وعندما جذبها نحوه , محاولا معانقتها , أستعادت فجأة رباطة جأشها وأبعدته عنها , فأضطر الى تركها , وقالت:
" كيف يمكنك التصرف معي هكذا ؟ كيف يمكنك أن تخون ليس فقط صداقتي لك , بل أيضا ثقة العائلة بك ؟ ألم تفكر بأمي؟ أني أعرف أنك غير متفق مع ألان, لكنه لم يفعل شيئا ضدك ليستحق خيانةكهذه! أنني زوجته يا لويس! ربما تكون قادرا على أن تنساه .... وهو كذلك .... أما أنا فأبدا!".
أنخطف صوتها في بكاء لم تملك القدرة على كبته , لفترة طويلة , عم الصمت الى أن قال لويس في لهجة مترددة :
" حاولت كثيرا مقاومة عاطفتي, يا فلورا . لست عديم الضمير الى درجة أقدامي على خطف زوجة رجل أعمى, لقد أمضيت الأسابيع الماضية في عمل شاق محاولا نسيان حبك, لكن ألان لا يستحق كل هذا الأحترام , لقد تركك تعتنين بأمي وحدك ورحل من غير أن يفكر بك أو بأمي, فكيف تدافعين عنه؟".
سألته فلورا في بساطة:
" هل يجب أن أكرهه بحجة أنه غير قادر على مبادلتي الحب؟".
أجاب وأسنانه مشدودة:
" هذا ما تفعله أغلبية النساء اللواتي أعرفهن".
" أذا , فلا أستغرب أن يكون ظنك قد خاب , يا لويس".
" يا ألهي!".
هز كتفيه في حركة تدل على أنهزامه.
" كان عليّ أن أفهم أنك غير قادرة على حبي, وما زال لألان حظ أكثر مما كنت أصوره".
خبأ يديه في جيبي بنطاله ورفس حجرا وقال:
" لم يعد أمامي حل سوى مغادرة القصر...".
" لا, يا لويس, هذا مستحيل! ... وأمي, كيف يمكنك التفكير في التخلي عنها , وهي في هذه الحالة الصحية المتدهورة؟ يجب أن تبقى, من أجلها ومن أجل عطورات تريفيل , من سيتخذ القرارات اللازمة في غيابك وفي غياب ألان؟".
" ألان ! ألان! لا تفكرين الا به!".
أن عذاب فلورا هو الذي يعنيه , وبسببها هي يترك لغضبه العنان. وفهمت أن عليها أخباره بدقة ما يجري بينها وبين ألان , فكبتت أنفعالاتها وقالت:
" أنا من سيغادر القصر قريبا , عندما يعود ألان , ستعود سولانج معه ... الى الأبد".
" هذا مستحيل! هل أنت متأكدة من ذلك؟".
" نعم , أنني متأكدة من ذلك كل التأكيد".
شاهدت في عينيه بريق أمل وأضطرت أن تنزع منه كل وهم.
" لكن ذلك لا يغير شيئا في عواطفي أتجاهك , يا لويس".
ابتلعت ريقها بصعوبة ثم تابعت في صوت هامس:
" لا يمكنني أن أحب شخصا آخر غير ألان , أبدا...".
وضعت يدها على الميدالية الزرقاء التي ترتديها بأستمرار , وفهم أنها تفكر بالكلام المنقوش الذي يعبر تماما عن وضعها , كأنها حفرت خصيصا لها ولألان : متحدان , لكنهما دائما منفصلان لأن الزواج هو الذي يوحدهما لكن لا شيء يملأ الهوة السحيقة التي تفصلهما , الشجاعة التي تتحلى بها فلورا أرهقت لويس وأهانته في الوقت نفسه , وشعر بالخجل , ولأول مرة يرى نفسه كما يجب أن يبدو في عيني فلورا , وأكتشفت فجأة أنه قادر على الأحساس بالخجل , وهذه التجربة بدت صعبة كي يتحملها , أخيرا قال:
" سأبقى , ولكن فقط لأنك تطلبين ذلك مني , وأذا كنت تعتقدين أن وجودي هنا ضروري فلا أستطيع الرحيل".
أستدار وأبتعد , تردد ثم أستدار نحوها:
" فلورا؟".
" تعم, يا لويس؟".
كانت ترتجف وعلى وشك البكاء.
" أذا كنت جرحت شعورك , فأنا آسف جدا , هل تسامحينني ".
وفهمت أنها طريقته ليؤكد لها أن الموضوع قد أقفل ولن يعاد فتحه بعد الآن , أبتسمت وقالت:
" أن صداقتك ستظل دائما عزيزة على قلبي , يا لويس , لا أريد أن أخسرك , لا شيء يستحق الغفران".
