وعندما نهضت كلير من مكانها ، التفت دنزل اليها بحدة. فلاحظت المفاجأة في عينيه الرماديتين اللتين لم تتسعا الا لتضيقا مجددا .
لوح اللون وجهها تحت وطأة نظراته ، ثم تمتمت : أنا آسفة .
-هل انت من فعل هذا بي ؟
وتلمست في صوته شكا استطاعت أن تفهم سببه .
- بحق الجحيم ، كيف .... بماذا ضربتني ؟
-لقد دسست حبوبا منومة في شرابك.
حدق فيها بمزيج من الثبات والعبوس :ماذا ؟ ان كنت تعتبرين ذلك مزاحا ، فأنا لا أجده مضحكا البته .
وعاد يشد بقوة على معصمية الحبيسين ، مضيفا : فكي هذه الاشياء اللعينة عني !
فدنت من السرير ، وهي مطمئنه الى انه لن يمسك بها ، ثم شرعت تشرح له بصوت أجش وكلمات سريعة:
أنا آسفة لأنني استخدمت هذه الطريقة ، لكن لم يكن بوسعي التفكير في طريقة أخرى . وكان علي أن أوقفك عند حدك ، فلن أدعك تدمر حياة أختي . في الغد ، سأبعد لوسي ، وأدفعها الى اللحاق بخطيبها في أفريقيا . أما لو خضعت لتجربة الفيلم ، ونالت دورا صغيرا في فيلمك المقبل ، فستفسخ خطوبتها بمايك . وأعلم أنها سترتكب خطا فظيعا ، فلوسي تحبه ، ولكنها لن تعود الى رشدها الا بعد فوات الاوان . لذا على ان امنعها من التقدم لتجربة الفيلم غدا . ولم استطع التفكير الا في طريقة واحدة ، وهي منعك من اصطحابها . وبما انني أعرف انك لن تستمع الي المنطق ان حاولت أن اقنعك ، لذا...
ثم توقفت ، وقد منعتها أنفاسها المخنوقة من متابعة جملتها ، فتمتم دنزل من خلال أسنانه المطبقة :
يا إلهي ، انت مجنونة تماما !
وبدأ يناضل مجددا ، وهو يجذب قيوده بعنف ، ويحاول أن يقطع الحبل الذي يكبل رجليه معا .
فقالت كلير :أنت تضيع وقتك وطاقتك سدى 0
عندها التفت اليها ، وحملق فيها فيما التوت شفتاه كذئب هائج ، وصرخ : اللعنة عليك ، فكي عني هذه !
فهزت رأسها بعناد: كلا ، وان بقيت تصارع هذه القيود ، فلن تؤذي الا نفسك .
أخذ نفسا عميقا وكأنه على وشك الانفجار وقال : افتحي القفل إذاً!
وثارت أعصابها لما سمعت الصرير المزعج في صوته . ورغم انه مقيد وعاجز بهذا الشكل ، بدا قادرا على اثارة الرعب فيها . لكن من الضروري الا يلاحظ أنه يخيفها ، لذا جاهدت لتحافظ على هدوء وجهها وجموده . أما هو ، فاستلقى مجددا وهو يتنفس بخشونه ، ويراقبها وقد بدا مطرقا مفكرا وما لبث أن حاول مقاربة مختلفة . ابتسم لها ببطء ، وقد تبدلت ملامح وجهه ، واتسمت نبرة صوته بالنعومة والمنطق والسحر المتملق .
- حسناً لقد فزت يا كلير . لن أخضع لوسي لأي تجربة في الغد ، أعدك بذلك . هل أنت راضية ؟ والان فكي هذه القيود.
فهزت رأسها ، لترى ذلك المنطق اللطيف يتلاشى من وجهه ، وبريقا عنيفا يستقر في عينيه .
-حين أتخلص من هذه ستتمنين لو أنك لم تولدي قط.
فابتلعت ريقها في الواقع ، كانت تعرف انه ينطق بالحقيقة ، لكن عليها ألا تفكر في ذلك الان ، بل ستتركه الى وقت لاحق وهي لا تشك في ان القلق سيتملكها حينها .
ولما هدأ دنزل مجددا ، وراح يرمقها مقطب الجبين ، أعلنت ببساطة : أريدك ان تتحدث الى لوسي .
بدا وكانه مستعد لتصديق اي شيء الان وسألها : أهي هنا أيضا ؟
-بالطبع لا.
وحانت منها التفاتة الى ساعتها ، التي اشارت الى الحادية عشر والنصف . لابد ان لوسي عادت من السينما ، وفي طريقها الى السرير والوقت الملائم للاتصال بها الان .
ووصلت الهاتف بالقابس من جديد ، قبل ان تواجهه والسماعة في يدها :
أولا ، عليك أن تعدني بان تخبرها بما أقوله لك تماما ، من دون أي كلمة أضافية .
فتساءل وعلى وجهه تعبير قلق غامض : ولماذا أفعل هذا ؟
-لأنك لن تتخلص من هذه القيود حتى تقوم بهذا الاتصال.
ضحك ، لكن عينيه لم تعكسا أي مرح : لا يمكن ان تكوني جادة!
- بل أعني كل كلمة اقولها . فاما أن توافق على اجراء هذا الاتصال ، واما أن اذهب وأتركك على هذه الحال طيلة الليل.
