واستدار ببطء ونظر الى لويزا التي تملكها الذعر فلم تستطع النطق بكلمة واحده تهدئه بها او تفهمه مقدار قلقها لصداع زاكاري. شعرت ولسبب ما ان عذرها لن يبدو صحيحا اذا فحصه دايفيد بنفسه , فلم يكن يبدوعلى زاكاري انه صريع الألم .
بعد سكوت طويل قال دافيد ببروده :
- حسنا , هذا يفسر كل شيء , اليس كذلك ؟ لقد ادركت الحقيقه اخيرا . ومن المؤسف انك لم تخبريني من قبل. لقد ضيعت كثيرا من الوقت في جهل ما يجري بيننا , لابد انك كنت تسخرين مني ...
فهتفت بتعاسه :
- لا يا دايفيد , لقد فهمت الامر خطأ . صدقني !
- لا اظن ذلك .
- دايفيد , ما أردت ايلامك .
فأخذ ينظرفي عينيها الزرقاوينالداكنتين القلقتين بصمت ,ورد :
- انا اصدقك ,وهذا مالا يفعله معظم الرجال , فأنااعرف قلبك الرقيق ,يا لويزا لكني تمنيت لوانك اخبرتني الحقيقة .
ثم استدار مبتعدا.ركب سيارته وانطلق بها وهي واقفه تنظر اليه وتلوم نفسها .
انه على صواب . كان عليها اخباره بأنهاتحب سواه . ماكان عليها ان تدع علاقتهماتستمرشهورا وهي تعلم ان لامستقبل لهما معا .
تمتم زاكاريمخترقا الصمت :
- افهم من هذا انه حبيبك .
فنظرت اليه باستياء بالغ وسألته بغضب :
- هلاّ فسرت لي كيف شفيت نفسكمن ذاك الصداع المستعصي يا سيد ويست ..
نظر اليها وابتسم ابتسامه مخادعه :
- يبدو انه زال.
فهتفت بصوت ثاقب وقد توهج وجهها :
- زال ؟
- نعم وهذا غريب اليس كذلك ؟منذ لحظة كادت شدة الالم تعميني .واذا بي اسمع صوت سيارتك ففتحت الباب ورأيتك تتشاجرين مع ذاك الرجل . لم اكن اعرف ما يجري ... ظننت في البدء انه صدمتك بسيارته ... او شيء من هذا القبيل . خرجت لأساندك فأدركت انكما تعرفان بعضكما البعض , وان الامر شخصي اكثرمما ظننت . نظر اليّ وكأنني حشرة ازعجته .كنت انت تتلعثمين في الكلام وكأنك تلميذه وتقدمين اعذارا لتبرري قدومك .
ردت عليه بغضب :
- حضوركلم يسهل الامر , اليس كذلك ؟ كان بأمكانك على الاقل ان تذكرله انك اتصلت بي لاحساسكبالمرض الشديد .
فقال محتجا :
- حاولت , لكنه اسكتني واخذ يصرخ بك . على أي حال .. .
وارتسمت على وجهه ضحكه ساخره واكمل :
- كان صداعي قد زال تقريبا , فشعرتانه لن يصدق ايكلمة سأقولها .
لم تستطع لويزاانتنكر انه محق لأن دايفيد كان سيعتبره كاذبا . اذ لم يبد عليه المرض الشديد .فوجهه متورد , وعيناه متألقتين .
فردت ببروده :
- انا نفسي ارى ذلك صعب التصديق . الشفاء بمعجزة امر لا يصدق بسهولة . يا سيد ويست .
تلاشت ابتسامته وتوترت ملامحه , ثم حدق فيها بأمعان .واصر قائلا :
- انه صحيح على أي حال . لا ادري لم زال صداعي فجأة . ولكن هذا ما حصل .ربماكان التوتر الذي تملكني عندما وجدت نفسي وسطشجار عنيف , هو الدواءلدائي .
شهقت وشعرت برغبة في ضربة :
- آه .. ما رأيك بشجار اخر اذن ؟ اشعر برغبةفي التشاجر معك .
رمقها بطرف عينه وقال لها ممازحا :
- انه امر واعد على ما يبدو .
اخذ نبضها يتسارع وعجزت عن النظر في عينيه فحولت نظراتها عنه . ثم تمتمت مخفضة اهدابها :
- لقد ضيعت وقتي فقط .
- آسف , فمنذ ايام وانااقضي وقتي في التنقل في ارجاء البيت مكتئبا , ولعل الصداع ناتج عن السأم . قبل الحادث , كنت اعمل يوميا مع الصباح وحتى المساء .. كنت اعمل طوال النهار . ومنذ ان خرجت من المستشفى اعتدت ان اطوف في انحاء البيت . وان اقوم بأعمال غريبه . لكنني لم استعمل ذهني قط . فهل هذا ما دفعه الى التمرد .
