3-لا أمس أو غد
وقفت كاثيرين في غرفتها تنظر من خلال النافذة المفتوحة ذات الستائر المتلاطمة إلى البحر الذي أوشك على أن تعمه هدأة الليل و عتمته.
لم يبرح تفكريها ساعة افتراقها عن جريج الذي طلب منها تناول العشاء برفقته, لكنه في الواقع لم يكن طلبا لأنها عندما أخبرته بأنها ستتعشى مع فيرا و ادي, اجابها بخشونة مؤكدا على أنها لن تتعشى معهما الليلة.
منتديات ليلاس
كانت في كل الأحوال لا ترغب في الجدال معه لذا لم تعقب على تأكيده مع ان عقلها حذرها من مغبة الوقوع في ورطة تشبه تلك التي وقعت فيها مع مايك. فالخير كل الخير لها في إبعاد هذا الرجل عنها أميالا و أميالا. لكن شيئا ما في داخلها طلب منها أن تترك و شأنها فهي لا تبتغي أكثر من صداقة في هذه الإجازة. (( وإذا خسرت قلبي. . . فهو قلبي. . . و أنا حرة به. . . )).
عندما اتصلت بفيرا, ابتهجت بالخبر, فقالت:
-لقد وقع في حبك يا كاثي. . . بعد أن راقبناكما بعد الظهر, أستطيع أن أؤكد لك هذا يا عزيزتي. . . ثقي بعمتك فيرا فهي تتعرف إلى الحب من أول نظرة!
و أنكرت كاثي, لكن فيرا تمنت لها التوفيق. . . بعد فترة وجيزة نظرت إلى ساعتها, فهي تعد الثواني والدقائق حتى لحظة بقائهما. إنها تبذل قصارى جهدها لئلا تبدو عليها اللهفة. ومع ذلك فقدماها تحسان بالشوق إلى ملامسة أرض المصعد. . . لكن لماذا تتأخر. . . أتعاليا و تكبرا؟
لكن الفراق وشيك فلم يبق لها إلا القليل و القليل من الوقت لتكون بصحبته. . . بعد لحظة كانت توصد باب غرفتها وتتجه نحو المصعد. ما إن خرجت منه حتى وجدته بانتظارها. . . شاهدته. . . ولن تنسى أبدا لمعان عينيه, أو ابتسامته المشرقة التي أضاءت قسمات وجهه وهي تقترب منه. أخذ يدها اليمنى بيده اليسرى, جذبها إليه.
أرجعت رأسها إلى الوراء, تسأله:
-هل سأكون الوحيدة الغريبة على طاولتك التي تضم أربعة, بدل طاولتي التي تضم ثلاثة.
-هذا صحيح. . . و لكنك ستضطرين إلى الجلوس على ركبتي, هل لديك مانع؟
فضحكت. . . ثم راحت تؤرجح يديها الرطبتين دليل السعادة. ما إن ألقت نظرة سريعة حتى علمت أن صديقيها لم يصلا. سألته:
-أين هم زملاؤك؟
-هناك عند طاولة الشراب الكبيرة.
قادها إلى طاولة تقبع في الظل, فلما جلست سألته:
-هل كنت لتصحبهم لو لم تلتق بي متخذا إياي رفيقة عطلتك؟
كانت تقصد إثارته. لذا انتظرت منه ردا سريعا لاذعا لكن رده أدهشها:
-كنت لأصحبهم لو لم تأسرني فتاة ذات نظرة تائهة تقبع في رحاب عينين زرقاوين ساحرتين.
-أنا اخترتك؟ لكنني وجدتك تنظر إلي نظرة. . . لم تعجبني.
بعد أن رأى الغضب يعلو وجهها.
-لكنك أحببتها. . . كوني صادقة. لقد أرضت غرورك الأثنوي, مجرد معرفتك أن رجلا قد رغب فيك بعد انفصالك عن صديقك. و هذا بحد ذاته حدث جارح.
رمقته من فوق لائحة الطعام:
-اوه؟ كيف؟
-الانفصال عن رجل مهما كان لا شك في أنه مدمر.