فتبدل مزاجه ثانية ، ثم زمجر بغضب شديد :
قد تعتبرين الامر مزاحا ، لكنه ليس مضحكا . ولن يجد القانون ذلك مضحكا بدوره . أتدركين عقوبة جريمة كهذه ؟ ستحاكمين بتهمة الاعتداء والاحتجاز القسري . وقد تسجنين مدة طويلة جدا . وصدقيني لن تحبي حياة السجن كثيرا ، فهي غير سارة أو مريحة ، لاسيما لفتاة مثلك .
وسرعان ماسرت قشعريرة في بدنها ، لكنها قررت ألا تتراجع . فقد فات اوان القلق عما يحدث لاحقا ، حين يتحرر . لذلك ، ستمضي قدما في خطتها ، خاصة أنها أنجزت منها مايمنعها من الاستسلام . قالت ببرودة :
لا أظنك سترغب في إخبار الشرطة أن امرأة أقدمت على تقييدك الى السرير . وقد يسخر المسؤولون منك .
فومضت عيناه ، ثم رأت اسنانه تطبق وكأنه يريد ان يقطع رأسها .
ومالبث أن أضافت ، وهي تهز كتفيها استخفافا :
وحدث عن الدعايات التي ستنتشر ما إن يسمع الناس بالقصة ، وسيقبل الصحفيون الى البلدة سعيا وراء القصة ، وتتحدث الجرائد عنها بالصفحات ، يوما بعد يوم . باستطاعتي أن أتصور العناوين منذ الان . وسيحب الناس القصة ، لكن ماذا عنك أنت ؟ يمكنني أن أتخيل الدعابات التي سيطلقونها . فكر في الامر . صحيح أنني قد أزج بالسجن . لكنك ستمسي محط سخرية الجميع .
رأته يستغرق في التفكير ، وكأن وجهه ساحة معركة . بعد ذلك ، نظر اليها وكأنه يرغب في قتلها . فتريثت لثانية، ثم أضافت : سأرحل بعد دقائق ، ان لم تجر الاتصال . لذا ، اتخذ قرارك.
جمد لبرهة وهو يرمقها ، ثم تمتم بجفاء : ماذا تريدين مني ان اقول لها ؟
عندئذ ، خالجها شعور مزعج بالارتياح . ما ان يتصل بأختها حتى تسير خطتها في في مسارها السليم .
-أريد أن تخبر لوسي أنك آسف لأن تجربة الفيلم قد ألغيت ، وعليك الرحيل ، وأنت غير متأكد من موعد رجوعك.
فتشدق في كلامه ، وهو يرفع حاجبيه الاسودين بتساؤل : وماذا يمنعني من اجراء اتصال آخر ما أن تحرريني ؟
- حينها ، ستكون لوسي في طريقها الى المطار.
رأته يعاود التفكير في المسألة : لكنك قلت إتك ستفكين هذه القيود ، ما إن اتصل بأختك .
- سأفعل ، لكنني لن أتركك هنا وحدك ، ولن تجري المزيد من الاتصالات.
ولمحت وميضا في عينيه وهو يسألها : أتنوين أن تلازميني الليل بطولة ؟
لم تحبذ تلك النظرة التي رمقها بها ، بل لم تعجب بذلك التعبير على وجهه . لكنها تظاهرت بعدم الفهم ، وأجابت بسطحية : معظمة ، نعم ... حسنا ، أستجري الاتصال ، ام لا ؟
منحها ابتسامة ساخرة وأجاب : حسنا .
شرعت تقول له: أخبرها فحسب 0000
فقاطعها : اعرف ما تريدينني أن أخبرها .
- لاتضف أي كلمة او تنقص ، والا قطعت الخط قبل ان تحاول.
ومع أنه لم يجب ، لكن ملامح وجهه عكست الاجابة الشافية .
بعدئذ ، طلبت كلير الرقم ، وانتظرت حتى ارتفع صوت لوسي وهو يقول بتردد: آلو ؟
فرفعت السماعة الى فم دنزل ، وهي على استعداد لخطفها أن لم يلتزم بما أرادته . لكنها سرت لما سمعت صوته عاديا ، خشنا : لوسي ؟ انا دنزل . اسف ان ازعجتك في هذه الساعة المتأخرة ، لكن علي الرحيل لمدة واخشى أن تجربة الفيلم الغيت .
سمعت لوسي تغمغم ، وتخيلت شعور أختها في هذه اللحظة ، ثم انحنت لسماع كلماتها ، فإذا بشعرها الحريري الفاتح يلامس وجه دنزل ، أحست بعدها بتيار كهربائي دفعها الى الابتعاد بسرعة ، فيما عيناه الرماديتان لا تفارقانها . لكنه لن يعرف أن هذا الاحتكاك البسيط جعل قلبها يدق كمطرقة بين أضلعها ، ونبضها يتسارع حتى يفوق كل تصور ...
وبينما هي لا تزال تقرب السماعة من فمه ، تابع كلامه : لوسي ، لا أملك أدنى فكرة متى أتفرغ لرؤيتك ثانية .
وفي هذا الوقت ظل نظره عالقا بوجه كلير ، والسخرية تملأ عينيه ، وهو يضيف :
في هذه الاوقات ، اشعر أنني مقيد ، وأنني لست سيد نفسي .
فاستشاطت كلير غضبا ، وهي تسمع المعنى المبطن ، وترى فمه يلتوي بتسلية لم تشاركه أياها .
