لم تعرف فينيتيا كم مضى عليها من الوقت وهي تمشي وأين أصبحت الآن أو ما إذا كان في إمكانها أن تجد طريق العودة إلى الفيلا مرة أخرى ولكنه لم تهتم بذلك . كانت تسير وقد أجهدها التعب والشمس تصب أشعتها من سماء زرقاء خالية من الغيوم . وكانت النسور تحوم والأغنام ترعى الأعشاب ولكنها كانت غافلة عن هذا كله . إنها لا تستطيع ولا تريد أن تستمر على هذه الحال .
خلال اليومين اللذين أمضتهما في سردينيا ، رأت كارلو مرة واحدة فقط ... عد عن تلك الليلة الأولى المفجعة وكان ذلك أثناء عشاء أمس وكانت هي المرة الوحيدة التي قام بها للحفاظ على المظاهر وذلك بالتحدث معها بتهذيب بالغ جعلها تريد أن تصرخ ، يتحدث عما قام به في ذلك النهار و أين كان قائلاً لها بلطف أنها ليست في حاجة إلى اعتبار نفسها سجينة و أن لويجي يصطحبها إلى أي مكان تريد ،
فهو يفهم قليلاً من الإنكليزية ولكنه ذكي بما فيه الكفاية ليفهم رغبتها في الذهاب إلى أي مكان خاص . ولكنها لم تستمع ولم تدل بأي جواب ولم تأكل سوى القليل غير عابئة بما قد يظن لويجي و رزوا بهذه العروس الغاضبة وبذلك العريس الذي يغيب طيلة النهار دون أن يهتم لشيء إذ ما هي الفائدة؟ إن كارلو لا يمكن أن يستمع لشيء يتعلق بالدفاع عن نفسها ذلك أن فكرته عنها كانت من الرسوخ بحيث لا يمكن أن تتزحزح . لقد أصبحت تكرهه وهي ستكافح لأجل بقائها وتنسى أنها أحبته مرة أكثر من نفسها ، إنها لن تقع في الشرك هنا فتكون زوجة مهجورة في بلد غريب إن عليها أن تفعل شيئاً إزاء وضعها هذا ولكن بحذر فهي لا تريد أن تعرض كل تلك الوظائف في شركتها إلى الخطر .
ليلة أمس بعد أن انسحب لويجي و روزا تاركين إياها في مواجهة كارلو عبر مائدة العشاء نهضت على قدميها ملقية بفوطتها بجانب وجبة طعامها الذي لم يمس ثم قالت له بلهجة فارغة من كل شعور : " من المؤسف أن كبرياءك قد أعمتك عن الحقيقة لقد تزوجت من آنسة . "
وقطب حاجبيه بعنف جعلها تبتسم بوهن وهي تدير ظهرها إليه خارجة من الغرفة لتقول له من فوق كتفيها : " وأنت الآن لن تكتشف أبداً ما إذا كنت أنا أقول الحقيقة فاستمتع بانتقامك هذا الذي أرجو أن يدفئك في الليالي . " .
إنها المرة الأخيرة التي ستكلمه وهذا عهد منها . وتنهدت وهي تدعك جبينها الحار بأطراف أناملها . لقد كرست نفسها هذا النهار لتضع حلاً لمشكلاتها وهاهي قد وجدته ورأت وهي تقف على قمة هضبة حجرية ، الفيلا أمامها على بعد نصف ميل أو حوالي ذلك ما جعلها تتفاءل . لقد عادت أدراجها في نفس اللحظة التي تكاملت خطتها عن كيفية رحيلها من هنا . وقابلتها روزا وهي تسرع داخلة من الباب الرئيسي ، كان الوقت منتصف النهار تقريباً وتبعاً للطريقة التي مر بها نهار أمس فان كارلو لن يظهر إلا قبيل العشاء فهو يمضي النهار مع مستخدميه في الكروم وأصدقائه ، ليبقى بعيداً عنها قدر استطاعته .
