غياب الشوق
بكت جاكلين تلك الليلة حتى نامت .. لأول مرة منذ غياب والتر.
يوم السبت التالي.. نزلت إلي السوق مع دوغلاس.. واشترت ضمن ما اشترته, خيطان زرقاء ولوازم فستان.. مصممة أن تخيط "الساري" الحريري الأزرق قفطانا لها.
واستمر الكلب في النوم كل ليلة مع دوغلاس, مع إن تهديد حضور تشارلز قد أنخفض كثيرا, وبمرور كل يوم أخذت تميل إلي الاعتقاد بأنها بالغت في مخاوفها من أبيها, كما يقول والتر دائماً.
وهكذا عندما ذهبت يوم الخميس, يوم عطلتها من محل الأزياء, لتأخذ دوغلاس من المدرسة عند الثالثة والنصف, لم تقلق فورا لعدم ظهوره.. لا بد أنه يراجع مواعيد رياضته.. ولوحت لأثنين من رفاقه في الفريق الرياضي. وانطلق أول باص.. وصرخت لأثنين من رفاقه:
- كايت,, بيت.. هل شاهدتما دوغلاس؟
وسارع بيت ليقف أمامها ونظر إليها في السيارة وهي مرتبكة:
- ولكنك أخذتيه عند الظهر... عند طبيب الأسنان.
وتلاشت ابتسامتها عن شفتيها:
- لا. لم أفعل, الم يكن في المدرسة بعد الظهر؟
- لا.. لقد استلمت المعلمة مذكرة بأنه ذهب إلي طبيب الأسنان وبعد الغداء رأينا سيارتك في الشارع وخرج دوغلاس.
- سيارتي.. ولكنني كنت في البيت طوال النهار.
- حسناً.. لقد بدت تشبه سيارتك.. نفس النوع وقديمة, ربما ذهب في الباص المبكر.. ربما يكون عندنا.
- سأقابل المعلمة حول المذكرة. شكرا بيت, سأراك لاحقاً.
وأجبرت نفسها أن تبعد الذعر عنها, فسارعت عبر فناء المدرسة ثم صعدت السلم.. وما إن فتحت الباب حتى تذكرت رائحة جو المدرسة المماثلة لواد يبعد آلاف الأميال... وركضت في الردهة.. وبحثت المعلمة بين أوراقها وقالت في قلق:
- نحن يصلنا الكثير من هذه الأوراق طوال الوقت.. أرجو أن لا أكون قد ارتكبت خطئاً.
المذكرة كانت تنص علي السماح لدوغلاس بالخروج لموعد مسبق مع طبيب الأسنان عند الحادية عشرة والنصف والإمضاء "جاكلين إيفانز" الخط لم يكن خطها ولا خط والدها, وقالت جاكلين وهي مخدرة الأحاسيس:
- لا.. لم ترتكبي أي خطأ.. شكرا لك.
وأسرعت إلي سيارتها عائدة إلي المنزل. ولم يكن دوغلاس هناك. ولم تتوقف الباص الذي تقله عادة لتنزله. وذهبت إلي منزل مارتا, وقلبها يخفق, وكأنها عصفور خائف. وكانت عيناها متسعتان من الرعب عندما دخلت من الباب الخلفي إلي المطبخ... فصاحت بها مارتا:
- جاكلين .. مابك.؟
- هل دوغلاس هنا؟
- لا.. هل كان يجب أن يجئ إلي هنا؟
فانهارت جاكلين علي أقرب كرسي, وقالت بصوت مرتجف:
- أظن أن أبي أخذه.
ونظفت مارتا يدها من طحين الفطيرة التي كانت تعدها ونادت لأوليفر. وبارتجاف وذعر أعادت جاكلين ما حدث. وتابعت بعجز:
- لقد توقفت عن القلق.. أوه يا مارتا.. ماذا فعلوا به؟ كيف أصعدوه إلي السيارة؟ لا يمكن أن يصعد بإرادته.. أعرف ذلك...ربما أذوه.. سيفزع كثيراً.
صاح أوليفر:
- الأفضل أن نتصل بالبوليس علي الفور.. والدك لن ينجو بفعلته هذه.