استرجعت السماعة بسرعة ، وأضغت الى لوسي وهي تقول بصوت باكى :
دنزل ... ولكن ماذا عن الفيلم ؟ ألن تصوره ؟ ظننت أنك متأكد من أنني أناسب هذا الدور . الا يمكنك أن تجري التجربة لاحقا ؟ أم أنك وجدت ممثلة أخرى ؟ أهذا هو السبب ؟
وسمع دنزل ذلك بدوره ، فالتفت الى كلير . ولما لم تعجبها الطريقة التي رمقها بها ،همست :
-قل لها وداعا.
بعدها قربت كلير السماعة منه من جديد فتمتم دنزل بلطف غامر :
أخشى أنني مجبر على توديعك الان يا لوسي . انا آسف .
وبعد ان أعادت كلير السماعة الى مكانها ، استقامت متنهدة ، ثم نزعت الهاتف من قابسة مجدد ا .
- علي ان أعود الى المنزل الآن ، وأقنع لوسي بأن تلحق بمايك غدا0
فتصلب قبل أن يهتف :لقد وعدتني أن تفكي هذه القيود ! ففكيها... هذا الاحساس بالعجز يقودني الى الجنون .
ابتسمت كلير ابتسامة باردة ساخرة وقالت : انا سعيدة لأنك أدركت ذلك اخيرا !
- ماذا يفترض أن يعني ذلك ؟
-الآن فقط ، تدرك شعور ضحاياك!
-ضحاياي ! لقد استعملت هذا التعبير قبلا ، وأنا لا أدرك الى الان عما تتحدثين بحق الجحيم.
-آه لا ، أنت بالطبع لاتدرك ذلك!
فزمجر : وكفي عن هذه اللهجة الساخرة ! إن كان لديك ماتتهميني به ، تفضلي . لكن دعي هذه التلميحات المبهمة.
-لقد تسببت بمرض هيلين ... -هيلين تسببت بمرضها بنفسها ! لقد تشاجرت مع زوجها ، وتطلقا . لكنها لاتزال مغرمة به ، وتعيسة لفراقه . وهذا ماسبب مرضها ، وليس انا .
-لعلها أحبت بول طيلة ذلك الوقت ، لكنها فقدت عقلها من أجلك ... وأخبرتني نفسها كم شعرت بالعجز . تذكر أنني رأيتها معك ، ورأيت الحالة التي عانتها بسببك.
فأسدل أهدابه ، واخذ يراقبها من خلال رموش سوداء ، فيما عيناه تلمعان كما النجوم الفضية في سماء مظلمة -يبدو أنك تهتمين كثيرا بعلاقاتي مع النساء الاخريات.
تورد وجهها ، ونظرت اليه بغضب قائلة : هيلين صديقتي ، ولوسي أختي .
فتشدق في كلامه ، مما ضاعف غضبها : أهي غلطتي ان وجدتني كلاهما جذابا ؟
-لقد أخضعتهما لتأثيرك ، وكأنك مصاص دماء عاشق ! فتوقفتا عن التفكير بعقل . وبعد ان تغلبت هيلين على مشاعرها نحوك ، أخبرتني كيف شعرت .... بالهوس ، بل كانت عاجزة عن التفكير في أي شيء آخر ، وسعت بعجز الى فك الاغلال التي تربطها بك .
ثم نظرت اليه فجأة ، وقهقهت ، من الغضب الخالص البارد الذي استبد بها .
منتديات ليلاس
وما لبثت أن رمته أخيرا بتلك الكلمات : تماما كعجزك أنت الان!
راقبت ردة الفعل على وجهه ، وعرفت أنه لم يحبذ هذه الفكرة . بعدئذ ، اضافت بصوت خافت تشوبة المرارة :
تماما كعجزي حين كنت في الطابق السفلي ، وتراجعت الى الجدارن وقلت لي إني سجينتك .
ولم يأت حركة ، بل نظر اليها وقد استحوذت على كامل انتباهة وتمتم بهدوء : كنت أمزح ، وهي مجرد لعبة .
فجلست على حافة السرير وسألته : لعبة ؟ حقا ؟ لقد لمستني ضد إرادتي ، اتذكر ذلك ؟ هكذا...
وبتمهل ، مررت إصبعها الطويل على جسده ، وأحست بالتوتر يتسلل الى جسده كله .
-العجز هي الكلمة التي استخدمتها . لقد قلت إننا في حرب ، وانني سجينة عاجزة . والآن ، انظر من هو السجين . كيف تشعر ؟
بدا ذاهلا ، حين مررت إصبعها برفق على وجهه :
مالامر ؟ يبدو وكأنك تعتقد أنك كنت تمزح فعلا في الاسفل . لكني لاحظت أنك استمتعت فعلا بتلك اللعبة التي لعبتها معي.
واستمرت تتلمس تفاصيل وجهه ، من خديه ، الى أنفه ، فعينيه وحاجبيه .
-كنت اللعبة التي تسليت بها ، أليس كذلك ؟ لقد تجاهلت كل احتجاجاتي ، واستغليتني باحدى ألاعيبك الصبيانية ، ولكن ، يمكن لشخص اخر ان يشترك في اللعبة.
واستمتعت بإنكاره ، وهو لايصدق ماذا يحدث له ! ثم مالت نحوه ، فغمر وجهه شعرها الاشقر ، قبل ان تهمس في أذنه : الآن حان دورك لتكون لعبتي!
وشعرت أنه يحاول نزع القيود ، فضحكت ثم نظرت الى وجهه الغاضب ، وعينيه اللامعتين.
-مابالك ؟ ألم تعد تحب اللعب ؟
-حسنا ، لقد استمتعت بوقتك ، والان ، أزيلي عني هذه الاشياء اللعينة ، فقد اكتفيت.