سألتها روزا مستطلعة : " الغداء؟ " ولكن فينيتيا هزت رأسها طالبة بالإشارة التحدث هاتفياً . و أومأت روزا وقد فهمت ما تريد ، ثم سارت أمامها إلى مكتب ضخم حيث أخذت تفتش في دليل الهاتف إلى أن عثرت على الرقم الذي تريد . قبل زفافها بأسابيع أخذت تقرأ كل ما وجدته من كتيبات الرحلات المتعلقة بسردينيا وعلمت أن هنالك رحلات متعددة داخلية بين الغيرو وكالياري ولهذا لم يكن ثمة داع للقلق ، ولكنها كانت تريد اتصالاً من لندن وأمكنها الحصول عليه ولكن الغريب أنها لم تشعر بكثير من الارتياح لذلك . هناك وقت كافٍ فأن الرحلة إلى لندن لن تقلع باكراً ولكنها لم تشأ أن تتأخر . إنها لا تستطيع الانتظار ، وشكرت حظها على بعد نظرها الذي جعلها تحضر معها شيكات سياحية .
واستبدلت ملابسها بسرعة لترتدي بنطالاً خفيفاً أبيض وقميصاً حريرياً أسود ، ووضعت أغراضها الخاصة في حقيبة الكتف الجلدية واضعة على ذارعها جاكتة ملونة دون أن تهتم بأن تأخذ معها أياً من ثيابها التي أحضرتها معها لشهر العسل الذي لم يتم .
وكانت كتابة رسالة إلى كارلو أول ما قامت به راجية أن تكون كافية لكي تمنعه من أن يندفع في تدمير أعمال الأسرة وإثارة الشغب هناك في انكلترا . و قد أعلنت في رسالتها أنها لن تسعى إلى الطلاق وستبقى صورياً زوجته وستستمر في العمل في شركة روس الإنكليزية تحت إدارته هو ، وهي مستعدة لرؤيته في أي وقت يرى هو فيه ضرورة لذلك ثم ألصقت المغلف وتركته على فراشه .
وقالت للويجي الذي كان في المر آب هو يغسل سيارة الليموزين : " المطار . " وبدت عليه الحيرة وهو يقول مستفهماً : " سنيورا؟ " وقطبت هي حاجبيها وأخذت تشير إليه بيدها مقلدة هدير الطائرة وهي تعلو وأومأ لويجي برأسه قائلاً : " المطار لقد فهمت . " ولكن الحيرة بقيت على وجهه وهو يسدل كمي قميصه الأبيض ويتناول جاكتته من على مسمار خلف أحد الأبواب . و أمضيا الطريق صامتين وقد سرها أن كلاً منهما لا يفهم لغة الآخر . ولكنه أخذ يتسكع حولها أثناء شرائها تذكرة السفر ، كما يفعل أي حارس يقظ ودفعت ثمن تذكرة السفر إلى كالياري بينما وقف هو يراقبها وهي تخطو نحو الطائرة . وقفت وقد اغرورقت عيناها بالدموع . لا يمكنها أبداً أن ترحل بهذا الشكل وبكل هذه البساطة . إن عليها بأي شكل كان أن تحاول إفهامه أنها لم تكن كما يظنها . وبينما هي تعدل من وضع الجاكتة على ذراعها ، شعرت بيد على ذراعها وسمعت صوتاً يقول شيئاً بالإيطالية فنظرت لترى الاهتمام في عيني المضيفة الجوية . وتمتمت وهي تمسح دموعها التي أخذت تتدفق دون توقف : " إنني آسفة . " وأخذت تكرر بغباء : " إنني آسفة . " . ابتسمت لها الفتاة ذات العينين السوداوين وهي تقول بعطف : " آه ... إنكليزية . انك لست على ما يرام . " وعلمت فينيتيا أن مكانها لا ينبغي أن يكون هنا . فهي ليست جبانة في العادة أن عليها أن تجد كارلو وأن تقنعه وهزت رأسها وهي تتراجع إلى الخلف قائلة بصوت خشن مرتجف : " إنني آسفة . لا يمكنني أن أقوم بهذه الرحلة . لقد أدركت على التو ....... " واستدارت عائدة لتسير بسرعة في ظلال المباني ومن حسن الحظ أن لويجي لم ينتظر رؤية الطائرة تتحرك ولم يكن ثمة أثر للسيارة فقد كان آخر شيء تريده هو أن تعود ، محروسة إلى الفيلا مباشرة .
