لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القسم الادبي > منتدى الكتب > كتب المسرح والدراسات المسرحية
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

كتب المسرح والدراسات المسرحية كتب المسرح العربي - كتب المسرح العالمي - دراسات مسرحية


صبري حافظ , الإضافات المسرحية الكبيرة لانطون تشيكوف , موضوع مقالي

الإضافات المسرحية الكبيرة لانطون تشيكوف ـــ بقلم: صبري حافظ بالرغم من أهمية مسرحيات تشيكوف ذات الفصل الواحد، وجودة بعض مسرحياته الطويلة الأولى1فإن مسرحياته الأربع الأخيرة هي إضافاته الحقيقية

إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack (2) أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 21-09-09, 04:29 AM   2 links from elsewhere to this Post. Click to view. المشاركة رقم: 1
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو راقي


البيانات
التسجيل: Sep 2006
العضوية: 11622
المشاركات: 1,113
الجنس ذكر
معدل التقييم: معرفتي عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 13

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
معرفتي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

المنتدى : كتب المسرح والدراسات المسرحية
افتراضي صبري حافظ , الإضافات المسرحية الكبيرة لانطون تشيكوف , موضوع مقالي

 

الإضافات المسرحية الكبيرة لانطون تشيكوف ـــ بقلم: صبري حافظ


بالرغم من أهمية مسرحيات تشيكوف ذات الفصل الواحد، وجودة بعض مسرحياته الطويلة الأولى1فإن مسرحياته الأربع الأخيرة هي إضافاته الحقيقية للفن المسرحي. وهي التي ظلت ومازالت تترك بصماتها بوضوح على المسرح العالمي منذ كتابتها حتى اليوم. فهذه المسرحيات تشكل ثورة حقيقية على المفهوم المسرحي الذي ظل مسيطراً حتى وقت كتابتها سواء في روسيا أو في العالم الغربي. ثورة خلصت المسرح من السوقية ومن الابتذال ومن الطنطنة الانفعالية الزاعقة.‏

وقدمت للعالم مسرحاً جديداً "استبدل بالحكاية القديمة ذات العقدة الجيدة التطور، طائفة من جزئيات الحياة ورقعها وشرائحها التي تتوارد توارداً عرضياً واضحاً يلم شعثها والتي يوحدها الجو أكثر مما توحدها العقدة. والجو عند تشيكوف هو جوهر كتاباته التي يعكس سحرها في حدة أحوال جيله النفسية الأساسية. وقد وجد منهجه في التهوين الإيحائي ذريعته القوية في إيقاع لغته واتزانها الفني بالنغمات البسيطة والأصداء المكبوتة التي في مقدورها أن ترجع بعض ألوان الحساسية الإنسانية الخداعة. ومأساة كثير من شخصياته هي في المحل الأول مأساة الحساسية تصارع التبذل.. غير أن التبذل دائم الانتصار. وكلما زاد التبذل في الاحتيال والنزعة العملية والوحشية زاد اقترابه مما يحسبونه النجاح في الحياة".‏

وليس غريباً أن يقوم تشيكوف بهذه الثورة التي حقق فيها حلماً طالما راود الكثير من الكتاب في عصره. وهو الذي استطاع أن يعبر في مسرحياته وقصصه عن حساسية اللحظة القومية والإنسانية التي عاشت فيها روسيا فاصلاً تعيساً تجيش فيه نفوس الجميع بالثورة على أنفسهم دونما خجل. واستطاع أن يقدم إنسانية هذه اللحظة بكل ما فيها من إفلاس روحي وبأس رازح ومخاوف مبهمة واسترابات غامضة وإحساس واهن بالتبدد والضياع. وأن يصور روسيا الحبلى بالثورة الممشوقة إلى واقع جديد. ليس غريباً على من قدم ضمير عصره وجسد أدق خلجاته أن يحقق حلماً طالما راود الكتاب في مختلف بقاع العالم المتحضر.. تبدى لهم غائماً مرة سافرا أخرى.. لكنه عبر عن نفسه في اكتمال ونضوج في كتابات موريس ميترلينك (1862 ـ 1949) النظرية.. فقد كتب عام 1896 في كتابه (كنز البسطاء) يدعو إلى نفس المسرح الذي حققه تشيكوف في نفس العام في مسرحيته الرائعة (النورس) ويقول "أتمنى أن ترينا المسرحية حدنا من الحياة.. وقد تتبعته إلى منابعه وكشف عن سره، وربطت هذا الحدث بذاك المنبع والسر حيث أن مشاغلي اليومية لا تتيح لي الفرصة ولا القدرة على أن أقوم بذلك لنفسي. لقد ذهبت إلى هناك ـ يقصد إلى المسرح ـ يحدوني أمل في أن جمال وعظمة وجدية وجودي اليومي المتواضع سوف تتكشف لي في لحظة. وأنني سوف أطلع على ذلك الوجود أو القوة أو الرب ـ أو تلك القوى الخفية التي لا أدري كنهها والتي تلازمني دوماً في غرفتي. كنت أتوق إلى إحدى تلك اللحظات الغريبة من حياة أسمى تلك اللحظات التي تتسلل غير ملحوظة في أكثر أوقاتي جفافاً. بينما لا يزيد ما أراه على رجل يقول بصعوبة مضجرة لماذا هو غيور أو لماذا دس السم أو لماذا قتل". هذا المسرح الحلم الذي يتناول ما في الحياة اليومية من مآسي ومهازل بشاعرية وبساطة والذي تاق إليه وجدان عصر بأكمله هو ما حققه تشيكوف في أول إنجازاته المسرحية الكبيرة.‏

وقد كان تشيكوف على وعي كامل بالثورة التي يريد أن يحدثها في عالم المسرح أو بصياغة متواضعة بالتغيير الذي يرغب أن يحققه فيه. وعي يفوق وعي معاصريه ورغبتهم في الاستجابة لحساسية العصر المتغيرة.. سواء في روسيا أو في أوربا التي كانت تتموج بمحاولات عديدة لتغير المصطلح المسرحي الشائع.. كان هناك غير ميترلينك أوجست سترندبرج الذي ما لبث أن تجاوز المرحلة الطبيعية سريعاً ليخلق مسرحه الصوفي الخاص وليعبر عن أحلامه الخاصة وكوابيسه ورؤاه.. وكان هناك هنريك ابسن الذي حاول في مرحلة متأخرة من حياته أن يقيم خلف غلالة الأحداث الواقعية بناء محكماً من الرموز الدالة والشفيفة. وبصفة عامة كان هناك نزوع واضح إلى ما يمكن أن نسميه بالواقعية الشعرية برموزها الثرية بالدلالة والإيحاء. وبمحاولتها للتركيز على الأحداث البسيطة في حياة الإنسان العادي حيث يدور المشهد في حجرة الاستقبال أو الطعام المألوف ومن خلال العائلة البرجوازية الصغيرة. وتتفجر الدراما في هذه الحياة العادية والمشهد المألوف من خلال التضاد بين الماضي والحاضر وبين ما تتوهمه الشخصية عن نفسها وواقعها وحقيقة هذه النفس وذاك الواقع. معتمدة في ذلك على تكنيك الاسترجاع بعد قمة الأزمة أو بالقرب منها.. وهو تكنيك ورثته المسرحية الجديدة من العمال الناضجة في المسرح القديم ولكنها رققته وأجهزت على نبرته العالية. من هذه العناصر ومن عناصر أخرى غيرها سنرجئ الحديث عنها إلى الفصل القادم صاغ تشيكوف مسرحه الجديد.. وكانت (النورس) هي العلامة الفارقة على طريق هذا التحول.‏

وقبل أن أبدأ حديثي عن (النورس) أحب أن أشير إلى أنني سأتجنب في تناولي لمسرحيات تشيكوف الأربع الكبيرة الطريقة التقليدية في التخليص ثم التحليل. ليس فقط لأن نصوص هذه المسرحيات متوفرة في المكتبة العربية ولكل منها أكثر من ترجمتين عربيتين، ولكن أيضاً لأن هذه المسرحيات لا تعتمد على الحبكة، فهي كلها من تلك المسرحيات التي يسميها ماجارشاك بمسرحيات الحدث غير المباشر. والتي تعتمد على عناصر أخرى غير الحدث "فالعناصر الرئيسية التي تعبر عن الحركة في مسرحية الحدث غير المباشر، هي عنصر الرسول الذي ينقل إلى الجمهور معلومات عن الحوادث الأساسية التي تحدث خارج خشبة المسرح. وعنصر وصول الشخصيات التي تدور حولها أحداث المسرحية الرئيسية ورحيلها.وعنصر الكورس الذي يكون جزءاً متكاملاً في المسرحية ويشارك في الحدث. وعنصر التحول في الموقف الذي يؤدي إلى فك العقدة وأخيراً عنصر الخلفية الذي يعمق مدلولات المسرحية.‏

ومن هنا فسأعمد مباشرة إلى التحليل ومناقشة القضايا التي تثيرها كل مسرحية دون تلخيص لأن أي تلخيص مهما طال وتشعب لا يمكن أن يغني عن قراءة النص، حيث لكل جزئية فيه مهما بدت ثانويتها دور ودلالة.‏

