يقع كوخ كلير على بعد نصف ميل من البحيرة السوداء ، وقد بني وفق الطراز الفيكتوري ، من الصوان والحجر ، ويعلوه سقف رمادي من الاردواز . شيده في الاصل فلاح محلي لايواء خرافه ، وهو قريب من المراعي حيث ترعى النعجات ، بانتظار أن تضع صغارها في الاشهر الباردة الاولى من الربيع . يضم الكوخ أساسا غرفتين وحجرة لغسل الاطباق في الاسفل ، وغرفتين اخريين في الاعلى . لكنه خلا من اي حمام او حتى مغسلة . وقبل سنوات شب حرق هائل في الكوخ ، فترك فترة طويلة خاليا ، متداعيا قبل ان تقدم كلير على شرائه . ولما كان السقف منهارا . والنوافذ مهشمة وورق الجدران مقشر ، تمكنت كلير من شرائه بمبلغ زهيد ، وقررت أن تعيد تصميمه وفق رغبتها .
منتديات ليلاس
وقف دنزل بلاك في غرفة الجلوس , يتامل الجدران الناصعة البياض ، والموقد الاردوازي الذي بقى سالما رغم الحريق ، اضافة الى قطع الاثاث الموزعة في ارجاء الغرفة , التي اشترتها كلير بثمن بخس من المزادات . وما لبث ان تمتم : هذا مثير للاهتمام ! ليس حميميا تماما ، ولكنه مثير للاهتمام ، لاسيما أنه ذوقك.
فتذمرت بدفاع : لم انته من الديكور بعد ، اما الاثاث فمؤقت ، وذلك حتى اقرر مظهر المكان النهائي .
- له جو خاص .فهذه المصابيح مثلا تناسب البحيرة السوداء بل تبدو وكانها تنتمي اليها .
فاحمر وجه كلير وقالت : لم ات بها من هناك ، اذا كان هذا ماتلمح اليه .
رمقها بعينين باردتين ، واضاف : لم افعل . لا تردي بنزق على كل ما اقوله ، فذلك اشبه بمحادثة مخلوق شرس .
وقبل ان تبدي كلير اي رد فعل ، اردف بنعومة : لكني مستعد لتقديم عرض .
فتصلبت قبل ان تهتف : ماذا ؟
أجابها بصوت رقيق : بشأن المصابيح .
- آه !
استرخت مجددا ، انما قبل الاوان اذ سالها وفي عينيه سخرية باردة تتعارض مع الدم الحار الذي صبغ بشرتها : وماذا ظننت انني اقصد ؟
ومرة اخرى ، لم تملك وقتا للاجابة اذ بادرها بسؤال جديد : ماذا عن الحرارة ؟
فرمقته بارتباك ، قبل ان يفسر كلامه : ماذا عن نظام الحرارة في هذا الكوخ ؟
- تنبعث التدفئة المركزية من الموقد في المطبخ .
ولم تستطيع كلير ان تعرف تماما هل يطلق ملاحظات ذات حدين ، ام انها تتخيل الامر ليس الا . اهي شديدة الحساسية اليوم . ام انه فعلاً يتسلى على حسابها ؟ ومهما كان السبب ، فقد دفعها الانفعال الى الخروج من غرفة الجلوس ، والتوجة الى الغرفة المقابلة ، التي تضم المطبخ ومائدة الطعام . وما كان منه الا ان تبعها ، ثم توقف فجأة وقد علا حاجباه دهشة . هذه غرفه مختلفة . أكاد احس انني بحاجة الى نظارات شمسية لشدة النور هنا ؟
بالفعل ، كانت غرفة ذهبية دافئة . فالجدران مكسوة بورق الصنوبر الذي يحفظ الحرارة ، ويناسب الطاولة والكراسي المصنوعه من خشب الصنوبر ايضا. والخزانة الطويلة تحوي عدداً من الاواني الخزفية الصينية التي دأبت كلير على جمعها على مر السنين .اما ستائر النوافذ . فتزينها تفاحات حمراء لماعة واوراق خضراء كبيرة ، تضفي على الغرفة جوا طفوليا ، مفعما بالحيوية ونابضا بالفرح . بدا ذاهلا لا يصدق عينيه وهو يقول : أهذا ذوقك ؟
ودت كير لو ترد بالايجاب ، لكن بدا من الواضح انه لن يصدقها . وكم ازعجها ان يكون على حق ! فهي لاتريد ان يكون رايا عنها .غير انها اضطرت ان تقر بالحقيقة على مضض :
في الواقع تركت لاختي حرية انتقاء الاثاث والستائر .
