحدُ بعد ذلك إلا بعد مرور ثلاث سنوات، وهو يزورنا بشكل متقطّع لفترات قليلة، ولكنّه كما قلت لك يرسل رسائل بانتظام إلينا..
-ألم يحدثك والدك عمّا دار في تلك الخلوة؟
-آه يا صديقي.. رغم محاولاتي المتكرّرة، كان يقول لي: ((إنه سرّ جدّك يا ماهر.. وقد طلب مني المحافظة عليه، فكيف أبو ح به؟))
وهكذا كان عمي أيضاً يحافظ بقوة على السرّ.. وفي إحدى المرّات التي قابلت فيها جدّي قلت له: ((أنا أدرس علم النفس يا جدّي وأريد أن أتبادل معك الحوار حول ما تقوم به)) قال لي: ((لا تزال صغيراً يا بني على فهم ما أقوم به)). رجوته أن يعطيني الفرصة، ولكنه أجابني وهو يبتسم: ((يا بني.. الإنسان في هذه الحياة فرع صغير في شجرة الإنسانية.. ولكنه قويّ خارق أن فهم نفسه وقدراته، الحياة ليست سرّاً صغيراً)) عرفت بشكل غير مباشر أنه يقوم بتجارب لمعرفة سرّ الحياة.. وحين اختلطنا في الزحام اختفى من أمامي على عادته..
-ولكن لماذا أصر جدّك على الابتعاد عن الناس؟
-عثرت في مذكراته على اسم عالم نفسي من الهند، كان باستمرار يكرّر اسمه مصحوباً بلقب صديقي..
-من هو ذلك العالم؟
-إنه الدكتور (عاصم زيدي) يقيم في (لخنو) عاصمة مقاطعة (أتّا ربراديش)
-هل زرته؟ أقصد هل زرت الدكتور (زيدي)؟
ضحك الدكتور ماهر ثم صوب نظره في اتجاه (لينا) التي سألت هذا السؤال:
-من أسباب قبولي لدعوة جامعة نهرو والمجيء إلى هنا، محاولة اللقاء مع الدكتور (زيدي) حاولت مراراً خلال زياراتي المتكرّرة للهند، اللقاء معه.. ولم أستطع، كان أهله يقولون لي باستمرار، إنه مسافر، ولا يعرفون ميعاد عودته.
ثم تنهد بمرارة: -إنه يشبه جدي من ناحية اختفائه لسنوات ثم ظهوره واختفائه من جديد..
-تبدو قضية محيّرة فعلاً؟
نظر إلى ساعته ثم صفق بيديه يستدعي الخادم:
-لقد تأخر الوقت، سأسافر غداً في الصباح إلى (لخنو).. محاولاً اللقاء بالدكتور (زيدي) من يعلم، قد أنجح هذه المرّة في لقائه..
-ستسافر بالقطار؟
-نعم.. هناك قطار يسمى (لخنواكسبريس) ينطلق في نحو الثامنة صباحاً من محطة (دلهي القديمة)..
نهضنا نغادر المكان في طريق العودة إلى الفندق.. كنت ولينا مذهولين بحديث الدكتور (ماهر) وقد شدّتنا شخصيته الساحرة.. وفضوله العلمي..
همست لينا في السيارة:
-ما رأيك لو نرافقه في رحلته إلى لخنو؟
نظرت إليها متعجباً: -ماذا تقولين؟
-إنها فرصة نادرة.. لو قبل بصحبتنا..
-فكرة مدهشة.. سأنتهز الفرصة المناسبة وأكلمه في ذلك..
-لماذا ليس الآن؟ ما المانع؟
-معك حق..
قلت بصوت مرتفع: -هل حجر المقاعد إلى لخنو ما زال معقّداً؟
-ليس معقداً، إنه صعب، بسبب الازدحام والإقبال على السفر، الهند كما تعلم بلاد غزيرة السكان..
-صحيح.
-لماذا السؤال عن حجز المقاعد؟ أترغبان السفر برفقتي؟
خفق قلبي بشدّة وأنا أجيب: -نعم..
سألت لينا: -وكيف عرفت أننا نرغب السفر بصحبتك؟
-أنا عالم نفس يا سيدتي.. أستطيع أيضاً قراءة الأفكار والتقاطها أحياناً.. على كل حال لا شيء يمنع من سفركما معي.. ولكن في هذه الحالة لن أسافر بالقطار.. ما رأيكما لو سافرنا جميعاً بالطائرة؟ السفر بالقطار قد يكون متعباً لزوجتك أليس كذلك يا سيدتي؟
-لا شيء يمنعني من السفر بالقطار يا دكتور..
-هل سافرت بالقطار من قبل؟ أنت لا تعرفين كم هو متعب أحياناً.. الازدحام.. الفقر.. الروائح.. القذارة أحياناً حتى في مقصورات الدرجة الأولى..
-سأذهب في الصباح لحجز تذاكر السفر بالطائرة..
-ولماذا تتعب نفسك؟ سيحجز لنا مرافقي الهندي، أنسيت أنني ضيف على هذه البلاد؟
وصلنا الفندق، وكانت الساعة تقارب الثانية صباحاً وحين استلم مفتاح غرفته من الاستعلامات وهمس لنا يتمنّى ليلة سعيدة، لم ينس أن يؤكد على موعد اللقاء في التاسعة صباحاً. حتى ساعة متأخرة تبادلت الحديث مع لينا، كان موضوع الحديث مغرياً مثيراً.. وقد نبتت في رأس كل منا أسئلة صعبة ظلّت بلا جواب..
غفت (لينا) على صدري.. وأنا أتأمل وجهها المرهق الجميل.. وقد أحسست بعاطفة جياشة نحوها.. وغاب ذهني في رحلة عودة إلى ذكرياتنا الأولى معاً.. كنت أحبها، وكانت تبادلني الحب، ورغم التجانس الفكري والعاطفي بيننا، تأخرنا في الزواج، خضت تجربة زواج فاشلة، وخاضت هي أيضاً تجربة زواج فاشلة.. ورغم كل ذلك ظلّ الحبّ يطرق قلبي.. ولم تتغيّر عاطفتي تجاهها.. حتى كان ذلك اليوم الذي كاشفتها فيه برغبتي في الزواج منها، وقد رأيت أنها بدأت تضيع بعد طلاقها، في علاقات سطحية وصداقات تافهة.. ترددت قبل أن تمنحني قبولها، في الزواج، وعشنا أيام سعيدة، قبل أن تهمس لي أنها (حامل).. كنت أعرف أنها تتشوق لطفل يملأ علينا البيت صخباً.. وكانت ولادتها الأولى عسيرة، وأتى الطفل الأول ثم الطفل الثاني ثم جاءت لينا الصغيرة التي ملأت علينا البيت بشاشة وأنساً..
لم تسكت الذكريات، وتنفس لينا البطيء ورأسها الراقد فوق صدري يشجعان بي الرغبة في العودة إلى تلك الأيام الجميلة.. وحين غفوت أخيراً، حلمت بالدكتور حامد، كان وجهه بلحيته البيضاء، أشبه بوجه قديس صوفي يشعّ نوراً وألقاً..
-2-
صحوت على جرس الهاتف يرن قرب أذني، كان الدكتور حامد:
-سنلتقي بعد نصف ساعة في المطعم
أغلقت السماعة.. كانت لينا قد ارتدت ثيابها:
-لم أشأ أن أوقظك بدوت متعباً
نفذت رائحة عطرها إلى أنفي:
-ما هذه الأناقة يا حبيبتي؟
-لو سافرنا بالقطار، كنت سأرتدي ثوباً مختلفاً..
-معك حق.. سنسافر بالطائرة
-أسرع.. الرجل ينتظرنا
تشابكت أذرعتنا ونحن نهبط إلى المطعم.. كان الدكتور (ماهر) يتناول إفطاره على طاولة منفردة، رفع يده ينبهنا إلى مكان وجوده.. تناولنا إفطاراً سريعاً.
-لا داعي للعجلة هل أحضرت ما طلبته منك؟
مددت يدي إلى جيب سترتي اخرج جوازي سفرنا أنا ولينا.. أشار لرجل يقف على بعد عدة أمتار حضر مسرعاً وهو ينحني، كلّمه بالهندية، وأعطاه جوازات السفر.. فانحنى من جديد وخرج..
-رأيت جدّي الدكتور حامد في نومك أمس؟
فاجأني الدكتور ماهر بجملته: -فعلاً..
-لا تستغرب لقد زارني في الحلم أيضاً، وأشار لي أنه سيزورك..
بدأنا حديثاً، شاركتنا لينا فيه أحياناً.. حول القدرات الخارقة عند الإنسان
-أتعلم؟ من السخافة الاعتقاد أن التقدم في السن، يمنح تلقائياً" الخبرة والقيادة للإنسان، فالسلطة الحقيقية تستند على الخبرة الحقيقية والكفاءة، والمعرفة والإشعاع..
-أعتقد أن العالم النفسي (بيير داكو) أشار إلى ذلك في أبحاثه.
-صحيح.
-ما الذي تريد أن تؤكد عليه يا دكتور ؟
-أريد أن أؤكد أن الكفاءة الذكية هي معاينة الأشياء بمجملها فالكفاءة الإنسانية هامة، كالكفاءة المهنية.. وكما قلت لك الكفاءة لا تأتي من التقدم بالسن.. وهناك كفاءة دعني أطلق عليها اسم (الكفاءة الحمقاء) وهي تقوم على الإلمام التام بنوع من المعرفة دون غيره، وصاحبها يعتبر نفسه فوق مستوى جميع الناس بكل شيء.
-نعم.. ولكن ما علاقة هذا الحديث بموضوع سرّ الحياة؟
-إن جدّي الدكتور (حامد) والدكتور (زيدي) يملكان كفاءة ذكيّة متطوّرة، دون أن يصخبا بالتبجج بهذه الكفاءة أمام الناس بل بالعكس كانا يهربان من التجمعات الفارغة للناس.
-معك حق في هذا.. وإن كانت هناك أسئلة كبيرة لم ألق وزوجتي الإجابة عنها بعد ..
أكدت لينا قولي
-أعتقد أن الدكتور ماهر يملك بعض الإجابات عن تلك الأسئلة الكبيرة
ابتسم وهو ينظر نحونا:
-قد تلقيان الإجابات المناسبة عن جميع أسئلتكما في زيارتنا للخنو .
نهض يحيينا بلطف:
-سيكون سفرنا في الثالثة بعد الظهر، إنه موعد إقلاع الطائرة، سنخرج من الفندق قبل الثانية بقليل أمامكما وقت كبير يمكنكما الاستفادة منه.. لدي عمل في جامعة نهرو، قد لا أعود قبل الواحدة..
تابعته ولينا وهو يمشي بهدوء خارجاً من المطعم.. وهمست لينا في أذني:
-إنه رجل غير عادي.. ربما كان من أهم الشخصيات التي لن نندم في التعرف إليها
-معك حق.. ما رأيك لو نذهب في جولة إلى (الكانات بليس) و(الجامباث) في مركز دلهي الجديدة؟
-لا بأس.. لا داعي لتبديل ملابسنا أليس كذلك؟
-نعم لا داعي
كنت أرغب في العثور على صديقي القديم (غورديب سنغ) السردارجي العجوز -لقب يطلق على السيخ- الذي ربطتني به صداقة استمرت منذ أيامي الأولى في الهند.. ولم أقل لزوجتي شيئاً..
بحثت عنه طويلاً في (الكانات بليس) وأخيراً عثرت عليه في أحد المداخل الكثيرة في دائرة السوق الملتفّة حول حديقة الوسط.. كلمته بالهندية مداعباً:
-اما زلت حيّاً أيها العجوز؟
انتفض مرحباً يشد على يدي بحرارة ثم همس بإنكليزية ممزوجة بلكنة هندية:
-أهلاً بك يا ابنتي.. أنت لينا إذن؟
انتفضت لينا مدهوشة أيضاً: -كيف عرفت؟
-رأيتكما في نومي أمس، كنت ترتدين هذا الثوب أيضاً.. اسمعي السحاب الخلفي غير مثبّت جيداً وفعلاً كان السحاب الخلفي لثوبها مفتوحاً قليلاً، يظهر جزءاً من أسفل ظهرها.. ضحك (غورديب سنغ)..
-زوجك يعرفني جيداً، لا تقلقي، ستعيشان معاً بسعادة، أنت تخافين من المستقبل، كأن عكراً يعطل عليك سعادتك، ومصدر هذا يا ابنتي التجارب الفاشلة التي مررت بها.. لا تخافي زوجك شهم نبيل، تعيشين في أعماقه.. وهو يحبك بقوة.. حباً لا مثيل له في أيامنا.
شدت لينا على يدي بعاطفة وأكمل الشيخ كلامه:
-زيارتكما للهند غنيّة، ستكسبان منها معارف كثيرة.. وهناك شخص غير عادي ستتعرفان من خلاله على أسرار لم تحلما بالوصول إليها من قبل.
صمت لبعض الوقت وسألني: -أترغب في الذهاب معي إلى البيت وزوجتك؟
-لا بأس.. أريدها أن تتعرف على بعض عوالمك.
ابتسم ضاحكاً: -عوالمي؟ أنا لا أعرف سوى القليل يا دكتور.
-هذا القليل الذي تعرفه، لم يصل إليه أحد بعد.
-لا يا بني.. هناك أناس تجاوزوني بمعارفهم وقدراتهم هل أنت متعبة يا سيدتي؟
-لا.. لماذا تسأل؟
-سنتمشى حتى البيت، إنه ليس بعيداً.
حدثني غورديب سنغ) عن محاولاته في الخروج من الجسد، وعن نجاحه في ذلك لمدة معينة، يحاول باستمرار أن يزيدها..
-لم أصل بعد إلى أكثر من (24) ساعة، أنا أحاول أن أتجاوز أضعاف هذا الرقم.
-وما الذي يمنعك؟
-أنا مضطر للعمل في (الكانات بليس) أقرأ الكفّ والطالع للسيّاج، ربما تمكنت في العام القادم من التفرغ لذلك بعد أن يستلم ولدي الأكبر عمله ويدير محلاتنا المغلقة.
-تقصد مدارس اليوغا على طريقة السيخ؟
-لا.. ابني (ديليب) وهو الأوسط، يدير تلك المدارس ويشرف عليها.. أما ابني الأكبر فسينهي دراسته في (إدارة الأعمال) من بريطانيا في نهاية هذا العام.. ابني الأصغر، انضم للمتمردين السيخ.. آه، كم حذرته من ذلك..
-إنه بعيد عنك الآن؟
-نعم.. بعيد لدرجة لا نراه فيها، لقد قتل في اقتحام الجيش معبدنا في أمريتسار.. حذرته من السياسة، ولكنه كان مخدوعاً بكلام الساسة، وأرض خلاص السيخ..
-أنا آسف لم أسمع بهذا الخبر.
-أعلم ذلك يا بني.. أنا وحيد في البيت الآن، وليس سوى زوجتي وابنتي..
