5/حب بلا وجه
كان عصر ذلك اليوم مشمسا لطيفا، فكان البشير للخلاص من الجو الكئيب الممل الممطر الذي استمر طوال الأسبوع..نسيم لطيف هب عبر النوافذ العريضة، المطلة على المناظر الجميلة، ليملأ المكتبة الهادئة بأصوات الطيور المرحة، وأريج منعش لبراعم الربيع.
كان هذا يوم سبت، لكن ذلك لم يكن يشكل أي فارق لهايدن، كما فكرت إدنا بقلق.. إنه يتوقع منها الإستمرار بالعمل طوال نهاية الأسبوع، كما فعلا في الأسبوع المنصرم.. كل همه أن ينهي كتابة السيناريو لينصرف إلى أفكاره التالية، ويتحرر من صحبتها.
أمضيا الآن مايقارب الأسبوعين معا، وكل ما تستطيع قوله هو أن هايدن يبدو سعيدا تماما عن قراره في توظيفها.. فبعد تلك البداية المحطمة للأعصاب، استقرا في تناغم، وحتى في صداقة أحيانا، في علاقة العمل بينهما. كانت نصوصها الأولى تستخدم الآن كنسخة أولى بانتظام. وبالطبع، كان لهايدن دائما الكلمة الأخيرة.. لكن مرات ومرات متكررة كان يوافق على إقتراحات منها. في الواقع، أصبحا زميلي عمل متساويين.
لكنها حتى الآن لم تكن قادرة أن تأخذ أمر توظيفها على أنه أمر مسلم به، طبعا. فما زالت في فترة اختبار، لا تعرف أبدا ما إذا كانت ستبقى هناك في اليوم التالي.. لكنه حافظ على وعده الذي قطعه تلك الليلة الأولى وتوقف عن مفاجأتها بأسئلته المحرجة، لكنه كان يوضح بشكل صريح أنه ما زال لا يثق بها.. بين حبن وآخر، كانت تضبط عينيه الباردتين تحدقان إليها، والبسمة الساخرة التي تحذرها بصراحة من أنه ليس مخدوعا ولو للحظة..فهي بالنسبة له مذنبة حتى تثبت برائتها.
بإمكانها الآن أن تبتسم.. فلا شئ كان أفضل لراحة بالها من هذين الأسبوعين من التعاون المقرب مع الرجل الذي كانت ذكراه تلاحقها لسنوات ثلاث طويلة. ابتسمت لنفسها ..يبدو أنها اكتشفت طريقة جديدة لتخليص الناس مما يستحوذ على نفوسهم، بأنها حولت المرض إلى دواء بحد ذاته.. كاستخدام سم الحية للشفاء من لدغتها.. وكأنما العيش بقرب شخصية مايلز الأخرى قد بدأ بطرد شبح الماضي منها .
ولم يعد يبدو من المهم جدا لها أن يأخذها معه لإنهاء السيناريو على متن يخته، وفي جزر السيشل.. فهي الآن متكيفة تماما مع فكرة الإستيقاظ ذات صباح، لتقول لها باميلا، ان هايدن سافر إلى السيشل، ولن يحتاج إلى خدماتها بعد. كانت في الواقع قد أخذت تنظر قدما إلى حياة جديدة، متحررة من مايلز ومن هايدن على حد سواء.
بسبب استحواذ مايلز على مشاعرها خلال السنوات الثلاث التي مرت، لم تحس يوما بأي مشاعر نحو أي رجل آخر. ومع ذلك، كان غريبا أن تكتفي بالعيش قرب هايدن متحررة أخيرا من حبها له.
اتجهت عيناها نحو الكاتب، تستوعب الحيوية الكامنة في جسده المسترخي، والحذر معا.. إنها ما زالت غير واثقة من مناعتها ضده.
قاطع صوت هايدن الجاف أفكارها:
ـ هاي، إدنا، تعالي إلى هنا.. كنت بعيدة أميالا بأفكارك.
وأحست بخديها يحترقان باحمرار غاضب.
ـ كنت ..كنت..أحلم حلم يقظة.
ابتسم لها:
ـ أراهن على أنها حول جزيرتك.. ثلاث سنوات ولا زلت مشتاقة إليها..
ـ لست مشتاقة لموطني..بل الواقع، كنت أعرض لنفسي تقريرا عمليا عن تقدمنا.
كانت قد تعلمت أن ترد على أسئلته بالسرعة المطلوبة كما كانت تفعل مع مايلز.. فله القدرة على التقاط ما قد يبدعه خيالها.
استند هايدن إلى الخلف وتمطى بكسل:
ـ وكذلك أنا.. باختصار، قد ضجرت،وبدأت أحس كأنني متحجر ضمن الضريح الذي تغزوه الأشباح.
ردت بحدة:"شكرا".
ـ على الرحب والسعة، لكنني لم أقصد أن أشملك بين الأشباح. فأنت من صنف الأرواح اصغيرة الطيبة..أيتها الصغيرة الذكية.
ردت بنفس الروحية:
ـ لكنها ليست أفكارا يعتمد عليها ..هل أنهيت مراجعة المشهد؟
ـ أجل..إنه لا بأس به..ونستطيع البدء بالتالي..إلا إذا فضلت أن نتوقف الآن.
ـ نتوقف؟ لم تصبح الساعة الخامسة بعد!