صاحت والفزع يملأ عينيها الزرقاوين:
- سوف يأخذني إلي المحكمة لأجل الحضانة, سيثبت أنني أم غير صالحة.
- سوف نقف في وجهه ونكذبه, أتظني إنك لم تؤثري علي المجتمع هنا خلال إقامتك؟ قد يكون لوالدك المال إلي جانبه, ولكنه لا يملك الحقيقة.
وأحست بالقوة تعاودها لكلمات أوليفر ولرنة صوته العميقة المؤثرة ومعها بدأ الغضب يتصاعد.
- كنت دائما أخاف من أبي.. منذ كنت صغيرة, وعندما كان يصرخ ويرعد كنت أختبئ في خزانة المكانس حتى لا يجدني.. وشاهدته مرتين يضرب والدتي.
وأخذت ترتجف, وهي تتذكر الفتاة الصغيرة المذعورة المتكورة في ظلام الخزانة.. فغضب والدها كان كالرعد, ومشتعلا كالصاعقة.
- ولكن هذا مضي عليه زمن طويل.. أليس كذلك؟ ما كان عليه أن يأخذ ابني.. إنه عمل شنيع.. سأتصل به في الحال لأطالبه بإعادة دوغلاس.
عندما سمعت صوت اليوت بنتلي علي الهاتف, كان أضعف مما تذكره.. ولكن علي الفور, تسرب الخوف القديم زاحفا إلي كل أعضائها عندما تكلم.. وقال:
- آه.. أجل.. لقد توقعت أن تتصلي. دوغلاس سيصل قريباً. لن أمنعك عنه تماما.. فهذا غباء. ولكن لا تحاولي استعادته. هل سمعتي؟
وفكرت بما قاله أوليفر, وبما حثها والتر علي فعله. وتذكرت غضبها منذ لحظات وقالت:
- بالطبع سأستعيده.. فأنا أمه, وهو...
- لقد علمت أن رجلا التقيته علي الطريق قد أمضي بضع ليالي في فراشك يا عزيزتي.. وهذا ليس النوع المطلوب من الأخلاق لطفل في السابعة من عمره ليعيش في وسطه, وأنا واثق أن أي محكمة في البلاد ستوافق علي هذا. فلا تثيريني كثيراً يا جاكلين.. أريد دوغلاس وسأقاتل لأحتفظ به.
وارتجفت ساقاها, فكرهت نفسها علي هذا الضعف. وقالت:
- وسأقاتلك! ولن تنجو بفعلتك هذه فالخطف جريمة خطيرة.. سأتصل فيما بعد لأكلم دوغلاس...
وأعادت السماعة مكانها دون وداعه, وأحست بالبرودة التي غلفت أصابعها المرتجفة. وكان أوليفر يستمع:
- هذا جيد منك! والآن سنتصل بالشرطة....
فقاطعته مارتا:
- لدي فكرة أفضل.. لماذا لا نتصل بوالتر؟
فصاح زوجها:
- مارتا.. أنت نابغة.. لقد كتبنا اسمه علي مؤخرة دفتر التليفونات أليس كذلك؟
فقالت جاكلين وهي تصر بأسنانها:
- لن تتصلوا به.
- بل سنبدأ بالاتصال به.
وحشر جسده الضخم بين جاكلين وبين الهاتف..
- والتر.. أنا أوليفر براد شو. والد جاكلين خطف دوغلاس بعد ظهر اليوم, فكيف نستطيع العمل علي استعادته؟
ومرت خمس ثوان من الصمت, سمعت خلالها جاكلين صوت علي الهاتف.. وقال أوليفر:
- هذا جيد .. إنها هنا.
وأعطاها السماعة: يريد أن يكلمك.
وتمتمت علي السماعة: ألو..
فقال لها بشراسة:
- سأستعيد دوغلاس لك, لا تقلقي أتسمعين؟ ستستعيدينه قبل هبوط الليل.
لهجة صوته قطعت كل مخاوفها علي ابنها. وكأنه يقف معها في الغرفة. وحاولت التفكير برد معقول, ففشلت, وسمعته يصيح:
- جاكلين ألا زلت معي؟
فقالت هامسة وهي ترتجف:
- أجل.. ولكنه سيكون مفزوعاً.. وأنا خائفة من أن يؤذوه.
