كاتب الموضوع :
جين استين333
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
ثم أردف وهي تضحك:
" أنني أعرف ان المرء لا يصدق كلمة مما يقوله العرافون ولكنهم مع ذلك يأسرونك!"
كانت العرافة عجوزا مجهدة الوجه, تعيش في كوخ على حافة البحيرة تأملتها بنظرات مبهمة وهذا طابع المهنة لدى كل العرافين ثم وجهت ليلي الى مقعد صغير بلا مسند, خارج الكوخ وجلست على الارض وأمامها وعاء مسطح فيه ماء. وناولت ليلي حفنة من التراب لتقبض عليها لحظة ثم أشارت لها بأن تلقيها في الوعاء وراحت تتفرس فيه لدقائق.
وقالت أخيرا دون أن تنظر اليها:
" كان هناك شقاء ستنسيه بعض الوقت ولكنه سيعود."
وتفرست بنظرات غامضة في ذرات من التراب طافية ثم قالت:
" حزن يغيم على الماء..."
وفي تلك اللحظة ظهرت الشمس من وراء بضع سحابات في السماء ألقت أشعتها على الماء وكأنها تثبت خطأ العرافة. واختلجت شفتا ليلي بابتسامة صغيرة على الرغم منها في حين أنها كانت تعجب في نفسها كيف أستطاعت المرأة أن تعرف أنها تعرضت لشقاء.
وكأنما بدت بوادر خفيفة على وجهها فاذا العجوز تنظر اليها فجأة قائلة أنك تبتسمين ولكن هناك نجمة داكنة في حياتك ولن تشرق الشمس بسعادة باقية الا بعد غيابها. ونهضت فجأة وأفرغت الماء في البحيرة ودخلت كوخها وأغلقت بابه بشدة. فألقى رويز قطع نقدية على المقعد ومس بأصبعه مرفق ليلي يقودها الى السيارة. وعندها انتبه الى صمتها فوجم لحظة ثم ادار وجهها اليه, وقال بابتسامة واهنة:
" ما أظنك تأخذين قولها على محمل الجد؟"
فقالت متعجلة:
" كلا... كلا طبعا, ولكنها لم تتمالك أن أردفت:
" كيف عرفت بأنني صادفت شقاء؟"
" هولاء المسنات يتعلمن قراءة ما يغفل عنه سواهن من أسارير الوجه ولكنا سنحاول ان ندبر الا يكون ثمة شقاء آخر لك!"
وحاولت ليلي أن تبتسم ولكنها لم تستطع أن تنسى كلمات العجوز بالرغم من أستهجانها هذا من نفسها... ماذا كانت تعني العرافة بوجود نجمة داكنة في حياتها... وفجأة تذكرت أنهم كانوا يسمون ستيلا بالنجمة الداكنة احيانا فشهقت والتفت اليها رويز متسائلا:
" ما بالك لا أحسبك تدعين العجوز تضايقك؟"
ورفع احدى يديه عن عجلة القيادة وأمسك يدها واستبقاها تحت أصابعه وهو يمسك العجلة وقال:
" ما كان ينبغي أن آخذك اليها."
" أنه سخف مني ولكن أظن أن في نفوسنا جميعا قدرا من الايمان بالخرافات وخاصة أذا مست وترا في النفس."
واستسلمت مطمئنة الى قبضة اصابعه فقال:
" أنسي هذه المرأة
وجاهدت نفسها لتطيعه ولكنها لم تستطع أن تنسى تماما... كانوا يسمون ستيلا النجمة الداكنة كتدليلي ومحبة وليس كتشائم وأذا كانت ستيلا قد سببت لها بعض الشقاء فنها لم تكن متعمدة... لم تتمالك نفسها من أن تقع في هوى بروس.. ومثل هذه الامةر تحدث!.
ولكن ما الذي رمت اليه العجوز بقولها ان السعادة المقيمة لن تكون دائمة حتى تغرب النجمة الداكنة.
أوقف رويز السيارة حوالي العصر على قمة طريق منحدر طويل. وتبعته ليلي عندما فتح باب السيارة وغادرها فقادها الى حافة التل, وقال:
" كاراسترانو." وأطلت الى حيث أشار. كان التل ينحدر في سلسلة من الطرق النحدرة حتى اذا بلغ مستوى الارض في النهاية رأت جوهرة في سهل مترامي الاطراف رأت مبنى ابيض كبيرا تحيط به غلالة لامعة من اللون بدت انها ازهار... على مسافة قصيرة من قرية صغيرة كأنها من مخلفات الايام التي كانت فيها كاراسترانو مجتمعا صغيرا ذا كفاية ذاتية.
وسمعت نفسها تقول بصوت خافت:
" ما أحمله!"
وفهمت اذ ذاك لماذا ارتبط بزواج دون حب في سبيل الاستحواذ عليه.