ـ أعرف.. لكن شيئا ما يقول لي إنك لست متحمسة جدا للعمل اليوم.
مرة أخرى قرأ أفكارها ككتاب مفتوح.
ـ حسنا، لن أمانع في استراحة لنتمشى..إنه يوم جميل و...
توقفت تنظر إليه، مذهولة لصوت العجلات الناشطة فوق الحصى، تعلن عن وصول سيارتين على الأقل. صوت صفق الأبواب الحاد، أكد شكوكها بأن عزلتهما مهددة بالغزو.
تأوه هايدن.
ـ أوه..هل تتوقعين زوارا؟
ردت ساخطة:
ـ بالطبع لا..لن أجرؤ على دعوة أحد حتى ولو أردت..وماذا عنك على أي حال؟ هل دعوت أحدا لعطلة الأسبوع؟
ـ أتمزحين..انتظري لحظة، ماهو اليوم؟
أخذت تحسب بسرعة:"الرابع عشر".
ـ إنه يوم مولد جويس! والله وحده يعرف سبب قولي لهم إن باستطاعتهم استخدام منزلي.. لقد نسيت كل شئ..باميلا تمتمت بشئ عن الأمر بالأمس، لكن كان يجب أن تذكرني مجددا.
استدار إلى إدنا:
ـ أنت كذلك كان يجب أن تذكريني من المفترض أن تكوني سكرتيرتي.
ردت بحدة:
ـ لست سكرتيرتك! لقد اتفقنا على إنهاء هذه التمثيلية منذ الليلة الأولى لي هنا .إضافة إلى هذا، لن أستطيع أن أكون سكرتيرة ولو توقفت حياتي على هذا.. لأنني عاجزة فيما يتعلق بالمواعيد والتواريخ.
رد بظرف:
ـ إذن ، ادفعي الثمن يا حبيبتي.. بإمكاننا أن ننسى كل شئ عن العمل وعما تبقى من نهاية الأسبوع.. فأنا أرفض العمل في منزل ملئ بالمتطفلين، سأرفع يدي تاركا منزلي وضيوفي وعائلتي كلها لك. وحظا سعيدا لك.
ـ لك ..ماذا أقول لهم؟
ـ أي شئ يعجبك.. قولي أنني مصاب بداء الكلب.. لا فهذا لن يردع أقاربي الفاسقين.. قولي ان نوبة جديدة من فقدان الذكرة عاودتني، وانني ضائع عن هذا العالم.
وانطلق في طريقه إلى الكراج.
جاء صوت كسول منغم يشبه صوت هايدن،من ورائها:
ـ وفي ذلك يكون الخلاص المعتاد والممتاز.
استدارت إدنا وهي تشهق..وإذا برجل طويل وسيم يقف بباب المكتبة، ابتسامته المتسلية تعترف دون خجل بأنه كان يسترق السمع على ما دار بينها وبين هايدن. وأكمل، وهو يدخل الغرفة:
ـ لو كنت مكانك لما ضيعت أنفاسي في محاولة إيجاد عذر لتصرفات هايدن..فكلنا معتادون عليها الآن. زوجتي وباولا ستغضبان بالطبع..لكننا معتادون على هذا كذلك، فلا تفكري بالأمر. اتركي كل شئ لي .
لاحظت تشابها مميزا مع هايدن.ز ولكن، وبينما مخدومها ذو خشونة وسيمة وقوة لا تلين، كان لهذا الرجل وجه طفولي ومظهر جميل.
ـ الآنسة جايمسون، كما أعتقد؟ هل لي أن أناديك إدنا؟ أنا مالكولم جاكوبس، ابن عم هايدن..أكبر سنا منه، لكنني أصغر بكثير،روحا.
إذن هذا هو الرجل الذي يأخذ دور هايدن في الإدرة العامة لمؤسسة جاكوبس. ذلك الذي اتهمه دويل فرانسيس بالوثوب إلى مركز ابن عمه ورفضه التخلي عن المركز حين عاد الرجل المفقود.
ثم تابع:
ـ لقد تحدثنا عدة مرات على الهاتف.. لكن بمعرفتي لمزاج هايدن، لم أجرؤ بإشغالك بحديث مطول، خوفا على حياتك..تعالي وانضمي إلينا لتناول شئ من العصير.
ـ أوه..لاأستطيع يا سيد جاكوبس..ما زال أمامي ساعات من الطباعة..و..
حاولت التهرب منه، فقال:
ـ كلام هراء..وبما أن هايدن كان أنانيا بما يكفي ليرحل ويتركك تحت رحمة أقاربه المتوحشين،لا أرى سببا يمنعك من قضاء عطلة الأسبوع دون أن تكوني مستعبدة له.
كانت تحاول جاهدة أن تقرر ما إذا كانت لهجته الساخرة كريهة، أم أنها مجرد محاولة لتغطية الإعجاب الذي ينظر فيه لابن عمه..وأكمل:
ـ على فكرة..أتمانعين في أن تناديني باسمي الأول؟ بما أن لي شرف مشاركة لقب السيد جاكوبس مع ابن عمي الشهير، أفضل أن لا أنادى به..اسمي مالكولم، في حال لم تسمعي به.
