9- عطر خاص
كانت فلورا تذهب بشكل يومي الى حقول الزهر الممتدة , كأنها مزرعة , منذ ثلاثة أسابيع وهي منهمكة في مساعدة الكونتيسة على تنظيم حفلة العشاء التي حان موعدها هذا المساء بالذات , كما كانت في الوقت نفسه ترتبط من جديد مع الأشخاص والأصدقاء الذين تعرفت اليهم من بين العاملين في المزرعة , أحبها الفلاحون كثيرا وكانوا فرحين ومسرورين للأهتمام الذي منحته فلورا لهم ولعائلاتهم , وكانت تشعر عندما تكون معهم كأنها بين أهلها في أنكلترا.منتديات ليلاس
أن هؤلاء القرويين يحبونها بأخلاص , يضحون بكل شيء من أجلها , لا يعرفون لماذا , ربما لأنها خشبة خلاصهم أو لأنهم أكتشفوا أن المحبة أعظم من الولاء.
أنها فترة ما بعد الظهر , والطقس حار جدا , أبتسمت فلورا وهي تتمشى في خطى سريعة أذ تذكرت , أنه منذ نصف ساعة , أصرت عليها الكونتيسة بضرورة الذهاب الى غرفتها لتستريح , لأنها بدت , متعبة وشاحبة الوجه , حاولت فلورا أقناعها بأنها تشعر بنشاط وقوة , لكنها سرعان ما خضعت لألحاح حماتها وصعدت الى غرفتها بهدف التخلص من العناية الزائدة التي كانت الكونتيسة توليها أياها.
لكن الطقس جميل, السماء زرقاء ملتهبة والمنظر المحيط يشبه باقة العروس تحيط بها دائرة خضراء من أشجار السرو العالية , فلم تستطع فلورا مقاومة رغبتها الملحة في الخروج الى الطبيعة .
كانت الأفكار تتجاذبها , ماذا أريد من هذا الرجل؟ أنا أعرف أنه يتعذب وأعرف أنني أحبه , ومع ذلك أتردد , لقد تزوجت منذ شهر تقريبا , وخلال الأسابيع الثلاثة التي مضت, لم تشاهد ألان ألا نادرا , كانت تلمحه كل صباح من نافذة غرفتها , عندما يقودونه الى المعمل.
وكذلك تراه في المساء من جديد , لكن متأخرا , منذ الأصطدام الذي حصل بينه وبين لويس , تعود على تناول طعامه في غراس برفقة سولانج , بحجة أن عمله الكثير والملح لا يسمح له بالوصول الى القصر في وقت لعشاء.
وهكذا فأن مشروع الكونتيسة الطموح لم ينجح , أما فلورا فقد أقتنعت خلال الأسابيع الماضية أن ألان نادم على أندفاعه الذي جعله يتزوج فتاة شابة لا يعرفها ,
وبلا وعي أكملت فلورا طريقها في الأتجاه الصحيح, وأذا بها تسمع أصوات الترحاب والبهجة الصادرة من القطافين , ولمع وجهها للحال وردت عليهم التحية , فهي تشعر بأرتياح عندما تكون مع هؤلاء الأصدقاء الجدد .
أمضت ساعة مرحة وهي تتنزه بين صفوف الشجيرات , تثرثر مع العمال الذين لا يتوقفون عن العمل , بعضهم , في لغة أنكليزية ضعيفة , يقصون عليها آخر أخبار عائلاتهم ويقهقهون معها كلما عجز أحدهم عن أيجاد الكلمات اللازمة في لغة لم يتعودوا النطق بها في حياتهم , ومع مضي الوقت, شعرت فلورا بالعوارض الأولية لصداع بدأ ينخر رأسها , وفي الوقت نفسه بدأت صفوف العمال تخف أذ أن القطافين يأخذون وقتا للراحة كل يوم في هذه الفترة بالذات من بعض الطهر , عندما تكون الحرارة في أوجها , وقبلت فلورا دعوة الأم فيكتوريا الى تناول الطعام معها.
رفضت تناول الخبز والجبنة الحادة والبصل , لكنها تناولت فنجان قهوة, كانت الأم فيكتوريا تحدق فيها وهي تشرب. فلاحظت شحوب وجها فعاتبتها لأنها لم تكن تضع قبعة على رأسها.
" شمسنا أكثر حرارة من شمس أنكلترا , يا كونتيسة".
ثم صرخت في صبي كان يمر راكضا:
" جان بول! أذهب وأسأل والدتك أذا كان في أمكانها أن تعير قبعتها الجديدة الى الكونتيسة بسرعة!قل لها أنني التي أرسلتك".
أحتجت فلورا :
" لا , ليس هذا ضروريا ..."
لكنها سمعت الفتاة الشابة ذات العينين السوداوين الواسعتين اللتين لم تتوقفا عن التحديق في وجهها تقول في خجل:
" أن الأم فيكتوريا على حق, يا سيدتي الكونتيسة , حرام أن تفسدي لون بشرتك الناعمة".
ووافقت المجموعة التي تحيط بها على ما قالته الفتاة , فأحمر وجه فلورا بشدة , وتدخل أحد القطافين ليمدح فلورا قائلا:
" أن أسمك يليق بك, يا سيدة فلورا , وأذا سمحت لي فأني أقول أن بين كل الأزهار التي تنبت من حولنا , أنت أجملها, ونملك لآن السبب للأحتفال , ما دام السيد ألان أنهى تجاربه , أولا : الأحتفال بقدوم أجمل زهرة ألى عائلة تريفيل , وثانيا أختراع أدق عطر لم يسبق لمعامل تريفيل أن صنعت مثله".