في المساء , عندما فتحت خزانة الثياب لتختار ثوبا لها , وقعت عيناها على فستان من الحرير الرمادي الغامق , ذي قبة بيضاء تتلائم تماما مع مزاجها.
كان القماش الحريري يتطاير حولها أزاء كل حركة تقوم بها, ويداعب كاحلي قدميها النحيفتين , من غير أحداث أي صوت , ثم راحت تلمس شعرها , لكنها لم تكن في حالة تسمح لها برفع شعرها على شكل كعكة , فتركته ينسدل في حرية على كتفيها.
أصوات غير عادية بدأت تصدر من الطابق الأرضي , الباب يطرق وأصوات تدوي في البهو, ثم خطوات تصعد السلم ... خطوات سريعة , نشيطة , تعبر عن نفاذ صبر شخص وصل لتوه , ولما توقفت الخطوات في الممر , أمام باب فلورا , أنقبضت أعصابها وجف حلقها.
أنفتح الباب ومع نسمة الهواء التي دخلت أرتفع فستانها الخفيف حولها , ألى درجة أنها بدت خيالية, ساحرة , جمدت للحال وأنتظرت ثم أطلقت زفرة طويلة عندما دخل ألان بقامته الفارعة الى الغرفة , بلهفة كانت تنظر اليه يقترب نحوها , نظارتان سوداوان تحميان عينيه , لكن من خلال الزجاجتين الرماديتن كانت عيناه تحدقان بها في نظرة حادة مركزة , أحمرت بشدة خجلا , ولما توقف بقربها , بدأت تسمع نبضات قلبها.
لم تستطع تحمل هذا الصمت الرهيب أكثر من ذلك فقالت:
" ألان, لقد عدت...".
" مساء الخير يا فلورا".
كان يكلمها كأنهما يلتقيان للمرة الأولى , شعرت فلورا أنه نافذ الصبر , غير قادر على تحمل المقدمات , أن والدته على حق, فقد تغير وبرغم شحوب وجهه الذي يفسر أقامته في باريس , فأنه ينضح بالحيوية والنشاط.
" هل أنت سعيدة لرؤيتي؟".
كأنه عاد يلعب لعبة الهر والفأر مرة أخرى , لم تعد تتحمل العذاب الذي يعاقبها به, كان مليئا بالفرح من دون شك , لكن هل من الضروري أن يعرض سعادته أمامها؟ ربما كانت سولانج تنتظره في البهو, مستعدة لمناقشة الطريقة الفضلى للتخلص من زوجة غير مرغوب فيها , وأمام هذه الفكرة , رفعت فلورا وجهها في فخر فخر وأعتزاز , أنه يجهل أنها تعرف أين كان يمضي كل هذه الأسابيع الفائتة , وحان الوقت لأعلامه بالأمر.
سألته في صوت هادىء وبارد:
" كيف كانت رحلتك الى باريس؟".
كانت تنتظر رؤيته وهو يعترف بذنبه , لكن ملامح وجهه عبرت عن أرتباك , رفع حاجبيه وردد :
" باريس؟".
" أنني أعرف أنك كنت في باريس مع سولانج! أرجوك , يا ألان , لا تحاول أنكار ذلك".
عضت على شفتيها لتمنعهما من الأرتجاف , وأضافت:
" لقد قلت لي ذات يوم أنك لن تنتظر مني سوى الحقيقة , ألا يحق لي أن أتوقع الشيء نفسه منك؟".
ظل ألان يحدق فيها مستغربا محاولا أستيعاب ما كانت تقوله , فتراجعت أمام عينيه اللتين تبدوان كأنهما تخترقان أعماقها, لكنه مد يده وأقفلها على معصم زوجته وقال في نعومة وهو يتهمها:
" لماذا العجلة في أبداء رأيك وأظهار قناعتك يا فلورا , فأنا لم أذهب الى باريس , ولم أر سولانج ولم أتصل بها منذ ذلك اليوم الذي غادرت فيه القصر".
أحست كأن قلبها سقط من صدرها , وقالت:
" أرجوك أن تسامحني , ربما تسرعت في أبداء رأيي , لكن هذا لا أهمية له , أليس كذلك؟ أنني أعلم أنك واقع في غرام سولانج ... لقد رأيتها في غرفتك ... وسمعت ما كنت تقول لها...".
أنخطف صوتها المرتجف , فسكتت وأدارت وجهها , فأنهى عنها ما كانت تريد أن تقوله:
"وفي اليوم التالي قررت الهرب".
فنظرت نحوه من جديد بعينيها الدامعتين , فترك معصمها وتوجه صوب النافذة وجلس على فتحة النافذة العريضة , وأمرها:
" تعالي وأجلسي بقربي".
أرادت مقاومته , لكنه ردد هذه المرة في قوة:
" تعالي , يا فلورا, أريدك بقربي".