- وربما بالغت في وصفك لعوارض الصداع .
- لا , لم ابالغ . كان الصداع شديدا حتى اني فكرت مرارا في ضرب رأسي بالحائط .
صدقت كلامه لكن غضبها لم يزل :
- لم افهم بعد لماذا لم تخبر دايفيد بالحقيقه , سواء صدقك ام لم يصدقك ... بدلا من ان تتركه يغادر المكان بهذا الشكل ! الا تظن انك بالتالي اذنبت بحقي ؟
- ربما كنت فعلت لو لم يتكون لدي انطباع بأن قلبك لن يتحطم اذا قطعت علاقتك به .
- انت لا تعرف شيئا عن هذا الموضوع .
- لدي اذنان ولو كنت تريدين حقا ان تسترضيه وتعيديه اليك لفعلت .
فعضت على شفتها .. انه فطن للغاية وهذا ما اقلقها . فقد يستنتج امورا لا تريده ان يعرفها . شعرت بالخوف من ان يتكهن شعورها نحوه فالمذلة ستفوق قدرتها على الاحتمال .
- حسنا , على أي حال , ارى انك لم تعد بحاجه اليّ ولهذا سأعود الى بيتي .
واستدارت لتتوجه نحو سيارتها , لكنه امسك بذراعها قائلا :
- لا تذهبي .
رفعت عينيها اليه وقد بان الحذر فيهما . كانت ابتسامة زاكاري صبيانيه , تتراوح بين الاسف والرجاء :
- مضت ايام لم اتحدث فيها الى احد . هل اكلت ؟ ليس لدي طعام كاف في المنزل . لكن لدي بيضا ويمكنني تحضير طبق عجة . لاتتركيني وحدي يا لويزا .
كانت هذه هي المرة الاولى التي يناديها فيها بأسمها فتملكها الذهول .
- عليّ ان اعود .
كانت متلهفة الى البقاء . لكنها خافت من ان تزداد آلامها . فهو مغرم بأمرأة اخرى واهتمامه بها اخوي . انه بحاجه الى بعض الصحبة وهي افضل من لا شيء .
فقال وهو يأخذ حقيبتها من يدها:
- يمكنك طبعا , ان تبقي هنا ولو لساعه , وماذا تحملين في الحقيبة ؟ آلات التعذيب ؟
- معدات طبية . ظننت ان وضعك يتطلب بعض الفحوصات .
وحاولت ان تستعيد الحقيبة منه . لكنه ابعدها عن متناول يدها :
- حسنا . يمكنك معاينتي لتتأكدي من ان الصداع لن يعاودني . اليس كذلك ؟ ثم احضر انا شيئا للعشاء .
فردت بشيء من الحرج :
- حسنا , احضرت معي طعاما .عندما اتصلت بي كنت قد انتهيت لتوي من طهي طبق فأحضرته معي . فكرت في انني استطيع تسخينه هنا اذا ما تأخرت عندك ... لانتظار سيارة الاسعاف مثلا ... .
فنظر اليها وقد ضاقت عيناه :
- هل ظننتني مريضا الى هذا الحد ؟
- من الحكمة الاستعداد لأي طارئ. بدا من صوتك وكانك تنازع .
- هذا ماكنت اشعر به حين اتصلت .
- هل الريزوتو في الحقيبة ايضا ؟
- نعم .
تخلت لويزا عن المقاومة ارادها ان تسليه لأنه كان يحس بالضجر , فلا بأس . انما تعلم انه يفضل رفقة امراة اخرى , ويؤلمها هذا . لكنه ما زال بحاجه اليها . فلم تستطع السيطرة على تأثرها بوحدته هذه.. وتملكها ايضا شعور بالذنب , فهي تلوم نفسها على الحادث .
ولكن كل هذه الاعذار والحجج لم تكن تمت الى الحقيقه بصله , فهي تريد ان تكون معه . ان مجرد النظر اليها يسعدها , وساع صوته ينعش امالها ...
فلم لا تسمح لنفسها بفترة قصيرة من السعاده ؟ حتى وان كانت وهما .. او فردوسا خداعا ؟ فهي لن تفصح عما تشعر به ... ستتمكن حتما من اخفاء تلك المشاعر لليلة واحده .
قالت له بصوت هادئ ثابت :
- الطعام يكفي لشخصين , الا اذا كنت جاعا جدا .
فابتسم لها , مما جعل قلبها يخفق بين ضلوعها . يا لهذا التغيير الذي تحدثه ابتسامته في ملامح وجهه المشوه بالندوب ! هل يعتقد حقا انه بشع منفر للنساء ؟ لو انه يعرف ردة فعلها حين ينظر اليها بهذه الطريقه لأدرك مدى حماقه اعتقاده هذا .