- إذا أذوه.. فسيطرون إلي مواجهتي.. جاكلين أرجوك توقفي عن القلق! دوغلاس يعرفني ولن يخاف من الخروج معي..سأطير إلي نيوكاسل, وسأصل إلي سندر لاند, وسأحضره معي عند وقت نومه تماماً.. أو منتصف الليل.
ورأت أن تحذره مما قد يسمعه من والدها, فقالت:
- والدي يعرف بأمري وأمرك.. وأن بيننا علاقة, لقد هددني باستخدام ذلك ضدي والتر.
- لن يجرؤ؟؟ ليس معي.. أنا أكثر من ند لوالدك... كوني في مطار لندن عند التاسعة هذا المساء, وسنصل إلي هناك.
ثم تغيرت لهجة صوته, أصبحت ناعمة حتى أنها أحستها مغلفة بنوع من الدفء والألم.
- لا تخافي جاكلين.. لقد أفسدت لك كل حياتك منذ التقيتك.. ولكنني أقسم أن لا أخذلك بعد الآن, فليأخذك أوليفر إلي لندن, وسأعيدك إلي المنزل بنفسي.. أرفعي رأسك وابتسمي.
وسمعت صوت إقفال السماعة, فوضعتها من يدها وسمعت صدى صوته في إذنها: لقد أفسدت كل سيء في حياتك.. وقال أوليفر:
- رجل أعمال.. سيحضر علي طائرة خاصة وكل ما يلزم.
طائرة خاصة؟
- الم يقل لك؟ ابن عمه الأقرب يملك أسطولا من الطائرات.. وسيطير والتر بواحدة منها, وربما يصل إلي نيوكاسل قبل أن يصل دوغلاس.
- أوليفر.. هذا ليس وقتا المزاح!
وربتت مارتا ذراع زوجها:
- تحدثها مع والتر كدرها .
وضمها أوليفر إليه:
- علاقة حبك هذه ستحولنا إلي مجانين.
- طالما يبقي لك بعض الوعي لتوصلني إلي مطار لندن عند التاسعة.
- لن يفوتني هذا, مهما حدث.
والتر قادم يا دوغلاس .. لا تخف.. سوف يخرجك والتر من هناك, ولا بد أنك ستسعد لأن ينقذك والتر.. ولكن ماذا سيحدث لو أن والتر أوصلهما إلي باب المنزل.. وذهب؟
ولمست مارتا ذراعها بلطف مبتسمة فأجفلت جاكلين:
- لقد سألتك مرتين إذا كنت تحبين تناول المزيد من السلطة؟
- أوه... لا.. شكراً.. دوغلاس سيكون بخير ... أليس كذلك؟
- لدي كل الإيمان بمقدرة والتر.
ولجاكلين الإيمان والثقة بوالتر..رجل البوليس.. ولكن إيمانها بوالتر الرجل... مهزوز. ومن من الأثنبن ستلتقي في المطار عند التاسعة من هذا المساء؟
كانت جاكلين وأوليفر يقفان في باحة الوصول عند الثامنة والنصف, فقد أصرت علي الوصول باكراً..
ولم يصل باكرا. فقد حلت الساعة التاسعة, ثم مرت خمس دقائق أخرى, وعشرة وعشرين.. بعدها تلاشت من نفس جاكلين كل الآمال وتملكها خوف وعذاب.. لا بد أن شيئا خاطئاً قد حدث.. ربما لم يسمح لوالتر أن يدخل منزل والدها.. أو أنه القي القبض عليه لدخوله عنوة, أو أن دوغلاس قد وضع في مكان غير قصر جده.. وربما أصيب والتر بأذى.. أو أن دوغلاس لا يمكن له السفر.
ودار تفكيرها مرات ومرات.. يدور وكأنه حيوان في قفص, يدير نفس الإمكانيات.. ومع ذلك فهو يخشي أن يفكر بأحداث قد تكون أسوأ من هذه.. الساعة التاسعة وخمس وعشرون دقيقة.. لقد مرت دقيقتان منذ آخر مرة نظرت إليها.. وصاح أوليفر: هاهما.