وصلتم طريقاً فرعياً، والشيخ في المقدمة، ثم توقف أمام حديقة صغيرة فتح بابها ودعاكما للدخول.. فتحت صبية ترتدي (البنجابي) لباس السيخ المميّز، ودعتنا للدخول مرحبّة، وفي الصالة، أشار لنا بالجلوس واعتذر بلطف وهو يتمدد على الأرض:
-تشربان الشاي مع الحليب؟
-لا بأس
لم تكن ابنته تعرف الإنكليزية ولكنها تفاهمت ولينا بلغة الإشارة.. سأل الشيخ لينا:
-حتى لا تكون زيارتك إلى هنا ناقصة، سأريك بعض الأشياء التي أظن أنك لم تريها من قبل، حدثك عنها زوجك فقط، ولكن لم تريها..
همست شاكرة: -سوف يسعدني ذلك .
تمدد الشيخ على ملاءة، ووضع فوق صدره غطاءاً رقيقاً مع قضبان من الخشب، غطاها بغطاء آخر.. ثم بدأ يرتفع عن الأرض طائراً بهدوء.. نظرت إليه لينا مدهوشة، وبعد دقائق انخفض بهدوء.. همست:
-شيء لا يصدق أنه متقدم في السن، كيف يقوى على ذلك؟
-لا علاقة للتقدم في السنّ بهذا العمل.. إنها الخبرة والمعرفة والقدرة على التحكم بالجسد.
أراها (الشيخ) كيف تنخفض ضربات القلب إلى نبضتين في الدقيقة، وكيف يدخل في مرحلة (اللتيارجيا -السبات) ولم تشعرا بالوقت يمر سريعاً.. حتى نبهكما الشيخ:
-إنها الثانية عشرة وأربعين دقيقة.. قد تتأخران في الذهاب إلى (الخنو)
تابع كلامه وهو ينظر نحو لينا بهدوء.
-هناك أسرار كثيرة يا ابنتي موجودة داخل الإنسان، لم نتعرف سوى على القليل منها.. أراك متعجبة من معرفتي لأفكاركما.. ولمخططاتكما.. قلت لك من قبل أنا اقرأ الأفكار جيداً.. قد تتعلمان السر فيما بعد..
ودعناه وابنته بحرارة.. وعند الباب همس لنا:
-ستعودان إلي أعرف ذلك.. أتمنى لكما التوفيق في رحلتكما، إنها رحلة غير عادية.
كانت لينا مدهوشة، وهي تتعلق بذراعي ونحن نقطع الطريق عائدين إلى (الكانات بليس):
-يجب أن نسجل كل ما يحدث لنا، وما نراه، أولاً بأول..
-معك حق.. هيا نسرع، إنها الواحدة
لم نعثر على (سكوتر) فمشينا إلى موقف (للتاكسي) كانت (لينا) صامتة مدهوشة وقد احترمت صمتها وأنا أعلم أن ما تشهده أكبر من أن تعبر عنه الكلمات..
***
-3-
قلت للينا بعدما خرجنا من بيت (غورديب سينغ)- إنه صديق لأحد أعز أصدقائي الراحلين استفسرت متهمة: -ومن هو؟. قلت: -أوم باركاش سينغ.. قالت: -كأنني سمعت باسمه من قبل ..؟.
تعود معرفتي بـ (أوم بركاش سنغ) إلى أوائل الثمانينات، ففي يوم من أيام حزيران-يونيو- الحارّة وكنت أمشي في (كانات بليس) وهو سوق كبير في دلهي عاصمة الهند، استوقفني رجل مسن بلحية بيضاء وعمامه ملفوفة جيداً على عادة السيخ: -أيها الشاب.. أيها الشاب
توقفت أنظر باستغراب إليه... -ماذا تريد؟
- أنت شاب لديك طموحات عديدة، يأتي إليك مال كثير من حياتك، ولكنك لا تحب الاحتفاظ به.. قلت ممتعضاً: استوقفتني لتقول لي مثل هذا الكلام؟ أرى فيك منجماً تقرأ الطالع، ولكني لا أؤمن كثيراً بألاعيبكم...
ابتسم بهدوء: -أتحب أن تحاورني؟
قلت لنفسي وأنا أتفرس فيه بعمق (يبدو رجلاً متمكناً، لابأس أن أتسلى معه قليلاً) همس حين توقفت: أهلاً بك يا بني.. وأردف وهو يتأملني: تعذبت كثيراً في حياتك، لكنك شاب عنيد قهرت صعاباً عديدة وصمدت في وجه ظروف بالغة التعقيد.. اسمع ستزور بلداناً كثيرة، في الشهر القادم ستزور بلداً أوربياً وتتعرف على شخصية تصبح لها أهمية في حياتك..
حكى لي الرجل المسنّ عن أشياء كثيرة، وتنبأ بأحداث سأمر بها، ولم أكن في ذلك الوقت ألقي بالاً لمثل هذه الأمور، إن ما شدني إلى (اوم بركاش سنغ) وهو اسم الرجل، قدرته على قراءة الأفكار، وكنت مقتنعاً أن القدرة على قراءة الأفكار ومعرفة خبايا النفس عن طريق متابعة الذهن وومضاته، أصبحت في هذا العصر علماً قائماً بذاته.. حاولت أن أضلل معلوماته فحصرت تفكيري في قضية معينة، وهو يحدق بي بصمت، وأنا أستجرّه لمعرفة المزيد من أفكاري، ولكنه بعد لحظات أعترف أنني شخص صعب.. قلت له حينذاك: ليس ذلك صعباً، كل ما في الأمر أنني أركز أفكاري ولا أتركها سهلة تصطادها.. وحين عرف أنني أتابع دراستي في الرياضيات العالية وحكى لي قصة عجيبة حدثت معه:..
-أنتم يا من تنشغل أفكارهم بالمسائل الصعب التجريدية، تبدو أدمغتكم صعبة في بث الأفكار.. والأوامر إليها.. آه يا بني.. لن أنسى ما حييت ذلك الرجل الأصلع حليق الوجه، المتقدم في السن بنظارته السميكة الذي يخفي خلفها عينين نفاذتين تتغلغل زرقتهما في أعماقك، فتشعر أنك صغير أمامه.. كان يمشي في السوق هنا في مثل هذا الوقت من السنة، قبل عامين ومعه امرأة أطول منه قليلاً يستند إليها أحياناً.. تحرشت به كالعادة، وقلت لـه أنه رجل محظوظ، وأنه يرتفّع فوق سلم الشهرة، وسيصل إلى مراتب عالمية عالية.. توقف حينها ونظر لي.. ثم قال.. (لست سائحاً عادياً يا سيدي حتى تجذبني بعباراتك) فأجبته على الفور (بل أنت رجل علم، تحضر مؤتمراً علمياً هذا وظيفتك تدر عليك دخلاً ممتازاً، وأنت كثير التنقل، والأسفار في العام الماضي كنت تعيش بين أناس قدّموا لك الكثير ولكنك مولع في البحث عن الأسرار.. ورغم اختصاصك العالي في الرياضيات، فأنت مشدود للبحث في تاريخ العلم.. وقد قضيت سنوات في مدينة سورية عريقة، تنبش في المخطوطات والكتب القديمة أنت رجل أصيل تسعى للوصول إلى الحقيقة وتعلنها دون تردد حتى وإن انزعج منها الآخرون.)).. نظر الرجل لي بعمق بعد أن خلع نظارته الطبية (أنت رجل ذكي بارع في لعبة قراءة الأفكار) وأخرج من جيبه مائة روبيه.. ولكنني رفضت المال وقد شدتني شخصيته وشعرت بالرغبة في محاورته.... لم أستطع كتمان سؤالي الملهوف عندها: -وحاورته؟
-كانت تساوره الرغبة نفسها، همس لزوجته البدينة قليلاً يستشيرها فهزت رأسها موافقة.. رافقتهما إلى منزلي، وكان حديثاً طويلاً ممتعاً أكد لي البروفسور(أرنولد) وهو اسم الرجل، إنّ ما قلته كان صحيحاً وأنه قضى في حلب، وهو اسم المدينة السورية العريقة، عدة أشهر يبحث في أسرار المخطوطات العربية والكتب القديمة، وهو رجل يتقن اللغة العربية جيداً وقد أعلن عدة اكتشافات لصالح العلماء العرب رغم احتجاج بعض الأوربيين المتعصبين.. ..
شدّني حديث أوم بركاش سنغ فسألته: -وحكى لك عن السنوات التي أنفقتها في البحوث والمؤتمرات والندوات الدولية؟
قال: نعم.. كان كل ما قلته صحيحاً، أعترف بصحته.. ولكنه قال لي بعد ذلك (ربما استطعت أيها الرجل المسن أن تقرأ أفكاري لأنني كنت طيّعاً معك.. ولكن حاول الآن)
-وحاولت معه؟
-بالطبع وفشلت.. كان رجلاً صعباً دار بيننا حوار ذهني، أحسست في نهايته أنني حزين، ثم همست له (خلال خمسين عاماً من دراستي للتخاطر واليوغا، بترويض الذهن وقراءة الأفكار، لم أصادف دماغاً صعباً مثل دماغك) ابتسم البروفسور (أرنولد) عندها وقال: (قد يكون ترويض الدماغ عملاً صعباً لمن يعملون بالفكر فقط، ولا يستخدمون سواه في حياتهم العملية، ولكن من يعملون بقواهم البدنية يمكن ترويض أذهانهم دون صعوبة، وأخذ أوم بركاش سنغ يحكي لي أشياء كثيرة كان يفعلها. كان بإمكانه أن يقرأ أي شيء يجول في ذهن من يختبره.. وإن السياح يقصدونه لاختبار مقدرته، وكان يبث من ذهنه أحياناً أوامر صغيرة يفعلها السائح دون انتباه قبل أن يفاجئه أنه يعرفها تماماً..
×××××××××××××××××
كل ذلك تذكرته وأنا أبحث عن الرجل المسن بعد خمس سنوات من آخر لقاء التقينا به.. لم أترك مكاناً أو زاوية في (الكانات بليس) إلا وبحثت عنه فيه... حتى يئست.. فجلست على أحد المداخل أفكر (هل يمكن أن يكون قد مات خاصة وأنه في عمر يقارب الثمانين) حزنت فعلاً لهذه الفكرة، بل وأعتقدتها صحيحه، ولكن ذكرياتي التي أحملها عنه وعن قوة بدنه جعلتني أصمم فعلاً على الذهاب إلى منزله لأقطع الشك باليقين وعن وجوده في هذه الحياة، أو عن موته.. الذي أقلقني التفكير فيه قليلاً...
وهكذا يممت وجهي شطر منزله في دلهي القديمة، هبطت من الباص الأزرق قرب (كشميري غيت) واتجهت شمالاً صوب منزله الذي يقع بين مجموعة من البيوت الفقيرة هناك في حي صغير، غالبية سكانه من السيخ وصلت البيت ووقفت لدقائق أمام بابه قبل أن أطرقه، وقلبي يضرب بعنف، كان حدثاً مفجعاً في انتظاري فتحت لي الباب صبية في مقتبل العمر، استغربت سحنتي الغريبة سألتها: -هل السيد أوم بركاش سنغ هنا؟
-نعم هذا هو منزله..
-أريد أن أقابله...
-أنا آسفة، أنه لا يكلم أحداً.. معذرة...
حاولت إغلاق الباب ولكني دفعته قليلاً: -آسف....
استغربت الصبية موقفي هذا وبدا أنها ستتشاجر معي، فقلت لها بهدوء: -أنا صديق قديم لوالدك لن يتردد في مقابلتي أبداً ثم همست باسمي وجنسيتي وعملي، فغرت فاها مدهوشة، ثم دخلت لدقائق وأنا أنتظر ملهوفاً أمام الباب.. وحين عادت كان وجهها يشرق بابتسامة عريضة: -تفضل يا سيدي والدي سيستقبلك.. سألتها وأنا أدخل الباب- تبدين فرحة؟
- فعلاً إنها أول مرة يبدو فيها والدي مهتماً بشخص ما، منذ عدة أشهر إنه لا يقابل أحداً حتى نحن لا يكلمنا تقريباً...
- صحته جيدة؟
-نعم.. ولكن انزواءه كان قاسياً علينا
كنا قد وصلنا باب غرفة العجوز، دفعت الصبية الباب بلطف ودعتني إلى الدخول، ثم أغلقت الباب خلفي رأيت وجه الرجل المسنّ يشرق بابتسامة.. كان يفتح ذراعيه ليحتضنني بتودد بالغ:
-حلمت بك أمس.. تدخل بنفس ثيابك هذه..
-أنا أزور الهند، بحثت عنك كثيراً في الكانات بليس...
آه يا بني، واسمح لي أن أناديك بهذا.. قليل من الناس من يفهم أسرار الدماغ البشري، وكثير منهم من يعانون الحقد والتعصب واللهاث وراء نزوات جسدهم الفاني.. تفضل اجلس..
-بدت لي ابنتك قلقة عليك، تعتبر أن انزواءك كان قاسياً على الأسرة...
تنهد العجوز بمرارة: -هم لا يفهمون ما أقوم به من عمل، أقصد زوجتي وأولادي، منذ سنوات وأنا أؤجل تمريناتي واختباراتي الهامة، ولكنني قبل أشهر اقتنعت أن عليّ البدء بها، لم يبق في العمر ما يكفي..
-عن أية تمرينات واختبارات تتكلم؟
-آه يا بني.. منذ زمن بعيد وأنا أحاول السيطرة على نفسي والدخول في حالة من (الليتارجيا) السبات غير الطبيعي.. والقدرة على التخشب بلا حراك كالجثة الميتة...
- أعتقد أن مثل هذه الحالات تحتاج لتدريب غير عادي..؟
منذ أن كنت في العشرين وأنا أتدرب، استطعت الوصول إلى نتائج لا بأس بها، ولكن الوضع الآن يختلف......
-تقصد أنك متقدم في السن؟
-لا.. هذا لا يهم... منذ أشهر وأنا أحاول الانفلات من جسدي تماماً والخروج لأي مكان، بكامل حواسي.. في حين يبقى جسمي هامداً بلا حركة.
- رأيت مثل هذه الحالة من قبل، عند الطيّار كابيل سنغ الذي يدفن نفسه لأيام في قبر مغلق؟
- إنه أستاذ قدير بلا شك...
-وإلى أين وصلت نتائجك؟
-آه يا بني.. هذا ما يعذبني، أريد أن أحكي شيئاً مما أراه لشخص عزيز يفهم تماماً ما أقوله.. وقد كنت سعيداً حين أبلغتني ابنتي بحضورك.. أنت كاتب، تتعمق في دراسة النفس البشرية، ستكون عوناً حقيقياً لي...
-حسناً...
-قلت لابنتي منذ شهرين: جهزي لي طعاماً لعشرة أيام، سأنزوي في غرفتي أتعبّد، ولا أريد أحداً أن يزعجني أو يقطع عليّ خلوتي بأي شكل.. وحالما تنتهي الأيام العشرة، لا بأس باقتحام غرفتي إذا لم أفتحها بنفسي...
-نعم.. وماذا حدث بعد ذلك؟
-سهرت مع زوجتي وأولادي سهرة عائلية، أسبغت فيها عاطفتي على الجميع وأقنعتهم أنني بصحة جيدة وأن كل شيء على ما يرام.. ثم دخلت صومعتي..
