وقفت بدورها ووضعت كأس العصير على المنضده بجانبها :
- جأت اتضرع اليك ... اعلم ان اللوم يقع على ابي , وهو لا يعترف بذلك ولكنك .. ستشفى تماما يا سيد ويست , صدقني . لدي خبرة واسعه في هذا المجال . بالرغم من ان التحسن بطئ الا انك ستعود في النهاية كما كنت .
- لن يكون وجهي طبيعيا ابدا .
بل زاكاري ذروته . ورفع قبضته وكأنه يهم بضربها . سكتت قليلا مقطبة ثم قالت بصوت بطئ جاد :
- انت مخطئ . يمكنني ان افهم السبب ولكنك مخطئ يا سيد ويست . سيستغرق الامر سنه او نحو ذلك , لكن الجراحه التجميلية تقوم بالمعجزات , لا سيما ان كنت بين يدي اخصائي لامع , وانا اعلم انك كذلك . انه جراح ممتاز ذائع الصيت في البلاد .
- ومع ذلك لم يزعم انه سيتمكن من ان يعيد الي وجهي كما كان !
وضحك زاكاري فجأة حين تذكر دانا , واضاف :
- كان يجب ان تري وجه اخر صديقه لي حين زارتني بعد عمليتي الاخيرة ! ظننت انه سيغمى عليها .
اضطربت لويزا وازداد شحوبها وهي تحدق فيه بثبات :
- انا واثقه من انها كانت قلقه عليك بوحسب . انا لا انكر ان العلاج سيكون بطيئا لكنني اؤكد لك انك مع الوقت ستستعيد وجهك القديم .
- لا تكذبي عليّ. انا اعرف ما اراه في المرآة فبشاعتي لا تضاهى , وسأبقى هكذا الى الابد . لن يغمى على امرأة حين تراني الا رعبا كما حدث لك .
احمر وجهها وحولت نظراتها عنه :
- انا لم ...
- بلى . فقد توهج وجهك حين عانقتك فاضطررت لحملك الى هنا .
- لم يكن هذا بسبب ...
ضحك زاكاري غاضبا , وقال :
- بل كان , فلا تزعجي نفسك بالتظاهر بالعكس . انني اعرف سبب اغمائك .
اسبلت اهدابها وتوقفت عن الاجتجاج واخذ ينظر اليها بسخرية.
ليقول اخيرا بايجاز :
- انا لا الومك , فأنا اتأمل وجهي في المرأة يوميا . ويمكنني ان اتفهم سبب شعورك بالغثيان حين لمستك.
فانفجرت قائلة :
- لا .
ورفعت نحوه عينين يفيض منهما كدر وأسى واضحين لم يستطع الشك في صدقهما :
- ارجو صدقني . لم يكن ذلك شعوري , على الاطلاق .
تعب زاكاري من هذا الحديث . فهو يفضل نسيان ماحدث له . وكان يحاول جاهدا ان يستعيد حياته الطبيعية ز وهكذا قال بصبر فارغ :
- لا بأس فلتنس ذلك . ولنعد الى حضورك , والذي تريدينه مني , يا اخت جيلبي؟
- انا لست واثقة من ...
وتلعثمت ثم تنهدت :
- هل اخبرك محاميك ... هل تعلم ... ؟
- تكلمي ,هيا .
- نسي ابي ان يجدد بوليصة التأمين ضد الحوادث .
حدق فيها غير مصدق . لقد امضى في المستشفى فترة طويلة ترك اثناءها تفاصيل الاجراءات القضائية لمحاميه . ورفض ان يناقش الامر معه بل اكتفى برواية ما حدث . لذا لم يعلم ان تأمين هاري جيلبي لا يغطي الحادث .
فرد قائلا :
- انك تمزحين !
هزت رأسها لكنها بقيت عاجزة عن النطق .
- حدق زاكاري في عينيها , في البحيرتين الزرقاوين العميقتين , لم يسبق له ان ان رأى عينين بمثل هذه الزرقة , وقد زاد من تألق لونهما شحوب وجهها . زرقة قاتمة على بياض ... ولطالما عشق التناقض .