وعادا الى السيارة وانطلقا فأخذ كاراسترانو يغيب عن بصريهما كلما انحرفا بين التلال المنخفضة ليهبطا أخيرا , انسابت بهما السيارة خلال القرية التي بدت كأنها من فيلم عن عهد الاستعمار. وكان ثمة رجال ونساء يرتدون زيا تقليديا قديما... ولعلهم كانوا يؤثرون أسرة آلدوريت بولاء يفوق ما يكنون للحكومة.
ورمقت رويز بنظرة سريعة تسائل نفسها كيف يبدو لو أنه ارتدى الزي القديم في كاراسترلنو كما يرتديه القوم. أنه يناسبه أكثر من الثياب الحديثة. وما لبثت السيارة ان خلفت القرية وراءها وأخذت تقترب من كارسترانو.
كان المبنى اذا ازداد اقترابا أكثر جمالا.. والورود المسلقة تعلو السياج الحجري القديم ,والابواب الخارجية المعدنية مفتوحة تحمل أشعارا للاسرة كادت نقوشه تنمحي. ولم تستطع ليلي أن تتبين الشعار ودخلت السيارة عبر البوابة المفتوحة واستقرت في فناء مرصوف تكاثفت الورود في كل مكان فيه. وكانت امامها مباشرة درجات تؤدي الى اقواس من الطراز العربي المغربي. وفي أعلى الدرجات خلف الاقواس كانت شرفة مرصوفة بالقرميد الازرق الدقيق بينما تخلل جدران المبنى البيضاء بابان مفتوحان من الخشب السميك.
سارا عبر البابين الضخمين اللذين كانا يحملان نفس الشعار الذي حملته الابواب المعدنية, وأذا بأمرأة بدينة تقف في البهو الرطب مرحبة بهما باحترام على النمط القديم, واصطف خلفها بقية الخدم, وقد انحنوا ورويز يقدمهم كل بدوره... وما لبثت أن صرفتهم مدبرة البيت البدينة تشيتا ايستوريل.
طلب رويز قدحين من القهوة ثم اجتازا حجرة منخفضة طويلة تطل على فناء داخلي منخفض أثار عند ليلي رغبة ملحة في أكتشاف البيت, فقال رويز:
" سأصطحبك في جولة تفقدية بعد أن تستريحي وتتناولي بعض المرطبات وآمل أن يروق لك."
فهتفت: " كل مارأيت حتى الآن جميل كل الجمال.. جميل حتى لقد بدأ يأسر قلبي
جلسا في مقعدين مرتفعي الظهر من خشب أسود عتيق كان يلمع تحت الصقل المستمر. وكان الظهر والمقعد مبطنين بالجلد الموشى بالنقوش التي ظلت زاهية بالرغم من قدمه. وأحضرت تشيتا القهوة من قدحين صغيرين رقيقين تزينهما رسوم يدوية. فهتفت ليلي:
" أشعر كأنني رجعت القهقرى في الزمن. فأومأ رويز قائلا:
" لقد أنشئ كاراسرتانو في عهد الاستعمار القديم وحاولنا ادخال الطابع الحديث دون ان نفسد مظهره الخارجي."
نهض رويز اذ فرغا من القهوة وقال:
" الآن سأصطحبك في الجولة التفقدية التي تريدين
وأذ خرجا الى البهو قادها الى ممر تحف به الاقواس يؤدي الى ردهة جدرانية من الزجاج. وأدت الردهة مباشرة الى الجناح الجنوبي للقصر وادركت ليلي سر البذخ في فخامته حين عرفت أن أرض الجناح بأكمله تؤلف قاعة للرقص في أحد جانبيها نوافذ طويلة تطل على الساحة الوسطى للقصر وفي الجانب الآخر شرفة واسعة واجهتها صف الاقواس المتوالية التي شاهدتها وهما يقتربان من كاراسترانو.
قالت متهدجة الانفاس وهي تتصور الموسيقى والمرح يترددان في جنبات الحجرة الجميلة:
" أنها... باهرة!"
فابتسم قائلا:
" يجب أن نقيم حفلة راقصة بعودتنا لدارنا... العودة للدار! أهذا ينطبق عليها؟"
قال وهما يخرجان الى الساحة الوسطى فيجتازانها الى الجناح المقابل:
" سوف اصطحبك لتلتقي ببعض جيراننا."
في هذا الجزء من المبنى كانت غرف استقبال , مزيد من الغرف في واجهة المبنى بعضها كبير وبعضها صغير بعضها ذو طابع رسمي وقلة منها لا تقل عن الباقيات جمالا ولكنها مستعملة. وكان من الواضح أنها اكثر الغرف التي استخدمتها أسرة آلدوريت.