أطاعت على مضض , فجلست على الطرف الآخر بعيدة عنه, لكن ألان أخذها بذراعها وشدها عنوة صوبه , فراحت ترتجف وسمعته يقول:
" أنك مقتنعة بأنني أحب سولانج , مما يجعلني أقاسمك سرا لا يعرفه سوى سولانج وأنا".
كان يتكلم بصوت خال من أي تعبير , لكن ملامحه كانت رصينة تدل على أهمية ما سوف يقوله:
" بسبب غلطة سولانج , أصبحت أعمى".
أرتعدت فلورا من هول هذه المفاجأة , وكبتت صرخة كانت على وشك الأفلات , وراحت تسمعه يقول:
" كنا مخطوبين , الخطبة تمت تلقائيا كما يحدث لشخصين يعرفان بعضهما منذ الطفولة... في البداية, لم أهتك كثيرا بنزواتها وتقلباتها , أنها فتاة وحيدة ومدللة , وكان والدها يلبي كل طلباتها , لكن عندما بدأت أهتم أكثر فأكثر بعلاقتنا , بدأت أكرس وقتا أكثر للعناية بها , وبدأنا نصطدم ونتشاجر , فأقتنعت حينئذ أنه يتوجب علي فسخ الخطبة".
شد يده على معصم فلورا التي كانت تصغي اليه في أنتباه حتى أنها لم تشعر بألم معصمها .
أضاف زاما شفتيه:
" وجاء اليوم الذي أعلنت فيه قراري بفسخ الخطبة , كنا معا في المختبر , أنهيت عملي وكنت أنظف الآليات والمعدات التي أستخدمها في التجارب , ربما كانت غلطتي أنا أيضا , فقد كنت مشغولا بما سوف أعلنه , ولا شك أنني سكبت بعض المساحيق في عيار أكثر مما يلزم , لكن هذا ليس أساس ما حصل , غضبت سولانج مما قلته , فرمتني بشيء لم أعد أتذكره , فوقع في الأناء الذي كنت أمسكه بيدي وتطاير السائل الى عيني".
سكت فجأة كأنه يعايش رعب تلك اللحظة من جديد , كانت فلورا تشعر بأنقباض جسمه كله , كان الخجل والرأفة يشدان على حنجرتها مما جعلها تقول:
" آه , ألان , كيف أستطعت أن ... كيف يمكن لأنسان...".
نفض جسمه ليتخلص من هذه الذكريات , ووضع ذراعه حول خصر زوجته ليجذبها نحو قلبه:
" لا تحكمي عليها يا فلورا , أنني لا أزال مدينا لها بعرفان الجميل".
" عرفان الجميل؟ كيف يمكنك أن تتكلم عن عرفان الجميل فيما يتعلق بسولانج؟".
بقيت جامدة بين ذراعيه ووجهها مخبأ في صدره الذي كان يعلو ويهبط بسرعة زائدة , كان يشلها نوع من الخجل , لم تجرؤ على رفع عينيها , لكنه أمسك بذقنها وأجبرها على التطلع اليه وجها لوجه , ثم أضاف يقول:
" الليلة التي تلت حفلة العشاء ... الليلة التي رأيت سولانج في غرفتي ... كنت أظن أنها أنت , يا فلورا...".
كان يعلق أهمية كبرى على ردة فعلها أمام هذا التصريح ,شعرت بذراعيه يتشنجان بينما كان ينتظر جوابها .
فتلعثمت وقلبها ينبض بسرعة:
" كنت تعتقد أنها أنا؟ لكن كيف...؟".
" عندما دخلت الى غرفتي , سمعت صوتا ... يشبه حفيف الفستان الذي أرتديته تلك الليلة , وكذلك تنشقت العطر الجديد الذي صنعته خصيصا لك , وحسب علمي , لا أحد غيرك وصل اليه , أذا بالطبع...".
أكملت فلورا, غير مصدقة:
" أعتقدت أن الذراعين اللتين لفتا عنقد في تلك الليلة هما ذراعي".
وأستعادت المشهد في خلال ثوان قليلة , تذكرت الطرقة الخفيفة على باب غرفتها , لا شك أن سولانج كانت تنتظر في الحمام وسمعت خطوات ألان في الممشى.
" آه , لقد لعبت دورها في كمال!".
قال ألان بصوت ملتهب:
" فلورا!".
شعرت فلورا أنها تذوب تحت نظرات عينيه , وخاصة عندما تذكرت الكلمات التي لفظها لسولانج في تلك الليلة : آه , يا حبيبتي , لو تعرفين كم كنت مشتاقا أن آخذك بين ذراعي من جديد .
سألها في أنفعال :
" هل تريدين مني أن أشرح لك أكثر , أن تصرفاتي كانت ناتجة في أغلب الأحيان من رغبتي في رؤية الزوجة الحنون التي أخذتني في أحدى الليالي الى عتبة الفردوس ".