1 ـ النورس:‏

أكمل تشيكوف الكتابة الأولى لمسرحية (النورس) في 20 نوفمبر 1895 وقرأها على جمع من الأصدقاء في موسكو في ديسمبر من نفس العام بمنزل الممثلة يافورسكابا، وكانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي يقرأ فيها مسرحيته على عدد كبير من الأصدقاء. وهذا التصرف يشير إلى توق تشيكوف العارم إلى معرفة الانطباع الذي يتركه هذا النمط الجديد من المسرح في نفوس المتلقين (راجع 11 ص 288) غير أن الانطباع الذي خرج به كاتبنا من هذه الجلسة والمناقشة التي دارت فيها عقب الانتهاء من قراءة المسرحية خيبا أمله.. فقد اعترض كورش على المسرحية لأنها "ليست درامية، أنك تجعل شخصيتك تطلق النار على نفسها خارج المنظر. ولم تتح لها حتى فرصة الحديث قبل الموت" هكذا أخذ يناقشها كورش بمنطق فهمه لمسرحيات ساردو وديماس.. وبنفس المنطق ناقشها بقية الحاضرين.. فخرج تشيكوف بائساً، وكتب إلى سوفورين بعدها يقول: "يبدو أنه ليس مقدراً لي أن أكون كاتباً مسرحياً.. إنني تعيس الحظ ولكني لم أفقد نفسي كلية. فما زال باستطاعتي المضي في كتابة قصصي التي أحس وأنا أكتبها أنني في بيتي، أما عندما أكتب مسرحية فإنني أحس بالاضطراب وكان شخصياً يترصدني طوال كتابتها"2. هكذا عاد تشيكوف من موسكو كسير الفؤاد خائب الأمل. بعد أن مزق له الأصدقاء أوصال المسرحية التي ظل يفكر فيها منذ عام 1892.. لكنه ما لبث أن استعاد الثقة في نفسه بعد فترة وجيزة فأعاد كتابة مسرحيته من جديد عام 1896 ثم قدمها إلى مسرح الكسندر بنسكي الذي عرضها لأول مرة في 17 أكتوبر 1896 ولكنها باءت بالفشل.‏

هكذا قوبلت (النورس) التي أصبحت فيما بعد علامة فارقة في تاريخ المسرح الروسي والعالمي على حد سواء.‏

لكنها ما لبثت بعد ذلك بفترة وجيزة وحينما عثرت على المخرج الذي أحسها وفهمها، أن حظيت بنجاح كبير عندما أخرجها ستانسلافيسكي لمسرح الفن بموسكو. وفي (النورس) تلك الخاصية الخادعة المراوغة التي تجعل كنوزها تنفلت من بين أيدينا إذا لم ننتبه لها، أو إذا دلفنا إليها من أبواب غير أبوابها.. فمسرحيات تشيكوف لا تعتمد على الحبكة بقدر اعتمادها على الجو العام الذي تبدعه "والجو العام الذي تتسم به مسرحيات تشيكوف، هو هذا الكهف الذي تختبئ فيه كنوز تشيكوف الروحية.. تلك الكنوز المحجبة عن الأنظار والتي لا يمكن استكناهها وتحسس مواضعها إلا بشق النفس. وهذا الكهف هو الوعاء الذي تختبئ فيه قرارة كنوز تشيكوف المذخورة. وعلى من يبتغي العثور عليها، أن يعرف أولاً كيف يكتشف الطريق إليها. يجب أن يعرف أين يختبئ هذا الوعاء.. أعني الجو العام"3.. والجو العام الذي تدور فيه أحداث النورس تصوغه عدة خطوط متشابكة.. أولها خط الحب الناقص الذي يستقطب كل العلاقات الأساسية بين الشخصيات، ففي المسرحية خمس تنويعات مختلفة على لحن الحب الناقص. هناك حب اركادينا لتريجيورين بينما يحب تريجورين نينا وتبادله هي الحب ولكن من منطلق مغاير. وهناك طراد بولينا للدكتور دورن وحب ماشا اليائس لتربيلبوف الذي يعرض عنها لأنه متيم بنينا. هذه العلاقات المتمايزة الخمس من الحب الناقص تصوغ الخط الأول في المسرحية‏

أما الخط الثاني فيسفر عن نفسه من خلال صراع النقاوة ضد السوقية والتبذل. والموهبة ضد عوامل الفشل والركود التي تشد انسانها إلى أسفل. فالمسرحية من هذه الناحية هي مسرحية تبدد الحياة بطائفة متنوعة من المثقفين لا تنقصهم الموهبة ولكنهم يبددون حياتهم في التسكع في الدروب التي لا تفضي إلى شيء. ويختنقون تحت وطأة المناخ الذي ساد روسيا في العقدين الأخيرين من القرن الماضي.. حيث سيطرت السوقية وتنامى الإدعاء والتشتت وفقدان الاتجاه. وشخصيات المسرحية تعاني كلها من أمراض هذه الرحلة.. لا يسلم منها أحد. أما الخط الثالث الذي تشابك مع الخطين السابقين فتابع من توهج المفارقة بين مطامح الشخصيات وتصوراتها عن ذاتها وعن الواقع المحيط بها من ناحية وفظاظة هذا الواقع واستمراره من ناحية، بصورة تكتشف معه الشخصية الدرامية في النهاية أنها كانت تعيش بكل كيانها تفاصيل الواقع الذي توهمت طول الوقت أنها تعمل ضده.. فالحدث في هذه المسرحية لا يتحرك نحو ذروة معينة بقدر ما تتحرك الشخصيات الدرامية نحو إدراك الذات. ويتسم إدراك الذات هذا بقدر كبير من المرارة بالنسبة لكل شخصيات المسرحية باستثناء نينا. إذ تستيقظ كل الشخصيات على فظاظة الواقع الذي عاشته والذي ستواصل الحياة فيه، وقد أيقن معظمهم أن من يعيشون دون هدف محكوم عليهم بأن يحيوا حياة مليئة بخيبة الأمل والتعاسة.. فقد تبددت خلال رحلة الذات في إدراكها لذاتها كل الأهداف الوهمية التي تصورك كل شخصية أنها عاشت من أجلها.‏

وهناك إلى جانب هذه الخيوط التي تصوغ الجو العام للمسرحية، خطين آخرين.. أولهما امتلاء الحياة بهؤلاء الذين يحطمون الخير والجمال دونما أي إحساس بالذنب "فكونستانتين يقتل النورس في لحظة تعاسة ليرهب نينا ويجعلها تشعر أنه قد يقتل نفسه في سبيلها. وتريجورين يكاد يحطم حياة نينا بسبب شهوة عابرة أو نزوة أنانية. وأركادينا تطأ وقدة العبقرية في ابنها وتحطمها تماماً لأنها عاجزة عن تقديرها" وثانيهما هو تلك العلاقة الشديدة التعقيد بين تربيلوف وأمه، علاقة يمتزج فيها الحب بالكراهية، والشهوة بعقدة التحريم، والإعجاب بالآخر بالرغبة في تدميره.‏

من خلال كل هذه الخطوط المتشابكة يتخلق الجو العام للمسرحية، والذي يسيطر بدوره على مزاج الشخصيات وعلى حركتها. وهو جو عام يخيم عليه ما يدعوه رايموند وليامز بالفناء الشامل للحرية عندما يتحدث عن الرمز فيها ويقع في شراكه الخادعة، مؤكداً أن الرمز في النورس امتداد حرفي لرمز ابسن في بطته البرية" ففي مسرحية ابسن (البطة البرية) تطلق هيدفج الرصاص على نفسها عندما يطلب منها أن تقتل البطة البرية، موحدة بذلك بين نفسها عندما يطلب منها أن تقتل البطة البرية، موحدة بذلك بين نفسها والطائر. وكذلك تتحد قصة غواية نينا وتحطيم حياتها بالطائر البحري في (النورس).. وفي (البطة البرية) يستخدم الطائر إلى جانب ذلك في تحديد ملامح شخصيات أخرى وتبيان الجو الكلي للمسرحية. والأمر شبيه بذلك أيضاً في مسرحية (النورس) حيث يستخدم الطائر وموته وبعثه في شكله المحنط للإشارة إلى شيء خاص بتربيليوف ومتعلق بالفناء الشامل للحرية، ذلك الذي يتغلغل في أركان المسرحية كلها"4.‏

وأهم الملاحظات في عبارة وليامز السابقة، ليست تصيده للتشابه الحرفي بين زمزي أبسن وتشيكوف، ولكنها اكتشافه لموضوع الغناء الشامل للحرية والمتغلغل في كافة أركان المسرحية. ذلك الغناء الذي دس بمهارة ولا مباشرة بين ثنايا المسرحية. فإذا بنا نلمح أشباحه المخيفة على كل شيء.. في الحوار.. وفي الصمت.. وحتى في رسمه للمنظر.. من خلال النظارة الجالسين على جذوع شجرة وعلى دكة طويلة لمراقبة مسرحية تربيلوف وظهورهم للجمهور، وكأنهم سرب من العصافير حط على سلك من أسلاك التلغراف. من خلال كافة هذه الجزئيات جسد تشيكوف فناء الحرية الشامل في مسرحيته كمعادل لغنائها الواقعي الذي أصاب الحياة بالجمود والجفا. ولكن هل كان كان الرمز في (النورس) كما صوره وليامز معادلاً لشخصية نينا، أم أنه معادل لشيء آخر؟.. ولنعد إلى المسرحية ذاتها. والمسرحية كما يصفها تشيكوف في خطاب لسوفورين عقب الانتهاء من كتابتها الأولى "كوميديا تتضمن أربع شخصيات نسائية وست شخصيات رجالية وأربع فصول، وبحيرة، وحديث طويل عن الأدب وخمس تونات من الحب" فما هو مكان النورس في هذا التلخيص المحكم التشيكوفي الطابع الذي تعمد فيما يبدو ألا يتحدث عن النورس فأثار بصمته أكثر مما كان سيثير بالحديث.‏

