ويحبسونني فيها . لطالما أرعبني الظلام الدامس الذي يغمر المكان . ومنذ ذلك الحين ، وأنا أعاني رهاب الاحتجاز . وقد اعتادوا إخفاء هداياي ، او رميها حتى تتكسر، ثم يتركونني لأتلقى اللوم . وبما أن عمتي تؤمن بالعقاب الصارم ، فقد اعتادت ضربي جزاء على ما يقترفه أولادها . وأذكر لعبة كانوا يحبونها كثيرا ، وتدعى الكعكة المحمصة ، ووفيها يمسكونني فوق النار ، ويتظاهرون بتحميصي . ومع أنهم لم يوقعوني مرة . لكني لم أكن متأكدا من نيتهم . في الواقع ، كانت هذه القسوة العقلية نموذجية ، أي أنني لم أكن أهتم لما يفعلونه بي ، بقدر ما يقلقني ماقد يفعلونه لاحقا . وكانوا يقدمون على لوي ذراعي ، ونتف شعري كلما رأوني ، وكأنهم يرفسون أي كلب .
في تلك الاثناء كانت كلير تحاول مقاومة دموعها ، وقد شحب وجهها . وتملكها مزيج من الغضب والألم وهي تتخيل صبيا صغيرا يتيم الأم ، يحاول أن يتحمل كل هذه الصعوبات .
ومالبثت أن سألته بصوت أجش :
وكم من الوقت مضى قبل أن تتغلب على كل هذا ؟
فكشر وأجابها:
" خيل الي أن الوقت أبدي ، لكنها كانت خمس سنوات أو ست تقريبا ، على ما أعتقد . وحين بلغت الثامنة ، كانوا قد تخرجوا من مدارسهم ، وبدؤوا يعملون او يرتادون الجامعة ، وقد ملوا من التسلي بتعذيبي .
ففكرت بصوت عال : الأن فهمت لم تكره الميلاد .
عندئذ رماها بنظرة جانبية سريعة وسألها :هل أخبرتك بذلك ؟
ولما أومأت برأسها ، ابتسم وهو يلوي فمه :
نعم ، في الواقع ، كان عيد الميلاد أسوأ يوم في السنة ، وكم كرهت التعارض بين كلام أمهم عن ضرورة انتشار المحبة بين الناس ، وبين ما يقترفه أبناءها بحقي ، بعلم منها أو من دون علم.
فقاطعته وهي جزعة : وكيف أمكنها أن تفعل هذا ؟
-أظنها لم تكن ترغب في الاطلاع على الامر . ألا تفضل الأمهات أن يؤمن بكمال أولادهن ، لاسيما في فترة الميلاد ؟ تعلمت أن أكره الموسم بأكمله ، من الخدمات في الكنيسة ، الى ترانيم الميلاد ، فبطاقات العيد بكلماتها المحبة ، هذا الى نباتات البهشية والاشرطة اللماعة . وبدا لي أن في العالم أجمع عائلات تجمع شمل أفرادها ، وكانت
برامج التلفزيون تحفل بافلام قديمة العهد ، فيما الترانيم لا تنقطع مطلقا من المذياع ... ولم يكن باستطاعة المرء أن يهرب من هذا الجو أينما ذهب . أما أنا ، فقد اعتبرت كل ذلك مجرد حلة زائفة.
-أتفهم لما فكرت بهذه الطريقة.
ولم تشأ أن تجادله ، فليس الأوان أو المكان مناسبين لتحاول أن تغير نظرته الى الميلاد . وبدلا من ذلك ، قالت بنعومة : لا عجب أن الكوابيس تنتابك . يبدو أن ما حدث في طفولتك قد ترك فيك أثرا لم يتركه أي حدث آخر في حياتك ، أليس كذلك ؟
فتذمر ، والسخرية في عينيه ، ثم قال :
هذا مايبدوا . ياللتفاهة ! ألا توافقيني الرأي ؟ ها قد مرت عشرون سنة تقريبا على موت عمتي ، ولم يقع نظري مرة أخرى على أي من أبنائها. كان علي أن أنسى مافعلوه بي ، ولكن ...