اقترح وهو يدخل الكوخ , وهي في اثره :
- يمكننا تناول الفاكهة بعد العشاء . المطبخ من هذه الناحية .. لدي بعض التفاح والبرتقال والموز , يأتي لي احدهم بالطعام من القرية مرتين في الاسبوع ويحاسبني على الخدمة لكن الامر يستحق العناء . فهذه الطريقة توفر عليّ رؤية وجهي .حين قصدته لأول مرة , وقف يحدق فيّ ثم حاول الا ينظر اليّ مجددا . وهذا جل ما اكرهه ... الناس الذين يطيلون النظر اليّ ثم يتظاهرون بأنهم لم يلاحظوا أي شيء غير عادي في وجهي .
اضطربت ثم هزت رأسها :
- انك حقا , تتصور كل هذا . ثمة ندوب في وجهك لكنها ليست بالبشاعه التي تظنها .
مد يده فجأة وامسك يديها , فارتبكت وارتجفت اصابعها في قبضته . رفع يدها الى وجهه وهو ينظر اليها :
- المسيها .. هيا ... المسيها ثم قولي لي انها ليست ندوبا بارزة بشعه .
جف فمها وهي تمر بأناملها على وجنته . شعرت ببروز الندوب وبوخز شعر ذقنه وبقسوة فكه الذي اطبق بصبر فارغ .
لم تستطع النظر في عينيه كي لا يكتشف تأثير لمسها له عليها . وبدلا من ذلك اخذت تحدق في وجنته وذقنه وفمه فاستعرت نار الحب في كيانها وتسارعت خفقات قلبها .
تمتمت بصوت اجش :
- انها تجعلك تبدو كقرصان او كرجل خطير .
ضحكت ورمقته بنظرة خاطفة , لكنها تمنت لو لم تفعل .
ان ينظر اليها بحده . اتراه ادرك شعورها نحوه ؟
احمر وجهها عندما قال برقه :
- لكنني اريد ان ابدو جذابا بنظر النساء وليس قرصانا .
انه يبدو كذلك ! هذا ما خطر في بالها , فابتلعت ريقها وهي تتلهف لتمرير اصابعها على فمه . وعاد يقول ساخرا :
- ارى انك لن تقولي لي اني جذاب . فأصابعك هادة ملطفة .
ابعدت اصابعها عنه فضحك وفجأة قالت :
- اكاد اموت جوعا , ومن الافضل ان اعيد تسخين الريزوتو .
تأملت المطبخ , ثم هتفت :
- آه اشتريت فرن جديد ! ام ان الشرطه قبضت على اللصوص واعادت لك اغراضك ؟
هز رأسه لعلمه انها تعمدت تغيير الموضوع .
- انه فرن جديد . المواصفات نفسها , فقد تطلبت مني تعلم كيفية عمل الفرن الاول وقتا طويلا ولا اريد تكرار التجربة .
- حسنا , يمكنني اعادة تسخين الطعام في دقائق معدودة .
كان المطبخ عصريا , اما جدرانه فمطلية بلون اصفر فاتح مما اضفى عليه بهجة ونورا , وقد صنعت الخزان من خشب الصنوبر .
كان في المطبخ , ايضا مائدة وكراسي من خشب الصنوبر. فسألها :
- هل يمكننا تناول الطعام هنا ؟
- اولا , عليّ ان اقيس ضغطك ونبضك فاذا كنت على ما يرام سنأكل .
جلس على كرسي قرب المائدة , فأخذت تراقب نبضه الذي بدا سريعا بعض الشيء . كما كان ضغطه قليلا . اما حرارته فطبيعية تقريبا . قالت له وهي تنهض :
- ليس ثمة ما يستدعي القلق.
- آسف لأني دفعتك للمجيء بسرعه . صدقني .
عسلت يديها فوق الحوض وهي تجيبه :
لا بأس . اظنك على صواب , وصداعك سببه السأم وعدم الحركه . يجب ان تعود الى العمل بطريقة ما , يا سيد ويست .
- اسمي زاكاري. لا يمكنك ان تستمري بمناداتي بالسيد ويست , يا لويزا .
ركزت نظرها على الفرن للحظة , وسرها انها لا تواجهه . فتحت الفرن ووضعت الريوتو فيه , لكنها لم تبدأ بتسخين الطعام .
- هل لك ان تعد المائدة من فضلك ؟ فهذا لن يتطلب سوى دقائق معدودة . هل لديك خضار ؟
عملا معا بانسجام , ولم يكثرا من الكلام , وبعد دقائق جلسا لتناول الطعام .