يرى وليامز كما قلنا أن النورس رمز لشخصية نينا توحد بها. بينما يرى يرميلوف تعليقاً على مشهد إحضار تربيلوف للنورس المقتول وطرحه تحت أقدام نينا "نتبين هنا تلك الدلالة المعقدة الوجوه والتي تتغلغل في المسرحية كلها كأشعة الشمس. ونعني بها دلالة التشبيه بالطائر البحري.. إذ يتحول النورس المذبوح بلفتة بارعة من التهكم اللاذع فلا يرمز إلى الفتاة الضعيفة نينا، بل إلى الشاب الذي يعتبر نفسه مجدداً وجرئياً وقوياً"5وإذا كان لابد أن يرمز النورس لشخص واحد فإني أميل إلى رأي برميلوف فالنورس صريع البلادة والملل والإخفاق. وتربيلوف أقرب الشخصيات إليه من هذه الناحية، وقد حاول أن يكون شبيهاً كاملاً له عند محاولته للانتحار في المرة الأولى، ولكنه فشل. عندئذ بعث النورس من جديد في صورته المحنطة ليكون رفيقاً لتربيلوف وقد تحنط في تلك البقة النائية وتجمد أسلوبه في قوالب عجز عن التحرر منها.. غير أنني في النهاية أميل إلى أن أرى في النورس شبيهاً لأكثر من واحد من شخصيات المسرحية.. شبيه لنينا وماشا وتريجورين وتربيلوف معاً وقد حاول كل منهم أن يفلت من لعنة التوحد به، وتفاوت حظ محاولاتهم من التوفيق.. فبينما نجحت محاولة نينا تماماً.. أخفقت تماماً محاولة تربيليوف.. بينما اتشحت محاولتا ماشا وتريجورين بالضباب.‏

ولنعد من جديد إلى التلخيص التشيكوفي المحكم.. سنجد أنه يتحدث بعد تعداد الشخصيات عن البحيرة.. فللبحيرة دور هام في المسرحية، لأنها الأرضية التي تتحرك فوق مياهها الرجراجة الشخصيات وتدور فوقها الأحداث حيث لا استقرار ولا سكون، بل اهتزاز دائم. وبعد البحيرة يأتي ذكر الحديث الطويل عن الأدب والألحان الخمسة من الحب.. وعلاقات الحب الخمسة كما يلاحظ ماجارشاك مصاغة في شكل مثلثات، لا علاقة ثنائية. فهناك مثلث يجمع بين نينا وتريجورين وتربيلوف. ومثلث آخر يجمع بين نينا وتريجورين وأركادينا، وثالث يجمع بين ماشا وتربيلوف وميدفيدينكو. ورابع يجمع بين بولينا ودورن وشامراييف.. وخامس وهو أكثرها تعقيداً وغموضاً يجمع بين أركادينا وتريجورين وتربيلوف. وإذا تحولت علاقة الحب الثنائية بطبيعتها إلى مثلث كان معنى هذا العذاب والشقاء. فكل مثلث يضم رجلين وامرأة أو امرأتين ورجل.. ومن هنا فإنه ينطوي على أكثر من علاقة واحدة وفي اتجاه واحد في أغلب الأحيان. لذلك "ربما أمكن اعتبار الحب الشقي الموضوع الرئيسي في هذه المسرحية. ويبدو أن المؤلف نفسه قد وافق إلى حد ما على هذا التفسير"6 فالحب في هذه المسرحية حب ناقص معذب مكبوت. يمضي بالشخصية في الطريق الخاطئ فلا تفطن لسعادتها وهي تطأها تحت أقدامها. فتحت قدم كل شخصيات المسرحية الغارقة في ذلك الحب المستحيل سعادته. ولكنه يطأها بقدميه وهو يبحث عن سعادة مستعصية ومتوهمة. فيتحول الحب، الذي هو شعر الحياة القادر على أن يلهم الإنسان ويجعله موهوباً ويفتح عينيه على جمال العالم ويثري روحه بطوفانات من نور، يتحول إلى غول يبدد سعادة نينا ويسلب شخصية ماشا بينما يدفع تربيليوف بين براثن العذاب.‏

وينطوي الحب في المسرحية على أكثر من مجرد العلاقة العاطفية المألوفة، ليصبح شهوة عارمة للحياة وحنيناً جارفاً للتحقق. فحب نينا وتربيليوف كان رغبة مشتركة في التساند في الحياة وتوقاً للتحقق، فكل منهما يحس بأكمام الموهبة الوليدة وهي تتفتح في أغواره. وبالأحلام العريضة وهي تتخلق في داخله، فيحاول من خلال رفيقه أن يحققها. لكن وفود أركادينا وتريجورين إلى الضيعة رغبة في الراحة وقتلاً للملل يجهز على هذه العاطفة الغضة ويفتح أمامها في الوقت نفسه سبلاً خادعة. فها هو تريجورين يسلب لب نينا ويمضي بها إلى طريق الدمار. وهاهي أركادينا الغارقة في السوقية وبريق الشهرة الزائف تدمر حياة ابنها دون أن نعي. فهي تضمر له في لا وعيها كراهية دفينة له لأنها أنجبته من رجل دونما منزلة. وهو الآخر يضمر لها نفس الكراهية اللاواعية، فيتعثر في دراسته الجامعية حتى يضاعف من إهانتها ويسبب لها الضيق ومن هذه الكراهية اللاواعية يكن لها حباً أوديبياً معقداً.. يسفر عن نفسه بصورة مقنعة من خلال ضيقه بتريجورين ورغبته في تقليده والقضاء عليه معاً.. وهو يغار منه لأنه بديل الأب في العقدة الأوديبية ويقلده لأنه يريد أن يتقمص دوره في آن.. ربما لهذا آثر الأدب، فكل أصدقاء أمه من الأدباء والمشاهير. وتسفر هذه العلاقة الأوديبية أيضاً عن نفسها من خلال مقتبسات (هاملت) التي تترنم بها الأم فيرد عليها الابن من نفس المسرحية بجملة قصيرة شديدة الدلالة:‏

اركادينا: أي هاملت.. كفاك كلاماً، فأنت تحول عيني إلى أعماق نفسي، فأرى فيها بقعاً معروقة سوداء لن تزول لها صبغة.‏

تربيليوف: (من هاملت) دعيني اعتصر قلبك فهذا ما أنتويه، إن كان قلبك من مادة يمكن النفاذ إليها.‏

ليس أدل من هذه الجمل الهاملتية على أوديبية العلاقة بين تربيليوف وأمه. تلك العلاقة البالغة التعقيد التي قادت تربيليوف في شعاب هذه الخريطة البالغة الوعورة من العلاقات الإنسانية.‏

أما ماشا التي تقدم نفسها لتريجورين قائلة "ماشا التي تعيش في هذه الحياة دونما هدف".. في حداد دائم لا ينتهي فإن حبها المستحيل لتريبليوف، هو طريقها للتحقيق ومن ثم فإن إخفاق هذا الحب يقتل في داخلها توقد الحياة ويجعلها تحس وهي لما تزال في الثانية والعشرين بأنها عجوز تقدم بها العمر، وهي بالفعل عجوز فق‏

داست وهج الحياة في أغوارها وهي تتسول من تربيليوف كلمة حب وداسته مرة أخرى وهي تهمل زوجها المخلص ميدفيدلكو المحب لزوجته وأسرته وعمله، وداسته ثالثة وهي تهمل طفلتها بطريقة لا إنسانية وداسته رابعة بحياتها الملولة دونما عمل ولا هدف. وداسته خامسة وهي تسير على نفس الدرب الذي تدب عليه أمها العجوز بولينا في طرادها للدكتور دورن الذي يتملص من علاقة قديمة بها. و"في النص الأصلي الأول للمسرحية هناك ما يومئ بوضوح في نهاية الفصل الأول إلى أن ماشا في الحقيقة ابنة دكتور دورن"7 وليست ابنة شامراييف، غير أن هذه الإيماءات غير واضحة في الصورة النهائية للمسرحية. فعلاقة بولينا القديمة المهدرة بدورن والتي تلح في أعادتها هي الأخرى سبيل بولينا إلى التحقق بعيداً عن شامراييف السوقي الذي ينفق الوقت في التفاني في إرضاء أركادينا والاستماع إلى ثرثرتها التافهة. وأركادينا من طراز تريجورين موهوبة حقاً ولكن ولعها بذاتها قتل موهبتها، وفقدانها للهدف مثله هو الذي يملأ حياتها وآياه بخيبة الأمل والتعاسة. وفقدان الهدف هذا هو الذي يملأ حياة بقية أفراد المسرحية بالعذاب والتعاسة. لا تنفلت منه سوى نينا التي ارتفعت على مأساتها وصقلت مرارة التجربة موهبتها، وتملصت من أسر السوقية والأهداف الوهمية ومضت بخطى ثابتة في طريق التحقق.‏