ثم اخذ يفكر في ان شحوب وجهها طبيعي وقلقها مبرر, وان لا عجب في انها هنا تتوسل اليه ! أي نوع من الرجال هو ابوها ؟ ولماذا ارسلها تتضرع اليه بدلا من ان يحضر هو شخصيا , او يرسل محاميه ؟
وقال بصوت مرتفع :
- ما الذي جعله عديم المسؤولية بهذا الشكل ؟
ابتلعت ريقها وبدا التشنج على عنقها الطويل الناصع البياض .
- كان متوترا للغاية وما زال .. فهو يعاني من صعوبات ماليه لم يجب مخرجا لها , لذا نسي ان يجدد بوليصة التأمين . كان ينوي ذلك ولكن ... اعلم ان هذا غباء , ولكن ....
- الغباء ليس عذرا !
- انا لا اطلب منك ان تعفيه ...
- هذا حسن لأنني لن افعل . ولمَ افعل ؟
اشاحت بوجهها عنه ولاحظ عينيها المغرورقتين بالدموع .
- ستتحطم حياته اذا ما اضطر للدفع على الفور . ان بيته مرهون وكذلك مصنعه ... وليس لديه اوال في حسابه المصرفي . سيتوجب عليه بيع بيته وربما شركته ايضا . ان حكمت لك المحكمة بتعويض ضخم .
- هذه مشكله لا تعنيني , بل تعنيه هو ! كما ان الحادث ذنبه , وكذلك نتائجه .
وحدق فيها ثم اكمل كلامه ساخرا :
- لابد انك ساذجه جدا او متفائلة جدا ! فإن جئت راجيه ان اتنازل عن حقي في التعويض لمجرد انك رويت لي قصه حزينه عن تحطم حياة ابيك ...!
- ظننت فقط ان ...
فقاطعها بصوت حازم :
- لا يهمني سوى حياتي انا , وقد دمرها ابوك في الربيع الماضي .
فرخت بصوت معذب :
- اعرف مقدار سوء اصابتك , ولكنك ستشفى وبعد سنه ستعود الى ماكنت عليه .
- واكون قد خسرت سنوات من عمري ! فقد دمر ذلك الحادث العمل الذي امضيت سنوات في انجازه . كما عانيت الآم مبرحه منذ ذلك الحين , ولن تنتهي عاناتي قبل وقت طويل . حتى انني لم اعد قادرا على العمل . فأنا لم ارسم شيئا منذ الحادث . حاولت جاهدا الرسم لكن يبدو ان الحادث قتل حافزي , وفي كل مرة امسك الفرشاة اشعر وكأن يديمنفصله عن ذهني ... هل لديك ادنى فكرة عن هذا الشعور ؟ فعدم القدرة على الرسم يعني بالنسبة لي , الشلل , بل الموت .
كانت تصغي اليه وكأنها استحالت حجرا , اما هو فكان الشرر يتطاير من عينيه . فكل هذا الاستياء والغضب كان يغلي في داخله منذ الحادث , وقد شعر بالارتياح الغريب حين تمكن من الافصاح عنه .
هذه الفتاة غير مسؤولة عما حدث له , بل تقع المسؤولية على ابوها .ويبدو انها تشعر ان اباها قد تأذى , هو ايضا من الحادثه مما جعل زاكاري يجن .
- لا تطلبي مني ان اشعر بالاسى من اجل ابيك ! لو كنت قديسا لأمكنني ذلك لا أدعي انني قديس . عندما ترفع القضية الى المحكمة يتقرر التعويض وفقا للبراهين . وعلى ابيك ان يتحمل قرار المحكمة .
- ولكن لو انك فقط ...
فثار زاكاري مجددا وقال ساخرا :
- هل تظنين حقا ان بأمكانك اقناعي باسقاط حقي في التعويض ؟
ولمعت عيناه حين خطرت بباله فكرة اخرى , فأضاف :
- ام لعلك جئت تقديم لي بديلا عن المال ؟
نظرت اليه وكانها لم تفهمه , وقد بدا في عينيها الزرقاوين الارتباك .
اخذ زاكاري يضحك وراحت عيناه تجولان على مفاتن جسمها وساقيها الرشيقتين في البنطلون الاسود الضيق , وظهر في عينيه تقدير واهتمام واضحين .