ولم تجد مشكلة في العثور على سيارة إلى الغيرو ومن حسن الحظ أنها كانت أحضرت معها مبلغاً من النقود لكي تشتري تذكارات لأصدقائها عندما تعود إلى الوطن . أنزلها سائق سيارة الأجرة في وسط منتجع عام عامر بالناس ولو كانت ظروفها غير ما هي عليه ، لوجدت تسلية كبرى في الجلوس والتفرج على المباني المختلطة الطراز بين الحديث والقديم ، المدينة القديمة مع حصونها ، الشوارع الضيقة بأبراجها المهيبة . ولكنها كانت بعيدة عن الظروف العادية ، وأخذت تجول في الأنحاء دون هدف معين لتقودها خطاها نحو المرفأ. وعند مقهى على الرصيف جلست إلى منضدة تحت مظلة مخططة ثم طلبت كوب عصير نسيت أن تشربه وشعرت بالهدوء ولكنه كان هدوء القبول بالهزيمة كما أدركت . القبول بالألم الدائم بين أضلعها . كانت ثورتها على ما فعله كارلو قد خمدت الآن . وكل ما بقي منها هو حزن مروع . لقد كان أمامهما حظ كبير ذات يوم .
وكلمات كارلو ما زالت في مسامعها وهو يقول انه يعتقد بأنه كان يحبها منذ ست سنوات وكان ينتظرها لقد أراد ذات يوم أن يتزوجها لأنه كان يحبها فعلاً . كان هذا منذ وقت طويل وبعد ذلك بست سنوات عرض عليها الزواج ، حقاً انه أراد أن يسيطر على الشركة ، ولكنه كان أيضاً يريدها إنها متأكدة من أنه سيحبها يوما ما خصوصاً إذا هي استطاعت أن تقنعه بأن ماضيها لم يكن كما يظنه وأن سيمون مرة أخرى هو الذي دمر كل شيء بالنسبة إليها .
وتحركت في مقعدها بضيق ، وعيناها الفارغتان لا تريان شيئاً مما حولها من المناظر ، فقد كانتا تائهتين في الماضي تنوحان على ما كان يمكن أن يكون . إنها ترى الآن وبكل وضوح ما عليه سيمون من نفاق وجشع للمال . فعندما كانت في الثامنة عشرة كان لا يكاد يكف عن التحرش بها . ليس لأنه كان يكن لها أي شعور حقيقي و إنما لأنه كان مكلفاً بحراستها فوجد في ذلك فرصة مناسبة ذلك أن الزواج من ابنة رئيسه هو فرصة العمر . وقد أخفى هدفه ذاك أثناء السنوات التي تلت لكي يستعيد ثقتها به عارضاً نفسه لمساعدتها عندما التحق بالشركة وهو يخدعها طيلة الوقت بتصرفاته المصطنعة تجاهها . حتى عندما أوقعته أنجي في فخ الزواج لم يتخل عن هدفه هذا كلياً إذ أن أول ما قام به ، بعد أن طرده كارلو من الشركة هو أن أتى إليها عارضاً عليها الزواج . ولكن لم يعد في إمكانها حتى أن تستجمع ما يكفي من الغضب لكي تصلح من تلك الأمور المنحرفة الملتوية . ذلك أن مشاعرها كانت مضطربة للغاية ولم يبق في نفسها سوى القنوط . هذا إلى أمل ضعيف في أن كارلو قد يقتنع أخيراً بشكل ما بأن يستمع إلى القصة بلسانها هي .
كان على الخوان المجاور لها ، شخص يستمع إلى الموسيقى من خلال راديو لتتوقف هذه فجأة محدثة خشخشة مفاجئة تبعها صمت قصير عاد بعده المذيع يدلي بخبر مستعجل .. لابد أنه كان خبراً سيئاً كما أدركت فينيتيا من ردة الفعل الهائجة من الحاضرين حولها . وشهقت فينيتيا وقد نسيت هذه الانفعالات البسيطة حولها عندما ارتفعت أصوات غير مفهومة في هذه الحلبة الغوغائية ... ما الذي يا ترى هز هذه الجموع هكذا؟ ...