فأعلن ، وقد رفع حاجبيه الاسودين بسخرية : آه ... انها لوسي اذا .. وهي نسخة كبيرة لأليس في بلاد العجائب ! نعم هذا اكثر منطقية .
واستدارت كلير وخرجت من الغرفة ، ثم التفتت الى الخلف وقالت : في الاعلى . غرفة مفروشة واحدة .
-لكني احب هذا الخشب المكشوف ، فهو يبدو رائعاً.
- يعني ذلك انه يحتاج الى ان يصقل جيدا . اعرف امرأة بالقرية تقوم باعمال التنظيف ، لكنها تطلب اجرا مرتفعا ، نظرا الى انها تحتاج لسيارة لتصل الى هنا . وقد نظفت المنزل بعد ان غادر البناء ! لذا فهي تعرف المكان .
-هل يمكنك ان تطلبي منها تنظيف المنزل مرة في الاسبوع . اظن ذلك يكفي ، فالمكان ليس كبيرا مارأيك ؟ -حسنا ، ساتصل بها ، واطلب منها ان تخابرك ، في حال قررت أن تستأجر المكان .
- لقد سبق وقررت ، ساستاجرة لستة اشهر.
وقف في غرفة النوم الاساسية ، وراح يتامل الجدران البيضاء العارية. والسرير الفردي الضيق ، ثم نقل ناظريه الى الخزانة التي تحتل جانبا مهما من الحجرة .كما لاحظ كرسيا منجدا وحيدا من المخمل الزهري اللون . ومرآة من الطراز الفيكتوري ، ابتاعتهما كلير من البلدة في العام الفائت .
بدأت كلير تشكو ، وهي لاتزال تمانع فكرة استئجاره كوخها : اخشى انك لن تكون مرتاحا هنا .
فرمقها بنظرة جافة وعلق : بل سأكون بخير، ما دمت لا تمانعين ان اجعل المنزل اكثر صلاحية للسكن ، اي ان اضفت بعض لوازمي الخاصة كرسوماتي وكتب وجهاز موسيقى .
ولم يكن باستطاعة كلير أن تبدي اي ممانعه . فاكتفت بتأمله وهو ينتقل الى النافذه ، لينظر الى البستان المظلم ، فيما ظله الطويل ينعكس على الحائط الابيض بطريقة مخيفة .
في الحقيقة ، لم يكن من السهل عليها ان تفكر في انه قد يعيش هنا ، في البيت الذي اعدته لنفسها . فمنذ اشترت الكوخ ، وهي تشعر بالحماس لهذا التصرف المليء بالتحدي الذي اقدمت عليه. ولما وصل الخبر الى اسرتها اجفل اهلها ، ثم مالبثوا ان وجدوا الفكرة مسلية ، قبل ان يشعروا بالسخط مجددا . فكيف تقدم على شراء كوخ متداع ؟ ومالذي دعاها الى ذلك بحق السماء ؟ بل لماذا تحتاج الى منزل مستقل ؟ فلديها منزل ، يجمعها بأبيها واخويها . اما لوسي ، فستتزوج قريبا وترحل لتعيش مع مايك في مكان ما. وحينها من سيعتني بمنزل العائلة ؟ من سيكون أما حنونا لروبن وجايمي؟ وقرأت كلير في اعينهم انها لاتستطيع الرحيل ، فهم يحتاجون اليها .
ولما كانت كلير تعرف ذلك . فارقتها كل نيه في هجرهم . فهي تتمتع بحس قوي بالمسألة وتحب عائلتها ، لكن فكرة الحصول على منزل مستقل ظلت تأتى على بالها .
واصبحت ، كلما احتاجت الى الهروب من مشاكل الواقع ، تلجأ الى هذا الكوخ . لذا ، كرهت أن ترى دنزل بلاك يقيم فيه . وعرفت انه ، لو سكن فيه اولا فسيراودها شعور غريب كلما اقبلت الى هذا المكان .