راحت تدرس لائحة طعامها دون أن تقرأ كلمة, ثم اجابت:
-لقد سمعت هذا من قبل ولست أدري, ربما لك تجربة من هذا النوع؟
ساد صمت طويل, لم تجرؤ خلاله على النظر إليه. لأن سؤالها كان فظا فيه قلة ادب فهي إلى الآن لا تعرفه معرفة تخولها الحكم على ردة فعله. قال أخيرا بعد أن استطاعت استراق النظر إلى تعابيره التي بدت حازمة:
-اقترح خلال هذه الفترة أن نقبل بعضنا بعضا على ما نحن فيه.
-دون ماض أو مستقبل؟ فقط الحاضر؟ لا امانع في هذا!
لكن قلبها كان يقول: بل امانع. . . أمانع. غطت شفتيها المرتجفتين بلائحة الطعام. لكن ما ادهشها سماع صوته العملي:
-حسنا. . . فلنقرر ماذا سنأكل.
وجدت كاثي صعوبة في فهم الكلمات الإسبانية المدونة على اللائحة, فتخلت عنها قائلة:
-اختر أنت يا جريج فلا شك في أنك تعرف طعم كل هذه الاطباق المسجلة في هذه اللائحة من الغلاف إلى الغلاف.
تقدم الساقي بعد أن استدعاه جريج فراح يدون بسرعة طلباتهما على دفتره الصغير في هذه الأثناء تحولت أنظار كاثي عنه, فشاهدت صديقيها, اللذين شاهاداها في اللحظة نفسها فلوحا لها معا أما فيرا فخصتها بابتسامة مشجعة.
راقب جريج ما يجري بابتسامة, بعد لحظات كان الجميع يبذل جهده للتظاهر بأن الزوج الآخر غير موجود.
-يبدوان سعيدين بإبعادك عنهما.
جعلتها برودة كلامه ترتجف:
=ألهذا تقضي وقتك معي؟ ألتفسح المجال في إبعادي عن إزعاج الطرف الثالث, والاهتمام بمتطلباتهما؟
-ألهذا السبب تحسبينني صادقتك؟
-صادقتني؟
كان يجب أن تبقي السؤال في سرها, لأنها بسؤالها هذا كشفت كرهها لهذا.
-أليست الصداقة هو ما تقدرينه أكثر بين الرجل والمرأة؟
مع رجال آخرين, ونساء أخريات. . . ربما. . . و لكن ليس معك أنت ومعي أنا. . . لكنها قالت ببرود:
-أظنك تصادقني. . . لأنك مللت صحبة زملائك و . . . أخسست بالحاجة إلى صحبة امرأة.
بدت عيناه للحظات قاسيتين لكنهما لم تلبثا أن استرختا مع أن كلماته بقيت مصدر عذاب:
-يا لذكائك في استنتاج هذا لكنني سأرد لك تقديرك المفعم بالشكوك. فأنا أظن أنك تسمحين لي بالتودد إليك لملء الفراغ, مؤقتا, بعد خسارتك صديقك.
حدثها بلهجة تحد لم تستطع الرد عليها. فكان أن استبدلت الرد بالقول:
-ألم نتفق. . . بلا ماضي أو مستقبل؟
-يا لمراوغتك؟ في البداية تطلقين في وجهي لكمة تحد, ثم تراوغين عندما أردها و تعرضين علي يدك طلبا لهدنة.
تناولت الطعام بشهية, ثم ابتسمت عبر الطاولة وقالت:
-لكن ألست فتاة طيبة صغيرة وذكية؟
كان كلامها تقليدا رائعا للكنته الإسبانية باللغة الانكليزية. . . فضخك بصوت مرتفع. ثم توقف ليرفع الشوكة المليئة بالطعام إلى فمه.
-يجب أن أدربك كي تحسني لكنتك الإسبانية.
تابع الطعام.
-التدريب ليس ضروريا. . . فوجودك معي وتحدثك إلي بهذه اللكنة ستجعلني أتكلم بعد فترة وجيزة اللغة نفسها.