وصاحت بصوت كالعويل, وبغباء: أين؟
وشاهدتهما.. يدا بيد.. والتر ودوغلاس... تحت ضوء لمبات "الفلورسانت" بدا لها دوغلاس شاحباً.. وما إن شاهد أمه حتى ترك يد والتر وركض إليها.. وركضت هي كذلك. ولم يتوقفا إلا بعد أن أصبح بين ذراعيها, وكاد وزنه يلقيها إلي الوراء.
- دوغلاس يا حبيبي...هل أنت بخير؟
وكان يمسك بها بقوة محمومة تقول أكثر مما تقوله الكلمات كم هو سعيد لرؤيتها..وسألته:
- هل أذوك يا حبيبي.. لقد قلقت عليك! أنا سعيدة لأنك سالم.
- لقد وضعوا شيئاً علي وجهي... مثل يوم أجريت عملية الزائدة.. لم يعجبني ذلك.. لقد ظننتك في السيارة.. وعندما استيقظت كنت في منزل جدي. لقد قلبت لهم كل شيء حتى السجادة.
وتقدم منها رجل.. وارتحلت عيناها علي طول جسده..من حذائه النظيف.. إلي جوربه الأزرق.. إلي سترته.. ثم استقرت علي وجهه الأسمر المألوف بعينيه الداكنتين وشعره الأسود... وهمست: والتر.
أحد الأشياء التي قلقت حولها منذ الثامنة والنصف هو ماذا ستقول له؟...
ولكن بوجوده أمامها.. حلت المشكلة نفسها.. ووقفت عن الأرض وذراعيها ملتفتين بشدة حول ولدها, وقالت بكل بساطة:
- لن أستطيع شكرك بما فيه الكفاية لما فعلته لي.. ولإرجاعك دوغلاس سالماً ...
وامتلأت عيناها بالدموع, فشرقتها وأضافت بشكل طبيعي:
- هل لنا أن نذهب إلي البيت؟ نستطيع التحدث في الطريق.
ورد عليها بابتسامة متصلبة:
- لقد طلبت سيارة مؤجرة.. وعلي أن استلمها.. مرحبا أوليفر.
- عمل رائع.. وهز يده بقوة وكأنها يد "طرمية" ماء قديمة .
- علي جيمس بوند أن يراجع أساليبه.
فضحك والتر علي مضض.
- بالكاد... لم أفعل شيئا في الواقع.. اعذرني, لدقيقة, أرجوك. وسار نحو السيارات المؤجرة. وقال أوليفر معلقاً:
- إنه كتوم .. أبن الكذا.. لقد أتم عمل رائعاً..
وربت رأس الصبي:
- لقد مررت بمغامرة جميلة .. كايت وبيت منتظران لسماع التفاصيل.. هل أنت جائع؟
- لقد تناولنا بعض الطعام في الطائرة... إنها طائرة خاصة يا أمي يجب أن تريها.. فيها مطبخ ومقهى, وحمامين, أحدهما فيه "دوش" ودخلت غرفة القيادة مع الطيار , إنه صديق لوالتر.. كانت رائعة!
تستطيع الآن أن تعترف لنفسها أنها كانت خائفة أن يموت دوغلاس كما مات ابن والتر.. وعبر ستار من الدموع رأت والتر يتقدم.. وقال وهو يهز تعليقه مفاتيح في يده:
ما من مشكلة .. السيارة في الخارج.. هل لنا أن نذهب؟
وخرج الأربعة إلي خارج المطار.. وقال أوليفر:
- تعال لنراك يا والتر.. سنسعد لاستضافتك في أي وقت, وأضيف شكري لشكر جاكلين.. إنه عمل رائعا, وسأتشوق لسماع التفاصيل.
وقبل خد جاكلين ثم اختفي بين صفوف السيارات.. رجل عملاق لايبدو أن لديه يدا فنية خلاقة أبداً.
وتوقف والتر عند سيارة صالون كبيرة.. وأرادت جاكلين أن تكسر الصمت بينهما.. فقالت:
- كم هذه السيارة كبيرة ..إنها ضخمة يا والتر.
- لقد فكرت بأنك قد ترغبين بالجلوس مع دوغلاس في المقعد الأمامي.
- هذا لطف كبير منك.. اللعنة.. لماذا أبقي دائما راغبة في البكاء؟
وقال دوغلاس ضاحكاً:
- لقد بكيت قليلاً.. فعندما استفقت لم أعرف ماذا يجري.