علق زاكاري , وهو يضع صحنه في غسالة الاطباق التي يتمكن الصوص من حملها :
- لذيذ ! لم اكل ريزوتو بالخضار من قبل . هل هو من اختراعك ؟
- انني اكتفي بوضع ما اجده في الثلاجه .
- انت طاهية بارعه . اظن ان هذا متوقع منك كممرضه .
- وما علاقة التمريض بالطهي ؟ لم يعلمونا الطهي .
- عليك ان تكوني هادئة صبورة عند ممارسة التمريض . وهذا ضروري عند الطاهي .
- لا اظن ذلك . كان احد الطهاة المشهورين في لندن في قسمي يوما وكان ذا طباع حاده جدا . دخل المستشفى لأنه تشاجر في المطبخ مع طاه صيني . وانتهى بهما الامر الى التراشق بأغراض المطبخ . فتلقى مريضي ضربة بالساطور بعد ان قذف الصيني بسكين تقطيع اللحم واخطأه .
ضحك زاكاري:
- انت تمزحين .
- لا .
ونظرت اليه يقشر برتقاله بأصابعه الماهرة , فتملكتها رجفة صغيرة غريبة . فمجرد النظر اليهما يشعرها بوهن في ركبتيها .
رفع نظره اليها وسألها :
- ألن تتناولي بعض الفاكهة ؟
اسرعت تخفض بصرها وتمد يدها الى تفاحة :
- نعم طبعا .
ثم قالت تغير الموضوع :
- هل فكرت في التويم المغناطيسي ؟ قد يساعدك على حل تلك العقدة النفسية التي تمنعك من العمل .
فاستفهم مقطبا :
- اتظنين ذلك ؟ لا احب فكرة تنويمي مغناطيسيا . اخشى ان يكشف افكاري كلها شخص آخر .
- اثناء التنويم لن تخبر الطبيب الا ما تريد ان تخبره به . فهذه الطريقة ناجحه كما نجح الوخز بالابر الصينية . لي صديقة كانت تعاني من الربو . خلصها العلاج العادي من العوارض فقط , ولكنها اضطرت الى زيادة جرعات الدواء في كل مرة , ولمدة طويلة مما شكل خطرا عليها . واخيرا نصحها احد اطبائنا بان تجرب الوخز بالابر الصينية . وبعد شهرين استغنت صديقتي عن العلاج كله . صحيح انها تتعرض لبعض الانتكاسات , لا سيما حين تتوتر اعصابها , لكن العلاج بالابر الصينية ينجح دوما ولا تحدث معه اشتراكات كالعلاج التقليدي .
- لم اتوقع نتيجه كهذه من ممرضة في مستشفى !
- آه تعلمنا في هذه الايام ان بعض العلاجات البديلة قد تساعد المريض
- حسنا ٍسأفكر في ذلك جديا . اما الآن , فسأحضر القهوة . اذهبي الى غرفة الجلوس وارتاحي قرب المدفأة .
جالت في ارجاء غرفة الجلوس التي اقتصرت الاضاءة فيها على مصباح واحد بجانب الاريكة المواجهة للمدفأة .التقطت كتابا ملقى على ذراع الاريكة , وجلست تتصفحه باهتمام .
- ارجو الا تكوني قد صيعت صفحتي .
لم تسمعه يدخل وفاجأها بكماته فانتفضت مذعوره :
- لا . وصلت الى الصفحة 73.
احمر وجهها وهي تضع الكتاب من يدها مفتوحا على تلك الصفحة .
- هل تستمتع بقراءة هذا الكتاب ؟
- جدا . لابد ان رحالة العهد الفيكتوري كانوا اشداء . فترحالهم الى تلك الاماكن البعيده على ظهور الخيل او سيرا على الاقدام في غابات افريقيا مشقة صعبة . كما انهم لا يحملون غالبا سوى القليل من الادوية , فيتعرضون بالتالي للأمراض الفتاكة .
- كان عليهم ان يكونوا اشداء حتى في اوطانهم , نظرا لانتشار امراض التيفوئيد والكوليرا . فزوج الملكة نفسه مات بسبب التيفويد دون ان يستطيع الاطباء انقاذه .
فضحك معلقا :
- كان عليّ ان ادرك انك تعرفين تاريخ الطب كله ! وفي الواقع , لم تكن الرحلة الى المجهول اخطر من حياتهم العادية في الوطن .
- هل انت تبالغ مجددا .
- اتنعتيني بالكذب يا ,امرأة ؟
طرح سؤاله هذا بغضب ساخر ومد يده ليناولها فنجان القهوة .
عكست النيرا ظله على السقف ... فبدا اسود ضخما هيمن على المكان ... فحبست لويزا انفاسها . لقد ملأ الغرفة بحضوره كما ملأ حيتها من قبل . ولم يعد في العالم ما يهمها سواه .