بعد أن تحدثنا عن تونات الحب الخمسة، يبقى الحديث عن الأدب وقلة الحركة فتشيكوف يقول عن المسرحية أنها تتضمن كثيراً من الكلام عن الأدب.. وقليلاً من الحركة.. وأطناناً من الحب، وقد تحدثنا عن الحب في المسرحية وعلينا أن نتحدث عن الأدب بها. ففي المسرحية بالفعل كثير من الحديث عن المسرح والأدب فلأغلب أبطالها علاقة بالأدب أو المسرح.. تريجورين كاتب قصصي وتربيليوف يكتب المسرح والقصة ولينا وأركادينا ممثلتان مسرحيتان ودكتور دورن من عشاق الأدب وميدفيدنكو مدرس.. وأخطر منزلق يمكن أن يقع فيه من يتحدث عن الأدب في هذه المسرحية أن يعتبر حديث تريجورين أو ترليليوف معبراً عن رأي تشيكوف. ففي حديث تريجورين أو ترليليوف معبراً عن رأي تشيكوف. ففي حديث كل منهما شيء من فكر تشيكوف وشيء مناقض له. وكذلك الحال بالنسبة لأراء دورن. فأراء تربيليوف في المسرح الذي كان يكتب في عصره فيها الكثير من أفكارتشكيوف. ووصف الليلة المقمرة الذي ينسب لتريجورين منتزع من قصة تشيكوف (ذئب) وحديث تريجورين عن نفسه كقصاص وهو يسخر من تصور نينا الرومانسي له في بداية تعارفهما فيه أيضاً الكثير من آراء تشيكوف. وحديث دورن عن الأدب والمسرح فيها الكثير من آراء تشيكوف كذلك. غير أن هناك الكثير مما قالته هذه الشخصيات عن الأدب لا يمكن أن ينسب إلى تشيكوف بأي حال من الأحوال. وكذلك الحال مع نينا، فبرغم خديعتها المريرة في الحب ورحلتها الطويلة مع التجربة والخطأ فإن كلماتها تشف في نهاية المسرحية بحكمة تشيكوفية هادئة.‏

فبعد هذه الرحلة الحياتية العنيفة كرحلات التطهير التي يخوضها البطل الكلاسيكي، تعود نينا لتقول لنا زهرة تجارها في كلمات موجزة كحكمة داود في سفر الجامة "إن المهم في عملنا ـ سواء مثلت على المسرح أو كتبت قصصاً ـ ليس الشهرة أو الجاه. تلك الأمور التي اعتدت أن أحلم بها. ولكن المهم أن نعرف كيف تحتمل الأمور، كيف تحتمل آلامنا بإيمان".‏

وهذا الحديث عن الأدب في المسرحية لا يجدي معه التلخيص ـ ففي المسرحية صفحات كاملة عن دور الأدب وعن ماليات الخلق الفني وعن البناء في المسرحية والأقصوصة. وعن المسرح الراهن والمسرح الذي ينبغي أن يكون. وعن العفوية والتعمل في الكتابة الأدبية وعن استخدام الصور وعن كيفية تمثيل الملتقى للعمل الفني.. وغير ذلك من الموضوعات ولكن المهم أن الحديث عن المسرح الذي استأثر بجز كبير من صفحات المسرحية ساهم بفعالية في صياغة المناخ العام الذي تدور فيه المسرحية. وتحول إلى جزء أساسي من بنية العمل الفني أما الحركة القليلة التي قال تشيكوف بوجودها في المسرحية، فشيء خادع للغاية. إذ أن الكلمة لا تنطبق إلا على الحركة الخارجية فحسب. فهي دون شك حركة قليلة جداً، بالدرجة التي دفعت كثيرين إلى القول بركود الأحداث في تلك المسرحية. إذ أن أغلب أحداثها تدور في هدوء عجيب. ولكن وراء هذا القناع الهادئ للغاية تلاحظ حركة عنيفة متفجرة. تمور في أعماق كافة شخصيات المسرحية. لتنشج في النهاية عقداً كثيف الحبيبات من البلادة والإحباط والركود والتبلد الحسي.. ويستطيع القارئ أن يفصل حوار أي شخصية من شخصيات المسرحية وحده ثم يعيد قراءته مرات. ليقع بلا شك على دوامات التفجر التي تجيش في أعماقها. فحوار كل شخصية أقرب إلى المنولوج الذي تبوح فيه بمكنونات ذاتها قبل أن تتحاور به هو بقية الشخصيات. فالتواصل بين الشخصيات مفقود إلى حد كبير. وكل منها تدور حول ذاتها في محاولة لاكتشافها وإدراكها خفاياها.‏

ويتم إدراك الذات في المسرحية من خلال ما يدعوه ماجارشاك بعنصر التحول. وأصدق مثال على ذلك حالتي نينا وتربيلوف في هذه المسرحية، أنهما متفاهمان متعاطفان كبطلي قصية تشيكوف (حكاية تافهة) غير أنهما في اللحظة التي يتوفان فيها إلى تبادل الدفء والثقة، يعجز كل منهما عن فتح سور العزلة الشخصية أو تخطيه. ويفترقان بلا أمل ولا مطمح ودون أن يفهم أي منهما لماذا تحطمت حياته ولا كيف كان فراقهما.. ومن هنا فإن تربيليوف عندما يحاول أن ينتحر بعد هذا الفراق غير المفهوم لا ينجح في محاولته. وعندما يلتقيان في الفصل الرابع يكون كل منهما قد قطع شوطاً طويلاً في رحلة إدراكه لذاته. تلك الرحلة التي تفوقت فيها نينا على كل الآلام وجالدت ضد جو خانق من القيم والتقاليد الرازحة الزائفة معاً. بينما أخذ فيها بربيليوف. وعندما يلتقيان يحس كل منهما باستحالة اللقاء. ويدرك تربيليوف هذه المرة حقاً هذه الاستحالة فيقدم بحق على الانتحار، وينجح هذه المرة فيه. فقد أيقن أنهما برغم تشابههما متناقضان ولن يلتقيان. وهذا التشابه مع الاختلاف هو منهج المسرحية في بناء الشخصيات. فهناك تشابه مع اختلاف بين شخصيات أركادينا وماشا وبولينا، وبينهن وبين تريجورين وتربيليوف وسورين.. ففي هذه الشخصيات الست قدر كبير من التشابه، فكلهما من الشخصيات المتسلقة التي لا حياة مستقلة لها، والتي لا تفطن إلى جرائمها في حق الآخرين وتدوسهم بفظاظة، وفكرتها عن نفسها تكاد تكون نقيض حقيقتها. أما الشخصيات الأربعة الباقية نينا ودورين وميدفيدنكو وشامراييف فهي على نقيض الشخصيات السابقة، استطاعت كل منها بتفانيها وإخلاصها أن تحقق نفسها من خلال العمل، بينما ترزح الشخصيات السابقة، استطاعت كل منها بتفانيها فليس غريباً أن تتغلب نينا على التوحد بمصير النورس بينما يكرر تربيليوف نفس المصير. وأن تظل ماشا سادرة في ضياعها بينما يتحمل ميدفيدنكو فوق ما يطيق من المسؤوليات.. مسؤولياته ومسؤولياتها معاً.. وهكذا الحال بالنسبة لبقية الشخصيات.. حيث يتشابه أفراد كل فريق فيما بينهم مع الاختلافات الفردية بالطبع والتي تميز كل عن الآخر. بينما يتناقضون مع أفراد الفريق الآخر، منهجاً وأسلوباً وطباعاً ومصيراً.‏

2 ـ الخال فانيا:‏

بعد أن انتهى تشيكوف من كتابة (النورس) عكف على النص الأول لمسرحيته السابقة (شيطان الغابة) وأعاد كتابتها من جديد. فما انتهى عام 1896 حتى كانت لديه مسرحية جديدة هي (الخال فانيا) لا تمت للمسرحية السابقة إلا ببعض الصلات الواهية والملامح الخارجية، أما المبنى والمعنى فقد تغيرا كلية. وقطعت المسرحية الجديدة بأسلوب تشيكوف الجديد خطوات فساح في طريق النضج والتبلور.‏

