كاتب الموضوع :
anodh
المنتدى :
من عيون الشعر العربي والعالمي
قراءة سليمان الفايز
..............
نختلف كثيرا حول رواد التجديد في القصيدة الشعبية غير أننا نتفق جميعا على الحميدي الثقفي كاسم وضع بصماته الواضحة على المعمار الفني للنص الشعبي واستطاع بلغته الواضحة البسيطة أن يثبت للجميع أن التجديد ليس التهويم في أودية الغموض أو رفض البناء التقليدي .. استطاع أن يثبت أن التجديد لحمة متكاملة تبدأ بالرؤية و ( استنباع المعاني الحية من الشتات ) وتمر بما يلامس همومنا المنطلقة من التغيرات الحادثة في حياتنا ومن حولنا ومدى تأثيرها علينا بصورة تتحدث عنا ( ماضينا .. حاضرنا .. مستقبلنا ) :
بلشت بعرفنا الفاضل ..بسحر الخاتـم المعمـول
عطوني حب واخذوا ماغلى من تركة اجـدادي !
سيوف معلقـة وخيـام ودلال وسـروج خيـول
مرابطها خشـب وتقاعـدت فـي قرنهاالحـادي
تموت الخيل عطشا في ( المذاود) والشعاب سيول
تلحفنا جلـود احلامنـا ... فـي المرقدالهـادي
أحبك في الشتا والصيف ..أحبك في شهر ايلول !!
أهالينا بخير ... تزوجـت هنـد ونجـح شـادي
وحنا صابريـن وننتظـر سيـف الله المسلـول
يجينا من بلاد الشـام يقفـل موجـة الـرادي !]
وتنتهي بما لاينتهي من الرؤى الممتدة القابلة للحياة غير المحنطة .. مع بقاء رؤيته الخاصة وتجربته الخاصة وصبغته الخاصة على ذلك النسج والبناء العام .
المعاني تشغل الحميدي الثقفي كثيرا لكن موضوعها وإطارها العام عنده يتمحور في كلمة واحدة هي ( التغيير ) ويمتد عبر مساحات مختلفة وفضاءات متباينة تلامس فينا كل شيء رصدا لحذاء السائرين وخبز المتعبين وحياة المعدمين وتسجيلا لحياتنا المكبلة بالجدران التي قال هو عنها :
امدد اقدامي
جدار قدامي
وجدار من خلفي
اموت رغم أنفي ..!!
مجموعة من الحواجز التي تحد من الانطلاق وتجعلك منكمشا على جسدك .. فضاؤك لا يتعدى مساحة الكاد .. وتبقى اللغة لها وظيفة أخرى غير وظيفتها الحقيقية لعلنا نلمسها بوضوح وجلاء من خلال هذا النموذج .. فالاقدام ليست الأقدام إنها رمز الانطلاق.. والتمدد ليس مجرد التمدد الحسي بل هو الرغبة في التحرك والتغيير .. والجدران ليست سوى الحواجز .. سوى الأنظمة البائدة .. سوى التسلط بمحصلته النهائية .. وقدام ليس سوى المستقبل الذي تتضح معالمه ويتخذ نفس ما للخلف من قيود .. والخلف ليس سوى الماضي وما فيه من إرث .. ثم أخيرا الموت ليس هو الموت الحقيقي بل هو معنى يكتنز الموت ( وإنما الميت ميت الأحياء ) بمثل هذا تتشكل اللغة عند الحميدي الثقفي لغة الاحتجاج المسالم .. الانسان الذي يريد أن يبقى على وضوحه ومبادئه :
تعودت اموت بصدق وارحل بلا تعليق
كفاني أحس بلذة الموت فـاوراقـي
ولا احط مننفسي وثن يشرب التصفيق
على شان يدخل برزخ النور لاعماقي
...........
الموت كرمز في لغة الحميدي الشعرية :
يتناثر ( الموت ) بين ثنايا نصوص الحميدي بصورة كبيرة.. لكنه نادرا ما يعبر به عن الموت الحقيقي وإنما يعبر به عن حياة الجمود والذل :
يارب هذا الطريق افعى تفح وعتمة اعشاب
ظلمه وطين وبلل وعظام ناس اموات حيه
.
.
ياموت وبيوت حارتنا علب سردين وتراب
ترى التعدّي لغيـر اوّل قرابينـك زريـه
.
.
ايه احبك ولا للحب صحوة ضميـر
أي صحوة ضمير اللي تميت القلوب
.
.
جيتك خياليٍ دخل خارج محارات الردى
جيتك وبعيوني قرى ترفض حياة الميتين
ثم إن هذا الموت يكون رغم انفه فيما يأتي من الخارج :
امدد اقدامي
جدار قدامي
وجدار من خلفي
اموت رغم أنفي ..!!
.
.
أقول الصوت ميلادي ويرتد الصدى قبـره
نهار ابيض تشرد واغترب في ذاكرة أعمى
.
.
تموت الخيل عطشا في ( المذاود) والشعاب سيول
تلحفنا جلود احلامنا ... فـي المرقـد الهـادي
.
.
على جسر الضياع المنتمي للخوف والمجهول
افتش عن سطور الموت عن تاريخ ميـلادي
وباختياره فيما يأتي من الداخل :
صحيح النار تاكلني .. ولكني عرفت اشلون
اموت .. وكيف يختال الرماد بعزة اشعالـه
.
