26 يناير 1952 حريق القاهرة
هو يوم أسود في تاريخ مصر، تحولت فيه الغضبة الشعبية إلي حرائق التهمت أجمل مباني وسط البلد. و لكن الرغم من شهرة هذا اليوم و تأثيره في الأحداث التاريخية التي تلته، فإن الكثير منا لا يعرف سبب هذه الغضبة الشعبية التي ملأت الشوارع متظاهرين، حتي قيل أن أعدادهم وصلت لمليون شخص. فما الذي أدي إلي نزول الناس إلي الشارع بهذه الأعداد كبيرة في كل أنحاء مصر؟
وقع حريق القاهرة يوم 26 يناير 1952م، و لكن بدايته الحقيقية كانت في يوم 8 أكتوبر 1951م.
سينما ريفولي و هي تحترق
البداية كانت في يوم 8 أكتوبر 1951 م، و هو يوم أعلن مصطفي النحاس إلغاء معاهدة 1936م. و هي المعاهدة التي أخرجت القوات البريطانية من القاهرة و لكنها أبقتها في منطقة قناة السويس. و كان الرأي العام يجمع علي ضرورة إلغائها، لأنها تعطي لمصر استقلالاً منقوصا، كما أنها بمثابة عتراف من حكومة مصر و قبول منها بوجود الاحتلال البريطاني علي أراضيها.
واحد من مشاهد حريق القاهرة
لذلك جاء إعلان إلغاء المعاهدة من الطرف المصري ليطلق فرحة عارمة في الشارع المصري، فسارت المظاهرات الشعبية الحاشدة في القاهرة و الأسكندرية و المدن الكبري تعلن تأييدها للحكومة التي ألغت المعاهدة المشؤمة.
حريق بنك باركليز
و حاولت بريطانيا أن تستبدل المعاهدة الملغاة من الطرف المصري بمعاهدة أخري دولية تدخل مصر تحت مسمي الدفاع المشترك مع حلفاء بريطانيا الولايات المتحدة و فرنسا و تركيا. و لكن حكومة مصطفي النحاس رفضت الفكرة رفضاً باتاً، لأنها رأت فيها احتلال مقنع و وضع سيادة مصر تحت رحمة قيادة الحلف الأطلنطي.
فندق شبرد قبل نشوب الحريق
فندق شبرد بعد الحريق
و كان إلغاء المعاهدة يعني أن وجود القوات البريطانية في مصر قد أصبح غير شرعي، و عادت له صفة الاحتلال. فبدأت عجلة الكفاح تدور في الشارع المصري، فقد امتنع عمال السكك الحديدية في منطقة القناة عن نقل الجنود البريطانيين و مهماتهم. كما امتنع عمال الشحن و التفريغ عن تفريغ البواخر البريطانية في موانئ القناة الثلاثة، مما أدي إلي خسارة بريطانيا أكثر من مليوني جنيه في أسبوع واحد.
كما أضرب العمال الذين يعملون في المعسكرات البريطانية في منطقة القناة و انسحبوا منها و ضحوا بأجورهم التي تقيم حياتهم في سبيل ما يؤمنون به. فسارعت حكومة مصطفي النحاس بإلحاق هذه العمالة بالوزارات الحكومية وصرفت لهم أجورهم.
و خرجت المظاهرات الحاشدة تجوب شوارع القاهرة و الأسكندرية و مدن القناة و المدن الكبري تضم الآلاف من الطلبة و العمال تنادي بالجلاء و وحدة مصر و السودان.
و في نفس الوقت كان حزب المحافظين المتشدد قد فاز في الانتخابات البريطانية، و بدأت بوادر التشدد البريطاني تظهر في تصدي قوات الاحتلال البريطاني للمظاهرات باطلاق النيران علي المتظاهرين مما أدي إلي مصرع و إصابة العديد منهم.
و في 14 نوفمبر 1951م خرجت مظاهرة كبيرة نظم لها حزب الوفد، و امتلأت الشوارع و الميادين بالمتظاهرين يرفعون اللافتات بسقوط الاستعمار و رفض الدفاع المشترك ( معاهدة الدفاع المشترك التي عرضتها بريطانيا لتحل محل معاهدة 1936م).
و نشطت حركة الفدائيين في منطقة القناة و كان معظم المتطوعين من الطلبة و العمال، و نظموا كتائب للكفاح المسلح مثل كتيبة صلاح الدين، و كتيبة خالد بن الوليد و كتيبة مصطفي كامل.
و في المقابل وضعت القوات البريطانية خطة للاستيلاء علي كل المرافق الحيوية في مدن القناة و وضع المنطقة تحت السيطرة البريطانية الكاملة لحماية مصالحها في قناة السويس. و سارعت بالتحرك ضد قوات البوليس المصري في منطقة القناة لأن الأخيرة تصدت للهجمات الانتقامية التي كانت القوات البريطانية تقوم بها و تطول الأهالي.