انفجرت إدنا ضاحكة:
ـ هل أنت وثق من أن جويس ليست ابنتك الحقيقية؟
ـ أتعنين أن كلانا يتكلم كثيرا؟ حسنا.. أعتقد أننا هكذا. على أي حال يجب أن يكون واحدا هكذا في عائلتنا..والآن تعالي لتقابلي العائلة.. فأنت مضطرة لهذا عاجلا أم آجلا.. لذا من الأفضل أن تنتهي من الأمر الآن.
قادها بلطف وحزم إلى غرفة الجلوس القريبة.. حيث انت تتوقع مجموعة كبيرة من الناس، لكن لم يكن هناك سوى ثلاثة..كانت جويس تبتسم لها من مقعد منخفض، لكن عينا إدنا انجذبتا فورا إلى باولا..كانت متمددة على أحد الأرائك في الناحية الأخرى من الغرفة الفسيحة تبدو مذهلة، أما المرأة الثالثة، فقد كانت صغيرة الجسم حادة الملامح كالطير الأعجف ولا شك أنها جوسلين والدة جويس.
كانت جوسلين تقف قرب الجدار الزجاجي تكاد لا تعي ما يحيط بها..عيناها مثبتتان على الممر المرصوف بالحصى الموصل إلى بوابة الفيلا، ترفض الاعتراف بوجود إدنا.. من وقفتها الغامضة، بدا من الواضح أنها رأت هايدن يخرج بسيارته، فهي ما زالت تغلي سخطا لرفضه إظهار الاعتبار لضيوفه.
تقدم مالكولم إلى الأمام وأعلن:
ـ هايدن خرج ..لديه مؤتمر طارئ..لكنني وجدت في المكتبة شيئا أفضل منه بكثير..ممثلته المؤقته..لذا قولوا مرحبا، وبلطف لها.
هذره المرح سبب توترا في وجه جوسلين مع أن عينيها بقيتا ثابتتين على النافذه.لكن باولا رفعت نفسها على مرفق واحد.
ـ أريد كوبا آخر يا مالكولم.
أطاع الأمر بروح مرحة وهو يقول:
ـ اعتقد أنك سبق والتقيت إدنا يا باولا..أليس كذلك؟
انتظرت إدنا بصبر بينما عينا باولا الخضراوان الجميلتان تتفحصان شعرها القصير الأشعث ووجهها الخالي من المساحيق، قبل أن تبتسم تومئ برأسها.
ـ هذه باولا ..ابنة عم أخرى لهايدن..لا مخاطرة في زواج القربى في حال كنت تتساءلين. كلنا كبرنا معا، أليس كذلك يا حبيبتي؟ كلنا ماعدا جوسلين.
رمى زوجته الصامتة بنظرة عداء:
ـ لقد انضمت إلى العشيرة مؤخرا..متى كان هذا يا حبيبتي؟..ثلاث..لا..أنا كاذب،أربع سنوات.
بدا على جويس الإنزعاج والتوتر، وأوقفت زوج أمها عند حده:
ـ انت لم تقدم لإدنا عصيرا يا مالكولم.
كان لتوبيخها تأثير فوري:
ـ آسف يا حبيبتي..إنني أنسى حسن الأخلاق وأنا في منزلي القديم..أعتقد أنني أعود إلى أيام مراهقتي.
ضحكة باولا ملأت الغرفة:
ـ أنت لم تكبر أبدا على أيام مراهقتك. وهذا هو سر سحرك..
كانت الكلمات تمر مرور الكرام في سمع أذن إدنا دون أن يكون لديها فكرة عما يتكلمون، وبدا لها أن هذا جزء من مزاحهم المرح. لكن الغرفة كانت تئز بطنين مقزز للنفس.
استدارت باولا الى إدنا:
ـ إذن كيف يجري العمل؟
ثم اختارت طعنتها التالية بحذر:
ـمتى تظنين أن هايدن سينتهي منك؟
بدأت إدنا تشرح:"لا أستطيع حقا أن أقول..".
ثم صمتت وتحركت إلى حيث كان مالكولم لم يجلس قربها.
لكن باولا كانت تتمسك بأي شئ تنشب أسنانها فيه:
ـ حسنا؟ ماهي مواعيدكما المقررة؟أسبوع آخر؟ أسبوعان!
وضعت إدنا كوبها النصف فارغ عى منضدة القهوة:
ـ من يعلم؟ "السيناريو"قد يأخذ أشهرا.
وضغطت على كلمة سيناريو في مواجهة أوهام باولا القذرة.
جوسلين التي بقيت حتى الآن بعيدة دبت فيها الحياة، وكأنما وعت فجأة وجود إدنا:
ـ ألم تنهيا العمل اليوم؟
ـ لا ياسيده جاكوبس..مازال لدي الكثير، وفي الغد كذلك.
ـ هذا كلام ينافي المنطق..لايمكنك العمل في نهاية الأسبوع. كنت في الواقع أعتمد على أن تكون غرفة نومك فارغة، فنحن نتوقع بضع أشخاص من خارج المدينة.. لماذا لا تخرجين أغراضك لتذهبي إلى بيتك وترتاحي حتى يوم الإثنين؟
كان مالكولم جاكوبس يراقب زوجته المتوترة، بتسلية واضحة..فقال:
ـ لا أظنها تريد الراحة يا جوسلين.
واكتفت إدنا من كل هذا، وقالت بحدة:
ـ أنا آسفة، لكن هايدن مصر على أن أبقى هنا،يا سيده جاكوبس..والآن أرجو المعذرة،فقد تأخرت في عملي.
