كاتب الموضوع :
Green Tea
المنتدى :
القصص المكتمله
16
التقينا من جديد، ولكني أتيت هذه المرة وبين يدي أوراق تملؤها خطوط أضحكت حسن، ومنحته مزاجا ً رائقا ً.
- أرى أنك استبدلتني بجدك.
- تعني أني استبدلت جدي بك، صحيح، وستكون نهايتك على يدي بإذن الله.
بعدما تناولنا قهوتنا، وثرثرنا قليلا ً، وضعت أنا راحة مفتوحة على الأوراق، وقلت:
- هنا شيء من التحليل والنقد لقصائدك الجديدة فقط، التي أرسلتها لي، لأن القصائد القديمة كلها، حكايات الملك، وأيامه القديمة، لا أحتفظ منها في ذاكرتي إلا بالقليل.
- سأرسل لك كل شيء، عندما تكتمل القصيدة الكبيرة، فليست كلها مكتوبة على الحاسوب، فبعضها لازال على الورق.
- لا بأس، المهم... هل تريد سماع النقد أم أنك تتحسس منه؟
- هات ما عندك.
- تحليلي – قلت وأنا أتناول الأوراق – يتناول فقط ( لا تنتظر)، ( حكاية لا تنسى)، ( عفن)، و ( من يصلحني؟)، ( نقش)، و( أنا... من أنا؟)، هذه هي القصائد التي بين يدي.
- جميل – قالها وهو يفتح علبة سجائره -.
- هناك علاقات لاحظتها بين القصائد الست، أولا ً ( لاتنتظر) و ( من أنا؟) هما القصيدتان الوحيدتان عن الملك، أو حتى لا أدخل معك في جدل، الوحيدتان اللتان يظهر فيهما الملك بشكل صريح، ( حكاية لا تنسى) و ( نقش) هناك تشابه بينهما، كما أن هناك تشابه أكثر، بين ( عفن) و ( من يصلحني؟)، ويؤكد هذا البيت الوارد في المقطع ما قبل الأخير ( وأني من روحك ِ سأستل / عفنا ً كان قد احتل / ظننت ِ أنه قد زال / وطمرته السنوات).
- طيب.
- لحظة... إذا استبعدنا قصائد الملك، لأنها تدور حول القصة الأساسية، الملك وحيرته، تتبقى لنا هذه القصائد الأربع التي تزعم أنت أنها مضمنة في القصة الكبيرة، ولكن الغريب أنها خارج خط الحكاية تماما ً، ولا يوجد ما يمكن أن يربطها بالملك.
- هذه قراءتك أنت.
- لحظة... لحظة... دعني أقول كل ما لدي أولا ً، بالتأكيد كل ما سأقوله، هو قراءتي الخاصة لقصيدتك، وهذا جيد، فأنت كشاعر تحتاج إلى قارئ، إلى من يخبرك كيف قرأ قصيدتك، وكيف أثرت به.
- جميل – وهو ينفث الدخان كسفينة نهرية -.
- ( حكاية لا تنسى) و( نقش) لهما ذات المعنى، أو ذات النَفَس، الحب الجميل الذي انتهى بشكل مفاجئ، بل إننا لو حللنا القصيدتين بيتا ً، بيتا ً، لتجمعت بين يدينا مجموعة من الدلالات المهمة، ركز معي.
- ههههههههههههههههه، هذه قصائدي، لا أحتاج للتركيز معك لأفهمها.
- لا... لا... أعني ركز في كلامي.
- طيب.
- لنأخذ قصيدة ( حكاية لا تنسى)، ما هي دلالات القصيدة؟ ( أحببتك ِ منذ البداية / بخفوت / بسكوت / وبامتنان...) حب صامت، ثم ماذا؟ ( وكنا اثنان / لا يعلمان / تكفيهما الكتابة والشكوى للورق / وكنت أصنع قصائد / يغيبها ليل أو يحييها أرق) إلى آخر المقطع، إذن الحب الصامت كان من الطرفين، ثم ماذا؟ ( فلم َ كان للحب ثمن؟ / متى كان للحب ثمن؟ / متى كان للحب دفاتر ومحاضر / وأسئلة منها لا نفيق / ولم َ كنا منذ البداية / نكتب النهاية / بأصابع لا ترى)، والآن نأتي للمقطع المهم، هذا المقطع مليء بالدلالات، بل أنا اعتبره المقطع الذي يأخذ القصيدة إلى اتجاه جديد، فالحب الذي بدأ صامتا ً، والذي سنظن أنه لم يولد أو لم يخرج للنور، في هذا المقطع نشعر وكأنه قفز قفزة زمنية، وكأن هناك دلالات متضافرة، كانت تسوقها لنا بداية القصيدة ( أحببتك ِ منذ البداية) بداية ماذا؟ كما كان يسوقها لنا العنوان ( حكاية لا تنسى).