.
اموت عطشان ضامي والمطر ديمه
وارحل وانا ماخضعت لغير خالقني
وعلى كل الأحوال ( الموت ) يعني في شعر الحميدي القدر المحتوم منذ الميلاد :
على جسر الضياع المنتمي للخوف والمجهول
افتش عن سطور الموت عن تاريخ ميـلادي
.
.
أقول الصوت ميلادي ويرتد الصدى قبـره
نهار ابيض تشرد واغترب في ذاكرة أعمى
ومابين الميلاد والنهاية مساحة ممتدة من ( المحاولة ) للتمدد وأخذ النفس وممارسة الركض .. لكن الموت هو النتيجة الحتمية ..وباختصار الموت في شعر الحميدي أن تبقى لاتتحرك .
هل الدم ممهد الموت أو هو الصورة الظاهرة للصراع ؟ :
وان صرخت.. الموت لاتنزف دموعك
مانـزف طاهـر كمـا دم الضحيـه
فدمهم / دموعهم .. المظهر الخارجي المزيف لهم .. المظهر المخادع .. المظهر غير النقي غير الطاهر ..:
أما دمي فهو عطرٌ برائحة المساء عطر بحجم مايعطر بحر :
أيه وتعطروا دمي خجل وانكساف
مثلما البحر يتعطر بدم الغـروب
وربما استحال هذا الدم ليكون المجني عليه هو الجاني !! :
ذبحت خيل الهوى .. واسقيتها دمه
خليتها غصب تحمل جثة ( الجاني )
ولربما كان بمثابة العلامة التي لا تدل على الحقيقة كما هي الحقيقة :
أحكي وكيف أحكي بما تخفي الروح
وانا يدي حمرا بلون الـدم الحـار
.
.
كن من روّع ضبى خبت دمي واجفلـه
وارتبك في حانة الصيف طاروق الصرام
ولربما كان التشكيل والقوة المحركة :
الايادمي .. يادم الرازقيه
مية عام ماعتقتّك المغارس
الا يادمي طلقة البندقيه
حشا .. مايبورد بها كل فارس
.
.
بعدها صار البحر صمتك فراغك
والشجر هذا الدم المورق شماغك ..!
.
.
وش لون تمطر سمانا .. والسحاب أحمر ؟!
والبـرق يدمـي جوارحـنـا باصابيـعـه
دمنا غيث الورق.. عطر الدفاتر
فرحة المحزون في قمة حداده
.
.
والجرح ينزف دم ..
ومابين هذا .. وذا ..
شوف المسافه كم ..؟!!
الحميدي الحلم والصورة !
الرؤية والصورة في الشعر المعاصر حلم والحلم ليس له حدود .. فهل تمرد الحميدي على ما ألفته المسامع والأفهام .. وما حدود هذا التمرد .. هل هو التمرد المرتبط أم المنفصل ؟ مساحة أسئلة تقودنا للحرث من جديد ..
الغموض في شعر الحميدي ليس غموضا إنه ( مملوء أدبي ) :
ياسيدي الجمهور ..
لولا عذوبة مانقول ..
كان الحقول ..
صارت أراضي بور ..!
( ياسيدي الجمهور ) ..
ان مافمهمت اللي نقول تقدر تطفي النور ..!!
إنه غموض ناتج من تعقد التجربة وتكثيف الرؤية .. وهو على المستوى اللغوي والمعنوي بمنتهى الوضوح والمباشرة .. غير أن خلفه مملوء أدبي .. النص عند الحميدي قطعة تستجيب لكل استثمار .. النص عنده كالحليب تستخلص منه اللبن والقشطة والزبادي والزبدة غير أنه يبقى نص أبيض لا يبين أن داخله كل هذه الأشياء حتى تخضعه لخض أكثروأكثر .. لكنك قد تتعب وقد يستحيل هو لشيء آخر غير ما ذكر أعلاه .. تحملها مثيرات ومحرضات لغوية ذات قيم أسلوبية وتقنيات تعبيرية عالية .. الحميدي وحده على ماأعتقد من أحال لغة اليومي إلى شماغ يعتمل فوق الرؤؤس :
وكل قطرة دم في قلبي تصيح ..
وتقول : طر فوق وتعال ..
طر فوق وتعال .. طر فوق وتعال ..تعال ..
ورحت اطير .. اطير ..
حتى وصلت لجنة ايدينك جريح ..
ولو مالجراح ماحمحم الريحيان بين اصابعي ..
ولانبت في دفتري عشب الصباح ..!!
الحميدي قضيته قضية الإنسان المعاصر ومشكلاته .. وهي القضية ذاتها التي عبر عنها الشعر العربي المعاصر القضية التي عبر عنها بعمق صلاح عبد الصبور مثلا .. وهي الرؤية التي انتهجها وقننها أليوت : ( الشعر يجب ألا يبتعد ابتعادا كبيرا عن اللغة العادية اليومية التي نستعملها ونسمعها ) قارئ النص الثقفي يقول بينه وبين نفسه : ( هكذا كنت أتحدث لو استطعت أن أقول شعرا ) .
.
.
|