وهز كتفيه استهجانا ، قبل أن يضيف بسطحية :
من الغرابة أنها ماتت فجأة في عيد الميلاد ، إثر نوبة قلبية . وبما أن أحدا لم يلاحظ قبلا أنها تعاني من القلب ، فقد كو ..... مالبث أن صمت عن الكلام ، وهو شاحب الوجة . بعدئذ ، هتف بصوت خشن :
لا . ليست هذه الحقيقة الكاملة . لم يحدث أن أخبرت أحدا بهذا ، ولكن ماجرى كان بسببي . فأنا من تسبب لها بتلك النوبة القلبية.
ففي يوم الميلاد ذاك ، كان ابناء عمتي قادمين مع افراد عائلاتهم ، لا سيما بعد أن تزوج اثنان منهم ، وانجبا الأطفال . أما الاثنان الباقيان ، فقد استعدا للمجيء مع صديقتيهما . وكادت عمتي تطير من الفرح . وظلت طيلة الوقت تمدح الميلاد على أنه يوم رائع تجتمع فيه العائلة . ثم راحت تثني على أبنائها المحبين . وفجأة فقدت أعصابي ، وأخبرتها أي نوع من الوحوش القساة هم أبناؤها ، وكم اكرههم ...
ثم صمت وهو يتنفس بارهاق ، ولا حظت كلير كم ترتعش يداه . فأمسكتهما معا ، وقد أخافتها النظرة على وجهه .
وحدق في أيديهما المتشابكة ، قبل ان يرميها بنظرة مستغربة :
هل تبدين نحوي لطفا وتعاطفا يا كلير ؟
فتوردت وجنتاها لما سمعته من تهكم جاف ، وحاولت أن تسحب يديها ، لو لم يشد قبضته .
-أنا لا أحاول أن أهاجمك . لكنني غالبا ماشاركت في هذا المشهد ، عادة أكون المستمع الجيد ، فأصغي الى الناس ، وهم يفصحون عن مشاكلهم . أما هذه الطريقة ، فلا . وغالبا ما يكون جزء من عمل المخرج ، لاسيما حين يعمل مع ممثلين انفعاليين ومزاجيين.
فأشارت كلير بنبرة جافة : ولا سيما إن كن ممثلات جميلات...
التفت إليها وقد التمعت التسلية في تظراته : يا لها من ملاحظة خبيثة!
فازداد التورد على وجهها . ترى ، هل اكتشف نبرة غيرة في صوتها ؟ لو فعل ، فلن تسامح نفسها أبدا .
وأضاف دنزل بجفاء :
علي أن أقر أن تجربة الوقوف من الجهة الاخرى للكاميراجديدة . لكن ، لا أريد لذكرياتي المثيرة للشفقة أن تصيبك بالملل. فما من كلام يضجر أكثر من ذكريات انسان آخر .
فطمأنته بكلمات عنتها فعلا : لكنك لا تشعرني بالملل!
وكشف ملامح وجهه عن سخرية وهو يقول : لا أريد إخبارك بالمزيد ، حرصا على صورتي.
ثم توقف وهو يعبس ، قبل أن يضيف بلهجة فظة :
أردت أن أؤذي عمتي . لقد تملكني الغضب حين رأيتها بهذه السعادة والرضى عن نفسها وعن صبيانها . وظللت أتذكر أعياد الميلاد التي مرت بي ، أنا الذي لطالما بقيت غريبا في ذلك المنزل ، أنا الذي لطالما تجاهلوني أو ضايقوني ... وشعرت بموجة عاتية من الغضب ، فهتفت بالحقيقة في وجهها , وكنت في تلك المرحلة من المراهقة حين يبدأ المرء بالثورة ، وبررت لنفسي قولي الحقيقة . وبالطبع لم تصدق كلامي ، أو على الأقل لم تقره . وبدأت تصرخ بدورها ... وفجأة ، أخذت تختنق وهي تقبض على صدرها . ومالبثت أن ترنحت ، وتهالكت على الكرسي . فخفت ، وما كان مني إلا أن انحنيت نحوها لأسألها إن كانت بخير. لكنها ضربتني ، لتكون هذه ضربتها الأخيرة.