ابتسامتها كانت باردة وهي تتلفظ الرد, ثم وضعت الشوكة من يدها و قالت متجهمة:
-أرجو أن تنسى ما قلته.
استعادت قسماته الدفء. . . فرفع كوب شرابه:
-لا بد أن ذاكرتي قد توقفت عن العمل. . . لا أمس. . . أو غد. فلنشرب نخب الحاضر في هذا المكان و في هذه اللحظات.
رفعت كوبها وشربت.
أثناء احتسائهما القهوة سألها:
-أتحبين أن يصحبك في هذه الجزيرة مرشد سياحي ذا خبرة متواضعة؟
برقت عيناها:
-أتعني انك ستأخذني؟
-أضيئي أنوار هاتين العينين الساحرتين في كل مرة تنظرين إلي و سألبي لك أي شيء تريدينه يا فتاتي.
مدت يدها لتغطي يده فوق الطاولة:
-جريج. . . إذا صحبتني لرؤية الجزيرة, فسأحبك إلى الأبد.
-وهل ستحبينني؟ هيا بنا إذن. . .فالوعد بحياة كاملة بين ذراعيك أروع من أن أستطيع مقاومته.
حاول النهوض, فضحكت كاثي:
-أنت تعرف أنني لا أعني هذا في هذه اللحظة؟
أمعن النظر مليا في شفتيها المنحنيتين المنفرجيتين ثم ارتفعت كتفاه:
-إذن علي الانتظار إلى الغد, لبدء حياتي الجديدة.
-لكن فرص الحياة انتهى أوانها.
-اجل . . . انتهى أوانها.
قال تلك الكلمات ثم ارتشف ما بقي كوبه من شراب.
اثناء مغادرتهما المطعم التفتت إلى صديقيها لتلوح لهما فإذا بهما قد غاداراه, لكنها لمحت أحد زملاء جريج, وهو ذاك الرجل الأشقر نفسه, فأشار بإبهامه إلى أعلى إشارة النصر. استدارت مضطربة لتجد أنه كان يراقب ما يجري بدوره. فقالت له:
-أتمنى لو أن صديقك هذا يتوقف عن هذه الإشارة. ولا بد أن لها سبب, هل يشجعك؟ هل تراهنت معه على أنك ستحصل علي قبل نهاية العطلة؟
أصبحا في المدخل, ابتسم لها وهما يسيران جنبا إلى جنب:
-لا. . . ولكنك اوحيت إلي بفكرة.
جذبت يدها من ذراعه واتجهت نجو السلم, دون أن تبتعد التفت ذراعه حول خصرها, فاضطرت للتوقف.
قال بلكنة قوية غير مفهومة:
-ألا يمكنني المزاح معك؟
سرعان ما تبخر غضبها فكان ان ضحكت له والتصقت به, عندها ارتفعت ذراعاه تلفانها وارتفعت ذراعاها لتفانه أيضا. تلاشت الأصوات القريبة لكنها عادت فشعرت بالمرح.
-ماذا ستفعل الليلة؟ هل ستذهب إلى الرقص؟
-إذا كان هذا ما ترغبين فيه؟
-لا تهتم بي, لقد وافقت على العشاء فقط. و إذا أردت الرقص فثمة فتيات كثيرات مستعدات إلى مشاركتك الرقص.
-لكن هذه الفتاة الوحيدة هي كل ما احتاج إليه.
انسحبت بعيدة عن ذراعيه متجهة إلى السلم:
-آسفة ولكن هذه الفتاة الوحيدة ليست لتلبية حاجاتك, أنا ذاهبة إلى غرفتي.
ارتقى السلم إلى جانبها, دون ان يقول شيء, أو يشير إلى نواياه. عند قمة السلم الثاني, انقطعت أنفاسها من سرعة القلق, وسعيها إلى البقاء على ذات المسافة منه. عندما توقفا التفتت إليه.
-أشكرك على مرافقتي إلى هنا كما أشكرك على العشاء.
فضحك, بعد أن خمن نيتها:
-لا بأس. . . لقد تمتعت بهذا.