-لتنزوي محاولاً أن تتمرن بهدوء على (الليتارجيا)؟
-نعم.. وتمكنت من الخروج من جسدي والدوران والتجول في أماكن عديدة من العالم، لمدة تسعة أيام كاملة قبل أن أعود وقد قرعت عليّ ابنتي الباب.. نهضت بصعوبة من هذا الجسد المتهالك، وعدت إلى وعي سريعاً حيث فتحت الباب وكنت متعباً أحسّ بدوار شديد...
-وسببت الخوف للجميع بلا شك؟
-نعم، خاصة وأنهم وجدوا طعامي لم يمس تقريباً.. ولكنني سرعان ما عدت لمرحي وحكاياتي التي يحبها الأولاد، فاطمأنوا جميعاً أنني بخير.. آه لو تعلم ماذا رأيت خلال تلك الفترة الطويلة؟
-ماذا؟
-كنت سعيداً حال خروجي من جسدي، كنت سعيداً وأنا أبصر جسدي أمامي ممدداً على السرير.. وسرعان ما اخترقت الجدران وخرجت من بيتي، أنني أطير في حلم جميل دون أن أحس بالحرّارة والضوء المنتشر حولي آه.. ها هم المنبوذون ينتشرون على أرصفة محطّات السكك الحديدية يطاردون الناس من أجل لقمة تسدّ أودهم.. آه أحد الناس ينهال بالسوط على أحدهم.. ها هو نسر ضخم ينقض على أرنب يحمله بمخالبه والأرنب يتخبط.. لماذا يتجمع الناس هنا؟ إنها مشاجرة-.. آه.. أحسّ أنني أندفع في الجوّ بسرعة خارقة.. أرى باخرة تجنح نحو جزيرة صخرية تدفعها الأمواج.. أقمار صناعية تتجسّس أسلحة مخيفة تنتشر في كل مكان لماذا لا يُحب الناس بعضهم بعضاً؟ لماذا يتقاتلون من أجل تفاهات يمكن الاستغناء عنها؟ آه يا صديقي، كنت أتعذب وأنا أتنقل من مكان لآخر أرى الأمور على حقيقتها، وأحسّ بتفاهة البشر....
-كأنك كنت تشهد كابوساً؟
-كان كابوساً حقيقياً بكل بشاعته.. ورغم جولتي السريعة فقد شاهدت مجموعة من الناس في جزيرة نائية أحسست أنهم يختلفون عن غيرهم لسلوكهم الطيّب وتعاونهم، ولكن لم أتمكّن من النفاذ بينهم...
-لماذا؟
-أيقظني القرع المتواصل على الباب...
-كنت تحلم؟
-لا يا دكتور.. كنت خارج جسدي.. ما شهدته كان حقيقة...
-أرأيت كل هذه الأشياء.؟.
-كان الزمن يمرّ عليّ بسرعة خارقة كأن كل تجربتي لم تستغرق سوى دقائق...
-كأنك قفزت فوق الزمن؟. أهذا ما تعنيه؟
-لا.. كنت أعيش الزمن، مبهوراً بما أرى، ولكنه كان يمر بسرعة هكذا اعتقدت... كانت تجربة فريدة؟.
-تجربة تجعلك تعيش شيئاً خارقاً لا يصدّق...
-لقد أثّرت بك تأثيراً كبيراً، كأنك لأول مرّة تقوم بها؟
-في المرات الماضية، كان استعدادي ضئيلاً، لم أكن أشعر بالوقت يمضي بتلك السرعة.. تلك المرّات السابقة كانت كالحلم.. وكانت فتراتها قصيرة جداً.. إما الآن فالوضع يختلف.. لست مهتماً بخطورة التجربة، فأنا رجل في عقدي التاسع.. لذلك فإحساسي وأنا أقوم بالاختبار، إحساس حرّ ستكون نتائجه مدهشة تماماً...
دخلت ابنته ومعها صينية الشاي بالحليب، مع صحن يحوي بعض قطع البسكويت.. وحين خرجت نظر لي بعمق ثم قال:
-ستكون تجربتي القادمة، تجربة مذهلة، لأنها ستستغرق ثلاثة أسابيع بكاملها...
-يا إلهي، إنها مدة طويلة...
-وفيها كثير من الخطورة عليّ.. قد أموت، أليس هذا ما تعنيه....؟
-بالطبع.. يجب أن لا تغامر بالانتحار هكذا.. أنت رجل خارق يحتاجك تلاميذك وأصدقاؤك وأهل بيتك؟
-لا يا بني.. ليست حياتي هامة لهذه الدرجة، أنا رجل عجوز متقدم في السنّ...
ثم صمت هنيهة وقال بحزم...: أعتقد أنني سأنجح، وسأحقق رقماً قياسياً في الخروج من الجسد أخافتني نظراته العميقة، وشعرت أنه جادّ تماماً فيما يقوله:
-ومتى ستبدأ التجربة الجديدة؟
-بعد غد، وأرجو أن ألقاك في نهايتها.. أتعلم؟ أشعر بالراحة وأنا أتحدث إليك، أنت تفهمني جيداً، وتفهم أن الإنسان يتمتع بقدرات خارقة ولا يستثمر سوى جزء ضئيل منها...
كان الوقت قد تأخر قليلاً فشددت على يد العجوز أتمنى لـه التوفيق والنجاح في تجربته الخطيرة.. فهمس وهو يودعني: لا تنسَ أن تزورني في نهاية المدّة..
-بالطبع لن أنسى..
وهكذا استعد (اوم بركاش سنغ) للقيام بتجربته الفريدة، وأقنع عائلته أنه سينعزل من جديد لثلاثة أسابيع، وأن هذه العزلة ستكون الأخيرة، ولا داعي للقلق عليه، فهو لا يريد أحداً أن يزعجه لأي سبب كان، وحتى تبدو عزلته التعبدية، عزلة عادية، تزود بالطعام والشراب على الطريقة الهندية أي طعام خفيف غير دسم وماء....
وبعد ثلاثة وعشرين يوماً من ذلك التاريخ، وكنت أتجول خلال تلك الأيام في مناطق عديدة من شبه القارة الهندية، شعرت بدافع يدفعني لزيارة صديقي العجوز.. خاصة وأن رحلتي إلى الهند قاربت على نهايتها، كنت متشوقاً لرؤيته وسماع حكاياته عن رحلته الأسطورية خارج الجسد....
طرقت باب منزل العجوز، وأنا متلهف للقائه، فتحت ابنته الباب، وحين رأتني ابتسمت في وجهي معتذرة: -والدي مازال في عزلته يا دكتور.. آسفة.
-لم يستيقظ؟..
-إنه منعزل.. وليس نائماً.....
-منذ متى وهو في عزلته.؟..
-منذ اثنين وعشرين يوماً..
-أيمكن أن أدخل..؟.
-أرجوك يا دكتور، طلب مني منع دخول أي شخص إليه، لأي سبب كان، تعلم أن غرفته منعزلة عن البيت وهو غارق في عبادته....
-اسمعي يا آنسة، والدك في خطر...
-ماذا تقول؟
-إنه في خطر صدقيني....
دفعت الباب الخارجي جانباً وسط دهشة الصبية، وهي تراني أتجه صوب غرفة والدها، كان الباب مغلقاً من الداخل، طرقته بقوة ولم أسمع صوتاً، ثم دفعته بكتفي دفعة قوية فانفتح على مصراعيه..
كان العجوز ممدداً على السرير دون حركة، وطعامه على المنضدة، لم يمّس، دخل بقية أفراد العائلة على صوت الضجة، كانت الفتاة تهمس:
-لم يذق طعاماً ولا شراباً منذ أيام طويلة...
بدأت الفتاة تنتحب، وشاركتها أمها وأختها.. وأخوها الصغير ولم أجد بدّاً من الانسحاب وسط هذا النحيب المفجع، وأنا أفكر بذلك الرجل الخارق الذي أسقطته تجربته في سبات طويل لم ينهض منه حيّاً....
كان رجلاً خارقاً (اوم بركاش سنغ) هذا، وربما من أكثر الرجال الذين صادفتهم في حياتي غرابة، من يعرف ماذا حصل له خلال تجربته؟
الذي أعرفه ومتأكد منه، هو أنه خاطبني تخاطرياً دون أن أراه.. يؤكد لي أنه يتجول طليقاً في العالم (دون قيود) هل كانت زياراته لي في الحلم، بعد وفاته حقيقية؟ أم أنني لكثرة ما شغلني بتجربته كنت أتخيل؟
كم هي محيّرة الإجابة عن تلك التساؤلات؟.....
كانت لينا تصغي لي وأنا أتحدّث عن ذلك الرجل العجوز الذي ترك آثاراً لا تمحى في ذاكرتي، وكان (غورديب سينغ) الذي التقينا به أحد رفاقه، ولكنه لم يكن مغامراً مثله..
***
- 4 -
رفض الدكتور (ماهر) محاولاتي في دفع ثمن بطاقتي الطائرة، وقال حاسماً الموضوع:
-لا أحب التعامل في مثل هذه الأمور بطريقتك يا دكتور.. أنتما ضيفاي ولن أغفر لك محاولتك هذه.. غمغمت معتذراً، خائفاً أن أجرح بكلامي إحساسه المرهف والطائرة تقلع بنا من مطار (بالم) في دلهي قال لي:
-بالنسبة للإقامة، هي مؤمنة لنا في (لخنو) حجز لنا المرافق في بيت الضيف في الجامعة.. إنه أفضل مكان بالنسبة لنا.. المهم أن تنجح محاولاتنا في العثور على الدكتور (زيدي).
أمسك كتاباً في يده، وفتحه عند صفحة معينة وأخذ يطالع باهتمام.. أسندت (لينا) رأسها على كتفي وغرقت بالنوم.. كانت مدة الطيران تقارب الخمسين دقيقة.. مرّت سريعاً.. ولم نشعر إلاّ والصوت يطلب منا ربط الأحزمة استعداداً للهبوط.
قال لي الدكتور ماهر ونحن نهبط، سلّم الطائرة:
-هناك شخص ينتظرنا ليرافقنا إلى الجامعة..
وفعلاً وجدنا يافطة مرفوعة باسم الدكتور (ماهر الضامن) يرفعها شاب ملتح، اقترب منه الدكتور ماهر يعرّفه بنفسه، كانت هناك أيضاً سيارة من الجامعة في انتظارنا، أقلتنا والحقائب واتجهت صوب الحرم الجامعي حيث (بيت الضيف) همس الشاب الملتحي:
-رئيس الجامعة سيقيم حفلة غداء على شرفك يا سيدي.. في الثانية ظهر الغد ..
هزّ الدكتور ماهر رأسه دون اهتمام.. وحين وصلنا إلى بيت الضيف. هرع مدير البيت والخدم نحونا ينقلون الحقائب ويعرفوننا على الغرف وهم يبذلون جهودهم لنيل رضا الدكتور ماهر.. همست لينا.
-إنهم يقدرونه كثيراً..
-في الهند يحترمون العلماء الكبار ويتسابقون لخدمتهم .
استأذن الدكتور ماهر ودخل إلى غرفته وهو يهمس:
-سنلتقي على العشاء في السابعة..
طلبت من مدير البيت أن يبدل الغرفتين المفردتين اللتين حجرهما لي ولزوجتي، بغرفة مزدوجة.. فاعتذر بلطف وهو يقودنا إلى غرفة واسعة مرتبة، من أنه لم يعرف أننا متزوجان.. أشارت (لينا) بعد خروجه إلى سقف الغرفة كانت هناك مجموعة من (أبي بريص) وهو حيوان زاحف صغير أشبه بالسحلية تنتشر في سقف الغرفة.. همست لها:
-إنها حيوانات غير مؤذية.. تنظف الغرف من الحشرات..
-تبدو مقرفة.
-إذا كنت خائفة منها، سأطردها خارج الغرفة، ليست العملية صعبة.. ثم أن البعوض في الغرفة سينشط بعد قليل.. لذلك أعتقد أننا سنستخدم (الناموسية)
ونحن نتحادث قرع الباب بلطف، كان أحد الخدم يحمل قطعتين من البخور الحلزوني لطرد البعوض وضع قربهما علبة من الكبريت.. ثم خرج دون أن يتكلم.
-إذن لا داعي للناموسية، البخور والدخان سيطردان البعوض..
-ولكن يجب أن تطرد هذه الزواحف المقرفة من الغرفة..
-كما تشائين
لم أجد صعوبة في مطاردة جماعات (أبي بريص) إلى خارج النافذة.. وكذلك فعلت في الحمام المرافق للغرفة.. سألت لينا:
-ما رأيك بقدح من الشاي بالحليب؟
-لا بأس
خرجت من الغرفة أطلب الشاي من الخادم الجالس قرب الباب فانحنى بلطف واختفى.. وحين عدت إلى الغرفة كانت (لينا) ممدّدة على السرير.. أغراني منظرها بالتمدد قربها ومعانقتها.. أحسست بأنفاسها الدافئة تلفح وجهي سألت:
-ترى كيف حال الأولاد الآن؟
-لا تقلقي إنهم بخير.. أمك تعتني بهم جيداً.
-أنا قلقة على لينا..
-لينا؟ إنها بخير يا حبيبتي.. لا تقلقي..
-كان من اللازم أن تتصل أمس من الفندق .
-لن نبقى هنا كما فهمت من الدكتور ماهر، سوى يوم أو يومين وعند عودتنا سنتصل بأمك ونطمئن على الأولاد أغرقت رأسها في صدري، وهي تشدني إليها.. ولم نصح إلا على قرع الباب.. نهضت بهدوء افتحه وقد سوّت (لينا) هندامها دخل الخادم يحمل الشاي.. وضع الصينية بلطف على المنضدة قرب السرير وسأل إن كنا نحتاج شيئاً، وحين سمع جوابي بالنفي، خرج وأغلق الباب خلفه .
صبّت (لينا) الشاي بالفنجانين وصبّت بعض الحليب أيضاً..
-أتريدين سيجارة؟
-لا.. ما الذي خطر ببالك لتسألني هذا السؤال؟ لم ترني منذ سنوات أشعل سيجارة .
-لا أدري.. ربما تذكرت أيامنا معاً، قبل زواجنا، كنت تدخنين كثيراً.
شدت على يدي:
-كانت حياتي فارغة بدونك.. ربما كان تدخيني الزائد أحياناً في ذلك الوقت نوعاً من الهرب من واقعي واحباطاتي المتتالية.. آه.. لم أشعر بالفرح الحقيقي والأمان إلاّ معك. أنت تعرف ذلك جيداً ..
-أعرف أنني لم أعرف الحب الحقيقي، إلا حين رأيتك.. لو تعرفين يا لينا كم أحمل لك من العاطفة.. التي لم تخبُ يوماً..
جلست في حضني على عادتها حين ترغب في التعبير عن عاطفتها ولفت ذراعيها حول عنقي، وأغمضت عينيها وهي تغرق رأسها في صدري..
تناولنا العشاء على المنضدة الضخمة في بيت الضيف.. وهمس الدكتور ماهر لنا:
-سنذهب بعد قليل لمنزل الدكتور زيدي، إنه ليس بعيداً عن هنا.
قالت لينا: -لماذا لا نؤجلها للغد؟
-هل أنت خائفة يا سيدتي؟
-لا يا دكتور.. ولكن الوقت قد يكون متأخراً على الدكتور زيدي، الذي فهمته أنه متقدم في السن.