وتصلبت أعضاؤها من طول الجلوس كما أدركت من نظرات النادل الجانبية المتشككة نحوها ، ولم تكن لديها فكرة عن طول المدة التي أمضتها هنا ، ولكن الشمس كانت في قبة السماء ، وعليها أن تستعجل في العثور على سيارة تقلها إلى المنزل قبل أن يعود كارلو . وبعد أن أخذت رشفة من كوب العصير ، حملت حقيبتها ثم وقفت تحرك أعضاءها المتصلبة . تاركة إكرامية تعويضاً عن تأخرها هذا في شغل الخوان . إن عليها أن تذهب لتجعل كارلو يستمع إليها . آمله أن يتخلى عن مرارته مؤقتاً لكي يستمع إليها . و اعترفت لنفسها وقد غمرتها التعاسة ، وهي تسير نحو حافة الرصيف تستدعي سيارة بأنها ربما أفسدت بأقوالها دفاعها عن نفسها ، وذلك رداً على تلك العاصفة الكلامية التي وجهها إليها مما قوى من فكرته الراسخة تلك عنها . كل ذلك زاد من صعوبة مهمتها ألف مرة .
لا أمل في هذا ، فهل من الضرورة أن تحاول؟ ربما من الأفضل لها أن تتبع خطتها الأولى وتكمل طريقها إلى كالياري ، ولكنها الآن قد تأخرت كثيراً عن اللحاق بالرحلة الليلية إلى لندن ، ولكنها إذا هي استعملت شيكاتها السياحية الدولية ففي إمكانها أن تبيت ليلتها في فندق في انتظار أول رحلة تالية إلى الوطن ، ومنعها التردد من أن تتحرك من مكانها في الطريق ، غافلة عن حركة السير المندفعة حولها ، إلى أن جعلها صرير كابح سيارة ، وصفق بابها في وجهها تماماً ، جعلها تتراجع إلى الخلف مصطدمة بإحدى موائد المقهى .
حك مسمعها هذا الهتاف حين انقض عليها جسد رجل قوي وتمسكت بها أصابع من فولاذ . وتوقفت أنفاس فينيتيا وهي ترى كارلو هو الذي انقض عليها تاركاً سيارته منحرفة في وسط الطريق ، لا بد أنه قد عاد إلى منزله مبكراً عن نهار أمس ليكتشف ما فعلت فجاء يسحبها عائداً بها . عائداً إلى الفيلا لاستكمال انتقامه . وحاولت أن تضربه لتبعده عنها ، ولكن قبضتيها الصغيرتين كانتا أعجز من أن تحرك جسده الذي لا يتزحزح .
وعاد هو يهتف وذراعاه القويتان تجرانها إليه : " فينيتيا آه ... " ونظر إليها غير مصدق وشفتاه تتمتمان بكلمات الإعزاز والملاطفة بلغته ، وقد تدفق صوته بالمشاعر وهو يتابع : " أهذه أنتِ حقاً؟ أرجو ألا أكون حالماً . " وكانت هي ترتجف بين ذراعيه دون أن تفهم شيئاً . لقد كان ممسكاً بها وكأنه لن يدعها تذهب على الإطلاق ، وقد نسي كل شيء عن التأديب والانتقام ، أو هكذا بدا عليه . ثم تركها على الرغم منه ولكن ليتمكن من التمعن في وجهها بعينيه المنهكتين المتقرحتين لأجفان . رفعت أنظارها تحدق فيه وما زالت ترتجف دون أن تصدق ما يحدث وقد صدمت تماماً لمرأى عينيه تتألقان بالدموع .
.