فهمت مراده فاحمر وجهها , واخذت تتنفس بصعوبة فابتسم لها ساخرا ثم قال ببطء :
- آسف ولكنك لست النوع الذي افضله . فأنا افضل الشقراوات الفاتنات . انت نحيلة جدا , ولا اظنك تملكين الخبرة الكافية .
اشتدت حمرة وجهها , ورمقته بنظرات حانقه . ولو امكن للنظر ان يقتل لسقط صريعا عند قدميها في الحال , اخذ يفكر في هذا متشفيا , واذا به يتساءل عما افقده اعصابه الى هذا الحد , فجعله يرغب في تعنيفها ؟
فالذنب في ما حدث لم يكن ذنبها على أي حال ! ما الذي جعله يقدم على فعل هذا ؟ ما من داع لإهانة هذه الفتاة لمجرد ان اباها سبب الحادث .
اقدم على هذا فقط لنه شعر بوخزة اهتمام حين اخذ يتأمل جمالها , هذا هو السبب, لقد كذب حين قال انها ليست النوع الذي يفضله ,اذ ليس لديه نوع معين يفضله . كان يحب النساء وحسب .
ويمكن لهذه المرأة ان تصبح المفضله لديه , لكنها قد تفضل الموت على ذلك . لقد اغمى عليها عندما عانقها . ولو ادركت انه يشعر بميل نحوها لركذت من دون توقف ومن دون ان تلتفت الى الوراء حتى تضع بينهما مسافة طويلة.
غمغمت تقول باضطراب :
- لم اعرض عليك أي شيء من هذا النوع .
فضحك بمرارة :
- احقا .
-اردت فقط ان اقترح ... حسنا , ترتيبا بيننا ....
- بيننا ؟ وما نوع الترتيب الذي تعرضينه ؟ ام عليّ استعمال مخيلتي ؟
ونظر اليها من جديد مقيما , فردت عليه تلك العينان الزرقاوان بشرر ناري . يالها من سيدة صغيرة متزنة , حسنة السلوك ! هل لهذا اختارت التمريض ؟ هل الملابس الشبيهة بلباس الراهبات تناسبها اكثر ؟
ردت وقد احمر وجهها :
- لا بل هو بينك وابي . لو سمحت له بدفع التعويض على مراحل , لن يخسر بيته وشركته .
كان في صوتها توتر ولهفة جعلا زاكاري يشعر بشيء من العطف نحوها فقال :
- لا تخافي . انا واثق من ان المحكمة ستحكم بما يتماشى ووضعه .
- احقا ؟
لكن لم يبد في عينيها الاطمئنان .
فأضاف بمزيد من الرقة :
- تأخذ المحكمة وضع الناس في الحسبان عندما تقرر قيمة التعويض , ولا شك انها لن تدفعه الى بيع بيته .
فقالت بقنوط:
- ربما لكنك لا تفهم الوضع ... فهو مدين بمبالغ ضخمة , ما يجعله غير قادر على دفع مبلغ كبير لك ايضا و ... .
سكتت وقد تاهت نظراتها ثم اندفعت تقول :
- ويخاف ان تهجره زوجته . ان هي اكتشفت افلاسه .
فقال ساخطا :
- اذا كان مثقلا بالذنوب فهذا ليس ذنبي !
- هذا صحيح . ولكن اذا انتظرت سنة واحده قبل ان تقبض أي تعويض تقضي به المحكمة , فهناك امل كبير في الا تكتشف زوجته الحقيقة . انه واثق من ان ارباحه ستتضاعف خلال سنتين , من ثم سيصبح في امكانه ان يدفع لك تدريجيا .
- ويفترض بي ان انتظر ؟
فألقت عليه نظرة تعيسه متردده :
- هل سيكون ذلك صعبا جدا عليك ؟ هل احوالك المادية صعبة , انت ايضا ؟
- انا لا اموت جوعا . اخبريني , هل انا على صواب في تكهني بأن زوجة ابيك ليست امك ؟
- نعم لقد ماتت امي منذ سنوات .
- متى تزوج ابيك ؟
- بعد وفاتها بعامين .بدت في عينيه الرماديتين نظرة مازحة :
- وانت لا تحبين زوجة ابيك ؟
- نحن غير منسجمتين .
