المنتدى :
الادباء والكتاب العرب
سليمان فياض , أيام مجاور
سليمان فياض
رواية
أيام مجاور
يبلغ اليوم الأديب سليمان فيّاض 80 عاما، ورغم ذلك يذهب ليفتش في صندوق الذكريات و سنوات الصبا البعيدة، تاركاً جانباً دوائر المثقفين التي شغلته وكرس لها جزئي كتابٍ جمع فيهما البورتريهات المختلفة بعنوان "النميمة و كتابة المعاجم و سير العلماء" ليكلل مجموعاته القصصية ورواياته بعمل جديد هو "أيام مجاور" الذي صدر مؤخراً عن دار الهلال.
في روايته الجديدة يعود الكاتب إلى زمن الأربعينيات من القرن الماضي ليروي ذكرياته كطالب بالمرحلتين الابتدائية و الثانوية في معهد ديني بالزقازيق، بمدينة ريفية تعيش إيقاعها اليومي محاطة بمعسكرات جيش الاحتلال على ضفة قناة السويس في سنوات الحرب العالمية الثانية.
لقد فتنه موضوع الأزهر مثلما فتن عديدين غيره ليكون موضوعاً لروايته، مثلما جذب من قبل طه حسين في "الأيام" و أحمد أمين في "حياتي"، لكنها ليست الفتنة التي تجعل صاحبها ينتقد ويحتج ويتهم ويحاكم،
أي أنه لا يلجأ للرواية لتصفية الحساب مع المؤسسة الدينية. صحيح أنه يرفض الازدواجية التي يعيشها شباب عالم الأزهر بين تطلعاتهم و اهتماماتهم الدنيوية و الصورة المغلقة والثقافة القديمة التي عفى عليها الزمن والتي تأسس عليه نظام التعليم الأزهري و لم يتطور.
لكنه ينجذب إلى هذه الفترة ولهذه السنوات السبع التي شكلت وعيه ككاتب فيما بعد، فيفسر ذلك في تصديره للكتاب قائلاً: "هذا العمل قسم من ماضيّ الحي أعود فيه إلى كهوف عمري، و كان مسرحه مساكن و شوارع و حارات مدينتين، و زمنه سنوات الضياع، و أبطاله الأساسيون من الأهل و الجيران و الشيوخ و المشايخ، سبع سنوات عجاف بالمعاناة، سمان بالذكريات".
يحكي "فياض" عن البدايات الأولى وعلاقته بالعمامة و نظرة المجتمع للمشايخ و انعكاسها على نفسية الطفل، و من ثنايا الحكايات تتولد حكايات أخرى، فيتوقف عند ما وصلت إليه المؤسسة الدينية و اختلافها عن أزهر العشرينيات الذي تناوله عميد الأدب العربي (ترى هل يختلف عما وصل إليه اليوم؟).
يسترجع سليمان فيّاض لحظات انتزاعه من حضن الأهل في هذه القرية بالدلتا، وتعاطف زوجة الجد عند توديعها له أمام عربة القطار وإشفاقها على الصبي من خوض طريق المشايخ "ورأيت زوجة جدي تمد يدها لتسلم عليّ، و يدها الأخرى لتأخذني في حضنها، وهي تهمس لي من وراء أبي : صغير على الحكاية دي يا حبيبي."
حتى إذا ما بدأ يومه الأول بالمعهد، شهد المعركة الطاحنة التي دارت بين المشايخ من طلبة الأزهر، وأخرجت الهراوات و العصي من تحت الكواكيل الأنيقة و تخضبت الرؤس بالدماء، و كانت بداية انقشاع الوهم و تبدد الصورة المثالية التي رسمها له أبوه الأزهري القديم و جده عن أصحاب العمائم "كنت من حلمي مع صفاء الملائكة، وعمائمهم البيضاء في فجيعة لن تفارقني أبدا".
"يتذكر" سليمان فيّاض .."يستعيد" .. "يسترجع" إذ ينقر على شاشة الذاكرة ليستحضر ما مر عليه أكثر من ستين عاما. و لكن هل يمكن مقاومة النسيان و تفادي فعل الزمن ليخط الكاتب سيرته الذاتية الحقيقية و يروي لنا بضمير المتكلم كاشفا عن هويته الحقيقية "سليمان" أو كما يناديه أفراد أسرته "أبو داود" ؟
يحاول فيّاض أن يجعل من السيرة عملا روائيا، أو ما يطلق عليه اليوم "رواية السيرة الذاتية" autofiction، إذ يفسر هذا الاختيار في أحد حواراته قائلا : "فأنا قاص حتى وأنا أكتب سيرتي، فلم أقدم تأريخا ببليوجرافيا مثل سيرة أحمد أمين،
ولم أبد الرأي في التجربة المعاشة مثل طه حسين في «الأيام»، ولكني عبرت عن الحياة التي عشتها، وقدمت رواية عن المكان، ورواية العائلة، رواية تسير في خط طولي تتفرع منها خطوط عرضية وهي الحكايات، وحاولت أن أعطي صورة عن الحياة المغلقة في مجتمع أزهري شبابي، فأنت تعيش في زمن وتتلقى ثقافة وهوية زمن آخر مضي، أعيش سبع سنوات كمراهق يبحث عن نفسه وهويته، وينمو جسديا وروحيا، حائر بين ثقافتين".