حاولت أن تترك لكن مالكولم منعها.
بدت جوسلين ممزقة بين الإحباط الغاضب، والقلق المتزايد ثم قالت بمزيج من الاعتذار والتحدي:
ـ لكنني.. أخشى أنني لم أشملك في لائحة العشاء غدا.
تدخلت باولا بظرف:
ـ إنك تعلمين..فالعشاء سيكون للعائلة فقط والأصدقاء المقربين.
.. لم تكن مستعدة لأن تتحمل المزيد من هذا، وقفت وقالت تخاطب جوسلين، وعيناها متجهتان إلى باولا:
ـ في الواقع هايدن وأنا كنا ننوي تناول العشاء في الخارج غدا، ولقد حجزت لتوي مائدة في مطعم "ماي فير".
خرجت الكذبة منها قبل أن تمنع نفسها.كانت دائما تقع في ذات الفخ حين تجد نفسها محشورة في زاوية، أو حين ينفد صبرها حقا.
ـ أتعنين..انه لن يكون هنا؟
الهمس المذهول جاء من جوسلين، وفي نفس الوقت تدخلت باولا بغصب:
ـ كيف يجرؤ؟ كف يجرؤ على إهانتي هكذا؟
لم تكن إدنا قد توقعت رد فعل عاصف كهذا، وندمت بمرارة على تلك الكذبة الغبية. كل ما ينقصها الآن هو أن يعتقد هايدن أنها تعمدت الإيقاع به.. ومهما بذلت من جهد في إنكار نيتها في الخروج معه، فلن يصدق.
اخترقت باولا الصمت المتوتر بالوقوف والخروج بكل عاصف من الغرفة، صافقة الباب السندياني الثقيل خلفها.
استدار مالكولم إلى إدنا يبدو عليه الأسف الحقيقي.
ـ آسف لهذا يا عزيزتي..باولا عادة تصبح حادة المزاج حين لا تسير الأمور حسب خططها.
ردت ببرودة محاولة الذهاب:
ـ أرجو المعذرة ياسيد جاكوبس..يجب أن أذهب الآن. لكنني سأحاول الإبتعاد عن المكتبة إذا كان هذا سيناسبكم أكثر. أستطيع العمل في غرفتي.
ولم يحاول أحد إيقافها وهي تخرج.
لم تكن لديها النية في العودة إلى العمل الآن. لكن خرجت من المنزل، مصمة على أن تبتعد عن طريقهم لأطول فترة ممكنة واتجهت مباشرة إلى سيارتها"الرينو" المتوقفة منذ عشرة أيام في كاراج هايدن الواسع. إنها لم تستخدمها طوال هذه المده..وخطر ببالها أنها قد تتمتع بجولة، ستكون هذه أول إطلالة لها على العالم الخارجي منذ بدأت العمل مع هايدن.
لكنها أحست بإحباط خفيف حين وصلت الكاراج. لا شك أن جويس خمنت ما هي خطوتها التالية، وكانت هناك تنتظرها..واستقبلتها بتعاسة:
ـ كنت أعرف هذا..أنت ستهربين..أليس كذلك؟
ـ لا تكوني سخيفة..لماذا أهرب؟
ـ هذا هو الأمر..يجب أن لا تغضبي بسبب أمي وباولا. أنا حقا آسفة لأجلهما يا إدنا..لكنك أصبحت الآن تعرفين لماذا يكرهنا هايدن جميعا..ولست أدري حقا كيف يمكن أن أعتذر لتصرفهما.. لايجب أن تهتمي كثيرا بمالكولم..إنه رجل لطيف حقا، ويحب هايدن، لكنه ضعيف الشخصية، أما باولا..
رغما عنها لم تستطع إدنا كبح سخطها على المرأة المتكبرة.
ـ أجل..وماذا عن باولا؟
ـ حسنا..إنها تغار منك..إنها تكره أن يمضي هايدن كل وقته معك..فهو لم يخرج معها مرة منذ بدأتما العمل معا..وهي تعتبره ملكا لها..هل فهمت؟
ـ ملكا لها؟ أتعنين أنهما مخطوبان؟
ـ أوه، لا..لم يعودا هكذا..لقد فسخ هايدن الخطبة حين عاد من..من رحلته. وتزوجت ثم طلقت، لكنها ما تزال مقتنعة بأن الواحد منهما للآخر..إنها لا تستسلم أبدا.
وطفقت جويس تسرد كل تفاصيل علاقة باولا بهايدن، وزواجها الفاشل، ومهنة عارضة الأزياء..لكن إدنا كانت قد وقفت عن الإصغاء..فذهنها كان مشغولا بتفهم جديد لشئ كان لا ينفك يعاودها منذ سنوات.. أكبر عذر لمايلز في معارضته الزواج منها كان فارغا، لكنه كان يشعر أنه لم يكن حرا..لقد أصبح من الواضح لها الآن، أنه، وفي مكان ما من عمق ذاكرته المظلمة، كان يحتفظ بصورة لهذه المرأة الجميلة المحنكة التي يعرفها تقريبا منذ طفولته.. وألزم نفسه بها.