تمتمت وقد تسلل فيها شعور بالابتهاج والدوار : لعلك اكتفيت ، أما أنا ، فلا!
ثم نظرت الى عينيه الساحرتين ، ولم تشعر بإرادتها تضعف ، او بعقلها يضطرب . لقد خسر كل قوته وهو مقيد على هذا النحو!
فرد بحدة : كلير ! لقد بدا صبري يفرغ .
ضحكت وسألته : أيفترض أن يصيبني هذا بالخوف ؟
واستلقت على السرير بجانبه ، وقد أسندت رأسها على ذراعها ، فيما نظرها يجول على جسده .
- يا لها من تجربة مثيرة ، ان تحظى المرأة برجل تحت رحمتها . فلطالما جرت الامور بالعكس بالنسبة لمعظم النساء . ورغم أن الكلام عن المساواة لا ينضب ، الا ان الرجال يتمتعون بالافضلية . فهم أضخم ، أقوى ، ويحورون القوانين الاجتماعية لمصلحتهم . ولا يمكنني أن اسير في الشارع ليلا ، وحيدة ، من غير أن ينتابني الخوف . ولا أقدم على زيارة رجل في شقته بعد موعد معه ، ولا أتواجد معه وحيدة في مكان ما ، إلا إن كنت أعرفه لسنوات وأثق به.
ومن غير وعي منها ، امتدت يدها الى كتفيه العريضتين ، حتى احست بالتوتر يسري فيهما من جراء لمستها .
-عضلاتك أقوى مما تبدو حين ترتدي ثيابك ، كيف تحافظ على قوامك ؟ هل بالرياضة ؟
فأجاب باختصار : نعم .
-أما أنا فأكتفي بالمشي . وكثيرا مانمشي حين يكون الطقس جيدا . لكنني لا أتردد الى الأماكن المنعزلة ، ولا أسير الا في وضح النهار . فالمرأة تفتقر الى الشعور بالامان الدائم ، ان في المنزل ، وان في الخارج.
وبلغت أناملها عنقه فداعبتها بنعومة بإصبع متكاسل وهي تنصت الى وقع تنفسه باحساس من الانتصار . وما لبثت أن همست وهي تبتسم : آه ، أيعجبك هذا ؟
بات الان يراقبها بحدة ثابتة ، فيما عيناه القاتمتان تلمعان .
-سيعجبني أكثر ، لو لم أكن مقيدا كالدجاجة في الفرن!
ضحكت ، في حين تذمر على نحو غليظ : حرريني .
ولم تكلف عناء الجواب بل تابعت يدها مسيرها وتركت نفسها تشعر بتأثير ملامساتها . أما هو ، فأصدر صوتا أجش عميقا ، واستحال لونه أحمر قان .
ابتلع ريقه وقال :
حبا بالله ، كلير ... أرجوك ، انزعي عني هذه القيود ، فأنا لا أستطيع تحمل ذلك ... أحتاج الى احتضانك . ألا ترين ما تفعيلنه بي ؟
فأجابت : لست عمياء .
عندها اطلق لهاثا أجش : كلير...
واتسعت عيناه الداكنتان وراح يتوسل اليها : فكي قيودي ....لا يمكنك تركي هكذا ... أكاد أفقد عقلي!
فهمست بصوت أجش : جيد .
لم تكن تنوي في الاساس أن تضمه أو أن تعانقه لكنها انجرفت في تيار لم تتوقعه . انحنت نحوه تضمه أكثر ، فأحست به يرتجف . كان شعرها يتطاير حوله ، وبقي يراقبها ، فيما شفتاه منفرجتان لا تصدران أي صوت وكأنه بالكاد يتنفس .لكن كلير اكتفت بضمه .
ثم هتفت بالنبرة الاعتيادية نفسها : الجو حار هنا ، أليس كذلك ؟
بدا صوته أشبه بالنحيب وهو يجيب : بدأت أفقد حس الدعابة لدي . يا كلير! انزعي عني هذه الاغلال الآن!
وشرع يتنفس وكأنه أنهى لتوه سباق ماراثون :
لا أصدق أن يحدث هذا معي ... لعلي أحلم ... لا يمكن أن تكون هذه الحقيقة ... لا شك أنني أحلم .
فقالت كلير قبل ان تعانقه : ليس حلما .
عندئذ أطلق لهاثا حادا : يالهي ! كلير ... لماذا تفعلين هذا .
فردت بنعومة : لم أفعل شيئا بعد .
ولم تكد تعانقة حتى رأته يغمض عينيه ، وقد أفلت منه صوت عميق .
لم يكن هذا الرجل الذي سخر منها ، وضايقها طيلة هذه الأشهر ، وهو يمارس الألاعيب اللذكية المعقدة مع بقية النساء . بل بدا محياه مختلفا تماما ، لكنه لم يبد سعيدا باللعبة ، فهو لا يمسك بزمام الامور .
وتذكرت حلمها عشية الميلاد أمام النار، حين انقض عليها طيفة كخفاش الليل الاسود ليبتلعها . كما استعادت وهنها الشديد ، هذا الاحساس الذي لن تتمكن من نسيانه أبدا ، وعرفت حينها أن هذا تأثيره على النساء . لكنه لن يسيطر عليها مطلقا . هذه المرة ، كان هو الضحية . وهذه المرة ، هي من يسيطر عليه ويتحكم به . سمعته يهمس بصوت مرتجف : أنت رائعة . وأنا أتوق الى معانقتك ... فدعيني أفعل ذلك يا كلير ، ولا تعذبيني .