فابتسمت له أمه: أراهن أنك فعلت.
وجلس دوغلاس في المقعد الأمامي بينهما .. وانطلقت بهم السيارة. وكانت علي وشك سؤاله عن بعض التفاصيل عندما فاجأها بسؤال:
- متى ستزورين جدي يا أمي.. زيارة لائقة؟
وسقط فكها السفلي من مكانه. لقد كانت مستعدة لتقبل كراهية دوغلاس لجده بعد أحداث هذا اليوم.. وسألته:
- هل تريد هذا؟
- ياه.. كان معتادا علي تجميع بطاقات كرة القدم عندما كان صغيراً.. لقد قال أنه سيريني ما لديه..
- قل نعم.. وليس ياه..لم أتوقع أن تحبه كثيرا بعدما فعل بك اليوم.
- بعد أن تقيأت, أصبح كل شيء علي ما يرام.. لقد أعطتني السيدة بوندي بعض الأيس كريم, فوقف قريبا مني يراقبني.. وكأنه لا يعرف ماذا يفعل.. فأخبرته عن فريق كرة القدم الذي أشارك فيه, وكيف أنك تأخذينني إلي المباريات, ثم أراني منزله.. كل تلك الغرف لوحده..
والسيدة بوندي, هي مدبرة المنزل, والشخص القوي الشكيمة الوحيد الذي تعرفه جاكلين إنه قادر علي إصدار الأوامر لوالدها.. وسألته:
- وما نوع الآيس كريم؟
- بالشوكولا والليمون, ولكن جدي قال أن الشوكولا والتوت هي المفضلة لديه .
- هل أراد جدك أن تزوره؟
- بعدما جاء والتر, ونستعد للمغادرة, قال أنه سيشرفه أن أزوره ثانية وأجلب معي مجموعة بطاقات كرة القدم.. وبإمكانك المجيء معي أيضا يا أمي.. هو قال هذا.. أتعرفين السيدة العجوز هوبكينز التي تسكن قرب منزلها لوحدها وتحب أن يزورها الأولاد؟ إنه يذكرني بها.. أنه وحيد نوعا ما.
من بين كل الكلمات التي قد تختار جاكلين أن تصف فيها والدها, فكلمة "وحيد" قطعا ليست من بينها... وقالت له بحذر: يمكن أن نذهب إلي لزيارته دوغلاس .. في وقت ما.
- هذا جيد.. هل لي أن أري بيت وكايت الليلة؟
وكانت عيناه قد بدأتا تطبقان.. فقالت له:
- في الغد.
ولم يجادلها.. لأنه نام. وطبعت قبلة علي رأسه, وقلبها يخفق بالشكر لله علي سلامته.
ونظرت إلي والتر, الذي كان ينظر أمامه, جانب وجهه, سلسلة من الخطوط العظمية البارزة التي لا تشجع علي الحديث. فقالت له:
- إنه تعب.
فهز رأسه, وتابع صمته...
لا يمكن لها أن تغضب منه.. ليس بعد أن أصبحت مدينة له.. فأضافت بأدب مبالغ فيه:
- هل واجهت أي مشاكل؟
ومرت علي وجهه ابتسامة باردة:
- أبداً. لقد كانت مدبرة المنزل تنظف السجادة عندما دخلت.
- أتعني أنهم أدخلوك دون اعتراض وبعد عشر دقائق خرجت مع دوغلاس؟
- لا.. لم تكن بهذه السهولة. فتشارلز كان يستعد لأن يكون شريراً عندما أريته خطأ طرقه. ثم حاول والدك أن يرمي بثقله للتأثير علي فتحدثت معه.. وهكذا تخلي عن أي تفكير بأخذك إلي المحاكم وتشويه سمعتك.
- والتر.. ماذا فعلت بالضبط؟
- لا شيء حقاً.. فوالدك سمكة كبيرة في حوض صغير.. ووالدي سمكة كبيرة في المحيط. ويستطيع أن يدمر والدك باتصالين هاتفيين, أو ثلاثة في الاتجاه المطلوب. وفكرت أن أشير بهذا له.
فقالت جاكلين بسذاجة: أوه.. لا بد أن والدك ثري كبير.