ومن هناك عادا الى البهو ولخطواتهما همس على الارض الخشبية الناعمة وهما يتجهان الى السلم الرحب المنساب... لا بد أنه كان مقاما منذ قرون وأن فرسانا وسيدات رفيعات المقام قد صعدوا درجاته الواسعة في الماضي... كم كان الاختلاف كبيرا بين خلفياتهما حتى أن سفنا من بلادها وسفنا شراعية من بلاده التحمت في الماضي في حرب لقد كانت ثمة اقاويل عن مغامرين من أجدادها فسألت نفسها عما اذا كان قد قدر لأحدهم ان يكون على سفينة اشتبكت يوما مع سفينة تحت امرة فرد من أسرة آلدوريت عفا عليه الرمن...لقد قال رويز أن أسرته وفدت أصلا مع الفاتحين فربما كانت عائلته خارج المكسيك عندما كان القراصنة الانكليز يغزون البحر القاري.
وها قد صمتت المدافع منذ زمن بعيد وجاءت هي عروسا الى هذا البيت العتيق الزاخر بذكريات الماضي... عروسا مؤقتة جاءت للزيارة وليس للاقامة!
كان هناك رواق للصور ذو ثلاثة جواننب وفي طرف من الجزء الاوسط منه اقواس تقود الى الاجنحة الاخرى بالقصر. وكان الجزءان الايسران والاوسط يحملان لوحات لأفراد من الأسرة بينما كان جزء من القسم الاوسط وكل القسم الايمن مبطنين بالخشب الاسود الصقيل.
نظرت ليلي الى الصور مبتسمة, وقالت:
" هؤلاء بعض أسلافك؟"
فأجاب ابسامتها بمثلها, وقال:
" تعالي أعرفك بهم..."
وسارا الى بداية القسم الايسر واومأ برأسه نحو اللوحة الأولى في الصف قائلا:
" دون اكزافيير مانويل جوزيه باليادى آلدوريت."
فهتفت ضاحكة:
" ما أروعه!"
قرص خدها برفق مداعبا, وقال:
" لا تنسي الاحترام!"
ومد يده الى كتفها وذراعه تحيط بمنكبيها في عناق خفيف.
كان دون اكزافيير - فيما يبدو- هو الجد الذي جاء مع الغزاة وشيد كاراسترانو. ومضيا من الصورة الى أخرى وهو يحدثها عن الرجال والنساء في تاريخ القصر: دون فيليب. الذي كاد يقضي على ثروة الاسرة في القمار دون ريناتو, الذي انقذ القصر وثروة آلدوريت, بالكشف عن أحد كنوز الاينكا الدفينة في بيرو وعن احد مناجم الذهب, وهذه الحسناء دونا روزاليا التي آثرت دخول الدير على الزواج من رجل اختارته لها الاسرة وكانت تحب سواه, ووصلا الى رجل ذي ذقن تنم عن العناد, وشفتين رفيعتين قاسيتين كان ذا شبه مذهل بالرجل الذي وقف الى جوار ليلي, ثم رجل وامرأة لا يشبهان رويز الا في القليل, بالرغم من أنهما كانا... أبويه!
ووقفا اما الرجل الذي استرعى انتباه ليلي واهتمامها وتساءلت:
" أهو جدك؟"
فهز رأسه وزم فمه ثم قال:
" نعم..." أذن فهو الرجل الذي أجبر حفيده على الزواج رغم ارادته.
وتأملت القسمات الحادة السمراء التي كانت شديدة الشبه بقسمات الرجل الذي تزوجته.. لعله أوتي طباعا كطباع رويز ومن هنا كان الصدام بينهما. بالاضافة الى خلافهما بشأن الخطبة المفسوخة التي ذكرها لها مرة؟ ووجدت ليلي نفسها اكثر فضولا بصدد الفتاة التي اراد ان يتزوجها يوما يبد أنه كان من المستحيل أن تسأله عنها. كانت عروسا غريبة, لا تعرف عن زوجها سوى القليل... بل لا تعرف كيف مات أبواه!
ولعله فطن الى نظراتها الفضولية المتسائلة فقالت في شيء من التردد:
" يبدو أنني لا أعرف الا القليل."
فقال:
" وهذا ليس عدلا لأنني أعرف الكثير عنك."
وابتسم لها محيطا كتفيها بذراعه أكثر أو لعلها تخيلت ذلك وتجلت رغبته في المداعبة, اذ قال:
" أنني أعرف مثلا أن أوتيت ولعا بتسلق الاشجار! لابد أن أعرفك يوما ببعض الهنود الحقيقين!"
تطلعت اليه في دهشة وتساءلت:
" أيوجد بعض منهم حقا؟"
قال:
" قلة ضئيلة في التلال وفي كاراسترانو بعض افراد يجري في عروقهم دم هندي."
وسارا الى نهاية القسم الاوسط من الرواق حيث انتدت ردهة ضيقة معتمة تقود الى الجناح الشمالي. وكانت ثمة ردهة اخرى بطول هذا الجناح تحيط بها حجرات وبعض نوافذ تطل على الساحة الوسطى ونوافذ في الجانب الآخر تؤدي الى شرفات على الجانب الخارجي للقصر.
|