منتديات ليلاس
كانت جويس تكمل، غير واعية استغراق إدنا في أفكارها:
ـ .... وأرجوك، لا تشعري بالغضب نحو أمي نها كانت سيئة الخلق معك.. فقد كانت متكدرة قليلا.. لطالما كانت تأمل في أن تزوجني هايدن..ولكن،الآن،ومنذ وصلت..
الكلمات العفوية أسرت انتباه إدنا فجأة:
ـ ماذا؟ ماذا عنيت بالضبط يا جويس؟أنت لا تظنين أنني و هايدن..
ابتسمت الفتاة للصدمة التي بدت على إدنا، وردت بهدوء:
ـ أنا لا أظن شيئا..لكنني أريد أن تعرفي أنني لست منافسة لك، ليس أكثر من باولا..كان يمكن أن يكون لي فرصة يوما.. لكنني خسرتها لحظة سمع ضحكتك.
حدقت الفتاتان بصمت ببعضهما، ولفترة طويلة.. ثم ضحكت جويس، وعاد القناع الخالي من الهموم،والبرئ، إلى وجهها.
ـ ألست محظوظة لخروجك مع هايدن غدا؟ إنك على الأقل، ستتخلصين من مشهد كريه لآخر من تمثيليات أسرة جاكوبس.. مع أنني آسفة لأنك لن تحضري حفلتي..فأنا أحبك حقا..
ـ فابتسمت إدنا لها قائلة:"الشعور مشترك".
ضحكت الفتاه:"أوه..أعرف هذا".
وذهبت.
كانت إدنا ما تزال مصدومة بما كشفته جويس لها وهي ترجع سيارتها الى الوراء لتخرجها من الكاراج..وكانت تسير عبر زقاق هادئ خارج الفيلا،مستغرقة في أفكارها، حين خفق قلبها فجأة بعنف..ومر ببالها خاطر كالبرق جعلها تحيد عن الطريق وتقف وهي تطفئ المحرك.
أعاد صوت كسول منخفض إحياء حواسها الخدرة، وكأنه الصفعة الحادة.
ـ إلى أين كنت تفكرين بالذهاب بالضبط؟
هاجمته فور أن وجدت صوتها:
ـ أنت مجنون يا هايدن! هناك طرق أسهل للتخلص من مساعد غير مرغوب به، عدا عن دفعه ليصاب بنوبة قلبية.
في تلك اللحظة فقط رأت سيارته البورش الفضية واقفة على بعد ياردات من سيارتها. لم يكن هايدن مبتسما وهو يفتح باب الرينو القديمة.
ـ آسف، أطلقت البوق عدة مرات، ولكن لاشئ أخرجك من أحلام يقظتك..إذن..أين أنت ذاهبة؟
ـ إلى هامبستيد.. لأبتعد بضع ساعات عن جو العمل..و..
أنهى جملتها:"وبعيدا عني".
ردت غاضبة:
ـ إذا أصررت على هذا..فلست أرى سببا يجعلني أنا التي أتعامل مع أقاربك المشاكسين بينما تجد أنت حريتك لتهرب.
رد بضحكة جافة:
ـ نفس الفكرة خطرت لي.. كنت في الواقع عائدا لأخرجك من هناك..لكنني شاهدتك هنا ..وكنت تحلمين مجددا ..أليس كذلك؟
ـ لا..في الواقع، كنت أفكر بعائلتك..جويس وآخرين..
ـ و..؟
ـ باولا.
ـ آه..باولا الجميلة الذهبية الشعر..حب شبابي الضائع منذ زمن بعيد..هل أعجبتك؟ لا تهتمي بذلك. أتظنين أن ركضا قصيرا حول المرج يمكن أن يهدئك؟
ترددت.. إنهما لايعملان الآن، وشئ ما في الطريقة التي اقترح بها النزهة عليها ،جعلها تبدو وكأنه يطلب منها الخروج معه ..فجأة تذكرت كذبتها السخيفة حول عشائهما معا في الغد..وأكمل يسألها وهو يفتح الباب:"حسنا؟".
ـ كنت في الواقع أنوي السير حول القرية.. انا بحاجة إلى بعض التسوق و..
ـ يكنك أخذ عطلة صباح الإثنين لأجل هذا.. تعالي يا إدنا. مجرد نزهة قصيرة حتى مجموعة الأشجار هناك..
خرجت من السيارة، بدأت بركض سريع في الزقاق المهجور الذي يقود إلى المرج.. لكنه تجاوزها بعد بضع ثوان، ودون أن ينظر إليها تابع ركضه بكسل صاعدا المنحدر، تاركا إياها خلفه.
وهي تلهث، جلست على العشب البارد، ترمي نفسها إلى الخلف، وعيناها مغمضتان..تحاول تهدئة رئتيها.
جاءت كلمات هايدن الكسول ترفرف من فوق:
ـ أتشعرين أنك أفضل حالا؟
هزت رأسها إيجابا دون أن تفتح عينيها، وأكمل:
ـ يجب عليك أن تعودي إلى موطنك.. فهذه البلاد تحول عضلاتك إلى قطن.
شئ ما في صوته جعلها ترد بحدة،ودون حكمة:
ـ وما الذي يجعلك تظن أنني كنت أفضل حالا هناك؟
ـ أنت قلت لي.
صمت فجأة، واستدار إليها، والإرتياب في صوته:"هل قلت لي حقا؟".
ـ أعتقد هذا ..فأنا أتكلم كثيرا. وبالكاد أذكر ما أقول.