سألها : ايمكنني الانتقال الى هنا حالا ؟
فنظرت اليه كمن لا يصدق : ماذا تقصد بحالا ؟
- اقصد غدا .
- لكن غدا يصادف عيد الميلاد ، الن تكون مشغولا برؤية أهلك ؟
فقال بايجاز وبنبرة من يوصد في وجهها بابا : لا عائلة لي .
وتحرك فضولها على الفور . امات أهله ؟ اليس لديه إخوه او أخوات ؟ ولكن ، لابد ان له عمه او خال في مكان ! فكيف لاحد ان يكون من دون عائلة على الاطلاق ؟
ومالبث ان اعلن :لم نأت على ذكر الايجار بعد . فكم تريدين في الشهر ؟
لم تكن كلير فكرت في الموضوع ، لكنها تعرف المبلغ المطلوب مقابل ملكيات كهذه . لذا لم يتطلب منها الجواب ثوان ، وتعمدت أن تطلب منه ايجارا مرتفعا ، عساه يغير رأيه . لكنه أوما براسه :
حسنا ! قد نطلب من هيلين أن تجهز لنا عقد ايجار لستة اشهر .
فأجابت وقد ازعجها أن يقبل من دون أن يطرف له جفن :
فلندع ذلك الى مابعد رأس السنة . فكما تعلم ، لم تجد احدا في المكتب قبل ذلك الوقت .كما أن نزل بلاكبور يجيد الاحتفال بالميلاد وستكون مرتاحا اكثر هناك .
عندئذ رد بنبرة فظة :أنا اكره الميلاد ، واتحرق شوقا الى تفويته .
وما كان من كلير الا ان حدقت فيه بكآبه وسالته : أتكره الميلاد ؟ اتعني انك لاتحفل به اطلاقا ؟
- بالنسبة لي ،هذا اليوم يماثل غيرة من الايام . وهكذا ،سأنتقل الى هنا في الغد ، وامضي الوقت في ترتيب كتبي ورسوماتي بسلام . وسأعد حساء وسلطة للغداء. ولن اشاهد التلفاز ، او استمع الى المذياع طيلة ذلك الوقت ، بل سأكتفي بالاستماع الى الموسيقى أثناء عملي .
فتمتمت : أنا اسفة .
واذا بعينيه الرماديتين تلمعان بذلك الوميض الاسود الذي عرفته من قبل . وقال :
اذا كنت تاسفين من أجلي فلا داعي لذلك ، بل اشعري بالاسف على نفسك . ساكون سعيدا جدا هنا ، فيما اتجاهل الميلاد. ففي ذهني ذكريات بغيضة عن الميلاد التقليدي ، وانا متأكد من ان يومي سيفوق يومك تسلية وهدوءاً .
وراحت كلير تفكر في كل العمل الذي ينتظرها ، من جلبة الميلاد الصباحية ، الى ايقاظ الصبيان ، لمشاهدة ترانيم على التلفاز ، وكانت تحرص على ذلك . كي يتسنى للصبيان أن يسمعاها ، فيما يقومان بمساعدتها على مضض ، ويطلقان الشكوى ، وعيونهما تتألق حماسا . كما تذكرت هدايا الميلاد وهي تفتح ، ونباح الكلب وقد أثير حتى الجنون ، بسبب هذا النشاط غيرالمألوف . واستعادت رائحة ديك الحبش المحروق في الفرن ، فيما هي تسرع غاضبة لانقاذه ، وسط ضحك الصبيان . وعادت اليها ذكرى تدافعهما أثناء ترتيب المائده ، بينما لوسي تقدم الطعام ، وجدالهما وتشاجرهما ، قبل أن يتركا لها الفضلات لتنظفها .عندها ، يعمد أبوها الى النوم في كرسيه الهزاز ، فيما تقوم بغسل الاطباق مع لوسي ، ويخرج أخواها في نزهة في جو بارد جدا يصرفان فيها تلك الطاقة الزائدة كلها . ويهدأ البيت أخيرا حوالي الساعة ، فترتمي في كرسي قبل أن يعودا مطالبين بشطائر ديك حبش ، وحلوى الميلاد .