9-سأعترف و أنسى
أراحت تيس رأسها على صدر شايد, مستمتعة بقوته. ولم يكن هذا يعني أنها بحاجة إلى من تعتمد عليه فلطالما كانت الطرف القوي في علاقاتها. اما الآخرون فكانوا يميلون إلى الاعتماد عليها. ولم تكن تتردد في اعطاء كل ما تستطيعه لأولئك المحتاجين. لكنهاو وفي هذه الدقائق القليلة ستنتهز فرصة ما يقدمه لها. بشكل ما, خففت لمسته ذلك الانقباض في حلقها, فاندفعت تتحدث عن أكثر تجارب حياتها ألما.
سألته وهي تطوقه بذراعيها, واضعة رأسها على صدره:" أتعلم أنك لم تسألني قط كيف مات روبرت؟ لماذا لم تفعل؟".
-تصورتأنك كنت ستخبرينني بذلك بنفسك لو أردتني أن أعلم.
متى كان صوت شايد الاجش الفظ يعني الكثير بالنسبة إليها؟
ولم شق طريقه إلى قلبها بهذا الشكل؟ أجابت:" أربدك أن تعلم".
تراجه وهو ينظر في انحاء الردهة عابسا ثم قال وذراعه ما زالت حولها:" فلنذهب. هذا ليس بالمكان المناسب لحديث كهذا".
اجتاز معها الردهة إلى قاعة الجلوس الفسيحة التي تمتد فيها النوافذ من الارض حتى السقف ويغطي جدرانها مشهد لا مثيل له لجبال الاولمبياد. كان الوقت لا يزال باكرا لانهمار الثلوج على قممها التي وقفت صخرية شامخة تكاد تنطح السماء الزرقاء.
سارت تيس إلى النافذة سامحة لسحر هذا المشهد بأن يتملكها. وتبدد التوتر من عضلاتها وامتلأت نفسها بالسكينة والسلام.
مقف شايد بجانبها, ثم أمسك بمرفقها يعيدها إلى صدره:" حدثيني يا حبيبتي. كيف مات روبرت؟".
-بسرطان الدم.
-يا الهي! هذا أمر شنيع.
زاد من احتضانها فشعرت براحة عميقة. رائحته, حرارة جسده, لمسته الرقيقة. . . أشعرتها بدفء مريح. و أجابت مغالبة دموعها:" شنيع للغاية".
-أخبريني ماذا حدث, كم بقيت متزوجة قبل أن يكتشف الطبيب مرضه؟
كانت الذكريات قديمة بعيدة من ناحية, وجديدة مؤلمة من ناحية أخرى. ما أسرع ما تغيرت الحياة بعد ذلك الاكتشاف المؤلم. لقد انتقلا هي وروبرت من مرح الصبا وخلو البال, إلى وزن كل لحظة, مكافحين مرور كل لحظة من الزمن. . .
و اجابت:" لم نكن متزوجين, حينذاك. تم تشخيص مرضه في اول سنة ثانوي ".
تملكته الدهشة:" هل عرفت روبرت حينذاك؟".
-بل كنا أصديقين حميمين معظم حياتنا.
وابتسمت من خلال دموعها لذكرى تلك الأيام السعيدة والنزهات و الرحلات الريفية و المشاجرات الصبيانية.
لقد كبرا من طفلين صغيرين يلهوان معا, إلى عصابة من الصبية تمارس ألعابا خطرة ليعانوا لاحقا من ثورة المشاعر في سنوات المراهقة المربكة. وما إن وصلا إلى مشارف النضج حتى طالعتهما الحياة بالألم.
-عندما كبرنا, أصبحت صداقتنا شيئا آخر.
-كيف اكتشفوا سرطان الدم؟
ركزت نظراتها على الجبال البعيدة, مجاهدة لاكتساب التوازن و الصفاء اللذين يوحي بهما هذا المشهد عادة. كم برة بحثت عن مشاهد كهذه لتخفف من عذاب تلك الأيام الكئيبة.
شيء ما في خلود تلك الجبال و ذلك البحر ساعدها على تهدئة عواصف المرارة الهوجاء التي كانت تهدد بأن تدمرها في تلك السنوات السوداء. أخذت نفسا عميقا وقد أدهشها أن تشعر بأن وجود شايد ساعدها على تمالك نفسها.
-أثناء دراستنا الثانوية, كان البايسبول محور حياة روبرت. . . فقد كان عشقه. لم يكن نجمنا المفضل وحسب بل اختاره فريقه رئيسا له. في منتصف سنته الأخيره, أصيبت ذراعه أثناء اللعب, وأثناء العلاج اكتشف الطبيب المرض.
منتديات ليلاس
-كم أنا آسف, يا تيس.
-لا يمكنك أن تتصور اهتمام أعضاء الفريق, فقد كان حبهم لروبرت لا مثيل له. كنت لتحبه يا شايد فقد كان ذكيا, سخيا, دمث الطباع.
-قلت إن غرايسن يذكرك به.