جلست فجأة شاعرة بأنها مكشوفة لنظراته المتفرسة. كان المرج مهجورا تماما، تغمره ظلال الغروب المتطاولة، والحزام العريض الكثيف من أشجار الدردار، وكأنها القوقعة العازلة.
كالعاده، كانت أفكارهما تسير في نفس الإتجاه..وقال بصوت منخفض:
ـ لقد ابتعدت طويلا عن يختي، وأشتاق إلى البحر.
أجابت ضاحكة:
ـ أفضل أن أحتفظ بقدمي على اليابسة. أحب الإبحار، لكنني أفضل العودة إلى منزلي الثابت في نهاية اليوم .
ـ طبعا..لكن أيمكنك تحمل قضاء بضعة أسابيع في البحر؟
السؤال كان عفويا، حتى أنها لم يخطر ببالها أن يكون له معنى أبعد من الإهتمام العادي.
ـ أعتقد أن بإمكاني هذا.. لكن ليس وحدي.. فأنا لا أتحمل صحبة نفسي كثيرا..وتعرف هذا.
ـ ومعي؟
ضحكت إدنا مقطوعة الأنفاس قليلا:
ـ أوه..معك..؟ هذا اقتراح مختلف تماما.
تابع بهدوء:
ـ يمكننا كذلك أن نقوم بزيارة قصيرة لجزيرتك..فيختي يرسو في السيشل..وهذه مصادفة أخرى.
ها قد عاد مرة أخرى.. ذلك التلمح الساخر بأنه أكثر ذكاء منها..دعيه يقول ما يشاء.. لقد تعبت من تجنب مثل هذه المآزق..
والتقطت الطعم:
ـ أتساءل ما الذي جعلك تتجه إلى المحيط الهندي؟ قرأت في إحدى المقالات الصحفية القديمة أن منطلق رحلاتك البحرية كان في الكاريبي.
ـ هذا صحيح.. لكن المحيط الهندي هو المكان المفضل لدي للبحث.
ـ البحث؟ البحث عن ماذا؟
ـ عن ذاكرتي المفقود يا حبيبتي..هناك أضعتها.
أجفلت..كانت هذه هي المرة الأولى التي يرد فيها على سؤال مباشر منها، دون محاولة الحذر..وسألت بحذر:
ـ في جزر السيشل؟
أدار عينين لامعتين إليها:
ـ إما هناك. وإما في جزيرة أخرى في المحيط الهندي.. لست متأكدا. كل ما أستطيع قوله هو أنني وجدت ذاكرتي الحالية في "ماهي" في المستشفى على وجه الدفة. يبدو أنني تهاويت منهارا خارج مطار فيكتوريا كما قيل لي.. أغمي علي دون سبب ظاهر.. لم يكن أحد يعرف من أنا، أو كيف وصلت إلى هناك، ولم أساعدهم. آخر شئ أذكره أنني كنت أطير فوق المحيط الهندي، في طائرتي الخاصة الصغيرة، وأحد الجناحين يشتعل.. أقنع نفسي بكلمات خالدة: "الموت يمكن أن يكون مغامرة كبيرة".
ـ لكنك كنت تعرف من أنت؟
قطب جبينه، وكأنما وجد سؤالها لا معنى له:
ـ بالطبع كنت أعرف.. لكنني لم أستطع معرفة سبب وجودي في "ماهي" بعد ستة أشهر من تحطم طائرتي، دون أوراق، ولا بطاقات اعتماد ولا أية وسيلة تعريف.. كان كل ما بقي لي من الماضي الأسود لحية جذابة، حلقتها على مضض حين عدت إلى بلادي.
ـ أعتقد أن اللحية تبدو رائعة عليك.
ـ حسنا..أستطيع إطالتها مجددا.. إذا طلبت مني ذلك بلطف.
ـ قد أفعل هذا، إذا كان سيدفعك للعمل نصف ساعة أبكر كل صباح، كي لا تبقيني أعمل حتى منتصف الليل.. وبمناسبة الحديث عن الوقت.. ألا تظن أن من الأفضل أن نعود؟
وبدأت تقف ،لكنه منعها:
ـ انتظري يا إدنا ..كنت أعني ما أقول، وتعرفين هذا. فلو بقينا نعمل بتناسق جيد كما نحن حتى الآن..قد نتمن من إكمال ما تبقى على متن يختي.. يمكن أن نكون أفضل حالا بكثير دون مخابرات هاتفية، وتهديد عائلتي بالهبوط فجأة علينا .
لم تستطع إلا أن تحس برضى دافئ يسري في كيانها، بينما أبقت صوتها ثابتا باردا:
ـ أيعني هذا أنني لم أعد تحت التجربة؟
ـ إنك عرفتي هذا منذ أول ليلة لك في منزلي، فلا تتلاعبي معي يا إدنا.
ـ آسفة..لكنني لم أكن واثقة.
وقف على قدميه يمد يده ليساعدها:
ـ عظيم ..الآن وقد تأكدت، هل تفكرين جديا بنقل المكتب إلى اليخت؟
تنفست بعمق..إنها تلعب بالنار..لكن الوقت متأخر جدا للتراجع.
ـ بكل تأكيد..متى سنذهب؟
صمت قليلا ثم:
ـ ليس قبل بضعة أيام.. أحس أنني يجب أن أعطيك وقتا لتفكري قبل أن تقرري.