http://www.liilas.com/vb3
واختنقت بالدموع وهي تسمعه يقول لها : " لقد ظننتك ميتة .. ميتة أو على الأقل في خطر الموت . لقد كنت سأقتل نفسي من الحزن . "
واختنقت أنفاسها في صدرها وهي تقول بصوت أجش لا يكاد يسمع : " كارلو ... أنا لا أفهم شيئاً فعلاً . إلى أن أجابها بسرعة وصوته ما زال يرتجف : " لقد أمضيت فترة الصباح في الكروم عاملاً لكي أبعد التفكير عن نفسي . لقد كان العقاب الذي خططت له يؤذيني أنا أكثر بكثير مما يؤذيك ، وفجأة أدركت أن علي أن أضع حداً له . أدركت فجأة أنني كنت من العمى بحيث منعني من أن أرى .. أن أرى أنني أحببتك أكثر مما أحببت أية امرأة أخرى . كنت أنكر نفسي اكثر كثيراً مما كنت أنكرك ، وأنني لا أهتم بماضيك ما دمت ستكونين مخلصة لي وحدي في المستقبل وعدت على الفور إلى الفيلا مصمماً على أن اطلب منك أن تسامحيني ومن ثم نبدأ حياتنا الزوجية . "
وتألقت في عينيه نظرة تملك حازمة وابتدأ اللون يعود تدريجياً إلى وجهه الشاحب وقال لها بخشونة : " لا تنظري ألي هكذا . أنني أريد أن تمنحيني شيئاً من الأمل ." وبدت في لهجته من الغطرسة ما جعل ابتسامة خفيفة تلوح على شفتيها الممتلئتين وقال بخشونة بينما شعرت هي برجفة عنيفة تسري في جسده : " ما زال هنالك شيء لقد عدت إلى الفيلا وسألت عنك فأخبرني لويجي أنك ذهبت إلى المطار وأنه أخذك بنفسه إلى هناك ورآك تشترين تذكرة إلى كالياري . وكان يعتقد أنني لا بد كنت على علم بذلك . كنت ما أزال متمالكاً نفسي حتى بعد أن قرأت رسالتك واتصلت بالمطار طالباً تجهيز طائرة روسي الخاصة للطيران ثم اتصلت بطيار الشركة لكي يستعد حالاً . كنت أحسب أنه ما زال أمامي وقت كاف لأمنعك من متابعة السفر إلى لندن حيث أنها لا بد وجهة سفرك كما خمنت عند ذلك علمت أن الطائرة التي من المفروض انك على متنها قد تحطمت وهي تهبط المطار ليقتل من فيها أو تبتر أطراف أفراد طاقم الطائرة والركاب وعند ذلك ... عند ذلك علمت أنني أحببتك اكثر من الحياة نفسها ... وأنني فقدتك دون أن أستطيع أن أخبرك بتلك الحقيقة البسيطة . لقد تمنيت أن أموت عند ذاك . "
وهتفت : " آه كارلو . " ورفعت وجهها تتأمله انه يحبها وهذا هو كل ما يهمها ثم ارتجفت بعنف بعد أن فهمت الآن فقط ما تضمنه كلامه لها هذا .
عادت تقول : " ولكن ما الذي كنت تفعله هنا؟ هل كنت تبحث عني؟ " ولم يكن هذا يعني أنها مهتمة بذلك بطبيعة الحال ، فقد كان كل ما يهمها الآن أنه حين ظنها على متن تلك الطائرة ، أدرك مبلغ حبه لها . وقال بصوت أبح : " إنني لم أكن أبحث عنك كنت في طريقي إلى المطار ... كنت كالمعتوه يجب أن أعترف بهذا . كان الأمل الوحيد الذي راودني هو أن أجدك حية مهما كان مقدار إصابتك وعند ذلك سأدور في العالم لكي أعالجك وأتوسل إليك أن تمنحيني الفرصة لكي أجعلك تحبينني تصفحين عني . ثم إذا بأنظاري تقع عليك . تقع عليك واقفة هناك لقد ظننتك شبحاً .. لم استطع أن اصدق انك أنتِ ، أنتِ بلحمك ودمك .... وأنكِ ما زالت حية . عديني أن تمنحيني الفرصة لكي أصلح كل شيء، امنحيني فرصة أجعلك فيها تحبينني كما كنتِ قبلاً . وأظنك أحببتني قليلاً من قبل . فهل ستحاولين ذلك ؟ أرجوك . "
كارلو ..... حبيبها ... يخضع بهذا الشكل؟ وتألقت عيناها الكحيلتان بابتسامة وهي تمعن النظر في أعماق عينيه وسرها أن ترى كل تلك الكبرياء المثبطة تعود إليهما عندما قالت ببساطة : " ليس في ذلك أية مشكلة . لقد حاولت أن أتوقف عن حبك ولكنني لم أستطع . "
وتوهج وجهها احمراراً إذ منذ اللحظة التي قفز فيها كارلو من السيارة ابتدأ الناس يتجمعون حولهما . والآن كانت مجموعة من المتفرجين يدقون بأقدامهم ويصفقون بأيديهم ويصفرون ويحيون . ثم ابتدأت أبواق السيارات تزعق مشتركة في المنافسة بعد أن أوقف السائقون سياراتهم ليروا ما الأمر ، معرقلين حركة السير التي كانت سيارة كارلو الليموزين قد سبق وأعاقتها منحرفة في ذلك الشارع الضيق ، ولكن لم يكن هنالك أثر من الحرج في نفس كارلو كما لاحظت هي بإعجاب . وابتدأ شعورها هي بالحرج يتراجع عندما أخذ هو ، بكبريائه الإيطالية ، ينحني لتلك الجموع في كل النواحي ، وعلى شفتيه ابتسامة البطل الغازي المنتصر وقد رفع رأسه بغطرسة آخذاً بيدها يدسها تحت ذراعه ، وهو يخترق بها تلك الجموع المهللة التي كانت تتدافع أمامهما إلى الخلف على الجانبين لتسمح لهما بالمرور .