وضع أصابعه على شفتيه وراح يقبلها ويقول:
" آه , أي نصر حققه سيدي الكونت".
هكذا أذا , أنهى ألان أعماله , ولم تجرؤ فلورا على القول لهؤلاء الرجال أن العطر ليس لها , وأن لسولانج الحق فيه أكثر منها.
فجأة , أختلطت الوجوه السعيدة التي تحيط بها , بكثافة السحب في الفضاء , ولم تعد قادرة على رؤيتهم الا من خلال الضباب الحار, أن عطر الزهر , الثقيل يختلط برائحة الأجبان والثوم, وشعرت بعدم قدرتها على التنفس , والأصوات حولها بدت وكأنها قرقعة وضجيج , أخيرا, أنزلقت من مقعدها وتركت الغياهب تبتلعها وتجرفها في موجة لا ترد.
عندما أستعادت وعيها , كانت ممددة على الفراش الصغير, في أحد منازل القطافين , الغرفة مظلمة , والصمت يعم , وللحظة ما , تساءلت فلورا أين هي , أرادت النهوض , لكن وجه الأم فيكتوريا المتجعد ظهر فوق رأسها:
"لا تتحركي يا أبنتي , أنتظري قليلا , دعي الوقت يساعدك لتستردي قواك".
تركت فلورا رأسها يقع على الوسادة وقالت:
" معك كل الحق في أن توبخيني , أيتها الأم فيكتوريا , لا شك أنني تعرضت الى ضربة شمس".
قالت الفلاحة العجوز وهي تهز رأسها معبرة عن القلق:
" نعم, كان علينا تنبيهك مسبقا ألى تأثيرات الشمس, وما سيقوله السيد الكونت , عندما يطّلع على أهمالنا , لا أجرؤ على التفكير بذلك, أننا نستحق أن يقبض علينا , لأننا أغبياء".
" آه , أنك لا شك تمزحين".
وحاولت فلورا من جديد الجلوس , لكنها شعرت بدوار , فعدلت عن ذلك, وراحت تحاول التخفيف عن العجوز من المخاوف التي تساورها , فقالت بصوت خفيض:
" أنا الوحيدة المسؤولة عما حدث لي , ما كان ينبغي أن أتنزه عارية الرأس في هذا الحر اللاهب , وبعد أن أستريح قليلا , سأعود ألى القصر , ولا أجعل أحدا يعلم ماذا حدث".
صرخت العجوز وقد شحب لونها:
" يا ألهي ! ليس ذلك واردا على الأطلاق, يا كونتيسة! أن أحدا من رجالنا سيقودك الى القصر , يكفي ما عانيته من حماقتنا , ولن يبدر منا أي تقصير أو أهمال مرة أخرى! عندما تشعرين بالراحة وتصبحين على أستعداد , سنأخذك الى القصر في أحدى الشاحنات".
لم تستطع فلورا أقناع المرأة العجوز بالعدول عن رأيها فقد أصرت على موقفها بقوة , وهكذا بدلا من أن يكون في أستطاعتها أن تدخل الى غرفتها سرا من باب خفي , كما كانت تنوي أن تفعل , أنزلت الشاحنة فلورا أمام القصر محدثة ضجة أيقظت الجميع.
خرج الخدم لتوهم, فشرح لهم السائق ما حدث لفلورا , وفي أثناء ذلك ظهرت الكونتيسة الأم على أحدى الشرفات وراحت تسأل بدورها طالبة تفسيرا مفصلا , ألقت نظرة الى وجه فلورا الشاحب وأعطت للحال أوامر واضحة , وقبل أن يتسنى لفلورا أن تعي ماذا حدث , وجدت نفسها بين أيدي أشخاص يحملونها ويضعونها في سريرها ويقفلون الستائر لأخفاء النور القوي , فشعرت بألم بالغ يحفر في رأسها ويقرع كالطبل .
لم تلمها الكونتيسة , لكنها كانت قلقة على فلورا وهي تتأمل وجهها المشدود من شدة الألم , فقالت لها:
" حاولي أن ترتاحي قليلا , يا أبنتي الصغيرة, فلن يتأخر الطبيب عن المجيء".
لم تستطع فلورا الكلام , كانت تتنفس في عمق وتغمض عينيها , خرجت المرأة المسنة من الغرفة على رؤوس أصابعها وأغلقت الباب وراءها من دون أحداث ضجة.
أستيقظت فلورا بعد ساعات طويلة , وشعرت بأن الألم زايلها, وبحذر, رفعت رأسها , ثم تركته يسقط في الوسادة من جديد , وأبتسمت بأرتياح , وللحظة , تساءلت ما أذا كانت حالتها ستمنعها من حضور حفلة العشاء , بالنسبة أليها , لن تستفيد من ذلك شيئا , لكن بالنسبة ألى الكونتيسة , فستكون حزينة كثيرا لأضاعة كل هذه الأستعدادات التي أستمرت أسابيع سدى.
تحركت في سريرها , وفوجئت عندما سمعت صوتا سألها في عتمة الغرفة:
" هل أستيقظت؟".
نظرت حولها نحو مصدر الصوت, وشاهدت ألان واقفا قرب النافذة.
أجابت بصوت ضعيف وكأنها تلميذة في أنتظار التأنيب :
" نعم, شكرا".
تكلم بصوت خفيض , وراح قلب فلورا ينبض بسرعة جنونية , وعندما أقترب ألان نحوها , شبكت يديها وحاولت جاهدة السيطرة على أرتعاش جسمها , جلس على طرف السرير قريبا منها , وقال:
" قيل لي أنك لم تكوني في حالة جيدة في الأسابيع الماضية , كان يجب أعلامي يالأمر قبل الآن".