- ثري جداً.
- إذن لن يحاول والدي خطف دوغلاس ثانية.
- أبداً.
- ولكنك لا تبدو أبن رجل ثري.
- لقد أردت دائما أن أشق طريقي بنفسي, لا أن أكون معلقا بأذياله.
وكان في صوته لهجة من لا يريد إكمال الحديث, فأضافت بهدوء:
- هذا صحيح.. لقد أخبرتني أنك تركت منزله وأنت في السادسة عشرة. فكيف أنت الآن مع والدك بعدما كبرت؟
- بالنسبة لرجلين قيمهما في الحياة متنافرة, ويتشاركان في ماض عاصف واحد, نحن متفقان جيداً. كما أتوقع أن يتفق دوغلاس مع جدك.. لو أعطي نصف فرصة.
وأحست بأن هذه ضربة مباشرة.. فقالت بحرارة"
- إذا كان والدي يشعر بالوحدة فهذه غلطته.
ونظر إليها من فوق رأس دوغلاس. ولم يكن قد نظر إليها كثيراً منذ غادروا المطار. وقال:
- هناك شيء أريد أن تفعليه.. أريدك أن تذهبي لرؤية والدك لوحدك..لقد آن لكما لتتخليا عن أشباح الماضي.
- إنه ليس شبحاً.
- إنه رجل عجوز فقد ولده وفقد معه صلته بالمستقبل.. ولقد أخطأ كثيرا بالتمسك بالمستقبل عبر دوغلاس.. فإذا ذهبت لرؤيته.. وأعني رؤيته حقيقة .. لن تجدي الكثير لتخافي منه..ولأجل دوغلاس إن لم يكن لأي سبب آخر.. أحب أن تذهبي.
ونظرت أمامها مباشرة إلي سواد الطريق, ترفض أن تلزم نفسها: ربما.. سأفعل.
- جيد.. سأبقي مع دوغلاس في الغد.. وسأتصل بالآنسة.. مهما كان اسمها.. صاحبة محل الأزياء لأقول لها أنك ذهبت علي عجل لأمر عائلي طارئ.
- غدا.. ماذا تعني غدا؟
- طائرتي لا زالت في المطار.. وبإمكانك الطيران بها إلي نيوكاسل وستكون هناك سيارة بانتظارك لنقلك إلي قصر والدك. وتستطيعين العودة في نفس اليوم..الأمر بسيط.
- كم لطف منك أن ترتب لي أمور حياتي!
- لن أحاول أن أتدخل بأي طريقة أخري.. أقسم لك.. جديا يا جاكلين .. لقد آن لك أن تذهبي, بينما والدك ما يزال مؤدبا وزيارة دوغلاس له لا تزال عالقة في ذهنه. ولن يكلفك هذا شيئاً.
تحت الشعور بالغضب لشهامة والتر وللاضطراب من فكرة مواجهة والدها, كان يختفي شعور آخر: الأمل. فلو ذهبت إليه في الغد, فسوف يكون والتر بانتظارها هنا عندما تعود, وعلمت بصدق, أنه علي حق. وأنه آن الأوان لمواجهة والدها كامرأة ناضجة تنوي بناء علاقة من نوع جديد معه, مهما كان ذلك صعباً, لأنها ستكون شاملة دوغلاس.
- حسن جداً.. سأذهب.
- حسن جداً.. سأتصل بصديقي الطيار الليلة, لأرتب الأمور.
ولم تقل جاكلين شيئاً, فقد أحست وكأن ريحا عاتية قد اقتلعتها من حيث هي لترميها في مكان مجهول.. وبعد أميال قليلة, استدار والتر ليتجه نحو منزلها.. ووصلا.. وكان المنزل يغط في الظلام, إذ إنها لم تفكر بإضاءة أي من الأضواء عند مغادرتها المنزل.. وأطفأ والتر المحرك:
- سأحمل دوغلاس إلي غرفته.
وخرجت جاكلين من السيارة وأعصابها متوترة, وتحس بنوع من الإرهاق العاطفي: ولكنها لا تستطيع الاستسلام لهذا الإرهاق, فبطريقة ما يجب أن تخترق تحفظ والتر.. إنها تريده الليلة معها..تريد أن تنام وهو إلي جانبها, وتستيقظ وهي بين ذراعيه.