وجاءت أكثر نضجاً وشاعرية من (النورس) بنفس القدر الذي كانت به (النورس) أنضج وأرهف من (ايفانوف) (راجع 2 ص 79) وقد عرضت (الخال فانيا) لأول مرة في 26 أكتوبر 1899على مسرح الفن بموسكو وحظيت بنجاح كبير. إذ تبلورت فيها عناصر مسرحية الحدث غير المباشر بصورة أكثر عمقاً وتركيزاً. والمقارنة بين (شيطان الغابة) بأحداثها الزاعقة وشخصياتها الميلودرامية وطلقات الرصاص التي تتردد في جنباتها بسبب ودونما سبب، فيتساقط على أثرها أكثر من قتيل. وبين (الخال فانيا) بشاعريتها وطلقاتها الطائشة التي لا تنطلق سوى مرة واحدة يظهر لنا الفارق الجلي بين الأسلوبين المسرحيين. فتشيكوف يحاول في (شيطان الغابة) أن يخلق من مأساة الأنماط كوميديا خفيفة وهذا ما أودي بها كما يرى ايربك بنتلى8 فمع أن فانيا كما يقول بنتلي ينتحر بإطلاق الرصاص على نفسه في الفصل الثالث من (شيطان الغابة) فإن تشيكوف يحاول في الفصل الرابع إعادة روح الكوميديا الخفيفة قسراً إلى المسرحية. بتزويج كل العشاق اثلاثة بحبيباتهم قبل أن يسدل الستار على هذه النهاية السعيدة. ولكن هذه النهاية السعيدة لا تنبع من سياق الأحداث ولا تقنع أحداً، ومن ثم فقد أدت إلى فشل المسرحية. لأن تشيكوف خلق موقفاً على درجة من الميلودرامية والتعقيد، لا يمكن أن تحل فيه المواقف المعقدة بمثل هذه الخفة التي صورها. فلقد خلق شخصيات لا يمكن أن تتصالح مع بعضها أو تعيش في سعادة، ثم أضفى عليها غلالة من التوافق السطحي في الفصل الأخير. أما (الخال فانيا) أو (شيطان الغابة) في ثوبها الجديد فقد نجحت نجاحاً كبيراً لأنها تجاوزت كل عيوب صورتها الأولى.‏

ويبدو أن تشيكوف ـ في رأي بنتلي ـ بدأ بأن بدل النهاية ثم بدأ يسير عكسياً في اتجاه الفصل الأول... من النهاية حتى البداية ويبدل في المسرحية بما يتمشى مع واقع الحياة حتى أتم هذا العمل الجيد. لقد غير تشيكوف من تصرفاته شخصياته وأن ترك الموقف الأساسي كما هو ولم يمسه واستغنى عن بعض الشخصيات تماماً مثل وليونيدو فيودور وجوليا. وغير أسماء بعض الشيخصيات الأخرى. فغير اسم زوجة سربرباكوف الشابة من ايلينا إلى هيلين وغير اسم شيطان الغابة ميخائيل خروشوف إلى ميخائيل آستروف وغير اسم ديادين إلى تليجين واستغنى من غير النهاية تماماً ولكنه ترك البداية كما هي. وقد جعل فانيا لا يطلق الرصاص على نفسه، بل على سبب تعاسته، زوج أخته المتوفاة أستاذ الجامعة الأناني، ولكنه لا يصيبه. وعلى هذا الأساس تغير تماماً الفصل الأخير من المسرحية، فلا تهرب هيلين الجميلة من زوجها كما حدث في (شيطان الغابة) بل تدفعه إلى أن يقرر الرحيل بها والعودة إلى المدينة كما أن آستروف في (الخال فانيا) لا يحب سونيا بل يفترقان، كل إلى حياة الوحدة. كما أن فانيا لا يموت ولا يسجن، بل يظل بائساً تعيساً، أسير اكتشافه الدامي بأن ما توهمه عن الواقع، واقع بالفعل وشديد الصلابة.‏

وهكذا أدرك تشيكوف أخطاء (شيطان الغابة) وهو يكتبها من جديد "فلقد أدرك أن العلاقات الدرامية في المسرحية كلها لم تتطور تطوراً حتمياً، وإنما فرض عليها التطور من جانبه. وأن الحدث كان ينقصه العناصر التي تكون المسرحية ذات الحدث غير المباشر والتي تعتمد على ما يجري في قلوب الشخصيات ومكنونات صدورها. فمن أخطائها أن عنصر الرسول لم يعالج بحنكة وأن عنصر الكورس قد أغرق في فيض من التفاصيل التي لا علاقة لها بالحدث لأنه كان مشغولاً بنقل الأحداث بدلاً من خلقها. وأما عنصر التحول فلم يكن موجوداً على الإطلاق. فالحركة الدرامية في المسرحية لم تتبع خطأ واحداً في تطورها. وبذلك خلقت انطباعة مشوشة وانتهت نهاية غير مقنعة. ولذلك فإنه عندما أعاد صياغتها ألغي بعض الشخصيات الميلودرامية غير الوطيفية، ولكنه أبقى على شخصيات سربرباكوف وهيلين وفوينتسكي (فانيا) التي كانت تكون فيما بينها مجموعة من الشخصيات يجمها رباط عاطفي وبنى حولها المسرحية الجديدة. ومن بين الشخصيات التي احتفظ بها تشيكوف من (شيطان الغابة) شخصية ديادين، ولكنه هنا أصبح اسمه تليجين. وهو هنا لا يلعب دوراً في الحركة الخارجية إطلاقاً. كما أن مركزه الاجتماعي يتضاءل في (الخال فانيا) بحيث يصبح مجرد شغال ومهرج عند آل فوينتسكي. كما يصبح دوره مهما في الحركة الداخلية للحدث. إذ يلعب هنا دور الكورس الذي تضاعف تعليقاته على الحدث بسذاجتها وغبائها من التوتر الدرامي في المسرحية. وهو نقيض سربرباكوف على الرغم من أن الاثنين يعيشان عالة على عائلة فوينتسكي. فبينما يمثل سربرباكوف الأنانية والغرور يمثل تليجين الرحمة والغيرية وتعليقاته على الأحداث بجانب إبرازها لدرامية الموقف تكشف عن داخلية الشخصيات التي تتكلم، وبذلك تصبح شخصيته في الخال فانيا أحد العناصر الأساسية المكونة للمسرحية ذات الحدث غير المباشر.‏

و(الخال فانيا) من حيث هي مسرحية حدث غير مباشر أكمل من (النورس) وأكثر بساطة وشاعرية. تتحدث عن الإخفاق الاجتماعي وعن الإحباط ولكن تتناولهما كحالة من الضروري العمل على تجاوزها وتخطيها. لتصبح بذلك أغرودة للأمل وللعمل وللحياة. غير أن هذه الغرابة ما تلبث أن تسقط إذا ما أمعنا النظر في التيارات التي تسري تحت سطح الأحداث. فبقدر اكتظاظ (النورس) بالحب وبالحديث عن الأدب تكتظ (الخال فانيا) بالحديث عن جمال الطبيعة وعن الغابات التي تجتث بفظاظة دون أن يشيد بدلاً منها شيئاً. وعن الفقاعات الزائفة التي تلتهم جوهر الحياة من نفوس الجميع. الجانبي والضحية معاً. فالزيف الذي يغرق حياة الأستاذ سربرياكوف لا يقتل فرصة الخال فانيا في الحياة فحسب ولكنه يلتهم جوهر الحياة من أعماق سربرياكوف نفسه. فهو شخصية جديرة بالرثاء ربما بقدر أكبر من جدارة فانيا بهذا الرثاء. فقد ظل سادراً في حياته الفارغة وعاجزاً عن التعرف على ما بها من زيف. يتشبث بها تشبث الغريق بطوق النجاة.. لا يرى في كلام فانيا وثورته الكبيرة ضده في الفصل الثالث غير محض هراء.‏

لا يستطيع أن يعيد على ضوئه مناقشة قضايا حياته. ويظل غارقاً في مفارقة لا يدري كنهها، وتبلغ هذه المفارقة ذروتها عندما يقول ساعة رحيله بالقرب من نهاية المسرحية "وادعاً لكم جميعاً. إني أشكركم على ما تمتعت به في صحبتكم، وإني أحترم تفكيركم وحماستكم ودوافعكم. ولكن دعوا الرجل العجوز يضيف شيئاً إلى تحيات الوداع. يجب أن تحاولوا إتيان عمل حقيقي يا أصدقائي، أجل عمل حقيقي".‏

هذه الجملة المدهشة من الحوار التشيكوفي من الجمل ذات الأهداف المزدوجة فهي تبدو وكأنها كلمة أراد بها سربرياكوف أن ينقذ ماء وجهه الذي أريق في اليوم السابق قبل أن يسافر إلى خاركوف. كلمة يريد أن يثبت بها أنها مازال أستاذاً وأنه يوجه من عل نصائحه إلى الجميع.. هذا هو هدفها الظاهري، أما هدفها التشيكوفي الممعن في الخفاء فيظهر عندما نحس بعمق المفارقة التي تنطوي عليها هذه الجملة.. فسربرياكوف هذا العاطل عن العمل الذي ظل لمدة خمسة وعشرين عاماً يشغل مكان شخص آخر، يحاضر عن الفن دون أن يفهم منه شيئاً. هذا الذي "لن تكون لصفحة واحدة مما يكتب خلود بعده، فهو لم يعد معروفاً، بل هو نكرة.. مجرد فقاعة "كما يقول فانيا. هذا الإنسان الذي ظل يعيش طوال ربع قرن من الزمان عالة على عملهما الحقيقي.‏