- أكمل – عندما توقفت لأنظر إليه، وهو يعتدل في جلسته، ويدفن سيجارته في المنفضة -.
- يتساءل الملك – وأنا أغمز له بعيني -، ( فلم َ كان للحب ثمن؟ / متى كان للحب ثمن؟ / متى كان للحب دفاتر ومحاضر / وأسئلة منها لا نفيق)، أسئلة حرى، أسئلة رهيبة، لماذا يكون هناك ثمن للحب؟ ولماذا يتحول الحب إلى ما يشبه السلطة، وهذا تدل عليه كلمة محاضر التي تصرف الذهن إلى أقسام الشرطة ومحاضر التحقيق، هذه الأسئلة التي تصدمنا فجأة، تجعلنا في مواجهة تساؤلات لا ندري ما الذي بعثها؟ ما الذي حركها؟ ما الذي حدث؟ هل تم رفض هذا الحب من الآخرين؟ هل تمت محاربته كما يحدث لكل قصص الحب؟ المقطع التالي يمنحنا شيئا ً مهما ً ( ولم َ كنا منذ البداية / نكتب النهاية / بأصابع لا ترى) وكأن النهاية كتبت بأيدي الحبيبين، وكأنهما كتبا النهاية منذ البداية، ويأتي المقطع الأخير ليروي لنا لحظات النهاية العاصفة والمفاجئة.
- ( نقش)، تدور في ذات المدار، وتحمل ذات الدلالات، المقاطع كلها ما عدا المقطع الأخير تحمل ذات الحكاية عن الحب الصامت ( كنت ِ نقشا ً غائرا ً / وقديما ً على جدراني / أخفيته حياء ً بستار / وانتظرنا طويلا ً / ما كشفتُ الستار / ولا أنت ِ سألت ِ / ما الذي يحويه الجدار / وعصية أنت ِ كنت ِ / في نقوشك / تنقشين كثيرا ً / ترهقين القلوب والأحجار... إلى آخره)، ثم المقطع الأخير ( ثم انتهينا / لا / أنا انتهيت / لأني لا أجيد الانتحار / ولا أنت ِ تجيدين الانتظار)، محمل بدلالات مشابهة للنص السابق، النهاية وكأنها كتبت بأيدي الحبيبين، وإن كان الاستدراك في ( لا / أنا انتهيت)، يجعل الأمر في حق المحب أكثر.
- حتى الآن أنت...
- لحظة، الله يرضى عليك، باقي أشياء كثيرة.
- نأتي الآن – أكملت وقد أشار لي بيده مستسلما ً - إلى القصيدتين الأخريين، ( عفن) و( من يصلحني؟) ونحاول كما فعلنا مع القصيدتين السابقتين، استخراج دلالاتهما، لنتأمل القصيدة الأولى، تبدأ هذه القصيدة بكلمة مهمة جدا ً ( قالت...)، أهمية هذه الكلمة بالطبع تأتي من أنها تمنح مساحة القصيدة لهذه التي تقول، وبالطبع تمضي القصيدة لتحدثنا عن هذا ( العفن)، برمزية جميلة، حيث يبدو العفن كوباء خفي، مستتر بشكل جميل، اجتاح هذه الفتاة التي استقبلته في البداية ببهجة، ولكنها عادت فيما بعد لتتمنى زواله، وتأتي نهاية القصيدة، لتخبرنا بزوال هذا العفن.
- الآن بما أن القصيدتين السابقتين، تحدثتا عن تجربة حب انتهت بشكل مفاجئ، وبما أن هذه القصيدة تحدثنا عن عفن تمنت الفتاة زواله فزال، فمن المفروض أن نربط بينهما لنقول أن الحب هو العفن الذي تمنت الفتاة زواله فزال، ولكني كما كتبت لك في رسالتي، فكرت بأن هذا غير منطقي، في المرة الأولى كان هناك حب صامت، وانتهى فجأة، ثم نأتي لنقول أن ذلك الحب الصامت كان عفنا ً أيضا ً تمنت الفتاة الخلاص منه فزال !!! هناك خلل في بنية القصيدة، وخلل كبير.
- هناك نقطة تنوير – قال ببطء وهو يختفي وراء سيجارة -، لستٌ ملزما ً بها، ولكني سأمنحك إياها.
- ما هي؟
- العفن الذي تمنت الفتاة زواله، ليس الحب.
- ما هو إذن؟
قال وهو يحرك سيجارته في الهواء، وكأنه يكتب بها كلمات ما:
- عفن... حسن.