ابتسمت:
ـ تعني قبل أن تقرر أنت ؟بالنسبة لي، سأحب هذا كثيرا. لكنني أعتقد أنك بحاجة للإقتناع دون ذرة من شك أنني لن أتطفل على خصوصياتك..إذن فلننتظر.
بدل أن يضحك، هز رأسه وقال بهدوء:
ـ ليس الأمر هكذا بالضبط.. فأنا أريد التأكد من أنني لا أتطفل عليك.
ـ لا بأس أبدا..أنا لا أغار كثيرا على خصوصياتي مثلك.
وضحكت.
ـ ربما..لكن أنت تدركين أنك ستشاركينني أكثر من ساعات العمل.
ـ لن أمانع..في الواقع ، أحب أن أكون معك.
التفتت إليه، وقرأت في عينيه شوقا قديما إليها قابله إحساسها بالشوق المألوف يسري كأنه التيار الكهربائي في جسدها، فأغلقت عينيها خوفا من تأثيره عليها .
همس لها: "إدنا؟".
عرفت حتى قبل أن تفتح عينيها أنه لم يعد ذلك الغريب الواثق من نفسه، الذي كان يسلي نفسه بإثارته لأحاسيسها فالنظرة الضبابية التي التقت بنظرتها، كانت تتفحص وجهها بنفس الحيرة والعذاب اللذين تتذكرهما تماما.
أطلق ضحكة مرتجفة وهو ينظر إلى وجهها:
ـ يا إلهي يا إدنا..لم أكن أعرف أنني أريدك هكذا.
وكان الصوت صوت هايدن جاكوبس، وقد عاد لسيطرته الساخرة على نفسه.
ابتعدت عنه فجأة.. كان الوقت ظلاما الآن تحت أشجار الدردار، وكان هايدن على بعد أقدام منها..وسمعته يقول بصوت أجش:
ـ من الأفضل أن نعود الآن إلى المنزل.. سنكون أكثر ارتياحا هناك.
ردت بحدة: "ماذا؟ ماذا تعني؟".
ـ أعني أن اقتراحي أن ننتظر حتى نصبح على متن اليخت لم يعد ملائما الآن.. لم يعد هناك طريقة أستطيع فيها السيطرة على نفسي.
أصغت إليه مذعورة بافتراضه المتعجرف أن يكونا عاشقين..وتمتمت:
ـ أنا ..أفضل أن تنسى ما قلته. لم أكن أقصد بقبولي العمل على متن اليخت هكذا.وأنا آسفة.
لم يكن يتوقع هذا..كما أدركت من صمته الطويل الذي تبع رفضها له.. أخيرا قال:
ـ هكذا إذن..أعتقد أن مشاعرك موضوعة في ثلاجة لأجل مايلز الغامض..حتى،أو إذا،عاد..فهل هذا صحيح؟
ـ ما..مايلز؟
ـ الذي كان وسيكون في المستقبل..مايلز. الرجل الذي رحل.
صدمت وهي تدرك أنها وخلال وجودها مع هايدن لمتتصور نفسها برفقة مايلز مرة واحدة..لقد خرج الشبح أخيرا من قلبها.. هايدن هو الذي اخترق دفاعاتها.. فهو ورث كل الحب العنيف غير المتعقل الذي كان لمايلز.
سمعته يضحك بصوت خافت:
ـ أوه..حسن جدا..هذا يكفي..
همست بتعاسة: "أنا آسفة".
ـ لا تشعري بالأسى هكذا يا حبيبتي.. كل ما أتمناه هو أن يكون مايلز قادرا على تقدير هذا الإخلاص.
أفلتت ضحكة متوترة، غير طبيعية، من شفتيها بينما هددت موجة هستيريا بالإستيلاء على تفكيرها.. ودفنت وجهها بين يديها، غير واثقة مما إذا كان ارتجاف فمها سيتحول إلى بكاء، أو إلى ضحكات هستيرية.
قال لها بلطف:
ـ هيا يا إدنا.. ألا تظنين أن الوقت قد حان للتخلي عن هذا الخفقان المؤلم؟
حاولت أن تشرح له:
ـ لا علاقة لمايلز بهذا..و لا علاقة له بي أيضا.. أنت لاتريدني أنا بل تريد شبحا دفنته في ذاكرتك.
لم يحاول الإنكار، وقال بصوت منخفض:
ـ حسن جدا إذن..سأعقد اتفاقا معك يا إدنا..بما أننا معا مطاردان بشبحين كما يبدو ،فلنساعد بعضنا بعضا لطردهما من نفسينا. أنا مستعد تماما لأن أستخدمك كبديل، وبصراحة تامة يا حبيبتي، لا أظن أن من الصعب جدا طرد روح مايلز من جسدك..ما رأيك؟
أفلتت آهة من بين شفتيها المتصلبتن.. لم تعد قادرة على تحمل المزيد من هذه السخرية القاسية المهينة..وأكمل وهو يتابع النظر إليها:
ـ حسنا يا إدنا ؟الأمر عائد لك الآن. إلى أين نتجه من هنا؟
قالت له بحدة:
ـ لن نتجه إلى أي مكان.. إلا إذا كان اتجاهنا لإكمال العمل معا كما كنا نفعل حتى الآن.