لقد قالت له سونيا عندما اندلعت العاصفة "تذكر أن عندما كنت شاباً كان خالي فانيا وجدتي بقضبان الليالي بأكملها بترجمان الكتب ويكتبان مذكراتك.. ليالي بطولها، ليالي بأكملها" وضعت له النقط على الحروف ولكنه لم يستطع أن يفهم شيئاً. ظل سادراً في عمائه حتى النهاية. تكشف لنا هذه الجملة الصغيرة التي تفوه بها قبيل الرحيل أنه لا فائدة ترجى منه... لن يفهم أبداً حقيقة الخواء الذي يعيش فيه. وسيظل حتى النهاية حشرة متفقهة تلتهم جذوة الحياة ممن يحيطون به.‏

وفي مستوى من المستويات المتعدلة للمعنى في المسرحية يبدو سربرياكوف العجوز المريض الهش المسيطر برغم خوره وتهافته على حياة هذه الأسرة وأقدارها، معادلاً لذلك النظام العفن الفارغ من المعنى الذي يقبض بيد من حديد على زمام الحياة في روسيا بأكملها برغم أن الجميع يرون العفن وهو يدب في أوصاله. ويعرفون كل شيء عن دائه الوبيل. فقد دب النقرس والروماتيزم في أوصاله كما دبا في أوصال سربرياكوف وكشف الجميع زيفه ولكنهم لم يستطيعوا الانفلات من قبضته برغم سوارتهم العنيفة ضده. وتقدم الخال فانيا في مستوى آخر من المعنى "كما لاحظ ناقد واقعي روسي" ـ رمزاً للإقليم كله، الذي وضع جميع آماله في الأستاذ سربرياكوف، لم يتكشف الأمر عن أن هذا الأستاذ.. حفرية متفقه.. وشخص أجوف يدعى في غرور أنه زعيم الإقليم الروحي وفخره وذخره والضمان الوحيدة لحياة أفضل يدخرها المستقبل لهذا الإقليم. وشخصية سربرياكوف هنا تمثل الأصنام التي كان يعبدها المثقفون في ذلك العصر، وزعماء الأحرار والعلماء المحنطون"9.فقد أفنى حياته في اكتشاف أشياء معروفة منذ قرون. وفي إعداد دراسات تجميعية تافهة عن الفن. وقد كان يعتقد أنه سيوفر بدراسته تلك على الطبيعة الإنسانية آلاف الأعوام من الجهاد والخطيئة والعذاب. ولكنه في نفس اللحظة التي آمن فيها يقيناً بكل هذا. كان الخواء ينغل قلبه. وكانت نفسه المهومة في الخيالات ترسف في أغلال ميتافيزيقية عويصة وسمته بطابع الأنانية والجشع. وجعلته يمتص نضارة أجمل سني عمر الخال فانيا، ويقضي على شبابه.‏

وفانيا يتيقن من زيف سربرياكوف وضحالته وسطحيته. ومن اهداره لفرصته في الحياة ويواجهه بذلك. "لقد حطمت حياتي. إني لم أعش بتاتاً، ويرجع إليك الفضل في أنني أفنيت، بل أهلكت خير سني حياتي. لقد تهدمت حياتي، إنني موهوب وشجاع، ولو أنني عشت حياة عادية لأصبحت الآن عظيماً كشوبنهور أو ديستويفسكي" بل ويحاول أن يقتله ولكن رصاصاته تطيش ولا تصيب سربرياكوف. ولكنها تعلن عن يقظة فانيا الدرامية. وتجسد لنا ذروة التعرف في المسرحية إذا شئنا استعمال المصطلح الأرسطي. فها هو فانيا يتعرف من خلال الوعي بالذات والواقع الخارجي معاً على عبثية الحياة التي يحياها، والتي بددها في توفير الحياة لهذه الحفرية المتفقهة.. لقد تيقن أنه دار طوال ربع قرن كثور معصوب العينين في الساقية التي تروي جفاف حياة سربرياكوف وتضمن له رغد العيش الذي لا يستحقه في كنه زوجة شابة جميلة لا يستأهلها. وتيقن أن العمر قد تقدم به ولم يعد صالحاً لشيء سوى مواصلة الدوران في هذه الساقية. وهاذ التعرف كامن في انكشاف الغشاوة فجأة ـ وربما بعد فوات الأوان ـ عن العينين. في انطفاء بريق الفقاعات الكاذبة وظهور الخواء والبشاعة خلفهما. في التيقن من أن التضحيات الكبيرة قد ذهبت عبثاً.‏

ومن هنا يحمل هذا التعرف طابعاً مريراً، لأنه لا يحطم فحسب صنم المعبود الذي أفنى فانيا سنوات الشباب في هيكله، ولكنه يؤكد لفانيا أن حياته قد أهدرت وأن ليس له بعد ذلك من مهرب، ليس أمامه غير أن يعيش غارقاً في حمأة الحياة التي يرفضها.. تلك الحياة الرتيبة التافهة التي سمحت دماءه بأبخرتها المتعفنة، حتى أصبح في تفاهة بقية الناس. ومن هنا فإنه لا يستطيع أن يغتفر لنفسه أنه فشل مرتين في إصابة الهدف وهو يحاول أن يقتل سربرياكوف. لن هذا الفشل الرهيب ينطوي في الواقع على تكريس كامل للعجز والإحباط.. فقد قوبل من العالم الخارجي بنوع من الصمت المرعب الذي أثار دهشة فانيا وحنفه "أن الأمر غريب. فها أنا قد حاولت ارتكاب جريمة ورغم هذا لم يقبض على أحد ولم يتهمني أحد بشي.. لابد أنهم يحسبون أنني مجنون. أما الناس الذين يخفون تجردهم الكامل من كل موهبة، وعباءهم وقسوتهم البالغة تحت ستار الأستاذية وسحر العلم ـ هؤلاء ليسوا مجانين.‏

والنساء اللاتي يتزوجن رجالاً عجائز ثم يخدعونهم أمام أعين الناس لسن بمجنونات".‏

وأمام مؤامرة الصمت هذه لا يملك فانيا سوى أن يحلم "آه لو كان باستطاعة الإنسان أن يعيش حياته بشكل جديد. أن يصحو ذات صباح صافياً هادئاً ويحس أنه يبدأ حياته من جديد وينسى كل ماضيه الذي يكون تبدد كالدخان (يبكي) من جديد وينسى كل ماضيه الذي يكون تبدد كالدخان (يبكي) ويبدأ حياة جديدة.. خبرني.. كيف أبدأ، وبأي شيء؟!.." هاهو يحس من ذات نفسه بأن الحلم عصى فينخرط في البكاء. يبحث لدى استروف عن جواب لكن استروف لا يملك جواباً.‏

واستروف.. ذلك الطبيب المولع بالغابات، والذي سمى تشيكوف النسخة الأولى من المسرحية باسمه (شيطان الغابة) كما كانوا يدعونه لاهتمامه المفرط بالغابات وحديثه الطويل عنها. استروف هذا الذي نقل تشيكوف مركز الثقل في المسرحية منه إلى فانيا عندما أعاد كتابتها وسماها باسمه في المسرحية منه إلى فانيا عندما أعاد كتابتها وسماها باسمه فانيا بعد أن كانت لاستروف ـ وبهذه المناسبة أحب أن أشير إلى أن أغلب مسرحيات تشيكوف الطويلة، ولأنها مسرحيات شخصيات، مسماه بأسماء أشخاص.. ليس فقط (بلاونوف) و(إيفانوف) و(فانيا) و(الشقيقات الثلاث).. ولكن أيضاً (النورس) و(شيطان الغابة) فكل من النورس وشيطان الغابة علامة على شخص وأن لم يكن اسماً مباشراً له ـ واستروف لا يحجب اهتمامنا عن فانيا كما كان يحدث في المسرحية الأولى، بل يعمق إحساسنا به. فهو تنويع آخر على شخصية فانيا، وهو ضحية البلادة والفظاظة والمناخ الخانق الذي يعيش فيه. وهب عمره لعبادة الجمال والطبيعة في عالم لا يقدر الجمال ويطأ في كل خطوة من خطواته روح الطبيعة. استروف هذا تدمر زيارة الأستاذ وزوجته للضيعة حياته كما دمرت حياة فانيا وسونيا. ليس فقط لأن تدلهه في جمال هيلين الفارغ من المغنى قد صرفه عن الاهتمام بالإنسانة الوحيدة الجديرة باهتمامه وهي سونيا. ولكن أيضاً لأنها صرفته عن عمله وعن العناية بمرضاه وغاباته وخرائطه، وجعلته مجرد شخص تافه لا معنى له بعد أن كان مبدعاً وخلاقاً. ومن هنا فقد طلب تشيكوف من ستانسلافيسكي عندما شاهد عرض المسرحية وكان يقوم فيها بدور استروف منفذاً طريقة انصرافه عند نهاية المسرحية "اسمع أنه يصفر، الخال فانيا ينشج ويبكي ولكن استروف يصفر" وحاول ستانسلافيسكي أن يجرب هذه النصيحة وصفر "وصفرت بالفعل، وانتظرت ما يحدثه صفيري من أثر. فشعرت في الحال بأن الصفير كان في موضعه، بل كان شيئاً لابد منه. وأن استروف كان لابد أن يصفر. فلقد فقد إيمانه بالناس وثقته في الحياة لدرجة الغثيان منهم والسخرية بهم واليأس من صلاحيتهم"10.‏