وكانت الابتسامة العريضة ما زالت على شفتيه بعد أن استقامت حركة السير ، ليتجها نحو الفيلا . عند ذلك قال بشيء من الجد : " انه القدر كل شيء كان مقدراً منذ رأيتك تدخلين الغرفة منذ ست سنوات خلتك متجهة نحوي بتلك المشية المهتزة ثم تقبلينني مرحبة بي . أظن أنني منذ تلك اللحظة قد غرقت في حبك آه ... "
ومنحها ابتسامة مشرقة قبل أن يعيد انتباهه إلى حركة السير وهو يستطرد : " حاولت أن أقاوم مشاعري تلك . وأخذت أحدث نفسي بأن أبقيك بعيدة عني . فقد كنت صغيرة جداً بالنسبة ألي . وأصغر من أن تدركي حقيقة مشاعرك ولا أقول تأثيرك علي ما الذي فعلته بي! ثم ...... " وأظلم وجهه وهو يتابع : " بعد أن اقتنعت عقلياً بأن لا مناص من ذلك وتحدثت مع أبيك وجدتك مع سيمون . وكان شعوري بالذل والمرارة عنيفاً ... كما أدركت الآن . "
و أوشكت فينيتيا على البكاء لو أنها فقط لم تمنع أباها من الإتيان على ذكر اسمه في حضورها لعلمت بحديثه ذاك مع أبيها بالنسبة إلى طلبه يدها . وكان في إمكانها أن تصلح الأمور ... وربما كانت كتبت إليه تشرح له كل شيء قبل فوات الأوان قبل أن تتحجر أعماقه! .
والآن حان الوقت لكي توضع كل الأمور في نصابها وابتدأت قولها : " كارلو ، بالنسبة إلى سيمون ... " فقاطعها بخشونة : " فليذهب سيمون إلى المجهول لقد أصبح شيئاً من الماضي . إنني لم أرجع إلى انكلترا ناوياً الانتقام . أريدك أن تفهمي ذلك . لقد جئت أولاً لحضور جنازة أبيك الذي كنت أحترمه كثيراً . ثم كنت في حاجة إلى أن استطلع الوسائل التي يمكنني معها أن اثبت من وضع شركتكم مالياً . كما أن والدك قد توفي دون أن يكمل عمله مع كيرو . وقد دهشت في الواقع للمرارة التي شعرت بها عندما رأيتكما أنتِ و كيرو معاً . وعند ذلك أدركت كيف أنك أفسدت شعوري نحو سائر النساء . ومن ثم أخذت تنشأ في ذهني فكرة الزواج بك لدمج الشركتين معاً . ولم أدرك الدافع الحقيقي إلى فكرة الزواج بك إلا هذا الصباح بعد أن أدركت حقيقة شعوري . وعندما قطعت رحلتي ، لشوقي إليك وجدت أنك قد حددت موعداً مع كيرو ... وإلا ما الذي جعله يأتي إليك بينما أنتِ مستعدة لاستقباله وفتح الباب له على الفور . "
بدا في صوته العنف ، وفكرت فينيتيا ها نحن عدنا مرة أخرى! وتساءلت عما إذا كانت آخر محاولة تجربها ستجعله يستمع إلى الحقيقة . وتابع قائلاً : " عندما دخلت ورأيتك معه وسمعت الأشياء الجنونية التي كان يقولها لك كان أول ما خطر لي هو أن أغسل يدي منك ، كما فعلت سابقاً ولكن هذه الفكرة سرعان ما تلاشت من ذهني لتستقر فجأة فكرة الانتقام من المرأة التي لم اكن قد أدركت بعد أن حبها ما زال يسري في دمي منذ سنوات ... وأنا الآن ارفض الحديث عن الماضي مرة أخرى أو حتى التفكير فيه . أن مستقبلنا هو المهم وحياتنا قد ابتدأت الآن وأنا أريد أن أتأكد تماماً من أنك لن تنظري إلى رجل آخر مرة أخرى . فأنا سأكون حسب ما تريدينني أن أكون تماماً . "