عيناه البراقتان كانتا تبتسمان لها الآن، بسخرية:
ـ أوه..سنكمل عملنا، لا تخافي.. لكن لا تخادعي نفسك بأننا سنتوقف حيث انتهينا الآن.. فأنت ستواجهين عملية إغواء بكامل أبعادها..
ـ أيها النذل المتعجرف..
قاطعها بسهولة:
ـ أجل..أنا هكذا..أترين، أنا لم أخسر معركة بعد.
حاولت اختراق ثقته نفسه:
ـ يا إلهي..ألا تفهم؟ أنا لا أريد أن..
تجاهل محاولاتها العبثية للشرح، وبحركة سريعة سهلة وقف على قدميه، وهو يقول:
ـ أوه..بلى..تريدين..لقد فات الوقت الآن للتراجع يا إدنا، فأنا لم أسع إليك، أتذكرين؟ أنت من سعى ورائي..حسنا، لقد حصلت على ما أردت..وما أردناه معا.
حاولت الإبتعاد عنه بيأس:
ـ أنت مخطئ..مخطئ جدا . ما أريده أنا،وما تريده أنت، هما شيئان مختلفان تماما.
أجابها بحدة:
ـ لا.. ليسا مختلفين..كلانا يريد ان يدفن شبحا..أو على الأقل أن يجد بديلا، كي تودعي مايلز، وأتخلى أنا عن حلم مستحيل، في أن أجد شبحا لا وجه له..بإمكاننا متابعة هذا الحوار في المنزل..تعالي..سأسابقك إلى المنزل.
أخذ يركض بسهولة نزولا باتجاه الفيلا التي كانت الآن تشع بالأنوار..ثم انتظر ليرى ما إذا كانت ستلحق به. لكنها تابعت طريقها ببطء دون محاولة ذلك. إنها تحتاج لأن تكون وحدها، لتجمع شتات نفسها، وتفكر ببعض المنطق لما حدث للتو.. وبدا لها، وبشكل لا يصدق،أنها منذ ساعتين، كانت تجلس بهدوء في المكتبة، مستغرقة في التفكير بالماضي، وتتطلع بشوق إلى مستقبل جديد متحرر. ما يثير السخرية هنا ، هو أنها شفيت فعلا من مشكلتها القديمة، ولكن لتقع، وبيأس عاجز في مشكلة جديدة.
كان هايدن ينتظرها قرب الباب الأمامي،وكانت جوسلين ما تزال تقف في نفس موقعها،وكأنها لا تستطيع ترك مكان حراستها خلف الزجاج الذي لا ستائر له، وجهها متجهم متوتر في قناع حزين، وهي تراقب إدنا تتقدم على مضض إلى جانب هايدن.. وبدأت إدنا تحس بإطباق الفخ عليها.
قال هايدن حين وصلت إلى جانبه:
ـ لقد نسينا العائلة تماما يا حبي.. لكن هذا لا يهم..أعيدي سيارتك إلى هنا وضعيها في الكاراج.. ولا تزعجي نفسك بحزم كل حاجياتك، خذي فقط ما يكفيك لبضعة أيام.. ستشترين كل ما تحتاجين إليه حين نصل إلى هناك.
ـ نصل إلى أين؟ونشتري ماذا؟ لا أعرف عما تتكلم يا هايدن.
قال بصبر:
ـ سنقيم في فندق ريفي صغير إلى أن نغادر إلى السيشل. سأتصل بمكتبي ليحجزوا لنا على أول طائرة.
ضربت قدمها في الأرض غاضبة:
ـ أيمكن أن تصغي إلى يا هايدن، أرجوك! أنا لن أذهب إلى أي مكان معك.
قال بهدوء:
ـ أوه..بلى..ستذهبين يا حبيبتي.. لدينا عمل لم ينته بعد. وأنا لا أتكلم عن ذلك السيناريو.
استدارت عنه، تحاول الإبتعاد، لكنه منعها من الذهاب، أمام أنظار جوسلين المراقبة من خلف النافذة.
همست من بين أسنانها:
ـ دعني أذهب..إنهم يراقبوننا!
قال بأقصى درجات عجرفته:
ـ هذا أحسن..ودعينا لا نتناقش دون جدوى يا إدنا.. لست أدري لماذا تتصرفين هكذا. أنت بكل تأكيد لست من النوع الذي يمثل دور الفتاة الخجول.. ولكن مهما كانت أسبابك، دعينا ننهي كل شئ الآن، وهنا..
مبتسما أمام وجهها الغاضب، وقبل أن تستطيع فعل شئ، دفعها باتجاه الباب..ثم قال بخفة:
ـ اذهبي الآن واحزمي أمتعتك.. سآخذ القصة وبضع أشياء أخرى ثم أوافيك إلى هنا بعد عشر دقائق.
اتجه هو نحو الفناء خارج المكتبة.
لكنها بقيت حيث هي لبضع دقائق حائرة، حين رفعت نظرها، التقت بنظر مالكولم الضاحك لها من خلف الزجاج. لم تكن جوسلين واقفة هناك،.. وعرفت على الفور أن هناك شيئا واحدا يجب أن تفعله الآن.. استدارت، تدير ظهرها إلى المنزل مستعدة للخروج، إلى حيث أصبحت سيارتها مجرد شئ لا قيمة له بين الصفوف اللانهائية من الزحام المسائي، المتجه إلى وسط المدينة.