كانت لحظات طويلة تلك، كان هو فيها صامتا ً، وكنت أنا أتأمل القصيدة، وقد تغيرت الآن أشياء كثيرة:
- كيف؟ - سألت بتقشف، سؤال يمكن أن يمنحه أوسع مساحة ممكنة ليتحدث -.
- حكاية طويلة.
- لا أريد أن أكون فضوليا ً، ولكن يمكنك التحدث لو أحببت.
- أتذكر ليلى؟
- نعم... بالتأكيد.
- حسنا ً، اتضح أنها بعد كل هذه السنوات لم تكن لا تبالي حقا ً.
- هذه العودة المفاجئة لها – أكمل – عقدت ما ظننت أنه استقر من حياتي، أنت تعرف كيف هي مشاعري تجاهها!!!
- وما علاقة هذا بحكاية العفن.
- اها... العفن حكاية أخرى، عودة ليلى أربكتني كثيرا ً، كنت أحاول التفكير بوسيلة أحل بها الأمر، من دون إيلام خولة، كنت أحاول إيقاف الزمن، أضع بيني وبين ليلى مسافة، وبيني وبين خولة مسافات، ولكن الأمر كان مؤلما ً للجميع.
- ثم ماذا؟
- لم تنجح محاولة إيقاف الزمن بالطبع – وهو يسحب سيجارة جديدة -، وكنت أشعر كل يوم بأني أمشي على حافة هاوية أراها ولا يمكنني تجنبها، وكانت الدفعة التي ألقتني في الهاوية، قصيدة مكسورة وصلتني.
- من ليلى؟
- لا... من خولة.
- ظننت أن ليلى هي الشاعرة؟
- هي كذلك، خولة لا تكتب الشعر.
- ولكنها أرسلت لك قصيدة !!!
- نعم... وعنونتها بعفن.
- العفن الذي تتمنى أن تتخلص منه، والذي غزاها في الشتاء.
- بالضبط... بالضبط.
- ثم ماذا؟
- لا شيء.
- كيف لا شيء؟
- حقيقة... لا شيء، تلك القصيدة بكلماتها البسيطة، بمرارتها الهائلة، كسرت شيئا ً في داخلي، أتعرف تلك اللحظات التي يكون فيها شيء ما هناك، ثم لا يكون؟ هناك شيء في داخلي كان موجودا ً، كان يملؤني بالحياة ثم لم يعد هنالك، غرقت في كآبة، ثم في حزن، بدأت تتكشف لي الكثير من الأشياء التي كنت أتغافل عنها من قبل، الإشارات التي كنت أجدها في قصائد ليلى، كلمات خولة الغامضة، والتي كنت ألقيها بعيدا ً، لأني كنت أظن أني محمي بالحب، بالثقة، وأنه لا شيء يمكن أن يمسني، ويحيلني عفنا ً في روحها.
- وكيف انتهى الأمر؟
- آ... لم ينتهي، أنا ابتعدت قليلا ً للتفكير في الأمر.
- وإلى ماذا توصلت؟
- لا شيء، لا يمكنني التفكير حتى تهدأ روحي.
- اها... وبدلا ً من التفكير وحل الوضع المعلق، انشغلت بكتابة قصيدتك !!!
- الشعر يخفف عن روحي.
- لا... الشعر هو ما يحجبك عن العالم، الشعر، خلق الكلمات، يمنحك ذلك الشعور المفقود من الفهم، من السيطرة.
- أي سيطرة؟
- سيطرتك على حياتك، حسن، أنا لم أقل لك هذا من قبل، ولكني سأقوله الآن، لأني أشعر بأني مدفوع له من داخلي، تأمل حياتك يا حسن، أنت لا تعيش في قصيدة كبيرة كما تتوهم، الأمور لا تنصلح ببيت أو بيتين تقولهما، الشعر كان يضع بينك وبين الحياة، بينك وبين الناس أغشية تجعلك لا ترى الأشياء كما هي، وإنما تراها كما تريد، أتذكر عندما تزوجت أمك؟ ما الذي فعلته؟ غضبت، أثرت الغبار في كل مكان، وتسببت بشقوق لا يمكن رتقها، ومن ثم ماذا؟ كتبت قصيدة، وخرجت من تلك المرحلة بسجائرك هذه التي اعتنقتها لتؤلم أمك، كنت دائما ً تتصرف بهذه الطريقة، لا ترغب برؤية الناس كما هم، لا يمكنك فهمهم إلا عندما تحشرهم بين بيتين من أبياتك، وعندما تدرك أنك أخطأت، أخطأت في فهمك، وفي تصرفاتك، تعود للشعر، لأنه هو المجال الوحيد الذي تجيده، والذي تجيد الحركة فيه بلا عوائق، هو ما يمكنك فيه رسم الأشياء، وإعادة رسمها مرارا ً، وفي كل مرة تخرج كما تريدها، كما تريدها تماما ً.