ورفع رأسه مجددا ، ونظر الى كلير وهو شاحب الوجة ، ثم قال :
آخر مافعلته هو ضربي ، ومن ثم ، لفظت أنفاسها الآخيرة ، من غير أن أحاول مساعدتها.
وشعرت كلير برغبة قوية في إحاطته بذراعيها . ولكن خوفا من ذلك ، شدت من قبضتها على يديه وعلقت :
لا بد أنك خفت كثيرا . فقد كنت مجرد مراهق يشعر بالذنب ... وأظن أنك لم تدرك ما العمل ، أليس كذلك ؟
-في الواقع ، لم تكن لدي أدنى فكرة . ففي لحظة ، كانت تصدر هذه الجلبة الرهيبة ، لتتوقف عن التنفس في اللحظة التالية.
ونظر الى كلير بثبات ، وعيناه شديدتا السواد ، قبل أن يضيف :
لم أحاول أن أساعدها حتى ، وهذا ما لا يمكن أن أنساه أبدا . بل وقفت هناك ، أحدق فيها ، وكأن عقارب الزمن قد توقفت . وأظن أن نفسها الأخير قد أحالني ... لا أدري ...خدرا . وبدا لي غريبا ، ان يكون آخر ما أقدمت عليه هو ضربي.
فتمتمت بنعومة : أظن ذلك . -وكل ما أعرفه أنني وقفت ، فاغر الفم ، ومن ثم ، تملكني الرعب الشديد . ولم أحاول أن أقوم بالإسعافات الأولية ، بل اكتفيت بالهرولة والاتصال بسيارة إسعاف . وأخيرا جاء الطبيب ، وأخبرني أنها ماتت في الحال ، لكني لم أتأكد قط من صحة كلامه.
-كنت مجرد طفل يا دنزل ! ولا عجب إن انتابك الرعب الشديد.
- لست أدري . ربما ، ان فعلت شيئا ... كالتنفس الاصطناعي مثلا ، أو محاولة انعاش قلبها مجددا ، لكانت نجت من الموت . لكنني لن أعرف ذلك أبدا .
وشعرت كلير برغبة في البكاء . فعيناه أشبة ببئر عميقة ، مظلمة من الألم ، ومالبثت أن همست :
وقد لازمك الشعور بالذنب منذ ذلك الوقت .
ابتسم ابتسامة ملتوية وقال :
منذ ذلك اليوم ، وأنا أحاول أن أنساها . لكنك محقة ، فقد شعرت بالذنب فعلا . وحري بي ذلك . لقد منحتني مأوى حين لم تكن مضطرة لذلك ، ولم تكن هي من أساء معاملتي ، بل أبناؤها . وهم الان ، بالمناسبة ، أعضاء في المجتمع يحظون بالاحترام على ما أظن . ولسوء حظي كانوا في تلك المرحلة القاتلة من المراهقة حين ظهرت بينهم. فأنت تعرفين أن المراهقين يمرون بمرحلة يخيفون فيها غيرهم من الأطفال ، لمجرد التسلية . ولا يمكنني أن ألوم عمتي على ذلك، كما لا يمكنني أن أحملها ذنب العواطف التي لم تظهرها لي ، لا سيما أن لها أربعة أبناء من لحمها ودمها.
ولبرهة ، ساد بينهما الصمت ، قبل أن تساله كلير :
وماذا حدث بعد موت عمتك ؟
-في ذلك الوقت ، كان أبي قد مات بدوره ، أو ضاع في البحر قبل سنتين ، فيما كان يعمل ضمن طاقم سفينة . أظن أنه قفز من على متن السفينة حين كان ثملا . لكن موته اعتبر حادثا ، رسميا .
-وماذا عن والدتك ؟