وقطب حاجبيه وأضاف:
" واليوم بعد الظهر , طلبت من الطبيب أن يجري لك فحوصات شاملة".
تلعثمت فلورا وقالت:
" هل جاء الطبب ؟".
هز رأسه:
" أنا الذي جئت به الى هنا , عندما أتصلت بي أمي هاتفيا لتعلمني أنك مريضة , وعندما وصلنا الى هنا, كنت نائمة , لكنه تمكن من أجراء الفحوصات اللازمة من دون أيقاظك , قرر أنك في حاجة الى نظام غذائي خفيف , ولمدة أسبوع عليك ألا تعرضي نفسك ألى أشعة الشمس وخاصة عند الظهيرة , أي في الساعات الأكثر حرارة , يمكنك النهوض من سريرك ساعة تشائين . لكن عليك ألا تقومي بأي جهد متعب".
أرتسمت على شفتيه أبتسامة لم تكن تنتظرها , وقال وهو يرفع حاجبيه :
" الكلاب المصابة بمرض الكلب , والأنكليز , هم الذين يخرجون في هذا الحر من دون قبعات على رؤوسهم , حتى القطافين المعتادين على هذا الحر لا يعرضون أجسامهم الى شمس الظهيرة أطلاقا , أما أنت فقد فعلت العكس كيف ستدافعين عن جنونك وكبرئاؤك وأستقلاليتك البريطانية؟ هل تعديني بأن تكوني أكثر حذرا وتعقلا في المستقبل؟".
كان جواب فلورا بالنسبة أليه ذا أهمية كبيرة, ويبدو أنه قرر البقاء مكانه حتى يتأكد من أنها ستفعل ما طلبه منها.
" نعم, أنني أعدك".
وللحظة غاصت الغرفة في صمت عميق ولم يقم ألان بأية مبادرة ليكسره , وكانت فلورا تعي أكثر فأكثر هذا الجسد النحيف والقوي , القريب جدا منها , تركت يديها ترتاحان على غطاء السرير الحريري , وحركة أصابعها المتوترة جعلت يداها تلتصقان بيدي ألان, ورأدت أبعادها , لكن أحست بقبضة ألان تشد عليهما , فأرتعبت من الذهول الذي أجتاحها , أنها المرة الأولى التي يتم فيها تقارب حقيقي بينهما , منذ ليلة عرسهما , عندما أثار الغضب والأحتقار الشغف عند ألان الذي فقد كل مراقبة على تصرفاته , لكن هذه المرة لم يلعب الغضب أي دور , وفي هذه اللحظة القصيرة , شعرت فلورا أن في داخل ألان عاطفة عميقة , عاطفة يعمل على أخفائها بتصرفاته وحبه للسيطرة.
أتصال أصابعهما ألهب جميع أنحاء جسمها , وأسرع نبضات قلبها ألى درجة أنها شعرت بالدم ينبض في أذنيها , حاولت مرة أخرى سحب يدها, لكنه شد على قبضتها مرة أخرى.
قالت في نبرة توسلية:
" أني ... أني أشعر بتحسن كبير , ويمكنني النهوض حالا , ربما حان وقت الأساعداد للعشاء".
أجابها بهدوء:
" لا داعي للعجلة , مضى زمن طويل لم نتبادل فيه الحديث , لماذا لا نستفيد من هذه الفرصة المناسبة الآن؟".
قطبت وجهها وهي تتذكر ما دار في المحادثة الأخيرة معه , وحاولت الأسترخاء , لكن , عندما راحت يد ألان تداعب خدها , شعرت وكأن كل حواسها أستنفرت وصارت في حالة تأهب مفاجئة.
همس ألان:
" جلدتك بنعومة المخمل , هل تحمرين خجلا ؟ أن خدك يلتهب تحت أصابعي".
كان يلامسها بحنان غريب حتى أنها لم تعد لديها قدرة على الأبتعاد عنه , كانت مداعبته ناعمة, ليس فقط على خدها الحار, لكن أيضا في قلبها المضطرب , وللمرة الأولى منذ أسابيع , بدأت تشعر بسلام داخلي.
همست فلورا:
" يمكنك أن تظهر تفهما , عندما تريد ذلك, يا ألان".
فوجىء , أذ جمدت أصابعه للحظة قبل أن تلمس كتفها وقال:
" أحترسي يا فلورا, لست مراهقا يمكن أزعاجه قبل أن نقول له أن يخرج للعب".
كلماته تؤكد اللامبالاة التي ما زالت مستمرة فيه , وقلب فلورا ينبض بألم, ملاحظة بسيطة تكفي لتحطيم توازنه العابر وأدخاله من جديد في قوقعته , وببطء , همست والدموع تبلل عينيها:
" أنني زوجتك , يا ألان".
شد ألان على كتفها بأصابعه في عنف قوي وفضّلت أحتمال الألم من أن تفسد هذه اللحظة المذهلة.
أفلت أسمها من بين شفتي ألان بالرغم منه , كان على وشك أن يشدها نحوه عندما سمع طرقة على الباب , وصوت الكونتيسة يمزق نسيج أنفعالاتها الدقيق.
" يا أبنتي العزيزة, كيف تشعرين الآن؟".