كان يجمع جسد دوغلاس المتراخي بين يديه, وتذكرت كيف كانا يسيران معا, يدا بيد, في المطار.. وأحست بالغيرة.. فخافت من نفسها, وسارعت إلي المفتاح لتفتح الباب وتدخل إلي الردهة وتضئ الأنوار. وبعد دخول دوغلاس إلي الحمام مترنحا ثم خروجه منه مترنحاً, حمله والتر إلي غرفته وخلعت جاكلين عنه ثيابه وألبسته ثياب النوم, ثم وضعاه معا في فراشه. وكانت الغرفة معتمة وعملهما حميم.. وأحست بأعصابها تتوتر حتى نقطة الانهيار وهي تقبل ابنها, ثم نزلت إلي الطابق الأرضي وهي تعلم أن دوغلاس قد غط في النوم ثانية حتى قبل أن تترك غرقته وتبعها والتر.
في القاعة. استدارت تواجهه. تقف بينه وبين الباب.. والنور من السقف يشع علي وجهها وعينيها الزرقاوتين المثيرتين. لون سترتها الزهري يبرز بياض بشرتها, ووجهها. ووضعت يدها علي كم سترته قائلة: والتر؟
- اتركيني استخدم الهاتف.. أيمكن لي هذا؟
وأنزلت يدها عنه: أنت تعرف أين هو.
وذهب إلي المطبخ, ثم سمعت همهمات صوته العميق.. وطلب رقما آخر..فبقيت حيث هي, تشد سترتها من حولها..فهي تشعر بالبرد, ولا يمكن لغير والتر أن يدفئها.. وراقبته وهو يعود إليها.. قائلاً:
- تقرير الأحوال الجوية جيد لأربع وعشرين ساعة القادمة.. لذا فصديقي يرغب بالإقلاع عند العاشرة..هل هذا توقيت جيد لك؟ ستتمكنين من إرسال دوغلاس إلي المدرسة قبل ذهابك.
فأطرقت برأسها وهي تعلم أنها ستوافق علي أي توقيت, فما الفرق؟
- عظيم... سيكون صديقي بانتظارك في قاعة المغادرة.. إنه شاب قصير.. يرتدي بزة زرقاء.. وسيعلمك كم بإمكانك البقاء مع والدك. فهو يريد العودة إلي لندن قبل المساء.. واتصلت بوالدك لأخبره أنك قادمة.
- لن أستطيع التهرب من هذا.. أليس كذلك؟
وأحست وكأن عينا والتر محيطان عميقان تبتلعانها إلي ظلمة أعماقها. وقال بخشونة:
- حسنا.. علي الذهاب الآن.. ةلتكن رحلتك موفقة في الغد.. وأحست بقلبها يخفق بغير ارتياح في صدرها. فقالت بصوت بدا إنه صادر من مكان بعيد:
- ذاهب؟ ألن تبقي هنا؟
- لا حاجة لبقائي.. أنت آمنة الآن.
- لم أكن أفكر بسلامتي يا والتر.
- لقد حجزت هذا الصباح لإقامتي في فندق قريب من البلدة.
- أريدك أن تبقي هنا.. أرجوك يا والتر.. لقد اشتقت إليك.
ولمحت شيئا يعتري وجهه. وبسرعة حتى إنها ظنت نفسها تتخيل. وأخفض نظره عنها وهو يقفل سترته وقال ببرود أكثر إيلاما من الغضب:
- إذن.. أنت حمقاء يا جاكلين.
وأخرج مفاتيحه من جيبه. فوقفت دون حراك وكلماته تحفر بألم في عقلها المتعب..حمقاء..حمقاء..حمقاء.
ثم تجاوزها, وتلامسا, مما جعل الرجفة تسري في جسدها. وراقبته وهو يخرج, وعضلات حنجرتها مشلولة, ومشاعرها مزيج من الغضب والألم والإرهاق.. وأغلق الباب خلفه بحدة.
وكأنها طيف التقطته عدسة آلة تصوير, وقفت جامدة.. لقد قالت له ما تريد.. لكنه لم يستمع إليها..
فمن الواضح أنه لا يرغب بما ترغب به.
نهاية الفصل الثامن