تمتمت وهي تخفض رأسها ثانية : أنا لا أعذبك بل أطهرك .
وسمعت خفقات قلبه تتسارع ، وكانه فقد السيطرة عليها .
-ماذا تعنين بتطهيري بحق الجحيم ؟ أتمنى لو أفهمك يا كلير . فأنا أتحرق شوقا الى ضمك بين ذراعي منذ أشهر ، الا تعرفين هذا ؟ ولا سبيل لي الى ذلك الان وانت تقيدينني بهذا الشكل.
لكن كلير لم تكن تستمع اليه بل اقتربت منه من جديد لتعانقه .
وبدا الخوف يساور كلير . ماذا يحدث لها ؟ بل ما هذا الشعور؟ ليس حبا . لايعقل أن تكون مغرمة به ! فهو لايعجبها حتى . ما كان ينبغي لها ان تلمسه . فكل لمسة تسعر نار مشاعرها .
في هذه اللحظة شعرت بأنها مستعدة لكرة كل امرأة عرفته ، وكل امرأة لامسها أو عانقها أو ...
وتنازعتها مشاعر الحيرة والدوار، وهي تقر أنها لم تخطط لتقييده منذ البداية . فمنذ رأته للمرة الاولى ، وهي تخشاه ، بل تحذر من سلطته على النساء ، وترتعب في السر من خضوعها له في يوم من الايام . وهكذا ، أمضت الأشهر الماضية وهي تحارب الشعور الذي ولده في نفسها ، لكنها كادت تجن حين رأته مقيدا الى السرير وعاجزا عن الاقدام على اي فعل .
أما الان فقلبها هو الذي خرج عن سيطرتها وراح يطالب بحبه بعد أن أخذت نفسا عميقا ، لامست وجهه بيدها ، قبل ان تبتعد عنه .
فما كان منه الا ان اطلق صرخة غاضبة ، حادة وغير مصدقة :
ماذا تفعلين ؟ كلير ... لا تبتعدي عني أرجوك .
لكنها أشاحت بوجهها ، ونهضت عن السرير وهي تكاد نفقد توازنها .
وغمرت وجه دنزل حمرة قانية ، وراح يرتجف بعنف ، فيما صدره يعلو ويهبط ، مع كل نفس جبار يتنفسه .
أدارت له كلير ظهرها ، فسمعته يقول :
لا يمكنك ... لايمكنك أن تفعلي هذا بي . يا إلهي ، اي نوع من النساء أنت ؟ كلير؟ هل تصغين الي ؟ لقد قمت بإغوائي ، فما بالك تنسحبين بهدوء الان ؟ أن كان ذلك مزاحا ، فأنا لا أجده مضحكا .
وتوقف عن الكلام ، ثم تنفس بعمق ، قبل ان يضيف بمزيج من الغضب والحدة:
أتنتظرين مني توسلا ؟ أتريدين مني أن أتوسل بيأس ؟ حسنا ؟ ولكنني لن أفعل ذلك.
وتبدلت نبرة دنزل وهو يقول :
إنها لعبة أخرى ، اليس كذلك ؟ انت تضايقينني ، ليس إلا . لكنك لست من القساوة بحيث تزرعين هذه الاحاسيس في ، ثم ترحلين!
أصابها الاجفال ، فعضت شفتها قبل ان تدير رأسها . ولم يكن باستطاعتها أن تلومه على غضبه ، لذا ركعت بجانب السرير ، وشرعت تتلمس المكان بحثا عن الحزام والسلسلة اللذين خبأتهما هناك .
أما دنزل فراقبها ، والشرر يتطاير من عينيه : ماذا تفعلين الان ؟
وقفت ، وهي تجذب السلسلة نحو السرير ، رغم ثقلها والجلبة التي أحدثتها .
وحين رأى ما بيدها ، اجتاحه التوتر ، وتقلصت عضلات معدته ، وتسمر جسده وهو يسأل : ما هذا بحق الجحيم ؟
لكنها لم تنبس ببنت شفة ، بل جلست على حافة السرير ، وبدأت تدس الحزام تحته .
-كلير ، لقد تماديت كثيرا ! فكفي عن هذا ، حباً بالله!
وحاول ان يوقفها ، فسجن يدها بين الملاءة وجسده ، قبل أن يضيف :لقد أقسمت أنك ستحررينني إن أجريت هذا الاتصال!
هزت رأسها وقالت :
بل أقسمت أن أنزع القيود ، ولم اقل أنني سأحررك . هل تظنني غبية ؟ فأنا أعرف انه لا يمكنني الوثوق بك ، لاسيما أنك قد تتصل بلوسي مجددا ، ونخبرها أنني أجبرتك على إلغاء تجربة الفيلم .
ولم يفتها الوميض الذي لمع في عينيه قبل ان يقول : لكنك إن لازمتني ، فلن أتمكن من ذلك ، أليس كذلك ؟
فوعدته : سأعود ، ولن أتركك مقيدا بالسلسلة مدة طويلة .
احمر وجهه من الغضب ، وتصلب : بل لن تتركيني مقيدا بها أبدا .
- أنا آسفة ، لكن لاخيار أمامي ، وأن أردتني أن أفك القيود ، وأحل الحبل الذي يربط رجليك ، فعليك أن تدعني أوثقك بالحزام . أما بشأن السلسلة ، فقد أقفلت مرتين ، ولن تتمكن من كسرها ، أو فكها . هذا من ناحية ، أما من ناحية أخرى ، فقد تأكدت من أن السلسلة توصلك الى الحمام تأمينا لراحتك . وما إن تغادر لوسي البلاد ، حتى أحررك.