راحت عيناها اللامعتان تتنقلان من وجه فلورا الى وجه ألان , كان قد نهض لدى دخول والدته ووقف على بعد خطوات قليلة من السرير , لم تكن ملامحه سوى قناع لا يتحرك , كانت الكونتيسة تخطط بأستمرار لأنجاح خطتها , وبنظرة معبرة موجهة الى فلورا قالت:
" هل يمكن للويس أن يدخل , أنه قلق منذ أخبرته عن مرضك وهو يلوم نفسه لأنه لم يعتن بك كما يجب, ولن يرتاح ألا أذا تأكد بنفسه أنك تحسنت!".
تجهم وجه ألان لدى سماعه اسم لويس على لسان أمه, وبأسى أسقطت فلورا رأسها على الوسادة , وبرغم نواياها الجيدة , فأن تدخل الكونتيسة دمّر خيط التفاهم الدقيق , بذلت جهدا للتغلب على محنتها وأجابت:
" لا مانع لدي , أرجوك دعيه يدخل".
وأغمضت عينيها حتى لا ترى ألان وهو يخرج من الغرفة في خطى واسعة.
هدأت فلورا ظاهريا وراحت تستعد للسهرة , أن خزانتها الواسعة لم تعد فارغة كما كانت, منذ أيام قليلة وصلت الملابس التي وعد بها ألان , وأمامها الآن أختيار واسع من الفساتين لمختلف المناسبات , لكن أمتلاكها لهذه الثياب كما بالنسبة الى المجوهرات , لم يكن يدخل الفرح الى قلبها.
وقفت أمام الملابس العديدة وراحت تتساءل أي فستان تختار , وأخيرا تناولت فستانا مصنوعا من النسيج الحريري الثقيل , لونه يشبه لون الزهرة التي تكاد تتفتح , وضعته على السرير , لترتديه بعد تزيين وجهها , أقتربت من المرآة وراحت تسرح شعرها اللماع , ثم لفته في مؤخرة رأسها بشكل كعكة , ليصبح شعرها بعد ذلك وكأنه تاج ملكي على رأسها , سوّدت رموش عينيها , ووضعت على شفتيها حمرة باهتة.
وصل الى مسامعها صوت التفتة الرنان وهي ترفع الفستان , أرتدته وأقفلت السحابة , مع كل خطوة تخطوها كان حفيف الفستان يزداد , مما جعلها تتخيل أن ثمة شبحا غاضبا يائسا يلحق بها بأستمرار , عندما كانت ما تزال في أنكلترا , قال لها ألان أنه يحبها أن ترتدي الثياب المصنوعة من قماش التفتة , وهكذا يمكنه على الأقل أن يسمعها عندما تتحرك , وليش غريبا أنه أختار معظم ثياب السهرة من نفس نوع القماش.
نظرت فلورا في المرآة ودهشت لأناقتها , عضت على شفتيها وقطبت حاجبيها , ما زال الأرتجاف حول فمها , عليها أن تخفيه , الكآبة السوداء في أعماق عينيها ستثير أستغراب الناس الذين ينتظرون التعرف الى عروس متألقة مبتهجة.
سمعت طرقا على الباب , وتقلصت من دون وعي , كانت ردة فعلها أن أزاحت من درب ألان حذاء ربما تعثر به, أقترب ألان , ثم توقف وأحنى رأسه جانبا , فهمت أنه سمع حفيف ثوبها.
قال وهو يلتفت يمينا ويسارا:
" فلورا؟".
أنتظر ردها لتؤكد له مكان وجودها , فقالت:
" أنا هنا".
كانت تتأمله برصانة , وتتعجب من ضبط نفسه الذي يساعده على السيطرة على الغضب الذي ما زال كامنا في أعماقه , وبعد تردد قصير , قدم لها ما كان يمسك في يده وأمرها:
" آمل منك أن تضعي هذا العطر , في المساء , أنه أختراعي الأخير , هو الذي جعلني منهمكا منذ وصولي , آمل أن يعجبك ".
فوجئت فلورا وتناولت الزجاجة الصغيرة التي تضم العطر الذي كانت سولانج تحلم به , لماذا يقدمه الآن لها هي؟ ووجدت جوابا على سؤالها عندما أضاف يقول في لهجة باردة:
" أن معظم المدعوين الليلة هم أصدقاء وفي نفس الوقت منافسون , ولا شك أن الجميع سمعوا بالعطر الجديد , وفكرت أنها المناسبة الوحيدة لأقدم لهم أختراعي الجديد وزوجتي التي هي الكونتيسة الجديدة".
أجابت فلورا:
" أني أفهم تماما".
وبطريقة آلية أبعدت عنها الأمل المؤقت الذي أخذ يراودها , لا , لم يخترها عمدا ليقدم أختراعه الجديد , على الكونت تريفيل أن يحافظ على مركزه , وأن يحترم الشرف العائلي , وبعد أن تنتهي المجاملات واللياقة , يعود العطر الى صاحبته الشرعية أي ألى سولانج!
أنتفضت بعنف عندما أقترب منها وقال:
" سأضع العطر بنفسي ".
كان صوته باردا كأن الحنان الذي عبّر عنه منذ ساعة تقريبا كان حلما وليس حقيقة , كانت ترغب في الرفض , لكنه أخذ منها الزجاجة وفتحها وأخذ يضع من العطر على معصميها ويقول:
" من هنا يجب البدء بوضع العطر , ثم في تجويف الكوع...".
كانت تشعر كأن أصابعه تحرق جلدها.
" وبعد ذلك, العنق...".
نبض شريان نقها بسرعة جنونية , بتأثير الأتصال وقامت بجهد يائس لتتوقف عن الأرتجاف .
أضاف يقول بصوت أقل وطأة :
" لمسة هنا , ولمسة أخرى على الشفة العليا , وننتهي".