-نعم.. وأكبر من جدي بسنة واحدة.. وهو يعيش مع أحفاده في المنزل.. هذا ما أعرفه... على كل حال إذا كنتما مترددين في الذهاب معي، سأذهب لوحدي
قلت له وأنا أرمق لينا: -سنذهب معك بالطبع..
-حسن جهزا نفسيكما إذن.. سنتناول الشاي هناك في منزل الدكتور زيدي،
تركنا ودخل غرفته، وحين عاد بعد قليل كان يحمل محفظته الجلدية
-بإمكاننا أن نذهب إذن.
-بالطبع
رافقكم أحد الخدم إلى السيارة الواقفة أمام باب (بيت الضيف) شقّت السيارة طريقاً مشجّراً، وقد بدا ضوء الشمس يتضاءل والساعة تقارب الثامنة إلا ربعاً.. وبعد دقائق وقفت السيارة أمام منزل منعزل تحف به الأشجار، طلب الدكتور ماهر من السائق أن يذهب ويعود بعد ساعتين.. وحالما ابتعدت السيارة سألته:
-لماذا طلبت منه الرحيل، قد لا نعثر على أحد؟
-لا أدري كأن هاتفاً في داخلي أمرني أن أبعده عن المكان..
فتح الدكتور ماهر باب الحديقة، لم يكن هناك ما ينبيء أن في البيت حياة.. اقتربتم من باب البيت فوجدتم خادماً كهلاً يتمدد على سرير من الحبال.. وهو نائم تماماً.. حاول الدكتور (ماهر) إيقاظه، دون نتيجة، كان غارقاً في نوم عميق..
فتح الدكتور ماهر باب البيت الخشبي، الذي أزّ بخشونة، وصلكم صوتاً، كأنه مخلوط بصدى:
-أهلاً بكم يا أبنائي.. ادخلوا
سأل الدكتور ماهر: -أسمعتما ما سمعته؟
-بالطبع.. يبدو أن البيت ليس فارغاً"
دخلتم بهدوء فإذا بأنوار الصالة الكبيرة تتوهج من تلقاء نفسها..
-أضيئت الأنوار في الصالة، ولكني لا أرى أحداً.
هكذا همست لك لينا وهي تشّد ذراعك..
-أنا خائفة..
-لا تخافي يا حبيبتي، لا داعي للخوف أبداً.
وهمس الدكتور ماهر أيضاً:
-من الذي كلمنا؟ نحن لا نراه رغم أنه كما لحظتم تحدث معنا بالعربية..
عاد الصوت من جديد: -ستعرف كل شيء يا دكتور ماهر لا تتعجّل.
-من أنت؟ لماذا لا نراك يا سيدي؟
-قلت لك لا تتعجّل يا ماهر.. هناك باب على اليمين، إنه باب غرفة مليئة بالكتب..
سار الدكتور ماهر نحو اليمين، وتبعتماه بهدوء:
-هل تحمل مذكّرات جدّك الدكتور (حامد)؟
-بالطبع هي معي الآن.. في الحقيبة.
-اقترب من المكتب أمامك.. هناك أوراق تحت المغلّف الأزرق..
-نعم رأيتها..
-انظر إليها جيداً، إنها بخط يشبه خط جدك الدكتور حامد أليس كذلك؟
-نعم.. إنها بخط يشبه خط جدي فعلاً..
-حتى لا أجعل زيارتكم لهذا المنزل دون نتيجة، سأعطيكم هذه الأوراق إنها خلاصة تجاربي والدكتور حامد أيضاً، خطي أصبح شبيهاً تماماً بخط جدك.
-ولكن من أنت؟
-أنا الدكتور (زيدي) يا ماهر، رفيق جدك في رحلة عمره، وهو الذي علّمني العربية.
-ولكن لماذا لا نراك؟
-إنه سؤال صعب.. ولكن سأحاول تقريب إجابته إليك.. أنا في البعد الخامس يا ماهر.. لن تراني رغم أنني أراك جيداً.
-البعد الخامس؟ لا أفهم شيئاً، أعلم أن في الكون أربعة أبعاد.. أبعاد المكان الثلاثة.. زائد البعد الرابع وهو الزمن.. ما هو البعد الخامس الذي تقصده؟
-إنه مكان المكان وزمان الزمان..
-أرجوك أوضح لي ما تقصد، كأن الأمر يبدو لغزاً؟
-البعد الخامس هو مكان وزمان أيضاً، مكان لأنني أتواجد فيه ضمن حيّز محدود، وزمان لأن الوقت يمر فيه بسرعة أيضاً.
-كأنها ألغاز، هذه الجمل التي تقولها.
-لا أعرف من الذي يرافقك.. يبدوان صديقين طيبين.. يرغبان في المعرفة، إنهما يحبان بعضهما..
-هل تمانع وجودهما معي؟
-لا.. أبداً.. لأنني أعرف صدقهما وحماسهما للمعرفة، اسمع يا ماهر.. لا أستطيع أن أقول لك أكثر من أنني موجود خارج دائرة المكان الذي تتواجدون فيه.. لذلك لن تروني.. تسمعون صوتي فقط.. وهذا الصوت الذي يصلكم مني، أبذل في سبيل إيصاله إليكم جهداً خارقاً.. لذلك أرجوكم لا تكثروا من الأسئلة.
-حسن يا دكتور (زيدي) هلى ترى جدي كثيراً؟
-نعم.
-هل هو مثلك في مكان المكان وزمان الزمان، أو البعد الخامس كما سميته؟
-أحياناً..
-لم أفهم.
-جدك تفوّق عليّ بسرعة الانتقال بين الأمكنة والأزمنة..
-أيمكنه أن يكلمني مثلك الآن؟
-إنه ليس بصحبتي، ولا أعلم أين هو.. ولكن اقرأ الأوراق التي بين يديك وأضف معلوماتها إلى معلومات مذكراته.. ستتوضح لك أمور كثيرة..
-ولكن..؟
-أرجوك لا تطرح عليّ أسئلة أخرى.. لقد بذلت جهداً خارقاً في سبيل التحدث إليك وقد أشفقت على لهفتك المستمرة في محاولة العثور علي..
-لماذا لم نر أحداً من أحفادك هنا؟
-أمرتهم بالإيحاء بمغادرة المكان، وطلبت من الخادم أن ينام حتى لا يزعجكم أحد.. سأرحل الآن يا ماهر.. وداعاً..
بدأت رياح خفيفة تعبث بالمكان، مع أنه كان مغلقاً بلا نوافذ أو أبواب مفتوحة.. وصرخ ماهر:
-دكتور زيدي.. دكتور زيدي
ولكن الرياح ازدادت شدّة وعبثت بأجسامكم.. واختلط صوتها بصوت الدكتور زيدي وهو يقول: وداعاً..
وفجأة سكتت الريح، وعاد كل شيء إلى طبيعته، ضغطت على كتف الدكتور ماهر:
-يبدو الأمر غامضاً تماماً..
-فعلاً..
وهمست لينا وهي ترتجف: -كدت أسقط فاقدة الوعي؟
هدّأتها وأنت تشد أصابعها: -ليس الأمر مخيفاً إلى هذا الحدّ..
-كأنا نتحادث مع الجان ولا نراهم..
قال ماهر بهدوء: -ماذا تقولين يا سيدتي؟ إن الأمر حقيقي، ليس خرافياً كما تعتقدين..
-أنا آسفة..
-على كل حال، زوجك يبدو طبيعياً في تقبله للأمر، وأعتقد أنك ستقبلين الأمر مثله أيضاً..
-بالطبع يا دكتور..
-بما أنك بدأت تتعمّق في القضية، ما رأيك لو حاولنا فكّ اللغز سويّة سنقرأ معاً مذكّرات جدّي الدكتور حامد، ثم نطلّع على هذه الأوراق التي أشار إليها الدكتور (زيدي)؟
-لا بأس
-سنذهب الآن إلى (بيت الضيف) ونجلس معاً.. وتبدأ في استجلاء غموض هذه القضيّة.. لقد أفادني مجيئكما معي، في إحضار هذه الأوراق الجديدة، لا بد وأنها أوراق هامة.
حين خرجتم من المنزل، كان الخادم الكهل ما زال نائماً، وما إن أغلقتم باب الحديقة، حتى ظهرت أنوار السيارة وسط دهشة الدكتور ماهر الذي سألك:
-أظن أنني قلت للسائق أن يعود بعد ساعتين؟
-نعم.. والساعة الآن هي الثامنة والنصف
توقفت السيارة، قال الدكتور ماهر للسائق:
-جيّد إنك جئت مبكراً، أنهينا زيارتنا بسرعة.
-أنت طلبت مني ذلك يا سيدي.
-أنا؟
-نعم.
أيقنتم أن السائق عاد بإيحاء من الدكتور ماهر.. وصله الأمر تخاطرياً.. ولم يكن السائق سوى رجل بسيط من السهل استدعائه تخاطرياً، هكذا فكّرت بينك وبين نفسك..
في بيت الضيف اجتمعتم في الصالة الرئيسية كانت خالية، إلاّ من خادم كهل، وقف على أهبة الاستعداد لتلبية طلباتكم
-المذكرات ليست طويلة، إنها نحو (60) صفحة من القطع المتوسط كتبها جدّي بيده في أوقات متباعدة.. انظر إلى هذه الصورة.. قدم لك صورة دقيقة مرسومة بعناية:
-إنها صورة مصغّرة لشجرة البشرية التي رأيناها في المعرض.
-هذا صحيح.. لذلك وقفت طويلاً أمامها.. لم يشرح جدّي عنها شيئاً في مذكراته، رغم أنها من بين الأوراق التي تركها.. هه.. سأبدأ بقراءة المذكّرات انتبها جيداً..
***
-5-
عانيت كثيراً في طفولتي.. تلك المعاناة، جعلتني أنغمس بالقراءة والإطلاع على أمهات الكتب حتى أنني في سن مبكرة، كنت أحمل ثمار ثقافة الأجيال السابقة.. كان الموضوع الذي يشغلني هو (الموت) هل ننتقل بعد موتنا إلى عالم آخر؟ أم أننا نموت هكذا كما تموت النباتات؟ بالطبع لأنني كنت مؤمناً بالله إيماناً قوياً، فقد كنت أعرف أننا ننتقل إلى عالم آخر بعد الموت، وكنت متيقناً من وجود الثواب والعقاب.. لذلك بدأت بقراءة الكتب الدينية، وكتب التصوّف، حتى توصّلت أخيراً إلى فهم عظمة الخالق عزّ وجلّ.. والقوّة الكبيرة التي أعطاها للإنسان ولم يعرف كيف يستثمرها.. وتردّد في خاطري دوماً بيت الشعر هذا:
وفيك انطوى العالم الأكبرُ
أتحسب أنك جرم صغيرٌ
بدأت أدرك أن هناك عوالم تحيط بنا، لا نستطيع الوصول إليها.. وبدأت منذ ذلك الحين البحث في سرّ الحياة.. حضرت الكثير من جلسات ما يسمّى بتحضير الأرواح وهي ليست أرواحاً وإنما أجساماً موجيّة واقتنعت أخيراً أن الجلسة الناجحة تنقل المجتمعين إلى عالم تلك التموجات.. بدأت أتقن فنّ استحضارها بدءاً من الفنجان المتحرّك فوق لوحة كتبت عليها الأحرف الأبجدية والأرقام من الصفر إلى التسعة، إضافة لكلمتي نعم ولا.. وقد اختلطت المعلومات التي كان الفنجان يقرؤها بحركته فوق الأحرف، حتى أنني رفضت تصديقها أحياناً لكثرة المعلومات المتناقضة.. وأيقنت أنها تموجات فيزيائية ربما لها علاقة بجسم الميت وتأثيراته..
أما الطريقة الثانية وهي طريقة الوسيط فكانت أكثر إقناعاً.. وفي حالة نجاح الوسيط في حمل اللوحة المستحضرة في داخله تكون المعلومات أكثر دقة واتقاناً.. أما الطريقة الثالثة وهي مستنبطة أو مطوّرة من طريقة الوسيط، فيظهر فيها الجسم الموجي متجسّماً للحظات يمكن أحياناً لمسه والإحساس بمادته وليست له علاقة بالروح ] ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً[
(قرآن كريم)
راقبت انخفاض وزن جسم المحتضر قبل أن أصبح طالباً في الجامعة.. ومع بدء دراستي الجامعية بدأت معرفتي تزداد وضوحاً.. كنت أسأل نفسي كثيراً عن سرّ تخريب الخليّة الحيّة ووجدت جواباً اقتنعت فيه وهو أن الخليّة الحيّة النباتية تتخرّب تلقائياً بقلّة الماء والغذاء ومضي الزمن، أما الخلية الحيوانية فتتخرب بالمرض والجوع والتخمة والعدوانية.. وربما كانت الغريزة هي التي تملي على الحيوان ما يفعل أما بالنسبة للإنسان فالوضع مختلف..
الإنسان هو المخلوق الذي اصطفاه الله عز وجل من بين كل المخلوقات فالذي يخرّب خلاياه ليس شيئاً واحداً، إن غذاؤه من اللحم الحيواني يؤثر على أنزيمات الخلايا.. وهناك الأنانية والحقد والحسد والعدوان آه يا إلهي.. توصلت إلى هذه المعلومات وأنا أرى المتصوّف الذي لا يأكل سوى القليل القليل من طعام لا يغذّي بدنه، أقصد ليس به الراتب الغذائي الضروري للجسم.. ويعيش على الماء أحياناً.. إن هذا المتصوّف لا يصاب بالمرض.. وتكون قوته خارقة..
إنه الطريق إلى المعرفة، الوسيلة الحقيقية للسموّ بالإنسان، عن الصراعات والأحقاد.. حيث لا يرى الذي يسلك سبيل المعرفة أمامه سوى النور الذي يضيء له السبيل ليتعرف على الكون وخفاياه وينبذ من نفسه الشرور والعدوان.
وفي أحد الأيام.. وكنت في مخبر تشريح الجثث، وقد أخذت أذناً بالدخول إليه من الجامعة، بسبب تفوّقي.. وكانت هناك جثة جديدة انضمّت للعنبر.. كانت جثة شاب نحيل.. بدا فتيّاً جميلاً..
سأبدأ تشريح هذه الجثة من الدماغ.. يا إلهي، إنني أشفق على هذا الشاب الأسمر.. سبحان الله، ما الذي أودى به إلى هذه النهاية التعيسة.. يقولون في تقريرهم عن حالته، إنه توفي نتيجة إعطاءه دماً فاسداً بعد أن فقد كثيراً من الدم.. قطع شريان يده ليموت.. حاولوا إسعافه ولم ينجحوا.. يا إلهي ما هذا؟
إن جبهته دافئة، معقول؟ ولكن قلبه لا ينبض..