- والآن – أكملت في صمته -، في وسط أزمة عاطفية، بدلا ً من أن تسعى إلى من تحب، وتوضح كل ما تشعر به، بدلا ً من أن تحاول حل الخيوط المتشابكة بين ليلى وخولة، بدلا ً من أن تحاول إدارة الأزمة على أرض الواقع، تلجأ إلى إدارتها من خلال شخصيات شعرية تخلقها، ملك وشعب !!! موت ومجد !!! تهرق مشاعرك، وتتخذ عذاباتك معينا ً لأبياتك !!! تغرق معك من تحب !!! يا للسخافة !!! يا للسخافة !!! أتظن أن سكوتك سيحل المشكلة من نفسها !!! ألا تظن أن وجودك بالقرب منهما يسبب لهما ما يكفي من الحزن والألم؟
- أنا آسف لقسوتي عليك يا حسن – وقد توقفت ثم أكملت ببطء -، ولكن لابد لك من أن تحل الأمر وعاجلا ً، يجب أن تتخذ قرارك، ومن بعدها يمكنك أن تعود لأشعارك.
* * *
(
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أشكرك على درس البارحة، كان مفيدا ً.
لدي خبر جيد، وجدت نهاية للقصيدة، أتمنى أن تعجبك، وبالمناسبة تخلصت من كتابي الأزرق، وهذه هي القصيدة الكبيرة، ستجدها مرفقة مع الرسالة، أضعها كاملة بين يديك، النسخة الوحيدة، يمكنك بعد قراءتها حذفها، لينتهي كل شيء.
وداعا ً
الليل
يا لهذا الظلام الكثيف
يا لبرد الشتاء
يا لهجمة الريح
وجلبة الأحياء
متى يأتي الصباح؟
حلم
رأيت النهاية كرأس ذئب يطل
من شقوق الخيام
ويمضي بعيدا ً فلا أتبعه
لأني بلا قدمين، ولا أجيد الكلام
كطفل رضيع
تهدهده عجوز غريبة
لها وجه طويل ونظرات مريبة
ورأيت أطلالا ً قديمة
ومقابر تملؤها الجثث
خلف بابها الذئب ينتظر
بصمت عجيب
بصبر غريب
وعلى أنيابه دم قديم
وأرواح سليبة
وألقتني العجوز على الحطام
وسمعت بقلب طفل خطوة الذئب
وأنفاسه التي لامست أذناي
وكلامه الذي انتزعني من لجة الأحلام
"سيدي جاء الصباح"
بعيدا ً... إلى الأشجار أو حافة الجبل
للصباح الذي نموت فيه رائحة
تذكرنا بأزمان قد نسيناها
تذكرنا...
بأحلام بنيناها
بأوقات قضيناها
بالوجوه التي أفلت
وظننا أنها انتقلت
وأننا ما التقيناها
تعود اليوم مسرعة
ضاحكة وعابسة
لترهق القلب...
بالنهايات التي جنيناها
فأختفي...
بين الدروع
وبين أبيات القصيد
بين السيوف ورايات الجنود
والتهي
بكرات القتال
بانتشاءات النزال
بالتماعات السيوف على الجلود
فلا أختفي
ولا من روحي رائحة الموت تزول
وأرى النهار، أرى أيامي في أفول
وأرى كل ما كنت منه أفر
في مواجهتي يستقر
في جثوم لا يحول
وينكسر
ذاك الذي كان يربطني بالحياة
ذاك الذي كان يدفعني بعيدا ً
عن القتال وعن صلصلة السيوف
وحصاني الذي أدام الوقوف
يتعلم الآن الاندفاع إلى الممات
مغمض العينين اخترق الصفوف
الريح في ثيابي
الحزن في إهابي
وهجمة الشموس على أهدابي
في يدي سيف مل الرقاد
يشتهي الدماء
وملمس الأحشاء
وأن يجول كما يشاء
وأنا أخب
والفارس النبيل ينتظر
اللحظة التي فيها سينتصر
رائحة الموت لا تطاق
وأذناي لا تسمعان
وفي روحي سؤال كبير... لماذا؟
لماذا؟
لماذا؟
واستفاق
السيف النائم استفاق
وعادت يدي المشرعة إلى الأمام
لتغرس السيف في الأعماق
ورأيت النهاية وحيدا ً في الذهول
بين الأشجار ونباتات الحقول
عيناي تنظران بعيدا ً... إلى الأشجار أو حافة الجبل
قالوا بطل؟
وماذا إذا لم أرد أن أكون البطل !!!
|