تركها ورجع خطوة ألى الوراء , هادىء الأعصاب , كانت فلورا تشعر وكأنها تحلق فوق سحابة من العطر الساحر.
سألها بتهذيب كما لو أن جوابها ليس له أهمية كبيرة:
" هل يعجبك؟".
" نعم , كثيرا".
أستدارت حول نفسها فأمتدت التموجات العطرة حولها .
" أشعر وكأنني في قريتي من جديد, في الحديقة , بعد المطر, عندما يكون الهواء منعشا وكل شيء ذا رائحة طيبة , نعم , أنه هذا حقا".
ومن دون الأنتباه الى نشوتها قال:
" لا تضعي أبدا عطرا خلف الأذن أو على الرقبة , فالرائحة سوف تختفي وراءك , لكن وعندما يستعمل العطر كما يجب , يمكن أن يحدث معجزات , ليس هناك طريقة للتعبير أكثر براءة أو دقة من تعبير العطر , يمكنه أن يعبر عن روح المرأة وعن طبيعتها , أنه ملجأ لكل أمرأة تتمنى أن تبدو أكثر جاذبية وأكثر أنوثة".
كانت تر شقه بنظراتها من غير أن تفهم , أذا كان العطر شخصيا الى هذا الحد بنظره , كيف يقبل أن تضعه أمرأة غير التي صممه خصيصا لها , وخاصة أذا كانت تختلف عنها أختلافا كبيرا ؟ شعرت للحظة أنها لا يمكن أحتمال هذا , أن أنفعالاتها المعقدة وضعف جسدها, ينذرانها بأنهيار عصبي بالغ الأهمية , لو كان أمامها الوقت الكافي , لتوجهت مسرعة الى الحمام وغسلت كل جسمها من العطر الذي صنع خصيصا لغيرها , شعرت بالأحساس نفسه الذي تشعر به لو أنها أضطرت الى أرتداء ثياب أمرأة أخرى, ونفرت لهذه الفكرة, صوتها عبّر بوضوح عن هذا الأشمئزاز عندما أجابت:
" من يسمعك الآن , يعتقد أنك تتكلم عن أكسير المحبة المخصص لأيقاع الرجل في المصيدة , وما تقوله يدل على وجود علاقة أساسية بين العطر والشخصية, وأذا كان ما تقوله صحيحا , يا ألان , عليك أن تعمّق معلوماتك النفسية , بالنسبة الى فنك فلست مستعدة أن أحمل عطرا هدفه أيقاظ بعض الأنفعالات لدى الرجال , وسأكون شاكرة لك أذا أعطيت ما تبقى من هذا العطر للمرأة التي صنعته من أجلها , أما بالنسبة ألي, فلن أستعمله ابدا".
قطّب حاجبيه السوداوين ورفع ذقنه بأعتزاز وأجابها في كبرياء:
"كما تريدين! كوني حاضرة خلال خمس دقائق لأستقبال الزوار".
عندما غادر ألان الغرفة , طلت فلورا للحظة مترددة , ساعدها حزنها العميق في التغلب على ترددها , ترك ألان الزجاجة العطر على الطاولة بجوارها , فحملتها بسرعة وخرجت الى الممشى , كانت غرفة سولانج قريبة من غرفتها , ولما وصلت أمام الباب , دخلت من دون أن تطرقه , قبل أن تخونها شجاعتها , كانت قد قررت أعادة العطر الى صاحبته , صحيح أنه يتوجب عليها أن تمثل دورا في هذه المسرحية الهزلية التي فرضت عليها , لكن يجب أقناع سولانج , أن هذه المسرحية ستنتهي هذه الليلة .
كانت الغرفة فارغة , لا شك أن سولانج غادرتها لتوها, أغراضها مشتتة في كل مكان من الغرفة, ولم يتح للخادم الوقت لترتيبها , وفي أشمئزاز وقرف , راحت فلورا توسع خطاها فوق الملابس الملقاة أرضا , حتى وصلت الى منضدة الزينة حيث محارم الورق وسدائد القطن , ودبابيس الشعر , تفضح الأهمال الكبير لسولانج , وبنشاط أزاحت الأغراض ووضعت الزجاجة, وبعدها خرجت بسرعة من الغرفة ونزلت تلحق بألان والكونتيسة.
بدأ وصول المدعوين في الوقت الذي وصلت فلورا قرب ألان, وخلال الساعة التالية كانت فلورا منهمكة في حفظ أسماء ووجوه الناس الذين يمرون أمامها, النساء الأنيقات , والرجال المتميزون , الجميع يعبرون عن فضول طبيعي وعن لطف عفوي أمام خجل فلورا, لرجال خاصة لم يتوانوا عن أظهار أعجابهم بها, وشيئا فشيئا , غابت عن ملامح ألان البرودة واللامبالاة , وعندما جلس الجميع الى مائدة الطعام , كان تصرف ألان حيال زوجته طبيعيا الى درجة كبيرة, هي تعرف جيدا , أن أهتمامه بها ليس الا لخداع أصحابه , وبرغم ذلك, كانت فلورا شديدة السعادة, أذ شعّت البهجة في وجهها وبرقت عيناها وأرتسمت على شفتيها أبتسامة ناعمة.
ولخيبة أمل سولانج كانت تجلس بعيدة جدا عن ألان بحيث أصبح صعبا عليها التحدث اليه , لكنها كانت تكتفي بألقاء نظرات كره نحو فلورا, أما لويس فكان يجلس مواجها لفلورا , لكن, بعد العشاء, عندما بدأ المدعوون يتنقلون ويجلسون جماعات جماعات في غرفة الأستقبال , تمكنت فلورا من الأسراع نحو ألان.