- وماذا لو رفضت أن تلحق بخطيبها ؟
- لن تفعل.
تفحص ملامح وجه كلير المليئة بالعزم ، ثم تمتم وقد لوى فمه :
كلا ، أعتقد أنها لن تفعل ، بما أنك قررت ذلك . يا إلهي ، كم أنت قوية ، أليس كذلك ؟ بل قاسية كالمسامير، وباردة كالجليد ، كنت تنوين منذ البداية ان تعذبيني قبل أن تنسحبي فجأة.
وتجلى في صوته غضب مرير : ان كان من امرأة لا أتحملها ، فهي المعذبة الباردة الاعصاب .
فشحب وجه كلير ، وقد كرهت النبرة التي استخدمتها ، لكنها جاهدت لتحافظ على خلو التعابير عن محياها .وقررت ألا تسعده بكشف الجرح اللذي سببه لها .
وتمتم باختصار ، وعيناه لاتفارقانها : أما من تعليق ؟
وبادلته النظرات من دون أي تعبير . ورغم أنها شعرت أن الكلام بعيد عن السهولة باشواط ، الا انها ، وبطريقة ما ، تمكنت من القول: لا .
فقست شفتاه ، وهو يومئ برأسه ، ويضيف :
كما سبق وذكرت ، أنت باردة كالجليد ، وتفتقرين الى الانفعال . لقد عانقتني لتثيري غرائزي . تلك كانت نيتك ، أليس كذلك ؟
عندئذ ، أجابته كلير على نحو فظ : لا نملك الوقت لهذا .
فرد من بين أسنانه المطبقة :
أنت لا تملكين الوقت ، أما أنا ، فيبدو أن ، لدي وقت العالم كله . فلن أذهب الى اي مكان .
- أسمع على لوسي أن تستقل قطارا الى مانشستر في السادسة من صباح الغد . كما عليها أن توضب أغراضها قبل ذلك . وما زال علي أن أكلمها ، لأنها لا تعلم شيئا عن هذه الرحلة.
-ألن تحتاج الى تأشيرة دخول ؟
حاولت كلير ألا تنظر اليه . فكلما وقعت عيناها عليه ، سرت فيها ذبذبات غريبة .
ومالبثت أن قالت بسطحية :
لقد حصلت واحدة قبل اشهر عدة ، وذلك حين سافر مايك الى هناك ، كي تزوره ، في حال وفرت بعض المال .
-وماذا عنه ؟ متى ستخبرينه بقدومها ؟
- لقد سبق وفعلت.
فأجاب بسخرية باردة : أنت تدهشيننى . وفيك من السرية ما يفاجئني ، إذ لم تطلعي مخلوقا على ماتخططين له .
عندها رفعت ذقنها ، متوردة الوجه وقالت له :
لم أخبره عنك ، أو عن تجربة الفيلم . بل اكتفيت بالقول إنها مفاجئة من لوسي ، وحذرته من أن يذكر الموضوع سلفا .انما علي أن اعلمه بموعد قدومها . كي يلاقيها في المطار، ويحجز لها غرفة في فندق قريب .
فعلق بجفاء ، وهو يدرسها ، كمن يراقب حشرة تحت عدسة المجهر :
لقد فكرت في كل شيء ، أليس كذلك ؟
-بل حاولت ذلك.
وحانت منها التفاتة الى ساعتها ، وقد فرغ صبرها :
والآن ، هل ستدعني أوثقك بالحزام ، أم لا ؟ لانك ، إن لم تفعل ، ستبقى مقيد اليدين طيلة الليل .
-حسنا ، ضعي الحزام اللعين ، بأي وسيلة كانت .
ثم رفع جسده ، تاركا يراحا تدس الحزام حول وركيه .
وأعلنت ، من دون أن تنظر اليه :
قبل أن أنزع الأغلال ، عليك أن تعدني أنك لن تحاول منعي من الرحيل . فعلي أن أرى لوسي الليلة ، وأتأكد من أنها ستستقل تلك الطائرة .
فتشدق في كلامه : سأعدك مقابل وعد منك ، عديني أنك ستعودين ما إن تسافر لوسي بالقطار غدا صباحا .
أومأت برأسها وقالت : حسنا ، أعدك بأن أعود حالما نودع لوسي في المحطة .
ورد : اتقفنا .
لم تكن متأكدة من أن بإمكانها الوثوق به ، الا أنها أخذت نفسا عميقا ، وفكت الاغلال .
ولما سقط ذراعاه ، أجفل ، قبل أن يئن ألما . ومالبث أن راح يفرك ذراعيه .
-يا إلهي ، أعاني أكثر التشنجات سوؤا .
لكن كلير لم تنتظر . فرغم وعده ، قررت ألا تجازف ، وما أن نزعت القيود ، حتى نهضت وحملت الهاتف معها ، ثم اتجهت الى الباب سريعا . ومع أنها سمعته جيدا وهو يستقيم ، ويتقلب على السرير ، الا انها أيقنت أنها بعيدة عن متناول ذراعيه ، فما زال عليه نزع حبل الغسيل عن رجليه المكبلتين . ولا تعد هذه بالمهمة السهلة ، لاسيما أنها تكبدت عناءا كبيرا ، كي يصعب علي أي كان فك الحبل . وأخيرا قالت من فوق كتفها :
سأعود في الصباح ، فأخلد الى النوم .