شعرت بالخوف حين ذلك.. ولكن لماذا الخوف؟ أيخاف الإنسان من واقع هو الموت؟ إن حرارة جسمه تزداد رغم أن قلبه ما زال متوقفاً، حمدت الله أنني لم أبدأ بتشريحه، وبدأت أضغط على صدره بشكل منتظم حتى بدأ قلبه ينبض.. لولا دفء جبهته لكنت الآن قد نشرت الجمجمة لأصل إلى الدماغ. الحمد لله عاد إلى الحياة وبدأ يتأوّه وسمعت صوته أخيراً كان يتكلم العربية بلكنة أجنبية واضحة وهو يرتجف من البرد.. أخرجته من المشرحة إلى الجو الدافئ في الخارج وأسندته على أحد المقاعد الحجرية.. ثم انتبهت إلى أنه كان عارياً تماماً.. ولم أدر ما أفعل.. ثم خطرت لي فكرة إلباسه أحد الأرواب الطبية المعلقة في المشرحة.. وحين عدت إليه وجدته ممّدداً فاقد الوعي بذلت جهداً كبيراً لإلباسه (الروب) الطبي ثم خرجت به من الحرم الجامعي وكان الوقت متأخراً، ورغم معرفة الحارس الليلي لي فقد أوقفني، وقد أعتقد أنني أسرق الجثة، وحين حكيت له ما جرى ساعدني في حمله إلى عربة أجرة يجرها حصان كانت تقف قرب باب الجامعة..
وفي المشفى نقل الشاب إلى العناية المشدّدة وأحضر بعض الأطباء من بيوتهم لمعاينة حالته.. وفي اليوم التالي زرت المستشفى وتحادثت مع الشاب:
-حمداً لله على سلامتك
تكلم بلكنته الأجنبية:
-من أنت؟ ولماذا تزورني أنا لا أعرفك؟
-أنا حامد.. أنقذتك من المشرحة.
-مشرحة؟ ماذا تعني هذه الكلمة؟
كان غير عربي لم يفهم الكلمة:
-كنت مريضاً جدّاً.. أنقذتك من الموت؟
-لا أذكر شيئاً، كأنني كنت أحلم..
-طمأنني الأطباء على حالتك.. هل اتصل بأهلك؟
-أهلي؟.. ليس لي أهل هنا.. أنا غريب عن بلادكم..
-ومن أين أنت إذن؟ وماذا تفعل في بلادنا؟
-أنا من الهند، أدرس اللغة العربية
-آه.. فهمت.. على كل حال إذا رغبت سأتصل بالسفارة؟
-لا.. لا.. أرجوك..
-طيب.. وماذا تريد؟ هل أحضر لك شيئاً؟
-أتتحدث الإنكليزية جيداً؟
-بالطبع..
-سأعطيك هذا الرقم، اتصل به في الصباح واطلب الكلام مع (مينا) أسمعت؟ قل لها (زيدي) مريض وسيلقاك بعد أن يتمم علاجه.
استغربت منه الأمر.. ولم يكن الهاتف منتشراً في ذلك الوقت، كان نصف آلي، يقتصر استخدامه على بعض السياسيين وسفراء الدول الأجنبية.. وكان عدد أجهزة الهاتف محدوداً.. ولم يكن من الصعب معرفة صاحب الرقم المطلوب.. كان المدير التجاري لشركة إنكليزية اتخذت مقرها العاصمة وتعمل في توريد التوابل والقطن والمبادلة بسلع أخرى.
كان المدير التجاري هندوسياً متعصباً، وكانت (مينا) ابنته الوحيدة بين خمسة شبان.. رفض فكرة تزويجها من (زيدي) الشاب المسلم.. وقد هدّده والد (مينا) بالقتل إن استمر في ملاحقته (لمينا) ومنع ابنته من الخروج حتى لمدرسة اللغة العربية التي تنتسب إليها.. وضاقت الأحوال بالشاب وظلّ يحوم حول منزل الفتاة ليراها، فأشفق عليه أحد الخدم وجمعه بها.. وعرف الأب باللقاء فصمم على إعادة ابنته إلى الهند وتزويجها من ابن صديقه وعرف (زيدي) بالخبز فجنّ جنونه.. وفي ساعة شؤم قطع شريان يده بعد أن أرسل لها رسالة وداع، وحين استلمت الرسالة خرجت عن صوابها وحاولت الخروج للبحث عنه لولا مجيء أبيها المفاجئ.. فأرسلت رسالة قصيرة مع أحد الخدم تخبره أنها لن تكون لغيره في الوجود ورجته إنقاذ نفسه وإلا قتلت نفسها.. ولم تصل الرسالة له.. إذ أنه كان قد فقد الكثير من دمه ونقله أحد الجيران إلى المشفى حيث حاول الأطباء إسعافه دون نتيجة..
بعد خروج زيدي من المستشفى أصبحت واسطته للاتصال بـ (مينا) وقد علّمته العربية جيداً، وعرفته بأبحاثي في سرّ الحياة، وتابع (زيدي) دراسته في الطب بدلاً من اللغة العربية بناء على نصيحتي.. وبالطبع ساعدته في الهرب مع (مينا) إلى بيروت حيث تزوجا هناك، وحتى لا تثار فضيحة لوالدها اضطر الأب للاعتراف بالزواج بعد أن اتهمته إحدى الصحف الصادرة في بيروت بناء على معلوماتي بالتعصب.
تابعت وزيدي أبحاثنا معاً في سرّ الحياة، وقد نبغ (زيدي) في دراسة الطب، وتوصلنا معاً إلى عقار تمكنّا بواسطته من تجديد النشاط الخلوي في الجسم، وخصوصاً الخلايا النبيلة في الدماغ.. وهذا ما جعلنا نقوم بأمور تبدو خارقة..
-6-
كنت ولينا نستمع إلى مذكرات الدكتور حامد التي يرويها حفيده الدكتور (ماهر) بصوته الهادئ العميق.. حين أنهى الورقة الأخيرة وهو يقول:
-توقفت مذكراته هنا.. بالطبع هناك بعض الأوراق أيضاً.. وهي بخط جدي وقد درستها من قبل بعناية وتبدو كأنها تكملة للمذكرات.. ولا يتحدث فيها جدي بلغة المتكلم كالصفحات التي قرأناها معاً..
-كيف؟ حدثنا عنها؟
-يقول جدي أنه درس في دولة متقدمة واختص في دراسته بالخلايا الحية، وأكمل بحوثه عنها وحصل على الدكتوراه في علم الحياة.. في نفس الوقت الذي كان فيه صديقه "زيدي" يتابع دراسة الطب في جامعة قريبة.. كان (زيدي) قد تزوج (مينا) ورزق منها بولدين.. أما جدي فأحب زميلته الأجنبية وتزوجها وهي جدتي نفسها
-تبدو قصة شيقة
-ووضعت جدتي نفسها تحت تصرف جدي لإجراء التجارب عليها، ولكنها لكثرة ما تناولت من عقاقير، أصيبت معدتها بقرحة عذَّبتها كثيراً قبل أن تجري لها جراحة.. ولكنها ظلت متأثرة بذلك طيلة حياتها حتى ماتت كما يقول جدي في سن مبكرة.. إنه يعتبر أن الوصول إلى الثامنة والسبعين موتاً قبل الأوان..
-وكيف توصل جدك والدكتور (زيدي) لتركيب العقار العجيب؟
-لم يذكر جدي أي شيء عن ذلك.. ولكنه تحدث عن زيدي و(مينا) وكيف توفيت عن (90) عاماً..
وأن (زيدي) بعد وفاتها بدأ يطبّق تجاربه على نفسه، وأنه خائف عليه.. حتى هنا.. انتهت الأوراق وقد لخصتها دون أن أهمل سوى الأشياء التي بدت لي سطحية..
-ما رأيك يا دكتور ماهر لو نطلع على الأوراق التي حصلت عليها من مكتب الدكتور (زيدي).
-آه.. لقد قلبتها في الطريق..
-صحيح أشعل لك السائق المصباح ونحن عائدون إلى بيت الضيف بعد زيارتنا لبيت الدكتور (زيدي)..
-إنها مشكولة جيداً.. مكتوبة بلغة عربية سليمة، بخط الدكتور زيدي الذي يحفظ فضل تعليمه اللغة العربية بشكل جيد، لجدي الدكتور حامد.. إنه يتحدث هنا عن ظروف لقائه بجدي.. أغلب ذلك ورد في مذكرات جدي.. هه، هذه العبارات تبدو جديدة يقول الدكتور زيدي: ((بعد أن ودّعت (مينا) إلى مقرها الأخير ودفنتها على الطريقة الإسلامية بعد أن تيقّنت أنها آمنت بالإسلام بكل جوارحها، عدت إلى نفسي أفكر بلغز الحياة والموت.. واستقبلت الدكتور حامد الذي دخل يعزّيني وهو يقول:
-هون عليك يا صديقي.. سنموت جميعاً، الموت هو نهايتنا... فأجبته:-ولكني لا أشعر أنها ماتت أشعر أنها انتقلت لعالم آخر يمكنني النفوذ إليه دون أن أموت.
-لا تبالغ كثيراً بنتائج أبحاثك..
-ليست أبحاثي وحدي.
-أعلم ذلك ولكن يجب أن تكون حذراً؟
قلت له وأنا أنظر بعمق إلى عينيه النفاذتين: -سأبدأ بإجراء تجاربي على نفسي يا حامد..
وهكذا تابعت أبحاثي، وبدأت أنتقل بالتدريج إلى البعد الخامس، استغرق مني ذلك سنوات طويلة.. ولكن ارتباطي بعالم البشر بدأ يتضاءل.. أصبحت جسماً غير مرئي بكل طاقتي الذهنية.. انتشر في الكون بسرعة خارقة، أدور حول الكواكب والنجوم وأتعرف على كائنات عاقلة))
همس الدكتور ماهر وهو يلقي بآخر ورقة:
-إلى هنا تنتهي كتابة الدكتور زيدي، الآن فسّر لنا عملية عدم رؤيتنا له أصبح جسمه لا يرى من قبلنا سألته ولينا تحدق إليه: -هل يمكن أن يكون جدك قد تحول إلى شخص غير مرئي أيضاً؟
وقف وهو يرمقكما بهدوء: -الله يعلم.. هيا إلى النوم تأخر الوقت كثيراً.. سنتجول في الصباح في المدينة ثم نتناول طعام الغذاء على طاولة رئيس الجامعة..
حياكما ودخل غرفته بهدوء، وبعد دقائق كانت لينا ترقد على صدرك وهي تتنهد:
-أكسبتنا هذه الرحلة الكثير
-نعم.. أدخلتنا إلى عالم نجهل الكثير عنه.
غفت لينا ولم تغف أنت كنت غارقاً بخيالات مجنحة نقلتك إلى عوالم أخرى.. ومرّ الوقت ولم تستطع أن تنام، ثم أحسست بجسم لينا يختلج فوق صدرك، كأنها تشهد كابوساً.. أيقظتها بهدوء، وحين نهضت كانت تهمهم بعبارات غامضة.. ثم انتبهت لنفسها: -رأيت حلماً عجيباً..
-حلماً؟ كنت أظنك تشهدين كابوساً..
-كان رجلاً متقدماً في السن له عينان نفاذتان، قال لي اذهبوا إلى (الجانتر مانتر) في العاشرة من صباح الجمعة فستقابلونني..
-يجب أن نخبر الدكتور (ماهر) ربما لديه تفسير لحلمك..
-في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ إنها الرابعة والنصف صباحاً..
ولم تكمل كلامها، إذ أنكما سمعتما قرعاً لطيفاً على الباب.. وبدون وعي فتحت الباب لتجد الدكتور ماهر يقف بمنامته أمام الباب:
-أيقظني هاتف وطلب مني القدوم إليكما.
-لقد رأت لينا رجلاً في حلمها، كان كهلاً بعينين نفاذتين
-كيف كان شكله، وماذا قال لك؟
-طويل القامة بعينين خضراوين وشعره أبيض يغمر لحيته ورأسه..
-إنه جدي الدكتور حامد.
-قال لي: اذهبوا إلى (الجانتر مانتر) فستقابلونني في العاشرة من صباح الجمعة..
-(الجانتر مانتر)، إنها حديقة ضخمة في دلهي، بها آثار فلكية، أمكنة لمراقبة النجوم ودوائر ومدرجات.. إنها رسالة جدي التخاطرية إلينا، زوجتك مستقبلة جيدة للرسائل التخاطرية
خرج وسط دهشتكما وهو يحييكما بهدوء وأقفل الباب خلفه.. قلت للينا:
-هو مستقبل جيد أيضاً.. كأنه التقط شيئاً عن حلمك وشعر أننا ساهران، لذلك قرع علينا الباب.. إنه شخص عجيب..
كنت مرهقاً، فسرعان ما غفوت وغفت لينا على صدرك من جديد..
***
في الصباح تناولتم الإفطار في نحو العاشرة، قبل أن تبدأوا بجولة في المدينة، بدت بعض مناطق (لخنو) جميلة جداً والآثار الإسلامية واضحة فيها، كانت مدينة شهيره في زمن المغول.. استرحتم في حديقة تحفّ بها الأشجار والطيور الملونة..
-ربما كانت الحدائق في الهند من أجمل الحدائق في العالم باتساعها وترتيبها وعفويتها
كانت (لينا) قد تمددت فوق أحد المقاعد الخشبية، وقد تورمت رجلها من السير.. تبادلتم الحديث.. وتناقشتم بقضية التحول من وجهة نظر علمية.. كانت تبدو لكم لغزاً غامضاً دون حل..
عدتم إلى (بيت الضيف) كان السائق بانتظاركم ليقلكم إلى مقر رئيس الجامعة، الذي استقبل الدكتور ماهر بحرارة وقدمه لبعض ضيوفه من الأساتذة والباحثين ورئيس المقاطعة (مقاطعة أتّاربراديش) وبعض ضباط الشرطة..
وكان غداءاً رسمياً، تبادلتم خلاله الأحاديث مع مجموعات الضيوف وتبادلتم العناوين وطلب المراسلة..
ولم يكن الدكتور ماهر يبدو سعيداً، كان شارداً كأنه يرغب في الخلاص من جوّ فرض عليه قدّم لكم رئيس الجامعة هدايا رمزية. وودعكم باحترام بالغ.. وفي بيت الضيف قال الدكتور ماهر:
-يجب أن نتأكد من حجز الطائرة.. أرسلت السائق قبل قليل.. للتأكد.. تعلمان أننا على لائحة الانتظار..
عاد السائق من جديد يخبر الدكتور ماهر أن الحجز لم يتأكد فبدا على وجهه الوجوم.. ثم رفع سماعة الهاتف يطلب الحديث مع رئيس الجامعة.. وهو يهمس: -يجب أن نؤكد سفرنا غداً..
* * *
وتمّ كل شيء كما أراده الدكتور ماهر، وفي السادسة والنصف من صباح الجمعة كنتم في الطائرة في الطريق إلى دلهي.. كان الدكتور ماهر واجماً قلقاً وهو ينظر إلى ساعته، شعرتما أنه متشوّق للقاء جده.. إلى درجة غير عادية..
حطّت الطائرة في مطار (بالم) في دلهي، وفي نحو الثامنة والنصف كنتم في الطريق إلى الفندق وقد كان مرافق الدكتور ماهر في انتظاركم في المطار.. سأله الدكتور ماهر: -تأكدت من الحجز الجديد؟
-نعم سيدي..