كان يثرثر مع بعض رجال الأعمال الذين راحوا يمدحون العطر الجديد, فلورا تتسلى بمراقبة هؤلاء الأشخاص الفضوليين , وكانت تغرق في الضحك عندما أخذ السيد دوفيرو , وهو أحد المنافسين لزوجها , يد فلورا وراح يشم العطر.
" آه".
راح يفكر مليا ثم قال:
" أنها علامة غالية ومنعشة وناعمة".
وفي تحد, أضاف:
" تفاح البرغموت , زهر البرتقال, حامض , فيرفين , ليمون أفندي!".
" ماذا أيضا؟".
وأمام هذا اللغز المحير , بدا السيد دوفيرو وكأنه معرض لنوبة قلبية, وراح السيد دي أسارت , وهو مدعو آخر يشرح لفلورا التي كانت مستغربة:
" السيد دوفيرو يتباهى بأنه ذو بصيرة يا كونتيسة, يرفض الأعتراف بعجزه أمام تقدير المحتويات التي أستعملها زوجك لعطره الجديد , أن على الأختصاصي أن يكون قادرا على تحديد كل الفوارق الدقيقة لخلاصة الزهر , ومعرفة ما أذا كانت طبيعية أو أصطناعية , لكن الخليط الذي يمزجه ألان لا يمكن تحقيقه لأنه بالغ النفقات".
وفرحت فلورا لمعرفتها أن ألان ما زال يحافظ على مهارته التي أعطته شهرة واسعة , كانت على وشك تقديم الشكر الى السيد دي أسارت عندما تدخل صوت سولانج في الحديث:
" هل وجدت أسما لهذا العطر , يا ألان؟".
كان السؤال تحديا , لكن ألان لم ينزعج أبدا, فأجابها:
" نعم, سأدعوه : زهرة الحب".
وفي غمرة التهاني , كانت فلورا وحدها التي لاحظت الغيظ الذي أرتسم على وجه سولانج , هي أيضا فوجئت مما قاله زوجها ولم تستطع منع نفسها من التحديق بالفتاة كي تفهمها أن ألان ليس في نيته أن يجرح شعورها , أن العطر ملك سولانج فقد أخترعه لها , وليس الأسم الذي أختاره ألان سوى لخداع أصدقائه, كانت فلورا متأكدة من هذا لدرجة أنها أنتفضت عندما سمعت دي أسارت يقول من جديد:
"آه, زهرة الحب! أسم يليق بصاحبته يا صديقي , أن أختراعك الأخير يرمز تماما الى جمال زوجتك وشخصيتها , ويستحق أن يدعى بأسمها!".
أنتفض قلب فلورا من هذا الكلام, وسمعت السيد دوفيرو يعترف قائلا:
" نعم, هذا صحيح , لم تفقد شيئا من موهبتك يا ألان".
ثم أنحنى أمام فلورا وأضاف:
" لا يمكن لأحد الشك في أن الكونتيسة زوجتك هي التي أوحت لك به... زهرة الحب! أن هذا المزيج الدقيق يعبر تماما عن شخصيتها".
كان عليها أن تسأل مهما كلفها الأمر, فقالت في صوت مبحوح:
" أنني أشكركم جميعا على مديحكم هذا , لكن هل العطر الجديد لا يصلح أيضا لبقية النساء , لسولانج مثلا؟".
واجهها المدعوون بأحتجاجات جماعية مما جعل فلورا تتراجع عن موقفها , لا شك أنها أساءت فهم نيات ألان, وتطوع دي أسارت لأن يقدم لها البرهان وراح يشرح لفلورا التي كانت تسمعه وهي في أضطراب متصاعد:
" أنت على حق يا كونتيسة, أن بعض النساء اللواتي يتمتعن بجمالك وشخيتك , يمكنهن أستعمال هذا العطر؟ لكن سولانج لا يمكن أبدا, أن نوع جمالها يتطلب عطرا شرقيا , مثلا مزيج من الياسمين والبتولي التي تستعمله الليلة".
لم تجرؤ فلورا على التطلع بألان, أنها مقتنعة تماما أن ملامحه تعبر عن شعور سيء , لا شك أنها جرحت شعوره برفضها العطر! حتى ولو أن ذلك يعني بالنسبة اليه دفعة من الدين الذي يعتبره واجبا عليه أتجاهها, فهو يستحق أن يرى أستقبالا أكثر لياقة لكرمه هذا, وهي أعطت عطره ألى أمرأة أخرى! شعرت بالندم وراحت تبحث عن طريقة لتكفر عن خطأها هذا, وبلحظة البرق , أستعادت الى ذاكرتها غرفة سولانج لا شك أن العطر لا زال مكانه! وللحال ألتفتت نحو سولانج , التي كانت تهز كتفيها في أستخفاف وتحول نظرها عن هؤلاء الرجال الذين لا يقدمون لها الأهتمام بالقدر المطلوب.
أعتذرت فلورا وأبتعدت عن هذه المجموعة الصغيرة ولم ينتبه أحد لغيابها , بسبب أنصرافهم الى الأحاديث المتبادلة , توجهت نحو الباب وهي تبتسم وتهز رأسها لمن يحييها , لكنها لم تدع أحدا يؤخرها أو يلهيها , كانت يدها على مسكة الباب عندما سمعت صوت لويس يقول وهو يضحك:
" ألى أين أنت ذاهبة في هذه العجلة؟".