وتجاهلت العبارة النابية التي تفوه بها دتزل .
وما أن وصلت الى المنزل ، حتى توجهت الى غرفتها ، واستلقت على السرير، من غير أن تبادر إلى تغير ملابسها . راحت تصغي الى الانين المكتوم الذي وصلها من غرفة لوسي ، وبعد دقيقة ، توجهت الى هناك ، أدارات زر الكهرباء .
جلست على السرير بجانبها ، وتناولت منديلا من على الطاولة المجاورة ، وراحت تمسح دموع أختها برفق .
- ما بالك ؟ سمعتك تبكين .
فارتعشت شفتاها ، ثم انفجرت غاضبة بنبرة لم تعهدها كلير من قبل :
هل كنت تسترقين السمع مجددا ؟ ألا يمكنني البكاء بسلام في هذا المنزل ؟
وما لبثت أن بدأت تشكو :آه يا كلير ... لقد ألغيت تجربة الفيلم ، وسيرحل ثانية ، ولن أمثل في أي فيلم بعد ذلك
فتمتمت كلير بصدق : لا يفاجئني ذلك .
ثم تناولت فرشاة من على الطاولة ، وبدأت تسرح شعر أختها الأشعث .
-أظن أن تجربة الفيلم حيلة يمارسها على كل النساء اللواتي يطاردهن.
ولما كانت لوسي تحب أن يسرح لها شعرها ، فقد خفف عنها ذلك ، وسرعان ماتنهدت :كنت محقة بشأنه .
-نعم.
عندئذ أخرجت بطاقة السفر من جيبها ، وأضافت :حسنا ، يمكنك استعمال هذه اذا أردت .
فنظرت اليها لوسي بتعجب وكأنها تتطلع الى أرنب أخرجته كلير من قبعه .
-ما هذا ؟
- افتحيها وسترين .
أخذتها لوسي بريب ، ثم فتحتها وهي تحاول أن تقرأها :
رحلة إلى أفريقيا! ولكنني لا أفهم ، فالرحلة عند صباح الغد ، غير أن ...
- إن لم ترغبي في السفر غدا يمكنك تغيير الموعد ، شرط أن تخبريهم بالأمر سلفا . ولكنني اتصلت بمايك وأعلمته بمجيئك .
ففغرت لوسي فاها ، وهي لا تصدق ، ثم انهمرت أسئلتها :
اتصلت بمايك ؟ أخبرته ؟ متى ؟ ومتى اشتريت البطاقة ؟ بل ما كل هذا ؟
حافظت كلير على هدوئها ، وهزت كتفيها بلا مبالاة ثم ابتسمت لها ، وقالت :
وما همك ؟ عليك اتخاذ قرارك قبل فوات الاوان . فقد حجزت لك في القطار غدا باكرا . كما حجز لك مايك بدوره غرفة في فندق قرب المدرسة . وقد تم تدبير كل شيء . ولم يبقى إلا تحضير أغراضك وركوب هذا القطار .
حدقت لوسي فيها بثبات وهي تعبس ثم سألتها : ومتى فعلت كل هذا ؟
-منذ يومين تقريبا.
- ولكن ... لماذا ؟ ولم لم تخبرينني ؟ ماذا يجري هنا ؟
-لقد قلت لك إني لم آصدق حكاية تجربة الفيلم قط . وكنت متأكدة من أنها مجرد حيلة.
فعضت لوسي على شفتيها وقالت : لا بد أنك تعتبريني غبية .
لكن كلير ابتسمت لها ابتسامة ملؤها المحبة ، وأجابت :
كلا ، بل صادفت مصاص دماء عاشق ، وحسب . وقد سجل هذا الرجل تاريخا في افتراس النساء التعيسات . فهو يظهر بداية تعاطفا ودعما ودودين ، الى أنه ينتهي في فراشهن . وما إن ينال مراده ، حتى يطير الى مكان آخر .
فقهقهت لوسي بعصبية ، قبل أن تسألها كلير :
أليس هذا ما حدث معك ؟ كنت تعيسة بسبب مايك ، الى ان اقتحم حياتك بتفهمه ، ولطفه ، حتى لم يعد بوسعك الا تحبينه . ومن ثم ، حاول جذبك الى فراشه .
فعلا الاحمرار وجه لوسي : لم أخبرك بذلك قط!
لكن كلير ردت بكآبة :
لم يكن من الصعب علي أن أتكهن . اذ يمكن للمرء أن يتنبأ بتصرفاته . وهكذا ، كنت متأكدة من أنه لا ينوي ضمك الى فريق الفيلم .وقلقت عليك ، بل خشيت أن تكون المسألة بمثابة القشة الأخيرة ، بعد مشاكلك مع مايك ، لذا ، بدأت أعد هذه التدابير فإن خضعت لتجربة الفيلم فعلا ، أوجل موعد الرحلة الى حين ، لذا ، لم تكن المجازفة كبيرة . كما أنك تحتاجين الى عطلة يالوسي ، فقد أرهقت نفسك في العمل . ومن هنا ، اعتقدت أنك بحاجة لرؤية مايك ، ومناقشة بعض المساءل معه ، وهي مسائل لا يمكنك مناقشتها عبر الهاتف ، او عن طريق الرسائل ، بل عليك رؤيته ، وجها لوجه .
وما كان من لوسي الا أن عضت على شفتها ، وهي عاجزة عن التوصل الى قرار ، ثم قالت وقد تشعث شعرها الاشقر، وازدادت ارتباكا .