-لي ولهما؟
-أنا آسف ياسيدي حجزت لهما بمكان آخر.. ليس بعيداً عن الفندق إنه (مركز الشباب الدولي في شانكيابوري)
قلت له: -إنه مكان أنزل به أحياناً..
كان الدكتور ماهر غاضباً وخجلاً منكما بسبب تغيير الفندق، قالت لينا مخففّة:
-المكان الذي حجز لنا فيه، قضينا فيه أجمل أيامنا في شهر العسل.
انفرجت أساريره بابتسامة: -لابأس إذن.
-لدينا موعد هام جداً يادكتور ماهر، يجب أن نترك كل شيء ونتجه إلى حديقة (الجانتر مانتر) في (الكانات بليس)
-حسن سأوصل أغراضي إلى الفندق وأنتظركما في صالة الاستقبال.. ستبقى السيارة معكما..
استقبلكما مدير المركز بنفسه مرحباً وطلب من القائمين على الخدمة العناية بكما، تأبطت (لينا) ذراعك وهي تهمهم:
-كانت ذكريات جميلة قضيناها هنا... كنا على الشرفة الكبيرة حين بدأ المطر الموسمي في شهر آذار قبل سنوات حين أتيت معك للمرة الأولى.. لم نكن متزوجين عندها، آه ما أجمل تلك الأيام.
-زرنا سوية مناطق عديدة (هاري دوار) (جيبور) (تاج محل) حتى (اليغار) زرناها.. كانت أياماً رائعة.. زادتني تعلقاً بك..
وصلتما الغرفة، وأنتما تتناجيان كالعشاق، فتح الخادم الباب ووضع الحقيبتين واستأذن في الخروج وهو ينحني.. ضممت (لينا) إليك:
-حتى الآن لا أصدق مايحدث يالينا.. إنه عمل خارق، لا يصدقه العقل.
-وماذا أقول عن نفسي؟ أنت عشت لسنوات هنا، تعلم الكثير عن لعبة الخوارق هذه.
-هيا نستعد، قد نجد في الدكتور حامد الكثير من الأجوبة عن أسئلة مستحيلة.
-أتعتقد فعلاً أننا سنراه؟
تنهدت وأنت ترمقها حائراً:
-ربما.. لقد سمعنا صوت الدكتور زيدي ولم نره.. ما الذي يمنعنا من رؤية الدكتور حامد؟
-بناء على حلم عابر حلمت به؟
-هذا الحلم ليس عابراً في رأي الدكتور ماهر..
-معك حق..
أنهيتما استعدادكما، وكنت تحس بعتب لا يوصف ربما زاده اللقاء المنتظر مع الدكتور حامد توتراً وقلقاً.
-7-
كان الدكتور ماهر ينتظركما في الفندق، كانت الساعة تقارب التاسعة والربع، شربتم القهوة بصمت، كان الدكتور ماهر شارداً قلقاً وهو يرمق الساعة في معصمه كل فترة.. أنهى فنجان قهوته التركية بسرعة وأشار لكما بيده لتلحقاه.. غمغم في السيارة:
-هل سأراه حقاً؟
قلت: -كما سمعنا الدكتور زيدي دون أن نراه؟
-كيف حضر إلى هنا؟ هل حضر بالطائرة أم أن انتقاله كان بوسيلة أخرى؟.
-تبدو القضية معقدة... على كل حال إذا لقيناه فعلاً سنحاول أن نستوضح الأمر.. نرجو أن يساعدنا في ذلك.
نظر إليك بعمق وهزّ رأسه وهو يقول:
-سنراه مافي ذلك من شك.. ألست واثقاً من ذلك؟
-أنا في حيرة ياسيدي.. أشياء كثيرة لا أفهمها..
-أنا أؤمن بالتخاطر وقد جهزت نفسي منذ يومين للقاء جدي.. ليس عندي أدنى شك في ذلك .
كانت السيارة قد وصلت إلى (الجانباث) كانت المحلات تزدحم بالزوار.. توقفت قليلاً عند الإشارة ثم تابعة سيرها.. متجهة صوب (ساحة الكانات بليس) منحرفة إلى اليسار في اتجاه (الجانترمانتر) حيث توقفت أمام بابها الرئيسي.. كانت الساعة تشير في ذلك الوقت إلى العاشرة إلا ربعاً..
هدأ الدكتور (ماهر) من أعصابه قليلاً، وأشار لكما يدعوكما للدخول:
-سنتجول في الحديقة، نحن لا نعلم في أي مكان منها سيكون لقاؤنا..
كانت الحديقة مليئة بالساعات الفلكيّة ومدرجّات الرصد وقد ازدحمت بالزوار.. كان الدكتور ماهر ملهوفاً وهو يتفحّص الوجوه من حوله.. كأنه ينتظر ظهور الدكتور حامد بين لحظة وأخرى.. ومرّ الوقت ثقيلاً بطيئاً ولينا تتأبط ذراعك قلقة محتارة أيضاً. وفجأة وصلكم صوتاً هادئاً واضحاً:
-أهلاً بكم في (الجانتر مانتر)..
هتف ماهر بقلق وانفعال: -جديّ؟
-نعم ياماهر.. اقترب مني أنت ومن معك.
-أين؟ نحن لا نراك..
-ستراني يابني.. أنا قرب الشجرة الضخمة أمام السور الحديدي..
وفعلاً كان هناك شيخ أبيض اللحية سمح الوجه ينظر إليكم بعمق قرب الشجرة الضخمة..
هرع الدكتور ماهر إليه: -جديّ.. أمعقول ما أرى؟
-نعم يابني.. أنا جدّك
-كيف حضرت إلى هنا.. هل جئت بالطائرة؟ أم كيف؟
ضحك الشيخ بهدوء: -جئت عبر المكان
-كيف لم أفهم؟ هل اخترقت الزمان والمكان وقفزت إلى هنا؟
-شرح لكم الدكتور زيدي كل شيء عن مكان المكان وزمان الزمان.. عن البعد الخامس..
-نعم.. ولكننا نراك ونسمع صوتك؟
-هذا صحيح.. ولكنكم بعد دقائق لن تروني.. ولن تروني بعد ذلك أبداً، سأعيش في عالم لايشبه عالمكم
-جدّي كيف أصبحت هكذا؟ ماهي القوة التي اكتسبتها بخبرتك لتنتقل عبر الأمكنة والأزمنة هكذا؟
-ستفهم كل شيء ياماهر.. اسمع يابني.. إن كنت مصمّماً على متابعة البحث في سرّ تجاربي على الحياة.. اذهب إلى مخبري القديم وافتحه.. افتح الدرج الثالث على يمين المخبر.. إنه درج مكتب ضخم سترى فيه الأجوبة عن جميع تساؤلاتك..
-قال لي الدكتور (زيدي) أنك تفوقت عليه بكيفيّة الانتقال عبر الأزمنة والأمكنة، لماذا تريد العيش في عالم يختلف عن عالمنا؟ ولماذا تؤكد ياجدّي أننا لن نراك بعد ذلك أبداً؟
-تعبت من التقيّد بجسمي الماديّ المرهق.. قيود المادة بشعة وثقيلة..
-ولكن ياجدّي بهذه البساطة تتخلّى عن عالمنا.. لمَ لا تبقى حتى يوافيك الأجل وتعيش بيننا.
-ثم أموت بعد أن يضعف جسمي ويشيخ كثيراً، ثم تهيؤون لي جنازة لائقة وتدفنونني في قبر وتذكرونني لبعض الوقت ثم تنسونني مع مر الزمن..
-هكذا الحياة ياجدي، كلّنا سنشيخ وسندفن في قبور، لمَ لا تكون عادياً "مثلنا؟
-آه ياماهر، من تعرّف على البعد الخامس ويستطيع القفز إليه والتوغل في خفاياه، لا يستطيع أن يعيش الحياة العادية التي تعيشونها.. لماذا أغامر بمعرفتي وعلمي لأعود لعالم لا أشعر أنني أنتمي إليه حقاً.. عالم فيه الظلم والغدر والجريمة، وسيادة النزعة الحيوانية.
-جدّي.. تعرف كم أحبك وكم أسعى للوصول إليك، واكتساب خبرتك ومعرفتك.. علّمني، عرفني على ماتوصلت إليه، ونفّذ ماتريد بعد ذلك.. أرجوك ياجدي.
نظر العجوز السابح في البياض إليكم، تأمّل ماهر بحزن ثم قال:
-فات الأوان ياولدي.. جئت لوداعك، وأرسلت لك رسالة تخاطرية عن طريق هذه المرأة الوادعة لتقابلني هنا.. جئت مودعاً ولن تراني بعد اليوم ولن تستلم رسائلي المعنونة إلى بريدك بعد هذه اللحظة..
-جدي.. أرجوك لاتتكلّم بهذه اللهجة المؤلمة.
كان الدكتور ماهر يذرف الدمع الصامت وهو يحدّق نحو جدّه الذي بدأ يتحول إلى شبح مكلل بالبياض ووصلتكم عباراته المحزنة.
-إن كنت تبحث في سرّ تجاربي على الحياة.. اذهب إلى مخبري القديم كما قلت لك وافتحه، على يمين المخبر حيث الأواني والمحاليل.. هناك مكتب ضخم، افتح درجه الثالث، ستجد مفتاحه خلف الدرج الأسفل المفتوح سترى فيه كل الأجوبة عن تساؤلاتك.. وداعاً ياولدي..
صرخت لينا بحزن: -إنه يختفي كسحابة تضمحل.. سبحان الله
كان الدكتور ماهر يصرخ بحزن: -جدّي.. جدّي
ضغطت على كتفه بصمت وأنت ترى مقدار فجيعته.. وغيّبتكم الأسئلة المخيفة ضمن سحب من الحيرة وعدم الفهم..
عدتم إلى الفندق وكانت السيارة تنتظركم وسائقها أمام الحديقة، كان منظر الدكتور ماهر محزناً وقد بدا على وجهه الألم والهمّ.. لم تتحادثوا في السيّارة حتى عندما ودعكم إلى غرفته دون أن يضيف كلمة.. كانت لينا تشدّ ذراعك وأنتما تقطعان بهو الفندق، نحو الكافتيريا..
-اشعر برغبة كبيرة في تناول القهوة والاسترخاء..
-لماذا لا نصعد إلى غرفتنا، ستجهزين قهوة هناك.؟
-لا.. أريد أن أجلس في أقرب مكان وأطلق العنان لمخيلتي أعيد تركيب الأحداث المدهشة..
-حسنٌ.. سنجلس إذن في هذه الزاوية..
كانت زاوية ملتفة بشكل أريكة مريحة، جلستما معاً متجاورين..
-قل لي، هل ماحدث كان حقيقياً؟
-أعتقد ذلك
-ولكن كيف؟ إنه شيء لا يصدق.. لماذا لم يخطر ببالنا فكرة استخدام كاميرا لتصوير الدكتور حامد وهو يختفي؟
-فعلاً أنت محقّة..
-آه.. يا إلهي، ربما كان حدثاً أسطورياً لن يتكرر في حياتي، مارأيته حدثاً أشبه بخرافة مستحيلة..
-قد يكون خارجاً عن المألوف بدرجة لا تصدّق، ولكنه حدث فعلاً..
أغمضت عينيها مسترخية وهي تهمس: -قهوة مع الحليب من فضلك..
سألتها وأنت ترى اهتمامها الكبير يتحوّل إلى هاجس بدا أنه يتملكها:
-أيمكن أن نصل لتفسير للأمر؟
همهمت شاردة: -ليتني أستوعب مايجري أولاً
قلت بحنان: -يجب أن ننام مبكرين سنلتقي مع الدكتور ماهر في الصباح، لاندري شيئاً عن خططه..
هزّت رأسها موافقة: -معك حق..
-8-
كان نوماً متقطعاً تخللته أحلام عن البعد الخامس وعالمه الغريب، صحوت أكثر من مرّة وأنا ألهث من المشاهد التي كانت تتراءى أمامي في الحلم، وعن أطياف شاردة، وأشباح بأشكال غير مفهومة.. ورأيت أخيراً وجه الدكتور حامد المشرق يبتسم لي بصمت وهو يهزّ رأسه..
في نحو السابعة فتحت عيني، كان الفراش إلى جانبي خالياً، خمنت أن لينا قد استيقظت مبكرة وبعد لحظات دخلت وهي تحمل صينية القهوة:
-اتصل الدكتور ماهر يريد أن يرانا في الكافتيريا في الساعة الثامنة..
-حسناً سأغسل وجهي سريعاً وأعود لنشرب القهوة.. عدت إليها، فلفت نظري احمرار عينيها ووجهها المرهق: -ماذا ياحبيبتي، لم تنامي جيداً كما أرى..
-تقلبت كثيراً، لم أستطع النوم.. كنت أراقبك وأنت تنام بعمق ثم تستيقظ منزعجاً وتعود إلى النوم.. حسدتك على قدرتك على النوم، وأشفقت على عذابك وأنا أراك تلهث في كوابيسك المزعجة، ولكنني أعلم أنك تكره أن يوقظك أحد مهما كان تنفسك مضطرباً.. إذ تقول لي دوماً، أنا في عالم آخر أتصارع مع كائنات أحاول التعرّف عليها..
تحادثنا لبعض الوقت، وفي نحو الثامنة إلاّ ربع هبطنا إلى الكافتيريا، ولدهشتي وجدت الدكتور ماهر ينتظرنا، وهو يقلب في جرائد الصباح..
ابتسم ملوّحاً، وحين أخذنا أمكنتنا حول المنضدة، هزّ رأسه وهو ينظر إلينا قائلاً:
-سأرحل من الهند غداً، يجب أن أعاين مزرعة جدّي..
-لماذا بهذه السرعة؟
-ألن ترحلا معي؟
-ماذا؟ نرحل معك؟ غداً؟
-لِمَ لا ياسيدتي؟ الأمر يستحق المغامرة..
-ولكن إجازتنا هنا لم تنته.. أمامنا مشاريع كثيرة أخرى في التجوال في مناطق الهند
-يادكتور طارق، أنت تعرف الهند جيداً، وقلتَ لي أن زوجتك قد زارت أغلب المناطق.. ما الداعي لأن
تعيدا زيارة هذه المناطق، لاشيء يتغيّر في الهند مع الزمن. صدقني
هز رأسه شارداً وتابع يقول:
-أنا آسف، سأقطع عليكما إجازتكما، ولكني أعلم كم يبدو لكما الأمر مهمّاً؟
سألت لينا: -ولكن لماذا أنت مصرّ على الرحيل بسرعة يادكتور ماهر؟ لم توضح لنا السبب..
-لا أخفيك القول ياسيدتي، أنني خائفٌ على المزرعة، أن أخي الأصغر، لايلقي اعتباراً لأهمية ماتحملُ هذه المزرعة من تراثٍ زاخرٍ لتجارب جدّي.. أخشى أن يغريه التّجار ببيعها..