و في 25 يناير 1952م وصلت الأمور لذورتها عندما طوقت قوات الاحتلال البريطاني مبني محافظة الإسماعيلية و ثكنات بلوكات النظام ( قوات البوليس)، و طالبوا الجانب المصري بتسليم كل أسلحة البوليس و إخلاء مبني المحافظة و الثكنات، و رحيل كل القوات خارج الإسماعيلية. كانت القوات البريطانية ترغب في التخلص من الوجود الشرعي الوحيد للحكومة المصرية في منطقة القناة حتي تحقق سيطرة كاملة علي المنطقة،و في الوقت نفسه كانت تريد التخلص من بلوكات النظام لأنها كانت تساعد قوات الفدائيين ضدها و تعرقل جهودها في تعقب الفدائيين الذين كانوا يحتمون في بيوت الأهالي.
بلغت القوات البريطانية التي حاصرت مبني محافظة الإسماعيلية و الثكنات سبعة آلاف جندي مسلحين بالرشاشات و الدبابات و المدرعات، في مقابل 700 ضابط و جندي مصري من بلوكات النظام مسلحين ببنادق خفيفة.
رفض قائد بلوكات النظام أحمد رائف تسليم أسلحته، و صمم علي الدفاع عن مبني المحافظة الذي يمثل وجود مصر الشرعي فوق أراضيها، و تحصن مع قواته داخل المبني و ثكناته.
فما كان من قائد القوات البريطانية إلا أن أعطي الضوء الأخضر لقواته، فقامت بدك مبني المحافظة و ثكنات بلوكات النظام بالمدفعية و نيران الدبابات و حصدت نيران الرشاشات أرواح جنود البوليس المصريين، فقتل منهم 50 شهيداً و أصيب 80 و اُسر الباقي. و كانت خسائر القوات البريطانية 13 قتيلاً و 12 جريحاً.
و ما أن وصلت هذه الأخبار المفزعة إلي القاهرة في صباح اليوم التالي 26 يناير، حتي تحول هذا اليوم إلي يوم أسود في تاريخ مصر، يوم حريق القاهرة.
بدأت المأساة في الثانية من صباح ذلك اليوم بتمرد عمال الطيران في مطار ألماظة (القاهرة) و رفضوا تقديم الخدمات لاربع طائرات تابعة للخطوط الجوية الإنجليزية. تبعها تمرد بلوكات النظام (البوليس) في ثكنات العباسية تضامنا مع زملائهم الذين تعرضوا للقتل و الأسر في الإسماعيلية.
ثم زحف المتظاهرون تجاه الجامعة و انجرف معهم الطلبة، و اتجهوا إلي مبني رئيس الوزراء مطالبين بقطع العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا و إعلان الحرب عليها، فأجابهم عبد الفتاح حسن وزير الشئون الإجتماعية بأن الوفد يرغب في ذلك و لكن الملك يرفض، فقصد المتظاهرين قصر عابدين و انضم إليهم طلبة الأزهر و تجمعت حشود المتظاهرين الساخطين علي الملك و أعوانه و الإنجليز.
و ما أن انتصف اليوم حتي بدأت الشرارة الأولي للحريق من ميدان الأوبرا باشعال النيران في كازينو أوبرا، و انتشرت النيران في فندق شبرد و نادي السيارات و بنك بركليز، و غيرها من المتاجر و مكاتب الشركات و دور السينما و الفنادق و البنوك، و كان التركيز علي الأماكن و الملاهي الليلية التي ارتبطت بارتياد فاروق لها و المؤسسات ذات العلاقة بالمصالح البريطانية. و طالت الحرائق أيضاً أحياء الفجالة و الظاهر و القلعة و ميدان التحرير و ميدان محطة مصر. و سادت الفوضي و أعمال السلب و النهب، حتي نزلت فرق الجيش إلي الشوارع قبيل الغروب، فعاد الهدوء إلي العاصمة و اختفت عصابات السلب و النهب، و أعلنت الحكومة الأحكام العرفية، و لكن لم يتم القبض علي أي شخص في هذه اليوم.
اختلفت الروايات في عدد من قتل في ذلك اليوم نتيجة الحرائق و الشغب. و لكن جمال حماد في كتابه "أسرار ثورة 23 يوليو" عدد 26 شخص قتلوا في ذلك اليوم، 13 في بنك باركليز، 9 في الترف كلوب، و الباقي داخل بعض المباني و الشوارع. كما دمرت النيران ما يزيد عن 700 منشأة.
و يختلف المؤرخون عمن يكون وراء حريق القاهرة في ذلك اليوم، فهناك من يقول أن الملك فاروق كان وراءها ليتخلص من وزارة النحاس باشا، و هناك من يقول الإنجليز و ذلك للتخلص من وزارة النحاس التي ساءت علاقتها بها بعد إلغاء معاهدة 1936م، وهناك من يقول حزب مصر الفتاة و الإخوان المسلمين. و لكن لم تظهر حتي الآن أدلة مادية تدين أي طرف في إشعال هذه الحرائق. لذلك سيبقي حريق القاهرة لغزاً ينتظر الحل.
و الحقيقة أن الحدث كان كبيراً و حاول كل طرف أن يستغله لصالحه ضد الأطراف الأخري، و لكن الأيام التي تلت دلت علي أن الحدث كانت له نتائج فاقت كل التوقعات و عصفت بمصالح كل الأطراف لصالح ما يريده الشعب.
________________________________________
المراجع
-فاروق الأول و عرش مصر، لطيفة محمد سالم،دار الشروق،الطبعة الاولي 2005
-أسرار ثورة 23 يوليو - الجزء الأول، جمال حماد،الزهراء للإعلام العربي، 2006