تلعثمت وأحمرت وجنتاها:
" نسيت شيئا في غرفتي .... منديلي , وكنت ذاهبة لأحضاره".
قال من دون أن يبعد عينيه عنها:
" سأرسل أحدى الخادمات لأحضاره".
أجابت في توتر:
" لا تتصرف كالأحمق . أنت تعرف جيدا , يا لويس, أنني لم أتعود اللجوء الى الخدم , لأقل شيء , لا مجال لأن أكلف أحدا بشيء يمكنني القيام به".
قطب جبينه وأنحنى لينظر اليها وجها لوجه, وقال ملاحظا:
" لست أنت نفسك , هذا المساء, لاحظت ذلك خلال العشاء من دون معرفة السبب , في البداية أعتقدت أن السبب هو فستانك , لكن على ما يبدو , أن سبب تغيرك ليس ماديا , لاحظت أرتجاف شفتيك , يداك كانتا ترتجفان كلما رفعت كأسك , ومرة أو أكثر , عندما كلمتك كنت تنتفضين كأنني أقتلعتك من حلم, ماذا يجري يا فلورا؟ ما هذا التوتر الذي يجعلك تنظرين الى العالم بعينين مليئتين حنانا وأسرارا مؤلمة".
راحت تتساءل ما أذا كان رأي الناس الموجودين يتطابق مع رأي لويس , لكنها أطمأنت لأنها تعرف أن لويس بشكل خاص رجل ثاقب النظر , مثل ألان وحتى أكثر , لأنه يرى , قامت بجهد لضبط هلعها وأطلقت ضحكة خفيفة وقالت:
" أنك تتمتع بمخيلة واسعة , يا لويس! لماذا لا تهتم أكثر بالمدعوات الشابات وتمارس خيالك عليهن , أني متأكدة من أنهن سيسعدن بالتحدث معك".
ومن دون أن تنتظر جوابا, كانت قد فتحت الباب وتسلقت السلم بسرعة وتوجهت نحو غرفة سولانج.
الغرفة لا زالت كما هي, وعلى رؤوس أصابعها مشت فلورا نحو منضدة الزينة وأقفلت يدها على زجاجة العطر , حين سمع صوتا يرتفع في الغرفة الصامتة :
" هل يمكنك أن تشرحي لي ماذا تفعلين هنا؟".
ألتفتت فلورا الى الوراء لتصبح وجها لوجه , مع سولانج , التي كانت تحدق فيها في غيظ بأنتظار جواب فلورا التي قالت:
" أرجو أن تعذيني لكن, نسيت شيئا يخصني وجئت لآخذه".
" شيء يخصك؟ هنا في غرفتي؟".
أقتربت سولانج من منضدة الزينة وشحب وجهها وهي تنظر الى زجاجة العطر , فسألتها بلهجة حاسمة:
" من جاء بهذه الزجاجة الى هنا؟".
فهمت فلورا أنه لا فائدة من المواربة فأعترفت تقول:
" جئت بها قبل العشاء , لقد أخطأت عندما أعتقدت أن ألان صمم هذا العطر لك , كنت أعرف أنه يتحتم علي وضع شيء منه الليلة , بسبب أصدقائه, لكنني كنت مصرة أن تحصلي على الباقي".
تنفست عميقا وأغمضت عينيها لفترة ثم أضافت:
" لكنني ما سمعته منذ قليل , أفهمني أنني أرتكبت غلطة كبيرة , أن العطر صنع من أجلي , ولذا جئت أستعيده".
زفرت سولانج بقوة, وظهر الغضب على وجهها الجميل وقالت:
" من الصعب أن أسامح ألان , لقد جعلني أظن أن هذا العطر خاص بي , وأنتظر مناسبة كهذه ليقوم بحيلته الجهنمية!".
سألتها فلورا وهي تتراجع أمام لهجة صوتها العدائية:
" تريدين القول أن ألان تصرف عمدا , من أجل أن يجرح شعورك؟".
" هل هناك شيء غير ذلك, فهمت أن لديه شيئا سريا عندما أراد التخلي عن خدماتي والأستعانة بالآخرين , لكنني لم أكن أصدق أنه يريد خداعي هكذا ! خلال الأسابيع الماضية , كدت أموت من الضجر في المعمل, وكيف كان جزائي ؟ أهانة من كونت لا يرحم , ولا تستكين أهانته ألا بعد أن يفرغ كل ما في جعبته من شتائم".
أستشفت فلورا بريق أمل , فسألت في صوت متردد:
" هل تريدين القول أنك , خلال الأسابيع التي أمضيتها في المعمل لم تكوني معه الا نادرا؟".
أرتسمت على شفتي سولانج علامات الأشمئزاز وقالت:
" بالطبع , يا عزيزتي , أنها جزء من العقاب , أراد الأنتقام من أخطاء خيالية! لكن لا تظني أن كل شيء أنتهى بيننا , لا تتوهمي , أنظري الى الحقيقة بلا خوف! لماذا يعتبر هذا الأنتقام ضروريا ؟ رجل لا يشعر أتجاه المرأة الا باللامبالاة هل يقوم بكل هذا المجهود ليعذبها؟".
أبتسمت سولانج وتأكدت من أنها توصلت الى تحقيق هدفها وأضافت:
" ألان وأنا , متفاهمان كما يجب, أن علاقتنا من نوع الحقد العاطفي , هذا شيء يختلف تمام الأختلاف عن الأنفعال التافه الذي تسمونه أنتم الأنكليز , الحب, وأذكر أنه سيعود اليّ عندما أريد ذلك , ومهما فعلت الكونتيسة الأم لتذكره بواجباته أتجاهك , فأن العلاقة التي تربطنا هي أقوى بكثير من روابط الزواج , وهو يعرف ذلك والكونتيسة أيضا, والآن جاء دورك لتعرفي".