وبدا في عينيه نظرة عتاب وهو يتابع قائلاً : " لماذا جعلتني اعتقد بأنك دون أخلاق كلياً . " فاعترفت قائلة : " أظنني كنت حمقاء . " وأغمضت عينيها برهة ثم عادت تقول : " في آخر مرة رأيتك فيها ألقيت علي نظرة وكأنك تعتبرني فتاة عابثة لا تستحق حتى الاحتقار . وعندما رأيتك مرة أخرى أدركت أنه لم يتغير شيء . كنت ما تزال بالنسبة ألي الرجل الوحيد في العالم ، بينما كنت أنت ما تزال تنظر ألي بازدراء . وأظنني قلت تلك الأشياء من باب الدفاع عن النفس . كان ذلك غباء مني أليس كذلك ؟ . "
فأجاب : " لقد كنا نحن الاثنان غبيين . لقد جعلنا الحب أحمقين . ولكن حبي لكِ جعلني أقرر في النهاية أن أنسى كل أخطاء ماضيك ، ونبدأ من جديد على أن أتأكد من أنكِ ستبقين لي وحدي في المستقبل . وحتى هذا النهار لم أصدق أنك كنتِ دائماً في دمي طيلة ست سنوات ، حتى عندما رأيتك مع كيرو للمرة الثانية وأقسمت أن أتزوجك لكي أعاقبك ، لم أكن صادقاً مع نفسي تماماً . فالحقيقة هي أنني كنت أريد امتلاكك واحتجازك لنفسي مهما كانت الظروف . ما ظننت في نفسي قط الغباء من قبل ولكن حتى في الليلة التي سألتك فيها أن تتزوجيني وذهبت إلى غرفتك لأضع طلبي الزواج في قالب اكثر رقة ، ولم أجدك في المنزل ، وكدت أجن من القلق لم أدرك مبلغ حبي لك لقد كنت أظن أن شعوري هو مجرد رغبة ، واستوجب الأمر تحطم طائرة لكي أدرك أنني أحبك اكثر من حياتي . " و اهتز جسمه وقد بدت في عينيه نظرة كئيبة قبل أن يقول : " ولكن هنالك شيء يحيرني . لقد عرفت الآن أنني أول رجل في حياتك ولكن ، ماذا كان يحدث بينك وبين ذلك الصعلوك عندما رأيتكما معاً مرتين؟ "
وهكذا حدثته بكل شيء دون نقصان وهي تضيف : " منذ ذلك الحين لم أعد ألقي نظرة عليه لمدة سنتين لقد تركت الحياة الاجتماعية وابتدأت في العمل . حاولت أن أغير نفسي . حاولت أن أتوقف عن حبك . أما في المرة الثانية ، فلا بد أنه كان في منتهى اليأس فقد عمله حسب ما يستحق وربما أدرك أنه لن يحصل أبداً على شهادة حسن سلوك وكان زواجه ينهار و ... حسناً أظن أنه فكر في تجربة حظه فحاول أن يجعلني اعتقد أنه كان يحبني على الدوام ولم يغفل عن التلميح بأنك إنما تريد أن تتزوجني لأسباب تتعلق بمصلحة العمل فقط . "
وابتسمت له وهي تفكر في أنه أخيراً قد فهم كل شيء وأضافت تقول : " لقد كان عوناً كبيراً لي عندما كنت أتدرب على العمل . وكان سنداً قوياً حين وفاة والدي . وكنت قد ابتدأت انظر إليه كصديق ولكن لا شيء اكثر من ذلك ولم يحدث قط أن فكرت فيه ولو قليلاً . "
والتفت إليها يسألها بعينين تتألقان بالحب : " ولماذا لم تشرحي لي كل هذا؟ "
فأجابت : " لقد حاولت ذلك ألا تذكر؟ أكثر من ست مرات توقفت بعدها عن المحاولة وتركتك لتكتشف ذلك بنفسك . "
فقال بصوت خشن : " يا للفاتنة أن السيطرة عليك لا تحتاج إلى جهد . "
فقالت : " ولكنك ستجرب دون شك . "
وعاد يؤكد لها حبه إذ همس في أذنها : " حبيبتي ... حبيبتي إلى الأبد . "