إذاً ما الفارق بين السيرة الذاتية و "رواية السيرة الذاتية أو السيرة المتخيلة ؟ عرّف النقاد و على رأسهم "فيليب لوجين"- الذي قضى ثلاثين عاما في دراسة هذا النوع الأدبي الذي لم يكن قد نال حق قدره في سنوات ما قبل السبعينات- عرفوا السيرة الذاتية بأنها تقضي بهذا العقد غير المكتوب بين القاريء والكاتب بأن يتعهد الأخير بكتابة نصا استعاديا منثور يتناول فيه بشكل مباشر حياته أو جزء من سيرته متبنيا فكرة كشف الحقيقة.
أما رواية السيرة الذاتية فرغم التزامها برواية ضمير المتكلم إلا أنها تحظى بحرية أكبر في الدمج بين الأحداث الفعلية في مسيرة الكاتب وتلك المتخيلة ويشار دائما في هذا النوع إلى أعمال "باتريك موديانو" الذي حار النقاد في تتبع حياته الشخصية و مقارنتها بأحداث رواياته حيث تتداخل فيها محطات حياته الفعلية والتفاصيل المتخيلة بشكل فني رفيع.
وسواء ارتبط الأمر باسترجاع السيرة التاريخية أو باطلاق العنان للخيال في روايات السيرة الذاتية، فإن معظم كتّاب السيرة يلجأون إلى لعبة التذكر و النسيان التي تتحول إلى جمالية من جماليات القص.
ففي رواية سليمان فيّاض يتوقف الكاتب عند مشهد دخول الفتى من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الصبا و النضج، فيروي بداية اكتشافه للجنس الآخر في تلك الغرفة شديدة التواضع التي كان يسكنها حيث كانت تتردد عليه زوجة ابن صاحبة السكن لتعرض عليه تنظيف الغرفة و في إحدى المرات قادته لأول مرة إلى العالم الحسي "شعرت تحت أظافري بدبيب نمل لأول مرة. أدركت أنها فتنة كفتنة يوسف، فاستغفرت الله في سري."
يسرد فيّاض المشهد بتفاصيله في صورة شعرية فريدة، و يصف دخوله عالم النضج بعالم المسئولية والرجولة "اليوم وقد بلغت الحلم، صرت مسئولا أمامه عن كل ما أفعله، وأفكر فيه. انتهت طفولتي و صباي، ولم يعد حتى أبي مسئولا عني". لكنه سرعان ما يبعث الشك في نفس القاريء ويشعره أن كل هذا المشهد ربما كان من وحي الخيال ولا أساس له من الصحة سوى في العقل الباطن للراوي وتجسيدا لرغباته المحمومة إذ يأتي على لسانه :"أدرك أن ليلة زائرة الليل، وهما كانت أو حقيقة،
قد تعدت بي شاطيء المألوف إلى عوالم ألف ليلة وليلة. أدركت أنني قد دخلت دنيا أعيش فيها، ولم أر ما بها من مسرة، وتجاوزت حدود الرضا والألفة، إلى دنيا يختلط فيها الرضا بالشعور بالذنب و الاثم، ولا سبيل إلى المقاومة".
و في تقاطع مع الخط الطولي الذي يسرد فيه فيّاض سنواته السبع، تتفرع الحكايا لهذا الحكاء الماهر الذي عرف بإحكامه الشديد فن القص ولا يخلو الأمر من خفة ظل عرف بها سليمان فيّاض، فتتعدد الحكايات التي كان يتفنن فيها مثل غيره من الطلبة في التحايل على الحضور و الالتزام اليومي بالمعهد الديني أو عن خططه للحصول على روايات الجيب و الذهاب لقراءتها بعيدا عن "كتب الأزهر التراثية الصفراء الأوراق،
الملتفة الصياغات التفافات مشوشة". أو حكاياته الطريفة التي يسخر فيها من هذا الفتى الريفي الخام الذي كانه و أول اكتشافه للشاشة الكبيرة حين قام مذعورا في قاعة العرض بمجرد أن رأى القطار يتوجه نحوه هو و غيره من المتفرجين و أول اكتشافه للراديو على صوت الشيخ محمد رفعت أو الجرامفون و كلها كانت أشياء بعيدة عن متناول أهل قريته القصية، و حتى حين ظهر الجرامفون مع أحد أعيان القرية وتعالى صوت عبد الوهاب متغنيا ب"أحب عيشة الحرية" يصف فيّاض هذا اليوم قائلا : "صحت القرية من قيلولتها، واتجهت من كل جهة ناحية الصوت (...) يومها ضحك عبده الفشار، وكان خالا لأبي، وقال باستنكار : - عيشة الحرية. تعال عيشها، وشيل الفاس. وضحك الناس وعبد الوهاب لا يزال يغني".
كان سليمان فياض مجاورا في سنوات الأربعينات، و هو اللفظ الذي كان يطلق على الطلاب بوصفهم يجاورون الأزهر الشريف، وقيل يجاورون عامود المسجد، أو يطلق على طالب العلم الذي يدرس بالأزهر حيث لم يكن هناك طلبات تقديم للتعليم وإنما يعتمد على شيخ يجاوره الطلاب و يحصلون منه على اجازة علمية في آخر الصف الدراسي. فكانت هذه السنوات "العجاف" كما يصفها الكاتب هي المحرك الذي صنع منه هذا القاص الكبير الذي هو.
عرض ـ دينا قابيل - جريدة الشروق
ط§ظٹط§ظ… ظ…ط¬ط§ظˆط± - ط³ظ„ظٹظ…ط§ظ† ظپظٹط§ط¶.pdf
|