هزت فلورا رأسها , الأقناع بكلمات سولانج بهرها , وخدّرها العذاب الى درجة لم تعد تطيق الأستمرار في سماع كلماتها , كيف يمكنها دحض هذه التصريحات وهي تعرف مسبقا أنها حقيقة؟ أن طبيعة ألان المعقدة تجعله يشعر باللذة , وهو يعذب حتى أقرب المقربين أليه , تجربتها في أنكلترا أكبر دليل على ذلك, لأسابيع كانت هي وحدها تحمل نتائج مزاجه المتقلب , ألم ترك منذ البداية أن هناك علاقة حميمة بين سولانج وألان أشد عمقا مما كان يبدو للوهلة الأولى؟
أنتصبت فلورا وأستعدت للخروج , كانت سولانج تراقبها وأبتسامة رشيقة ترتسم على شفتيها , ولما وصلت فلورا الى الباب سألتها سولانج في سخرية:
" وعطرك؟ أليس هذا ما جئت من أجله؟".
وأستعانت فلورا بما تبقى لها من كرامة لترد عليها في هدوء:
" أشكرك , لكنني أحب أن أقدمه أليك , وأرجوك أن تقبليه فلا أنوي أستعماله أبدا".
وبعد أنصراف فلورا , أختفت الأبتسامة من وجه سولانج, المدعوون بدأوا بالأنصراف , فقررت سولانجألا تنزل من جديد , كان نظرها على الزجاجة الصغيرة , أخذتها بيدها وتأملتها مطولا , ثم دخلت الحمام.
فلورا, هي أيضا , شاهدت أنصراف المدعووين , دون الأشتراك في مراسيم الوداع , وعرفت أنها ستجد أعذارا تقدمها لتغيبها , فأتجهت توا الى غرفتها وأقفلت الباب شاعرة بأرتياح وأنفراج , لم تعد في حاجة الى التظاهر بأن الأمور بينها وبين ألان , فالجهد اللازم لتمثيل دور الزوجة والزوج المحبين كان صعبا ومرهقا أكثر مما كانت تتصور بكثير.
راحت تستعد للنوم , لكن وقتا طويلا مر وهي في أنتظار أن يتغلب عليها النعاس وتنام , لكن من دون جدوى.
حاولت بصعوبة ألا تفكر بالمقابلة التي جرت بينها وبين سولانج , عادت كلمات سولانج تقلقها, أن طبيعتها العادلة تتمرد أمام فكرة تصديق سولانج كليا, من دون أن تطلب من ألان تأكيد هذه التصريحات , أنه أنسان صادق وشريف ولا يمكنه أقامة علاقة مع سولانج وهو ما زال زوجها , صحيح أنه قبل الزواج أفهمها بوضوح أنه لا يطلب منها الحب وليس عنده ما يعطيه , غير أنها كانت مقتنعة تماما بأنه يحترمها , وهو مصمم على ألا يجعلها تندم على قبولها أن تصبح زوجته , كانت تتعلق بيأس بهذه القناعات , حتى تجد الشجاعة , هل تضع ألان أمام الأمر الواقع : عليه أن يؤكد كلمات سولانج أو ينفيها .
سمعته يمر أمام باب غرفتها متوجها نحو غرفته , كانت تفضل الذهاب اليه في الحال , لكن الوقت كان متأخرا والأسئلة التي تريد طرحها عليه يتقبلها أكثر في صباح الغد , حيث يمكنها , كما تأمل , أن تكون قادرة على التحكم في نفسها.
وفي هذه اللحظة بالذات سمعت طرقة خفيفة على الباب الذي يصل غرفتها بغرفة الحمام المشتركة بينها وبين ألان , أنتفضت , لكنها ظلت جامدة , عيناها على مصراع الباب , لم تسمع شيئا فأسترخت , لا شك أن الطرقة ليست حقيقية بل هي من صنع مخيلتها المشوشة , لكنها كانت قلقة في الوقت نفسه , نهضت من فراشها وأقتربت من الباب , وبعد تردد فتحت الباب ودخلت.
في الجهة الثانية من غرفة الحمام , شعاع نور خفيف يبدو من فتحة باب غرفة ألان , ومن فتحة الباب الضيقة , أكتشفت ما يدور داخل الغرفة : سولانج , الرائعة في مئزرها الأبيض, تقترب من ألان وتبقى لحظة بقربه من دون كلمة ثم تمد ذراعيها حول عنقه في حركة عفوية , في البداية بدا ألان وكأنه فوجىء بوجودها , كأنه لم ينتظر حدوث هذه الزيارة , لكن وجهه تغير فجأة تحت تأثير الفرح الكبير , وفهمت فلورا في هذه اللحظة بالذات أنها أمام عاشق ولهان.
وعندما وضع ألان ذراعيه حول سولانج , لم تعد فلورا قادرة على التحمل أكثر من ذلك , فتراجعت الى الوراء , لكنها سمعت صوت ألان يهمس في أنفعال قوي:
" آه يا حبيبتي لو تعرفين كم كنتمشتاقا أن آخذك بين ذراعي من جديد!
دخلت فلورا الى غرفتها في خطى مترنحة وقد أختل توازنها وألقت بنفسها على السرير , عيناها الحزينتان بقيتا تراقبان السقف فوق رأسها , كأنها تبحث عن حل للمشكلة , أصبحت فجأة مستعصية الحل.