نظر اليها نظرة فضول وبشيء من العداء. هذا هو الوجه الذي يذكره بإقامته القصيرة في المستشفى حيث تعمل . لقد استيقظ في احدى الليالي فرأى ذاك الوجه الابيض البارد قرب سريره ,
وتلك العينين الزرقاوين الجامدتين والشعر الرفوع الى الوراء . رأى هذا المظهر الذي الذي يجعلها اشبه براهبة .لقد كرهها حينذاك من النظرة الاولى . لكنها تبدو اليوم مختلفه , وهي ترتدي هذه السترة الحمراء والكنزة البيضاء التي تلتصق بجسمها وتجعلها تبدو في غاية الانوثة .
- لم لا تحبينها ؟
فردت مدافعه عن نفسها :
- هي لاتحبني .فأبتسم وسأل :
- ولكن من البادئ , انت ام هي ؟
استطاع ان يتخيل الجفاء الذي قابلت به تلك المتطفلة . اذ لا شك ان ابها اصبح مقربا منها . منذ وفاة امها . فقد جمع بينهما الحزن , ولابد انها صدمت حين نسي ابوها حزنه وعثر على امرأة اخرى . كيف امكنه ذلك ؟
لقد طرحت هذا السؤال على نفسها مرارا وتكرارا من دون شك . اذ يفترض ان يتملك ابوها الشوق والحنين الى امها الى الابد . لا ان يتزوج امراة اخرى بعد سنتين .
اجابت وقد توتر فكها من الغضب :
- كان يمكن ان احبها لو لم تظهر بوضوح ان وجودي في البيت غير مرغوب فيه ! لم تشأ ان يرانا الناس معا . اذ قد يظنون انها اختي , فهي تكبرني بحوالي سنتين فقط .
- احقا ؟ كم يبلغ ابوك من العمر ؟
- خمسون سنة . وكان وامي صغيري السن عندما توزجا .
- وكم يبلغ عمر زوجة ابيك ؟
ستبلغ الـ30 في عيد ميلادها القادم .
اومأ وهو ينظر اليها مفكرا :
- وانت 28 ؟
- 27 .
فقال بدهشة واستغراب :
- تبدين اصغر سنا .
اذ كان يظن انها لم تتجاوز الـ25 من عمرها .
وااض بجفاء :
- لابد انه المظهر العذري .
علت حمرة الخجل وجهها فعلق ساخرا :
- العذرية ليست كلمة بذيئة كما تعلمين .
- جعلتها تبدو كذلك .
فضحك واخذ يتأمل وجهها الجميل وخصرها النحيف وساقيها الرشيقتين .
- انت حساسه جدا ازاء هذا الموضوع .
ثم سألها فجأة :
- هل انت كذلك ؟
اضطربت لسؤاله واستفهمت :
- ماذا ؟
فقال برصانه
- عذراء .
تلعثمت وقد احمرت غضبا :
- انا .... انا .... انا لن اجيب على سؤال كهذا !
- لدي شعور بأنك كذلك .
قالت له متوعده :
- اذا كنت ستتفوه بنكات حمقاء فسأذهب .
- اخبريني المزيد عن زوجة ابيك .
استدارت مسرعه نحو الباب فصاح بها :
- لم تحصلي على جوابي بعد .
فنظرت اليه ببروده :
- حصلت انت على التسلية , يا سيد ويست . وانا لن ابقى هنا لأكون هدفا لمزاحك وظرفك .
- لقد قضى الحادث على روح النكته عندي .
وهز كتفيه رافضا ان يقدم اعتذارا صريحا .
فقالت وقد بدأ التوتر على فمها الشاحب :
- هذا ما لاحظته .
- لكنني مستعد للتحدث مع ابيك بشأن الترتيبات كي لا يخسر بيته او عمله او زوجته .
خطت نحوه وقد انفجرت شفتاها عن شهقة وتألق وجهها بلهفة عارمة :
- احقا ؟ ألأست تسخر مني مجددا ؟
- بل انا جاد , انما بشرط واد .
توترت وعاد الحذر الى عينيها :
- ماهو شرطك ؟
- ان تسكني معي هنا , طوال المدة التي احددها .