فأومأت:" إذا كنتما, أنت و غرايسن, من الصداقة بحيث تشاركتما غرفة واحدة أثناء الدراسة في الكلية, فلا بد أن تقدر أي نوع من الرجال كان روبرت حتى وهو في طور المراهقة. كان جلودا صلبا. فقد احتمل كل ذلك العلاج المؤلم من دون تذمر. في الواقع, كان يبذل جهده ليشجع الآخرين, ويجعلهم يضحكون مرة أخرى.
-متى تزوجتما؟ بعد الدراسة الثانوية؟
-لا. كنا صغيرين لم نتزوج إلا بعد دخولنا الجامعة. حينذاك, كان مرض روبرت قد خف فظنناه شفي.
-لكنه لم يشف.
-لا.
وكان في هذه الكلمة كل شيء.
-متى قررتما الزواج؟
-في نهاية السنة الثانية في الكلية. كان الربيع حينذاك رائعا. كنا نمضي يوما ربيعيا رائعا, ممددين على العشب, مبتهجين لإنهائنا سنة دراسة أخرى. كنا في فورة الشباب ومليئين بالأمل في الحياة. يومها انقلب روبرت على بطنه وعرض علي الزواج.
قال شايد بصوت أجش:" دعيني أخمن. قلت أنت نعم".
-أنت مخطئ. أظنني قلت له إنه معتوه. أليست هذه شاعرية مني؟
قالت الجملة الأخيرة ضاحكة, ساخرة من نفسها, فرقت ملامحه:" أفهم من هذا أنك كنت امرأة عملية حتى تلك الأيام".
فتلاشت ابتسامتها:" تماما, عندئذ, بدا الجد على وجه روبرت وقال:إذا كان المرض قد علمه شيئا فهو أن يعيش حياته بملئها, أن يعتصر البهجة من كل لحظة فيها. وبعد ثلاث ساعات كنا على متن الطائرة المسافرة إلى نيرو في ولاية نيفادا حيث تزوجنا".
-بهجة الزواج تلك لم تدم طويلا, أليس كذلك؟
هزت رأسها وهي تغالب دموعها, مجاهدة لتحافظ على ثبات صوتها وإن كان ذلك لم يخدع شايد فأخذها بين احضانه يشدها إليه وكأنه يقول إنه سيقوم بكل ما بوسعه لكي يخفف من آلامها.
وضعت خدها على صدره فأبرزت دقات قلبه الثابتة قوته الهادئة:" ومع بدء فصل الدراسة في الخريف, اكتشفنا عودة المرض إليه, فتركت المدرسة لأعتني به. . . لكنه لم يعش حتى عيد الميلاد".
أخذ يمر بيده على رأسها وهو يكرر:" كم أنا آسف, يا تيس. آسف للغاية. لابد أن الأمر كان فظيعا".
-كنت أحبه كثيرا. ما كان ينبغي أن يموت.
وبللت دموعها قميص شايد.
-لا تعذبي نفسك, يا حبيبتي.
بدت اللهفة في صوته وكأنه استوعب جزءا من آلامها و تابع يقول:" لقد اختارك روبرت شريكة حياته ولابد أن هذا غير حياته".
فقالت بعنف:" أنا مسرورة لأننا تزوجنا. أنا مسرورة لأننا أمضينا ذلك الوقت معا".
انتظر حتى تمالكت نفسها, ثم قال:" أظن أن موت روبرت هو الذي جعلنا نصل إلى وظيفتك في جمعية الإيثار".
فأومأت:" وهو السبب في إصراري على نيل ترقيتي بجهدي الخاص".
-أظنك اخترت العمل معهم بعد موت روبرت. والسبب في اختيارك هو جهودهم في مساعدة مرضى سرطان الدم. لكن ثمة أسباب أخرى, أليس كذلك؟
-نعم أسباب كثيرة اخرى.
-هل عدت إلى الكلية؟
-لا. بعد أسبوع من الجنازة تكاثرت علي الديون فقصدت جمعية الإيثار طلبا للعمل, وقد قابلت آل بورتمان".
-ومنحك الوظيفة؟
-نعم, فضلني على امرأة أخرى اكثر كفاءة و صاحبة مؤهلات.
-من أجل قضية روبرت؟
-نعم, رغم أنني لم أخبره عن موت زوجي, إلا أنه عرف ذلك حين سأل المراجع التي قدمتها إليه للاستفسار عني.
-ومن ذلك الحين و أنت تبذلين جهدك لكي تثبتي أنك بكفاءة تلك المرأة.
لقد توصل إلى نتائج منطقية فلم تعبا بالانكار. و كانت هذه هي الحقيقة على أي حال.
-أنا أفهمك تماما. بقيت قلقة من أن يشعر آل بورتمان أنه خطأ بتوظيفك و أن يدفع الثمن في النهاية أولئك الذين تأسست جمعية الإيثار من أجلهم.
فأجابت على الفور:" ألا تفهم؟ الوظيفة هي أهم من الشخص الذي يقوم بها".
-ما أفهمه هو أن الشخص الذي يقوم بالعمل حاليا هو الأفضل لهذا المركز. أنت تعرفين مدى أهمية المساهمة في ضمان استمرار العمل.
-ولكن تلك المرأة. . .