قلت مندهشاً: -بهذه السهولة، معقول؟
-قد يحصل ذلك، أؤكد لك، أمس هتفت لي زوجتي، وهي تحكي عن حفلةٍ صاخبة أقامها أخي لبعض التجار في المزرعة نفسها.. وقد أزعجت الأصوات الصاخبة ومكبّرات الصوت، أهالي القرية المجاورة فأتوا يشتكون.. ولكن أحداُ لم يكترث لشكواهم.. هل فهمتني يادكتور طارق؟
-نعم.. نعم
-أنا لا أريد أن أحرجكما بالسفر، ولكني لاحظتُ شغفكما بمعرفةِ المزيد من أسرار جدي، وبحوثه العلمية المتطورة.. وقد لا يسعفني الوقت أن أراكما بعد فترةٍ في الوطن، فلا أحد يعلم مايخبئه القدرِ
-معك حق.. على كل حال رغم أن العملية تبدو صعبةً، ولكن لابأس سنسافر سوية، فأنا متشوّق كما (لينا) متشوقة لمعرفة المزيد عن البعد الخامس والولوج فيه.
-إذن دون أن أحرجكما أنتما موافقان على السفر معي؟
-نعم بالتأكيد.. أليس كذلك يالينا؟
-نعم.. وقد اشتقت أنا لرؤية الأولاد.. فلا مانع أن أقصّر إجازتي وأقطعها للعودة إليهم.
-على بركة الله إذن.. سأتصل بشركة الطيران لتثبيت الحجز. يمكنكما تسليمي بطاقتي الطائرة أيضاً.. ونلتقي بعد ذلك على الغذاء..
-لابأس.. سأذهب لإحضارها بسرعة..
اتجهنا إلى السوق لشراء بعض الأغراض، وشغلنا التفتيش في أسواق (كارول ماغ) و (جورباغ) و (الكانات بليس) و (الجانباث) شغلنا ذلك عن العودة إلى الفندق مبكرين.. وحين وصلنا في نحو الثالثة والنصف كان الدكتور ماهر ينتظرنا في البهو..
-كنتما تتشوّقان؟ أنا آسف لم أضع ذلك في اعتباري
-خير؟ أجدّ شيء جديد؟
-نعم.. انظرا.. إنها رسالةٌ وضعت في (استعلامات) الفندق..
تلقفت الورقة استعرضها.. وقلت:
-إنها من جدك؟
-نعم إنه يقول فيها:
((ولدي ماهر، لاتقسُ على أخيك، إنه جاهل، حاول إنقاذ مايمكن إنقاذه، هناك صندوق حديدي في القبو، لا أحد يستطيع فتحه، مفتاحه موجود تحت البلاطة الثالثة قرب المدخل، إنها غير مثبتة جيداً أرجو أن تصل إلى ماتريد.. وفقّك الله يابنّي)).
-يعني ذلك أن الفوضى دخلت إلى المزرعة.
-نعم.. وقد رأى جدي ذلك، وأتى إليّ ينبئني إلى مايحدث.. ليتني أعثر على طائرةٍ تطير إلى بلادنا اليوم.. ولو عن طريق الانتقال من مطارٍ لآخر.
سألته: -ألهذه الدرجة أنت قلق؟
-نعم.. أنتما تدركان أهمية أبحاث جدي.. مادامت المزرعة ملكاً لنا لا أخاف على مافيها، لأنها محفوظةٌ جيداً، وضعتها بعناية في أمكنةٍ أمينة، ولكن إذا استلمها أحد التجار، فسيبدأ بهدم المنزل القديم ويلقي كل مافيه، في أكوام النفايات..
وافقت على كلامه وأنا أهز رأسي:
-معك حق.. ربما يساهم التبكير بساعة واحدة بإنقاذ الكثير.
-لقد فهمتني جيداً يادكتور طارق.. حينما ذهبت لتثبيت الحجز.. لم أكن قد استلمت هذه الرسالة بعد فلو استلمتها من قبل لحاولت بشتى الوسائل تأمين حجز في هذا اليوم، وربما سافرت ولن أعود إلى هنا...
-يمكننا -إن رغبت- الذهاب إلى مكاتب السفر والسؤال عن الطائرات المتوجهة -إلى بلادنا- اليوم بالذات، أنا جاهز للحركة..
قال مغمغماً:
-طلبت من مسؤول الفندق أن يبحث بين الشركات الخاصة عن طائرة تتوجه إلى هناك اليوم، ويبدو أنه لم يعثر على أية طائرة.. ولم يبق سوى أن نستعين بحظنا في السفر غداً والتوجه فور وصولنا إلى المزرعة، أنا خائف كثيراً على مخبر جدي الخاص، وعصارة تجاربه.. إنها لاتهمه الآن، لأنه يعرفها وطبقها على نفسه، ولكنها تهم أجيال الإنسانية الباحثة عن المعرفة والكشف.
وأتى موظف حجز الفندق خجلاً:
-دكتور ماهر، أنا آسف
-خير؟ لم تعثر على حجز؟
-هناك طائرة تتوجه اليوم إلى الشرق الأوسط ولكنها ستستريح في عمّان يوماً واحداً قبل التوجه إلى دمشق.
-لابأس، سنسافر على خطوطنا الجوية غداً.. شكراً لك.
-أنا آسف ياسيدي، ليتني أستطيع مساعدتك.. عن أذنك..
نهض يقول:
-هيا تناولا الطعام وارتاحا قليلاً سنلتقي في السادسة في الكافتيريا قد أقوم بزيارة صديق، أتمنى أن أعرفكما عليه.
قلت: -حسناً يادكتور ماهر.. سنلتقي في السادسة.
أكد مجدداً: -حاولا النوم لبعض الوقت، قد تكون ليلتنا مرهقةً اليوم.
قالت لينا بعد رحيله:
-ربما كان الشخص الذي يزوره يتمتع بقدرات خارقة؟ ألم تر ذلك العرض في التلفزيون قبل المقابلة التي أجريت مع الدكتور ماهر.
-ذلك الرجل؟ آه تذكرت.. أتعتقدين أن الدكتور ماهر سيزوره اليوم.
-ربما.. أتمنى ذلك بالفعل.. هيا نتناول الطعام.. سنرسل الأغراض مع موظف الفندق..
-9-
في الساعة السادسة التقينا في الكافتيريا المطلّة على حديقة الفندق، وحكى لنا الدكتور ماهر عن الشخص الذي سيزوره اليوم.
كان شخصاً يتمتع بقدرات خارقة، تعرف عليه الدكتور ماهر في أول زيارة له للهند، ولم يحكِ لنا شيئاً عن تفاصيل تلك القدرات الخفية..
بعد أن تناولنا القهوة، مع الحليب التي كان الدكتور ماهر يصر على تناولها ، ولم نكن نخالفه في هذا الأمر، استدعى الدكتور ماهر سيارة أجرة أقلتنا صوب دلهي القديمة في منطقة (ماكارجي ناغار).
كانت المنطقة تقع في أقصى شمال دلهي، وهي منطقة حديثة نسبياً، دارت بين طرقاتها، السيارة ثم توقفت أمام فيلا بحديقة واسعة، مالبث الحارس أن أقبل نحونا مرحباً.
-سيدي (آمارسينغ) ينتظركم تفضلوا.
قادنا إلى حديقة واسعة جميلة.. يضفي عليها الغروب منظراً ساحراً.. بورودها وأزهارها..
قالت لينا: -يعتنون بالزهر كثيراً هنا في الهند..
أكد الدكتور ماهر:
-هناك (بستاني) خاص، لتعشيب الحديقة وسقاية أزهارها ونباتاتها
انسحب الخادم وهو يقول: -يمكنكم الجلوس هنا، سيأتي سيدي إليكم.. عن أذنكم.
قلت: -لقد انتقى مكان الجلوس جيداً.. إنه مكان ساحر فعلاً..
وبعد لحظات أقبل (آمارسينغ) كان رجلاً معتدل القامة نحيلاً تشع الابتسامة في وجهه:
-أهلاً بكم.. شرفتني يادكتور ماهر.
-شكراً لك ياأستاذ (آمار) أعرّفك بصديقي الدكتور طارق وزوجته إنهما كاتبان في مجالاتٍ متعددة.. من بينها الاهتمام بالقدرات الخفية.
همهم مرحباً: -أهلاً وسهلاً.
سأله ماهر: أراك متعباً.. خير؟
-خرجت لتوي من تجربة خاصة.. ارتفعت لمترين لمدة ربع ساعة، تعرف كم يرهق الارتفاع دون جاذبية الطاقة المخزونة.. إنه يشنّج العضلات جميعها.
-لماذا فعلتَ ذلك؟ كنتُ أرغب أن أطلع صديقي على بعض قدراتك.
-لابأس، أستطيع القيام بذلك مرة ثانية ولكن لمدة ثلاث أو أربع دقائق فقط.. سنشرب الشاي بالحليب ثم ندخل إلى مكان عزلتي المفضل..
* * *
أنت امرأة تحمل صينية الشاي قال لها:
-ضعيها هنا، واذهبي إلى غرفتي الكبيرة، نظفيها جيداً، سنذهب إليها بعد تناول الشاي، اطلبي من أشوك أن يعاونك..
-في الحال ياسيدي.
ثم أكملت: -اتصلت بك البروفسورة مادلين، ترغب أن تحدد موعداً معها.. أعطتني رقم هاتفها.
-ليكن الموعد بعد غد في العاشرة صباحاً.. أعلم أنني قد أزعجها بهذا التأخير ولكني مشغول غداً بشكل غير عادي.
-سأفعل ياسيدي.
انصرفت الخادمة وهي تحني رأسها. سألته:
-تبدو صغير السن يا أستاذ (آمار)؟
-أنا في الحادية والستين يا صديقي.. مررت بظروف خطيرة، استطعت الانتصار عليها، النصر عندي يساعدني في إنقاص العمر.. فأبدو فتياً.. ما رأيك بذلك يا دكتور ماهر؟
-في حالتك أنت، العملية منطقيّة، أنت في تأملاتك وعزلتك وقدراتك الكامنة، تساهم في تجديد خلاياك وهذا ما يجعلك تبدو فتياً.. إضافةً لأمرٍ آخر هو عدم تناولك للحوم والدهون، وكل ما يزعج الجسم من طعام أو شرابٍ أو منبهات أو تدخين أيضاً..
-معك حق.. حسناً يا دكتور ماهر، أتستطيع البدء بالحديث عما جئتني به اليوم؟
-بالطبع.. أنت تعرفُ أهم أسباب زيارتي لك
-أنت تريد أن تجعل صديقيك يريان بعض المشاهد التي تبدو غير عادية بالنسبة لهما، ثم أنك تحمل تساؤلات مرهقة عن مزرعة جدك الدكتور حامد وتريد الإجابة عنها.. حسناً يا صديقي، من أين نبدأ؟
أنبدأ بالمشاهد أم أضعك في صورة ما يجري في المزرعة؟
-بل بصورة ما يجري في المزرعة في البداية.. أرجوك..
-لا بأس..
صفق بيديه فحضرت صبية سمراء جميلة:
-طلبتني يا سيدي؟
-احضري لي الوعاء البلوري يا سوشما، واملأيه بالماء..
-حسناً يا سيدي..
-أنت تشعر بالقلق كثيراً يا دكتور ماهر، ولكن لا تقلق إلى هذه الدرجة، ما حدث حدث، ولا نستطيع ردّه
-إنها كنوز جدي الدكتور حامد.. تذهب هكذا دون اهتمام، أنا خائف كثيراً أن يدمروا تراث هذا الرجل العظيم..
وأحضرت الفتاة الوعاء البلوري ووضعته على المنضدة أمامكم.. :
-تأكدي من أن الغرفة الواسعة التي أقوم بها بتلأملاتي نظيفة وجاهزة فبعد دقائق سأنقل ضيوفي إليها ..
-سأفعل يا سيدي.
وبعد خروجها قال آمار:
-سوشما هي أمينة سري، إنها وسيط ممتاز أحياناً في نقل الأفكار والتخاطرات المديدة، البعيدة.. سأبدأ الآن في التركيز بالوعاء البلوري..
همست لينا: -انظر إلى عينيه يا طارق.. كأنهما تتوهجان بلون أبيض؟
-إنه يركزهما على الوعاء البلوري.
قال آمار: -ركزوا معي جميعاً على الوعاء البلوري، انظروا إليه جميعاً.. ستبدأ الصور بالحركة بعد لحظات وفعلاً بدأت المياه بالحركة.. إنها غيرُ واضحة المعالم الآن.. المياه تشف عن ضباب كأنه غيوم صرخ:
-ركزوا نظراتكم جيداً، ستنجلي هذه الغيوم عن صور حية تبعد عنّا آلاف الأميال.
ولدهشتنا، تحركت الغيوم سارحةً لتنكشف الصورة عن مزرعةٍ كبيرةٍ، انتشر فيها رجال يعبسون ويعاينون وبينهم رجل في الأربعين يحمل حقيبة وهو يتحرك حولهم
بدأت الصور تقترب، شاهدنا العمال ينقلون الأثاث إلى خارج المزرعة كان أثاثاً يحتوي على أوانٍ زجاجية وسوائل ملوّنة، وأجهزة صغيرة ومجاهر لتقريب ومتابعة الأجسام الدقيقة..
ورأينا العمال يفتحون القبو.. ويخرجون الصندوق الحديدي الثقيل ويضعونه أمام الرجل الأربعيني.. كانت إحدى الجرافات تقترب وتكتسحُ البناء الصغير إلى جانب البناء الضخم.
تابعنا الصور وهي تتوقف على سيارات تتوقف أمام المدخل يهبط منها رجال بكروش متخمة وملابس أنيقة، وحقائب ملأى بالنقود.. كان الرجل الأربعيني يتجه نحوهم مسرعاً وهو يرحب بهم باحترام..
صرخ ماهر: -الوغد.. إنه يساومهم على المزرعة، ويسيل لعابه لرؤية النقود..
قال آمار: -إنه أخوك يا دكتور.. ما هو اسمه؟
-كاسر، وها هو يكسرُ قوانين عائلتنا العريقة.. أنا خائف على الصندوق الحديدي.
-ستختفي الصور سريعاً يا دكتور ماهر، وسأحاول مساعدتك بإبعادهم عن الصندوق.
-كيف وأنتَ على هذا البعد.
-لا تخف لي وسائلي الخاصة، ما دمت عرفت صورة (كاسر) أخيك.. سأؤثر عليه تخاطرياً.. بمعونة سوشما...
صفق بيديه فحضرت الفتاة:
-اجلسي هنا يا سوشما واسترخي جيداً
-ستستخدمني كوسيطة نقل أفكار؟
-نعم.. استرخي جيداً
وسرعان ما استرخت ودخلت في نوم عميق، كأنه غيبوبة
-أنتِ الآن تطيرين يا سوشما، تطيرين بعيداً.. بعيداً
قالت سوشما بصوت أجش: نعم.. أنا أطير.. أطير
-أنت تحطين فوق مزرعة، أترين ذلك الرجل الذي يرتدي بذلة سوداء إنه أربعيني.. يحمل حقيبة ويتناقش مع رجال سمان بكروش ضخمة..؟
-سأدخل إليه.. إنه يترنّح..
صرخ آمار:
-اسمع أيها الرجل.. أنت المدعو كاسر، اصرف هؤلاء الناس من المزرعة، أنت تشتكي من صداع لا تستطيع مقاومته
كانت سوشما تحكي بصوت وكأنها تتألم بشكل غير عادي:
-إنه صداع.. صداع فظيع.. إنه يترنح من جديد
-اصرفهم بهدوء وأوقف الجرّافة عن العمل، أنت مصاب بصداع، تحتاج للراحة هيا يا كاسر، اصرفهم.. بسرعة.. لن تستطيع المساومة، صداعك أقوى من أن تتمالك قواك، هيا..