همس بشغف وهو يقترب من فلورا أكثر فأكثر :
" يا ألهي ! أذا كانت لديك أسئلة أخرى , فيجب ألا تنتظري لأرد عليها فأنني أرفض الصبر أكثر من ذلك".
عانقها بحنان وشعرت بأنها تقبض على كل ما في الدنيا من سعادة , مرت فترة طويلة قبل أن يحررها من قبضته , لكنه ظل يشدها اليه وأمام وجه فلورا الولهان همس:
" فلورا , ملاكي , أنني أحبك".
ثم أضاف:
" ظننت بأن لويس كان يبالغ عندما كان يصف جمالك, لكنه كان يقلل من قيمته , أنت أجمل بكثير مما كنت أتصور , ولم أر جمالا في ... ولذلك عندما عرفت أن أمي لم تعد في خطر , عدت الى المستشفى لأجراء الجراحة , والآن , يا حبيبتي, أذا أردت برهانا أنني لم أذهب الى باريس , فيمكنني تقديمه لك".
كانت الصدمة بالغة الأهمية الى درجة أنها أحتاجت ألى كل قواها لتضبط الأنفعالات التي تختلج في نفسها , لكنه لم يكن ينوي الأنتظار مثل هذه الروعة من قبل".
تسمرت قبل أن ترفع عينيها المتضرعتين نحو نظارتيه السوداوين , وهنا خلعهما , فذهلت أمام البريق المنبثق من عينيه وأجتاحتها غبطة عارمة جعلتها عاجزة عن النطق .
وفهم ما تعانيه فأبتسم وهز رأسه ليبرهن لها أنه يقرأ هذا السؤال في عينيها:
" نعم يا فلورا , أنني أراك! لهذا السبب فقط أنا مدين لسولانج بعرفان الجميل , عندما جاءت الى غرفتي تلك الليلة , أخبرتها حقيقة شعوري نحوها وقلت لها أنني قررت أن لا ذراع غير ذراع فلورا يمكن أغرائي ... ولذلك عندما عرفت أن أمي لم تعد في خطر , عدت الى المستشفى لأجراء الجراحة , والآن, يا حبيبتي, أذا أردت برهانا أنني لم أذهب الى باريس , فيمكنني تقديمه لك".
كانت الصدمة بالغة الأهمية الى درجة أنها أحتاجت الى كل قواها لتضبط الأنفعالات التي تختلج في نفسها , لكنه لم يكن ينوي الأنتظار ليسمع ردها , فأكتفت بالهمس:
" ألان , هل هذا صحيح؟".
شدها نحو قلبه وعانقها طويلا , وراح يداعبها , لكن شيئا في داخلها ,ما زال يرتجف , شك بسيط ما زال يقبع في زاوية صغيرة من عقلها.
" قولي أنك تحبينني يا فلورا , أريد أن أسمع ذلك منك".
" لقد أحببتك دائما , يا ألان".
" دائما؟".
أبعدها عنه وحدق في نظرها , كانت سعيدة جدا أنه أستعاد بصره , لكنها لم تعد قادرة على أخفاء ذلك الشك البسيط فسألته:
" هل صحيح أنك صدقت في البداية ... أنني تزوجتك من أجل ثروتك؟".
أغمضت عينيها وأنتظرت , أجاب برصانة , من دون حذر:
" أبدا, ي أبنتي الصغيرة , أقسم لك بذلك , كنت أريد أقناع نفسي بذلك, وكنت أبحث عن حجة أو ذريعة للأنتقام ممن أهانني وذلني , لقد عاملتك معاملة سيئة , لكن , مع أسفي لمعاملتي والعذاب الذي قاسيته , فأنني لست مستعدا للندم على تصرفي معك في تلك الليلة , لقد توجهت اليك مليئا بالغضب والمرارة وتركتك وقلبي مليء بالحب والسلام والطمأنينة ".
" كنت تحبني حينذاك؟".
كانت صرخة آتية من أعماق القلب, أنه صدى عذاب كير يرتجف لمجرد تذكر العذابات التي قاستها , رفعت عينيها فرأت الندم في ملامحه , لكنه شدها وقال:
" نعم, كنت أحبك حينذاك , كما سأخبرك الى الأبد , يا قلبي العزيز , كن أغار من لويس , وكنت فاقد الأمل من أستعادة بصري, لكن لا شيء يمكن أن يعادل العذاب الضاري الذي كنت أشعر به أمام فكرة أن أخسرك!".
أخذها بين ذراعيه وعانقها من جديد بحرارة ولهفة ... ولم تشعر فلورا بأنقطاع السلسلة حول عنقها وبسقوط الميدالية الزرقاء , وتبشر ما كان منقوشا عليها بأستثناء كلمتين فقط متحدا ن.... دائما!...".
تمت