وإذا حاولنا أن نتحدث عن حب استروف لهيلين ستجد أنفسنا أمام مثلث الحب الذي ذكرناه في (النورس) مرة أخرى..وفي المسرحية مثلثي حب أولهما يجمع بين سونيا واسرتوف وهيلين والثاني يجمع بين فانيا وهيلين واستروف. وإذا تحدثنا عن مثلث حب فهذا يعني كما سبق أن ذكرنا حب ناقص. فليس في المسرحية أي حب كامل.. فكل من استروف وفانيا يحب هيلين زوجة سبرياكوف الشابة.‏

وفانيا وحده هو الذي يصارحها بحبه ويلح عليها في مبادلته الحب. حتى لا تضيع حياتها بددا كما ضيع حياته. وهو حب ينطوي على رغبة لا واعية في الانتقام من سربرياكوف. غير أن هيلين لا تفكر في كل عواطف الخال فانيا هذه اللحظة. غير أن هيلين لا تفكر في كل عواطف الخال فانيا هذه للحظة. فقد أكلتها التفاهة هي الأخرى كزوجها، وأخذت تطوف كالطير الجارح كما وصفها استروف، أو كابن عرس كما وصفها فانيا، بكل الأشياء الجميلة في الضيعة لتدمرها. "يبدو أنه حيث تذهبين أنت وزوجك فإنكما تجلبان الخراب معكما، وأني لمقتنع أنك لو بقيت هنا لكان الدمار شاملاً. ولتحطمت أنا، ولما عشت أنت في سعادة ولذا فارحلي فلقد انتهت الملهاة". هذا ما يقوله لها استروف بعد أن دمرت كل شيء. دمرت الصداقة الكائنة بين استروف وسونيا والتي كانت يمكن أن تتفتح إلى حب. دمرتها بعملية الاستجواب القاسية التي حاصرت بها استروف ودفعته فيها للاعتراف بأنه لا يحب سونيا. بل يحبها هي فهو شغوف أبدي بالجمال لا يستطيع معه مقاومته حتى ولو كان جمالاً كاذباً كجمالها. أما هي فلم تحب سوى نفسها، وظلت مستسلمة لبلادة حياتها الكسولة مع سربرياكوف الدعي دون أن تحقق لنفسها أدنى سعادة. فعلى الرغم من أنها "حطمت سعادة إنسان آخر فإنها لم تكن بمستطيعة أن تحقق السعادة لها أو لاستروف. إنها تحطم حياة الآخرين بلا إحساس ولا هدف. وهي تسحب خلفها جمالها الأجوف، ذلك الجمال العاجز عن خلق السعادة عن طريق الحياة. إنه جمال يخلو من الروح والإلهام والحب.. والنغمة الدالة في المسرحية، وهي ما يفضي إليه الجمال الأجوف من تدمير، هذه النغمة تظهر في تنويعات متعددة. واستروف الذي يحزن على تحطيم جمال الحياة، هو نفسه صورة للجمال المبدد"11. كما أنه قد ساهم إلى حد كبير في تحطيم حياة سونيا وفانيا.‏

وسونيا.. تلك الشخصية الحنونة الحبيبة الطيبة كنينا في (النورس) هي أشجع شخصيات المسرحية وأكثرها صلابة ويتجردا من الأنانية تتلقى الضربات بصبر وشجاعة نادرين، لا تتردد عن مواجهة أبيها في أحلك لحظات المسرحية عله يتيقظ، لا تدل على أحد بتفانيها في العمل ولا بأنها وهبت الآخرين ثمرات جهدها. فمع أن الضيعة ضيعتها فإنه لم تحاول مرة واحدة أن تحجب ريعها عن والدها. بل واصلت إرساله إليه بانتظام طوال سنوات وسنوات. عاشت فيها تجالد مع خالها فانيا العوز حتى تستطيع أن تسد ما على الضيعة من ديون. سونيا هذه التي تحقق قولة تشيكوف "إن العمل وحده، العمل الخلاق، هو الشيء الوحيد القادر على إبداع الجمال الإنساني" تستمد جمالها وصلابة روحها من الاستغراق في العمل الخلاق. وحينما تدمر هيلين حياتها، وتطفئ ذبالة الأمل التي ظلت تتعلق بشماعها الخافت، لا تجد أمامها من سبيل سوى الانخراط في العمل ـ وقد أيقنت كنينا في (النورس) أن علينا أن نتحمل آلامنا بإيمان ـ والانضمام إلى جوقة الأصوات التي تتحدث عن المستقبل في مسرحيات تشيكوف.. ففي كل مسرحية من هذه المسرحيات الطويلة صوت أو أكثر معنى بالحديث عن المستقبل..‏

مهموم بما سوف تقوله الأجيال القادمة عن حياتنا وتضحياتنا وعذابنا. وليس غريباً أن يكون الصوتان المعنيان بالمستقبل في هذه المسرحية هما استروف وسونيا. ليس أقدر على استشراق المستقبل والإحساس به من الإنسان الذي يغرق حياته في العمل، العمل الخلاق المتجرد عن الأنانية.‏

وقد يبدو غريباً أعراض استروف عن حب سونيا. وفي الفصل الأول للمسرحية (شيطان الغابة) بتزوجها.. أما هنا فإنه يلم خرائطه ويرحل وفي داخل إحساس مرير بالفشل يعود بروح يائسة حزينة إلى ضيعته التي أهملها طوال الشهر الذي شغل فيه بهيلين. وقد أدرك بصورة غامضة أن كل معتقداته عن "يجب أن يكون كل ما في الإنسان جميلاً، الوجه والملبس والروح والخواطر" وعن تمجيد الحياة والطبيعة والغابات، ليست أكثر من نقاب فقاعي براق هي الأخرى كادعاءات سربرياكوف عن الفن. فما لبثت عقيدته أن تحطمت فور تعرضها لأول اختبار حقيقي. إذ يتسبب موقفه في تلاشي روح سونيا وإقبالها على الحياة. وتسبب نسبياً في نفس الشيء بالنسبة لفانيا الذي انهارت معنوياته حينما ضبط استروف وهو يقبل هيلن التي يحبها. ليس هذا فقط بل إن استروف لا يستطيع أن يحقق الجمال أو السعادة لنفسه فيرحل إلى ضيعته وقد توحد مصيره بمصير فانيا "ليس في هذا الإقليم سوى اثنين من الناس المثقفين الأذكياء، أنت وأنا. ولكننا قد انغمسنا في حياة رتيبة حقيرة لمدة عشر سنوات.. تلك الحياة الرتيبة التافهة التي سمعت دماءنا بأبخرتها المتعفنة، حتى صرنا الآن في تفاهة بقية الناس وابتذالهم". يرحل إلى ضيعته ليعيش وحيداً بعد أن هجر أصدقاءه، معلناً باعتزاله عن ضراوة السؤال الملتاع الذي لم يجرؤ على النطق به.. هل آمنت حقاً بهذه الأشياء التي طالما تشدقت بها؟!.. وإن كان الجواب بنعم فكيف فعلت ما فعلت.. كيف وقعت في أول شرك خادع نصبه لي جمال هيلين الزائف؟.. وكيف سمحت لها بأن تدمر روح سونيا الجميلة؟!.. عن هذه الأسئلة الدامية غير المتطوفة بسفر رحيله. وينطق بأضعاف ما نطق بأضعاف ما نطق بتحوله السطحي إلى الزواج من سونيا في (شيطان الغابة).‏

هكذا ينطوي رحيل استروف على معان عديدة، كما ينطوي رحيل سربرياكوف أيضاً على عصب التحول الهادئ في هذه المسرحية. فسربرياكوف الذي يصوغ قدومه إلى الضيعة عنصر الوصول والرحيل في تعريف ما جارشك لمسرحية الحدث غير المباشر. يصوغ رحيله عنصر التحول في هذه المسرحية. فقد جاء سربرياكوف بعد إحالته إلى المعاش بنية الإقامة نهائياً في الضيعة. لكنه بعد شهر من إقامته، تتساقط فيه هالة الأقنعة الزائفة التي حافظ على تماسكها طوال سنوات بعده الدائم عن الضيعة. يجد نفسه مجبراً على الرحيل بعد أن أحس أنه كائن غير مرغوب فيه. صحيح أن ماريا ـ الجدة العجوز ـ مازالت مخدوعة فيها، متشبثة ببقائه، تعتقد أن كل ما يقوله سليم ولا يقبل المناقشة.. غير أن رغبتها هذه لا تضعف إحساسنا بعدم الرغبة في وجوده، بل تقويه. فهذه العجوز وحدها بما تشكله من إيحاءات ورموز هي الراغبة الوحيدة في وجوده. أما كل شخصيات المسرحية بما فيها مارينا المريبة الغارقة في العمل، لا ترغب في وجوده. وهذا الحيلة تكشف عن عمل المفارقة التي يعتمد عليها تشيكوف في بناء مسرحيته. والتي تتجاوز الشخصيات إلى الأحداث.‏