قالت سوشما:
-إنه يشير إليهم، يطلب منهم تأجيل المناقشة، العمال يوقفون الجرافة.. إنه يضغط على رأسه.. يطلب من أحد الخدم إحضار طبيب..
-عظيم يا سوشما.. عظيم.. هه.. يمكنك العودة الآن.. ستنامين للحظات ثم تستيقظين.. هيا..
سأل ماهر: -هل انتهت مهمتُها؟
-بالطبع.. سيعاني أخوك من الصداع لمدة ست ساعات وهذا هو أقصى ما أستطيع فعله..
-قد نصلُ إليه ويكونُ كل شيءٍ قد انتهى.. ألن تستطيع إعادة الكرَّة إليه أقصد إصابته بصداعٍ آخر بعد ست ساعات؟
-سأحاول، ولكن المدّة ستكون أقل من ست ساعات.. لم أفعلها من قبل ولا أعرف نتائج ذلك، قد يتأثر أخوك ويحدث له خلل داخلي في دماغه.. إن رغبت أن أعيد التجربة رغم هذه المحاذير سأفعل
-لا أدري يا آمار..
تنبه آمار للفتاة: -استيقظي يا سوشما.. انتهت مهمتك..
نهضت سوشما كمن يستيقظ من حلم ((نعم يا سيدي.. الغرفة جاهزة الآن))
-حسناً يمكننا الذهاب إلى هناك والبدء بالعرض.. هيا
-10-
كان ماهر يشعر بالقلق والحُنق من تصرفات أخيه.. وكان متردداً من إعادة الكرّة والتأثير على أخيه عن طريق وسيط.. من خوفه أن يتأثر مباشرة ويصاب بمرضٍ مجهول..
دخلنا إلى غرفة العرض وجلسنا صامتين.. كانت غرفة واسعة ما لبث (آمار) أن أحضر ملاءة وعصيّ وقضبان من الخشب، ثم تمدد على الأرض ووضع الملاءة وقضبان الخشب، وارتفع بجسمه المشدود في الفضاء متغلباً على الجاذبية.. هبط بعد لحظات، وعرّى صدره وبطنه، وأخذ يحرّك معدته وأمعاءه من تحت جلده الرقيق، ونحن مدهوشون لحركاته، ثم عاد من جديد يقف على رأسه ويحرك يديه، ثم يرتفع هكذا ورأسه إلى الأسفل وجسمه عمودي على أرض الغرفة ويطير في الغرفة للحظات قبل أن يعود وسط ذهولنا ثم وقف على رأسه في بركة ماء جانبيّة وظلّ هكذا لنحو ربع ساعة كأنه خشبة مغروسة في البركة دون حركة..
ونوّع عروضه كثيراً.. بالدخول إلى فرن متوهج بالنار ثم الخروج بعد لحظات دون أن تؤثر به النار شيئاً مشاهدٌ غريبةٌ غير مألوفةٍ شاهدناها، جرت مناقشات حولها مع (آمار) الذي ركّز على قوى الإنسان الخفية، وقدراته الخارقة.. التي يستطيع تفجيرها بالبعد عمّا يفسد البدن من طعامٍ به دهون ولحم حيواني ومن شرابٍ مسكّرٍ ودخانٍ وحقدٍ وحسدٍ وشرٍّ متراكمٍ في النفس.
صيام طويل على الماء فقط، ثم البدء بالتركيز الذي يكبر حتى يفجّر الطاقات الحبيسة والممارسة المستمرة تجعل الإنسان يصبح خارقاً باستخدامه لطاقات الدماغ..
واستمرت الجلسات حتى الحادية عشرة مساءً، حيث استأذنّا من المتخاطر الهندي الشهير لنعود إلى فندقنا..
كان ماهر صامتاً طوال الطريق، ظهر عليه القلق، وقد طلب منه آمار أن يعطيه الأذن بالاتصال بأخيه مرّة ثانية والتأثير عليه، ولكنه تردد مؤكداً له أنه سيخابره بالهاتف إن اقتنع بإعادة الكرّة..
وصلنا الفندق، واعتذر الدكتور ماهر بأنه متعب، واتجهنا إلى الكافتيريا لتناول عشاء خفيف ونحن نتناقش فيما حدث في بيت المتخاطر الهندي.. وبعد ذلك اتجهنا للنوم.
قالت لينا: -ما رأيناه اليوم من الصعب أن نراه لولا وجود الدكتور ماهر بيننا، كان يوماً استثنائياً .
قلت مكملاً: -ولست أشعر بالندم لأننا سنقطع زيارتنا.
-معك حق.. ثم أنني اشتقت للأولاد..
-إنهم بخير، والدتك تعتني بهم جيداً لا تقلقي.
-لست قلقة من هذه الناحية إنه الشوق فقط.
-ولا بد أن غيابك أوحشهم كثيراً..
وانبعث صوت رنين هاتف إلى جانبي كان الدكتور ماهر:
اتصل بي (آمار) قبل قليل.. دعانا للإفطار عنده، طائرتُنا في نحو الواحدة، ما رأيك؟
-أعتقد أننا لن نمانع، ما رأيك يا لينا بالإفطار عند المتخاطر الهندي غداً هذا ما يستشيرنا به الدكتور ماهر
-لا مانع بالطبع
-حسناً يا دكتور ماهر نحن موافقان
-أتمنى لك أحلاماً سعيدةً.. إذن.. إلى الملتقى في السابعة.
أطبق السماعة
-يبدو أن هناك المزيد من الاكتشافات الجديدة أمامنا.. في بيت ذلك المتخاطر الهندي
تحركنا في الصباح صوب بيت (آمار سينغ) استقبلنا على الباب رجل عجوز بلحية بيضاء، قادنا صوب الركن الخلفي من الفيلا..
لم نكن قد شاهدنا هذا الركن من قبل.. كان (آمار سينغ) قد أعدّ لنا إفطاراً شهياً، من (الباراتا) والبيض وبعض المقبلات الهندية إضافة للشاي بالحليب
-كنت قلقاً يا دكتور ماهر.. خفت عليك من هذا القلق
-نعم.. بالفعل كان القلق يأكلني على ما بقي من آثار جدي، وما زال..
-لذلك أرسلت بواسطة (سوشما) رسالة أخرى لأخيك، إنه مصاب بصداع الآن، أتريد أن تراه بواسطة الوعاء البلوري؟
-وما الذي تعتقد أنه يفعل الآن؟
-لقد تناول حبوباً مهدئة وهو نائم الآن
-إذن لا داعي لرؤيته من جديد.. ألا تشكل رسالتك الثانية خطراً عليه؟
-لا تقلق من هذه الناحية.. سيدة لينا تريدين رؤية أولادك؟
-أولادي؟ بالوعاء البلوري؟ ما رأيك يا طارق؟
-كما تشائين يا عزيزتي لا أرى مانعاً من ذلك..
-لا بأس.. إذن يا أستاذ.؟
صفق بيديه يستدعي سوشما التي وصلت خلال لحظات قال لها:
-جهزي نفسك وأحضري الوعاء البلوري
-في الحال يا سيدي
رأينا الأولاد بالوعاء البلوري، كانوا يلتفون حول أم لينا الممددة على السرير وهي ترنو حولها بإعياء بالغ شعرت لينا بالقلق والخوف على أمها.. ولكن آمار طمأنها أن حالتها الصحية غير خطيرة ثم أرانا شيئاً خارقاً آخر فلقد طلب من كل منا أن يسأل سؤالاً في ذهنه
وبالفعل سأل كل منا سؤالاً، رأينا القلم يتحرك لوحده ويكتب الجواب على الورقة وباللغة العربية أيضاً كان آمار عندها يركز طاقته على القلم الذي يتحرك ويكتب بقوة تحريك مركزة من دماغ آمار.. وحوالي التاسعة والنصف غادرنا بيت المتخاطر الهندي استعداداً للسفر
وبهدوء وصمت أكملنا إجراءات الرحيل، ومحاسبة الفندق وتوضيب الأغراض ثم الاتجاه نحو مطار (أنديرا غاندي) في دلهي... وأقلعت الطائرة والدكتور ماهر صامت يأكله القلق على بقايا تراث جده الدكتور حامد.. نامت لينا ولم تستيقظ سوى في مطار الشارقة، وبعد إقلاع الطائرة في طريقها إلى دمشق، كان التوتر يسود حركات الدكتور ماهر.. أشفقت عليه فبادلته الحديث محاولاً التخفيف عنه:
-أنا متأكد أن كل شيء سيكون على ما يرام.. أليس الصندوق المغلق هو المهم، لن يستطيع أحد فتحه إلا أنت
-ولكن قد يحطمونه، وربما يفجرونه لمعرفة فحواه
وأتت المضيفة إلينا: -دكتور ماهر؟ ماهر الضامن؟
-نعم؟ خير ماذا تريدين؟
-هناك سيدة ترغب بالحديث إليك.. ألديك مانع؟
-سيدةٌ ترغب بالحديث معي؟ ليس لدي مانع بالطبع؟
-حسناً، سأخبرها بذلك، إنها تشعر بالخجل، لا تريد أن تتطفل عليك وأنت مفكر، قد يكون التأمل الفردي أحد متعك الخاصة.
-لا بأس.. أين هي؟
أشارت المضيفة لسيدة خمسينية تقف في ممر الطائرة اقتربت من الدكتور ماهر باحترام:
-أنا لؤلؤة يا سيدي ابنة الدكتور حسن، جدّي هو الدكتور زيدي صديق جدك الدكتور حامد، كنت الحفيدة المقربة منه.
-لؤلؤة؟ أهلاً بك يا سيدتي، تفضلي، ذاهبة إلى دمشق؟
-لا.. أنا مسافرة إلى لندن عبر دمشق، نحن نقيم هناك منذ (20) عاماً
-وكيف عرفتني؟
-في البيت عندنا صورة مكبرة لجدي مع الدكتور حامد.. أنت تشبهه كثيراً تتبعت أخبار أبحاثك في محطات التلفزة الفضائية.
-حسناً، وما أخبار الدكتور حسن، والدك؟
-لا نراه إلا قليلاً، إنه بعمر يناهز المائة، ولكنه ينتقل كثيراً ويختفي كثيراً لا نعرف أخباره سوى برسائله القصيرة
-حدثيني عن أبحاثه، أعلم أنه يقوم بأبحاثٍ على الخلية الحية؟
-لا أعلم عنه شيئاً، زوجي يتابع نشاطاته رغم ندرة ظهوره إذا رغبت بمراسلته سأعطيك العنوان ما دمت مهتماً بهذه النشاطات
-سأكون سعيداً بذلك يا لؤلؤة..
انبعث صوت عبر المكبّر: ((بدأنا نقترب من مطار دمشق الدولي الرجاء من حضرات الركاب تجليس مساند المقاعد، وربط الأحزمة استعداداً للهبوط))
-شكراً لكِ يا لؤلؤة، سأخابركم في لندن
-الخاتمة-
هبطت الطائرة في مطار دمشق الدولي، وأنهى أحد الموظفين إجراءات الخروج بسرعة، وهو يدور حول الدكتور ماهر يلبي طلباته..
وأمام مبنى المطار كانت تنتظرنا سيارة وضعنا فيها أغراضنا أيضاً وانطلقنا نحو المدينة، وقد أشار الدكتور ماهر أن يتجه فوراً إلى مزرعة جده التي تبعد عن دمشق إلى الجنوب الغربي نحو (40) كيلو متراً ولم نمانع وما لبثت السيارة أن زادت من سرعتها وسط تشجيع الدكتور ماهر للسائق.. حتى وصلنا أخيراً إلى المزرعة قال السائق:
-سأنتظركم هنا يا سيدي
-بالطبع لن نغيب طويلاً
-حسناً.. هل أدخل السيارة إلى داخل المزرعة؟
-لا داعي لذلك، أوقفها في تلك الزاوية
-حسناً..
كان الباب مفتوحاً، وقد اقترب منّا أحد الحراس يحيّ الدكتور ماهر باحترام:
-أهلاً بك يا سيدي ماهر.
-ما تزال هنا؟ اعتقدت أن المزرعة قد بيعت.
-كادت الصفقة أن تتم، لولا أن وقع للأستاذ كاسر، حادث غريب جعله يغيب عن الوعي، وما زال غائباً عن الوعي-حالته خطيرة..
-وأين هو الآن؟
-في المستشفى المركزي، في قسم العناية المركزة.
-وماذا فعل بالمزرعة؟
-هدم البناء القديم، وأصلح البناء الجديد، كان يطلب سعراً مرتفعاً، وكان التجار يحومون حوله.. لولا أن سقط فجأة على الأرض وهو يشير لهم أن يبتعدوا..
قالت لينا: -حسناً، لندخل ونبحث عن الصندوق..
سأله الحارس وقد رأى لهفته:
-عمّا ذا تبحث يا سيدي.. البناء القديم هدم تماماً.. ما زالت هناك بعض الأنقاض
-وأين هذه الأنقاض..؟ دُلَّني..
-حسناً.. تفضل يا سيدي
كانت أنقاض البناء مكومة أمامنا بشكل محزن:
-هذا هو القبو، إنه مُزال تماماً، وما زال هناك مدخله فقط:
عاد الرجل يسأله: -أتبحث عن شيء يا سيدي؟ صندوق حديدي مثلاً؟
-نعم.. نعم.. أين؟
-إنه في عهدة الأستاذ كاسر.. وهو يضعه في مدخل البناء الحديث
-حسناً.. سأبحث أولاً تحت بلاطات المدخل.. جيد أنهم لم يزيلوها أيضاً
كانت البلاطة تتحرك وبالفعل عثر الدكتور ماهر تحتها على المفتاح
-ها هو المفتاح، لننطلق إلى الصندوق نفتحه
كانوا قد حاولوا فتح الصندوق بمختلف الوسائل ولم ينجحوا
فتحه الدكتور ماهر بالمفتاح بسهولة كانت هناك مجموعة من الأوراق والكتب القديمة.. كانوا يعتقدُنه مليئاً بالمال..
-الحمدُ لله.. إنها أسرار أبحاث جدي.. سأنكبُ على دراستها
سألته: -وكاسر؟ هل..؟ هل ستقف ضده؟
-لا.. لن أقوم بأي عملٍ بعد أن عثرتُ على هذه المخوطات.. ليسامحه الله..
***
وتكررت زيارتنا لماهر في مزرعته الصغيرة التي اشتراها وبدأ يطبق فيها أبحاث جده، وبعد عدة أشهر بدأ الدكتور ماهر يغيب طويلاً ويختفي كثيراً، بدأت استلم منه رسائله يؤكد فيها أنه على خطا جده، الدكتور حامد..
وفي عام 1997 اختفى تماماً، وقد أرسل رسالة أخيرة لنا، تؤكد أنه دخل في البعد الخامس وتعرّف على معنى مكان المكان وزمان الزمان.. وسط دهشة أحبائه ومريديه..
***
أنا في انتظار ردودكم ....
|