-لا أدري ماذا أقول.
- قولي إنك ستذهبين وحسب!
وما لبثت لوسي أن عانقتها وهي تكاد تنتحب :
أنت رائعة ! وأنا شاكرة لك جدا يا كلير ... ولن أنسى ذلك أبدا 000
-لا أرغب الا في رؤيتك سعيدة يا لوسي . وأظن أنك ومايك مناسبين لبعضكما ، فهو سيسعدك كثيرا . ولم أرد أن تخسريه من أجل ثمن البطاقة فقط . وبما أن الارباح كانت وافرة هذه السنة ، فيمكنني أن أرسلك . والآن ، أتفضلين تحضير حاجياتك ، أم ترك هذا الى الصباح ، ومحاولة الخلود الى النوم ؟
فهتفت لوسي : بل سأحضرها الآن . وباستطاعتي ان انام في القطار غدا .
وقفزت عن السرير ، وقد امتلأت حيوية وإثارة ، ولم يستغرق منها توضيب أغراضها إلا نصف ساعة ، لا سيما بوجود كلير ، التي سرعان ما أجبرتها على نيل قسط من النوم .
ووعدتها وهي تطفئ النور : سأوقظك في الوقت المناسب صباح الغد .
ثم توجهت الى غرفتها ، واستلقت على السرير بدون ان تبدل ملابسها ، وهي تحدق في الظلام . في الواقع ، لم تحس بوخز الضمير لأنها أخفت الحقيقة عن لوسي . فلو أنها لم تكذب عليها ، لرفضت لوسي أن تركب هذه الطائرة ، ولخسرت الرجل الذي آمنت كلير أنه المناسب لأختها .
وهي مقتنعه أيضاُ أن لوسي لن تفوت عليها مستقبلا مهماً في التمثيل ، ولم تخضع لتجربة الفيلم هذه . صحيح أنها جميلة جدا ، وتملك وجها مناسبا للتصوير، ولطالما أقرت كلير أنها تبدو مذهلة في الصور ، لكنها لم تظهر أي موهبة في التمثيل . وقد سبق لها أن مثلت في مسرحيات المدرسة ، لكنها لا تتميز بسحر على المسرح ، أو على الاقل ، هذا ما لاحظته كلير . أما عن دنزل ، فلم يتظاهر مرة بأنه يؤمن بصفات النجمة فيها ، بل لم يعرض عليها هذه التجربة إلا إظهارا لطيبته . ومع ذلك ، كانت كلير متأكدة من أنها لم تخطء بشأن دوافعه قط ، فلقد استخدم عمله كطعم ليغوي لوسي. ولا شك أن هذه الخطة المحكمة قد نجحت مع عشرات النساء قبلها . لكن ، من الواضح انها فشلت مع لوسي .
كان نظرها مازال موجها الى السقف ، فعبست وهي شاحبة الوجة ، باردة. لايجدر بها أن تفكر فيه . لكن فيما تفكر غيره ، ولا شاغل آخر يصرف صورته عن ذهنها ؟ وسرعان مابدأت الصور المزعجة تحتشد في مخيلتها . فلم تستطع أن تصدق الذكرى التي تجتاحها . أحقاً تصرفت هكذا ؟ ما الذي أصابها بحق السماء ؟ لكن صدقها ، وطبيعتها الصريحة ، أبيا أن يكذبا . في هذا الظلام الموحش ، لم تعد تقوى على إخفاء الحقيقة ، أو أنكار مشاعرها نحوه . فأغمضت عينيها ، وتأوهت الذكرى تمزق أحشاءها ، وكأنها ابتلعت زجاجا مكسورا . كانت مغرمة به ، الى حد اليأس . لكن ، أيعقل أن تكون بمثل هذا الغباء ؟ نعتها هذه الليلة بالجنون ، وكان محقا . فمجرد الوقوع في حب رجل مثله ، ضرب من الجنون . ولماذا تطلب الامر منها هذا الوقت كله كي تدرك ماذا يحدث لها ؟ وكيف يخذلها العقل الذي لطالما تميزت به، هذه المرة ؟ لا شك أن العداء الذي ساد بينهما يوم التقيا أعماها ، ولم تدرك أنه كان مجرد غشاء يخفي خلفه خطرا حقيقيا . وفي الليلة الاولى ، شغلها القلق على هيلين ، فلم تدرك انه مصاص دماء سيقدم على أذية هيلين ليرحل بعد ذلك من دون تردد .
وهاهي الآن تتساءل ، ان كانت تجازف هي الاخرى بالاقتراب منه .
لكنها لطالما كانت باردة ، لا بل امرأة أعمال مميزة واقعية ومتزنة ، وقد أقنعت نفسها أنها لن تسمح لأي رجل بأن يؤذيها مجددا ، وأن هال ، الذي كسر قلبها ، قد علمها الحذر من الوقوع في غرام الرجل غير المناسب . وحين استرجعت بعض المشاهد الخاطفة ، تساءلت إن كانت لم تدرك منذ النظرة الاولى أن دنزل بلاك سيهدد سلامها الداخلي . ترى ، ألم تعرف منذ البداية أن تأثيره سيكون عنيفا كالزلزال ؟ وإلا ، لماذا كان الخوف الشديد يستبد بها كلما قابلته ؟ ولماذا راودتها عنه كل هذه الاحلام المزعجة ؟
لقد نجحت في انقاذ أختها من مخالبه ، لكن ، من سينقذها هي ؟