فالشخصيات تعتمد في إبراز تفاصيلها على عنصر المفارقة الدرامية تلك.. حيث نحس بتشابه من اختلاف بالطبع بين فاتيا واستروف وسونيا وتليجين ومارينا. ففي هذه الشخصيات الخمسة قدر من الحب للإنسان والعمل والحياة، وقدر من الغيرية والتجرد من الأنانية، وقدر من القدرة على إدراك حقيقة الذات والواقع المحيط بها.. وهو قدر يتفاوت من شخصية إلى أخرى. وعلى النقيض الكامل منها نجد مجموعة أخرى من الشخصيات هي سربرياكوف وهيلين وماريا.. فهذه الشخصيات ليست عالة على المحيطين بها فحسب بل أنها تنشر الخراب والموت في كل ما حولها من حياة. تتميز بالزيف والافتعال والأنانية.. ويتفاوت حظها من هذه الصفات بالطبع حيث يستأثر سربرياكوف بأكبر قدر منها بينما تتمتع ماريا العجوز بأقل قدر منها. وهذا المفارقة بين رؤى الفريقين وتصوراتهم هي التي تمنح المسرحية العمق والشاعرية.. خاصة وقد تجاوزت هذه المفارقة كما ذكرت حدود الشخصية إلى جوهر الحدث الذي ينطوي على قدر كبير من المفارقة، لا بين ما تتوهمه الشخصية عن الواقع وعن نتائج أعمالها وبين حقيقة هذا الواقع وتلك الأهداف فحسب ولكن أيضاً بين اتجاه الفعل ونتائجه التي تأتي بشيء عكس.. كما هي الحال بالنسبة لاستروف وهيلين أو بالنسبة لثورة فانيا على سربرياكوف ومحاولته قتله.. حيث تحسب الرصاصات الطائشة التي هدفت إلى إزاحة العجز والإحباط من فوق كاهل فانيا وهي تكرس هذا العجز والإحباط.‏

وكأنها عندما فشلت في إصابة سربرياكوف استقرت في أغوار فانيا بصورة من الصور.‏

يبقى بعد هذا الحدث عن واحدة من أهم سمات الأسلوب التشيكوفي البنائية. تبدو واضحة في هذه المسرحية. ألا وهي تلك النقلات الحساسة الذكية التي يخفف بها تشيكوف من عنف التوتر الدرامي، حتى يحتفظ بغلالة الهدوء الخارجية التي تسربل بها مسرحياته. وأولى هذه النقلات تلك النقلة الحادة الذكية من الحب إلى المرض.. ففي اللحظة التي أدرك فيها استروف في الفصل الثاني من المسرحية ما تعنيه سونيا بتلميحاتها لم يملك سوى تغطية غينية في ألم، ثم غير فجأة اتجاه الحديث "لا شيء.. مات أحد مرضاه في الصوم الكبير تحت تأثير الكلوروفورم "فنقلنا بذلك إلى عوالم جديدة كل الجدة. وإن كانت الجملة تحتوي في الوقت نفسه على دلالات إيحائية عديدة تكسبها من كلمات.. (الموت) و(المرض) و(الصوم) و(الكلوروفورم).. فقد كان لكل كلمة من هذه الكلمات رغم جدة النقلة وانقطاع صلتها الظاهرية بالموضوع صلة ما بموضوع الحديث الأصلي.. الحب الذي يوشك أن يموت. أما النقلة الثانية فقد كانت أكثر من هذه حدة وذكاء. ذلك لأنها جاءت في موقف مليء بالتوتر والعنف المكبوت. واستطاع تشيكوف أن يحول خلالها الموقف ببراعة من قمة التوتر إلى رهاقة الرمز الشفيفة. فحينما يدخل فانيا بباقة الورد الخريفية الذي خرج لإحضارها من أجل هيلين ويفاجأ بها في حضن استروف. يقف مرتبكاً وهو يردد في ألم وقد سقطت الورود من يديه بينما هو يعاني من إحساس داخلي بأنها زائد عن الحاجة "لابأس.. لابأس" في هذه اللحظة يقول استروف محيلاً الموضوع إلى مجرد رموز رقيقة "ليس الطقس اليوم سيئاً جداً يا عزيزي ايفان بتروفيتش، لقد كان مكفهراً في الصباح وكان ينذر بالمطر ولكنه أصبح الآن مشمساً، ويجب أن نعترف بأن الخريف لطيف هذا العام، وغلال الشتاء تبشر بالخير.. إلا شيئاً واحداً وهو أن النهار يقصر" يقول هذه الكلمات الموجزة المركزة كحكمة داود في سفر الجامعة ثم يخرج بعد أن لخص لنا الموقف تماماً في هذا الإطار الرمزي. (الطقس ليس سيئاً جداً) و(كان مكفهراً ثم أصبح مشمساً) و(الخريف لطيف ولكن النهار يقصر).. فكل هذه ليست إشارات لحالة الجو ولكنها تلخيص ذكي لموقف فانيا وحالته. فقد تحول الطقس ببراعة إلى معادل للموضوع الحرج الذي تجنبه تشيكوف بهذا الحديث وأفصح به عنه تماماً في نفس الوقت. دون أن يقع في هوة الميلودراما التي كانت تغفر فاها تحت سطح هذا الموقف.‏

1 ـ فصل من كتاب "مسرح تشيكوف".‏

2 ـ راجع دافيد ماجارشاك (تشيكوف: سيرة حياة) ص /289/.‏

3 ـ ستانسلافيسكي (حياتي في الفن) ص /112/.‏

4 ـ رايموند وليامز (المسرحية من أبسن إلى اليوت) ص /201/.‏

5 ـ فلاديمير يرميلوف (أ.ب تشيكوف) ص /338/.‏

6 ـ المرجع السابق ص /330/.‏

7 ـ ف. ل. لوكاس (مسرحيات تشيكوف وسينج وبيتس وبرانديللو) ص 41.‏

8 ـ راج ايريك بنتلي (في البحث عن مسرح).‏

9 ـ فلاديمير برميلوف (أ . ب. تشيكوف) ص 356.‏

10 ـ ستلانسلافيسكي (حياتي في الفن) جـ 2 ص 135.‏

11 ـ يريميلوف، ص 361

 
 

 

عرض البوم صور معرفتي   رد مع اقتباس

قديم 25-01-10, 10:13 AM   المشاركة رقم: 2
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
يتيمة جابر



البيانات
التسجيل: Sep 2007
العضوية: 44197
المشاركات: 13,147
الجنس أنثى
معدل التقييم: BENT EL-Q8 عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 43

االدولة
البلدKuwait
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
BENT EL-Q8 غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : معرفتي المنتدى : كتب المسرح والدراسات المسرحية
افتراضي

 

تسلم الايادي..

 
 

 

عرض البوم صور BENT EL-Q8   رد مع اقتباس
قديم 29-10-10, 04:55 AM   المشاركة رقم: 3
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Oct 2010
العضوية: 199395
المشاركات: 3
الجنس أنثى
معدل التقييم: JSam عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدUmm al-Qaiwan
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
JSam غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : معرفتي المنتدى : كتب المسرح والدراسات المسرحية
افتراضي

 

جميل! هل أحد عنده مسرحية "النورس" مترجمة ؟ و"الخال فانيا" ايضا..
مسرحية النورس رائعة..
شكـــــرا

 
 

 

عرض البوم صور JSam   رد مع اقتباس
قديم 29-10-10, 10:04 PM   المشاركة رقم: 4
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
نور ليلاس


البيانات
التسجيل: Nov 2006
العضوية: 15929
المشاركات: 1,707
الجنس ذكر
معدل التقييم: بدر عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 21

االدولة
البلدJordan
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
بدر غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : معرفتي المنتدى : كتب المسرح والدراسات المسرحية
افتراضي

 

اقتباس :-   المشاركة الأصلية كتبت بواسطة JSam مشاهدة المشاركة
   جميل! هل أحد عنده مسرحية "النورس" مترجمة ؟ و"الخال فانيا" ايضا..
مسرحية النورس رائعة..
شكـــــرا





مسرحيات تشيخوف ( النورس ، و الخال فانيا) إضافة الى مسرحيات الدب و بستان الكرز و غيرها تجدينها على الرابط :


اعمال تشيخوف / المجلد الرابع ، المسرحيات




طھط´ظٹط®ظˆظپ-4.rar - 4shared.com - online file sharing and storage - download


الاعمال القصصية و الروائية في الموضوع الشامل لأعمال تشيخوف في أربع مجلدات على الرابط :



http://www.liilas.com/vb3/t105245.html

 
 

 

عرض البوم صور بدر   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
موضوع, الإضافات المسرحية الكبيرة, الإضافات المسرحية الكبيرة لانطون تشيكوف, انطون تشيكوف, بقلم صبري حافظ, صبري حافظ
facebook




جديد مواضيع قسم كتب المسرح والدراسات المسرحية
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


LinkBacks (?)
LinkBack to this Thread: https://www.liilas.com/vb3/t119816.html
أرسلت بواسطة For Type التاريخ
ط§ظ„ط£ط¹ظ…ط§ظ„ ط§ظ„ظ‚طµطµظٹط© by Anton Chekhov — Reviews, Discussion, Bookclubs, Lists This thread Refback 09-11-14 10:36 PM
ط§ظ„ظ†ظˆط±ط³ (ظ…ط³ط±ط­ظٹط©) - ط§ظ„ظ…ط¹ط±ظپط© This thread Refback 10-09-14 01:21 AM


الساعة الآن 06:20 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية