أجابت فينيتيا كاذبة وقد بان عليها الانفعال : " إنني لا أدري عما تتحدث ." وتشاغلت بعمل الصلصة ، فقد كان ما قاله شيء كريهاً بالنسبة لها . وبقيت مديرة ظهرها إليه لأنها كانت تعلم أن وجهها كان شديد الاحمرار وهي تتابع : " كان ما قلته مجرد حديث مع أنه ما كان لي أن اهتم بذلك فقد ظننت انك من الذكاء بحيث تبيت في المدينة هذه الليلة بالنسبة لحالة الطرق . "
رد بشيء من السخرية : " آه ... ولكنني أظن أنك تعلمين جيداً ما الذي أتحدث عنه على كل حال إذا كان لابد لنا من أن نغير هذا الحديث فلنفعل ." وأخذ يقترب منها عضت شفتها وقد ابتدأت يداها ترتجفان وهي تتظاهر بانشغالها في العمل الذي بين يديها ، بينما هو يقول بكل رقة : " هل ظننت حقاً إن مجرد عاصفة ثلجية يمكن أن تمنعني من الحضور؟ لا أظنك تعرفينني مطلقاً ."
ولم تعرف السبب في أن هذا بدا لها نذيراً بشيء ما ... فقد تركت لمخيلتها العنان ولشعورها بوجوده قرب كتفيها ، أخذت تحرك محتويات الإناء بعصبية وقد أمسكت أنفاسها ذلك لان اقل تغير في طريقة تنفسها ستفضح مشاعرها وتريه مبلغ تأثير وجوده عليها . قال : " لقد تغيرت يا فينيتيا ." وأرادت أن ترد عليه بحدة ولكن هذا أيضاً سيفضح مشاعرها . وتابع قوله : " عندما قابلتك لأول مرة كنتِ ما زلت فجة تماماً وكل ما كنت أراك تقومين به هو طلاء أظفارك و الاستلقاء عند حوض السباحة ... لتندفعي أحياناً إلى غرفتك لتضعي على وجهك المزيد من أدوات الزينة فما الذي أحدث فيك كل هذا التغيير؟ إن هذا يثير العجب ."
وفكرت بجفاء في إنها لو أخبرته بالسبب لما صدقها و أنزلت الإناء عن النار . إن حبها له هو الذي غيرها وكذلك اكتشافها إنها لم تستطع أن تحصل على ما تريد . وعاد يقول وهو ينظر إليها ساخراً : " أليس ثمة ما يقال؟ إذن فسيسرني أن اكتشف السبب بنفسي بطريقة ما ." و لاحت على شفتيه ابتسامة ملتوية ، ثم استدار خارجاً من الغرفة بكل غطرسة فأطلقت آهة ممزقة وهي تضغط بأصابعها على صدغيها .
إن هذا الرجل ينذر بالخطر فان امتزاج التهديد عنده باللطف قد أرهق أعصابها فلا عجب أن غيرها حبها له بهذا الشكل ، هذا التغيير الذي كان أعمق كثيراً مما بدا على ظاهرها فقد أصبحت ظاهراً تلك الفتاة المتأنقة الناعمة واستحالت البدانة رشاقة كما أصبحت الفتاة العابثة امرأة عاملة بالغة الرقة والدماثة .
ولكن التغيير في داخلها ، كان اكبر واكثر عمقاً ففي سكون الأيام الاولى بعد رؤيتها له وهو يرحل ، توصلت إلى مفهوم جديد لما ينبغي أن تكون عليه حياتها . فقد انتهت فورت شبابها برحيله ، لقد دمر رفضه لها ثقتها الشديدة بنفسها لتدرك عند ذاك أن الحياة ليست دائماً تلك الحفلة الحافلة بالبهجة والمسرات على الدوام .
وكان من جراء ذلك أن انبثقت فينيتيا جديدة اكثر قوة وتأملاً في الحياة فهي لن تعود مرة أخرى إلى التهافت على أي رجل وستنحصر حياتها في عمل الأسرة ومنزل الأسرة وإذا هي تزوجت فسيكون ذلك لأسباب حقيقة مثل الزمالة والاحترام المتبادل ، الحنان والمودة أما الأولاد فهي في الواقع لم تفكر في هذا الامر .
أخذت تجهز المنضدة للعشاء في غرفة الجلوس الصغرى التي اختارتها لقضاء هذه الليلة البالغة الشديدة ، ثم أشعلت النار في المدفأة موصلة التدفئة المركزية وهي تتساءل كيف ستمضي هذه الليلة في غياب بوتي ليكون حائلاً بينها وبين كارلو فقد كان يخيفها .
" هل في إمكاني مساعدتك؟ " وجعلها صوته القادم من اتجاه الباب تستدير على عقبيها ثم تقابل تلك العينين السوداوين الماكرتين بتحفظ بارد . كان قد استبدل ملابسه مرتدياً جاكتة صوفية من الكشمير وبنطالاً اسود مما جعله يبدو وكأنه زعيم عصابة ، وبالرغم من كل نواياها الطيبة استعاد ذهنها ذلك الشعور الذي تملكها وهو يواسيها وكذلك التهديد الرقيق في صوته وهو يقول انه عاد للمطالبة بما سبق وعرضته عليه منذ ست سنوات .
كان في هذا ما يكفي لكي يحمر وجهها إلى جذور شعرها بل اكثر . ارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة وكأنه قرأ أفكارها فحولت عنه أنظارها بسرعة وردت عليه بحدة زائدة لم يكن عرضه ذاك لمساعدتها يستحقها :" كلا شكراً كل شيء جاهز وما علي إلا أن أحضره ." وهرعت خارجة من الغرفة فتبعتها ضحكته الخافتة التي جعلتها تصر على أسنانها . لا شك في أن هذا المساء سيكون مرهقاً فقد كان يبدو عليه بجلاء انه يستمتع بتمريغ انفها بقذارة سلوكها ذاك العابث الفاسق منذ ست سنوات فهو ليس بالسيد المهذب ولكن بالرغم من مخاوفها وشكوكها تلك فقد مرت وجبة العشاء بسلام . وكان يتحدث باسترخاء ودون أية مشاكسة وتساءلت هي عما إذا كانت قد أخطأت في حكمها عليه . ثم اتجهت و بدون قصد إلى ناحية خاطئة بعد أن أخبرته عن اضطرار بوتي إلى البقاء مع شقيقتها فقالت : " عندما تنتقل إلى لندن معي إذ ليس أمامها خيار آخر فسيكون عليها أن تمضي ساعات طويلة لتصل إلى القرية في المواصلات العامة لزيارة أختها ، مما لا يسمح لها بزيارات متكررة وهذا سيسبب لشقيقتها أندي نوبات غضب على الدوام ."
حدق فيها عابساً وهو يسألها : " ولماذا تريدين أن تنتقلي إلى لندن؟ " ولامت فينيتيا نفسها ذلك إن التحدث عن مستقبلها معه كان آخر شيء تريده . فذلك هو من شؤونها العملية وما تقوم به لضمان مستقبلها كان شيئاً خاصاً بينها وبين سيمون بوصفه مستشارها . و لكن أن تكذب عليه أن تدعي بأنها تريد أن تنتقل إلى حيث أضواء المدينة المتلألئة ، كل هذا لن تكون نتيجته سوى تأكيد رأيه السيئ فيها وما سبق وقامت به من تدمير سمعتها بالنسبة أليه يكفي تماماً .
قالت مكرهة : " كما لا بد أن تعلم أن العمل في حاجة ماسة إلى إمدادات لتقوية راس المال ، هذا إذا كنا نريد أن نحتفظ بالشركة قائمة وبالموظفين يعملون فبيع هذا البيت ومحتوياته سيسد هذه الحاجة ."
فقال رافعاً حاجبيه : " أليس لي رأي في هذا الجنون؟ " ورغم أن صوته كان محايداً تقريباً فقد لاحظت في لهجته تشدداً أكثر من المعتاد وهزت رأسها قائلة : " كلا في الحقيقة كلا ." ولم تكن تنظر أليه لان شيئاً في ذلك التصميم الذي بدا في نظراته جعل ضربات قلبها تتلاحق . وتصاعد صوت غليان إبريق القهوة ، ونهضت هي من مكانها لتملأ فنجاني قهوة وعندما عادت بهما قال لها بلهجة حاسمة : " لا يمكنني أن اسمح لكِ بالقيام بأي عمل بهذا الاندفاع . ماذا سيحدث لو ذهب ذلك المال وعدت إلى نفس الوضع الذي أنتِ عليه ألان؟ لن يكون لديك آنذاك أي شيء ذي قيمة تستفيدين منه لا شيء ."
قالت بكبرياء وهي تضع أمامه فنجانه بعنف : " أنا وسيمون ، لنا خططنا فلماذا هذه الانهزامية؟ " ردد ساخراً وهو يدير فنجانه بأصابعه الطويلة :" أنا وسيمون أنني أتصور أن لديه الكثير من الآراء خصوصاً إذا كانت تطيل من أمد وظيفته ذات الراتب المرتفع وتمول رحلاته العملية إلى خارج البلاد . واكرر أنني لا أستطيع أن اسمح لك بالاندفاع في عمل كهذا ."
شعرت فينيتيا بسيطرتها الضئيلة على أعصابها تتبدد وقبل أن تقدم على أي عمل أحمق كأن تصرخ في وجهه أو أي شيء آخر ، أفرغت في فنجانها بقية القهوة من الإناء لتقول بعد ذلك بحدة : " أظن أنه ليس لديك الحق في آن تملي علي مشيئتك في هذا الموضوع إذ انه بعد إثبات الوصية قانونياً سيصبح هذا المنزل ومحتوياته ملكي أتصرف به كما أشاء ." وبدت نظرة ظافرة في عينيها الواسعتين المائلتين دون وعي منها تتحداه بها آن يناقشها في ذلك ولكنها لم تتوقع قوله : " إذا لم تكن المسألة هي أنني وعدت أباك بأن أهتم بمصالحك لكنت تفرجت عليك مسروراً وأنت تذهبين إلى الهاوية في طريقك الذي تختارينه ." واستند إلى الخلف في كرسيه واضعاً يديه خلف رأسه وعيناه شبه مغمضتين وهو يراقب تلون وجهها ، تاركاً إياها اكثر شحوباً من قبل . وعاد يقول : " على كل حال بما أن ذلك الوعد لأبيك قائم وبما أن مصالحي أنا في الشركة كذلك هي في الاعتبار ، فأن في إمكاني أن اعرض عليكِ خيارين ."
فقالت : " ما ألطف هذا ." كان التهكم قد جعل صوتها أكثر حدة . كانت تعلم أن والدها قد حافظ على صلة قوية بكارلو بعد زيارته ومنذ انتهاء العداء بين الأسرتين أصبحت لهفته مضاعفة للإبقاء على هذا الاتصال وتسوية النزاع الذي دام سنوات طويلة منذ انشقت الأسرة وأصبح أحد فرعيها إنكليزياً محولاً اسم روسي إلى روس .
قال وعيناه تتابعان كل حركة منها إذ تنهض واقفة وهي ترتجف لتبدأ بجمع الأطباق الفارغة : " أنني موافق معك فأن شهامتي تحيرني أنا نفسي أحياناً ." كان تشدقه الوقح بهذا الكلام ، اكثر مما كانت تستطيع احتماله ، فأطبقت فمها بشدة وهي تستدير لتخرج حاملة الأطباق ولكن حتى من دون أن تراه يتحرك من مكانه شعرت بأصابعه الفولاذية تمسك بمعصمها فتفلت من يدها الأطباق لتسقط على المائدة محدثة قرقعة مزعجة .
واجهته وهو يقف برشاقة ويده ما زالت تمسك بمعصمها بشدة يقودها بكل ما في شخصيته المسيطرة من غطرسة متأصلة ، إلى الأريكة الواسعة بجانب النار المشتعلة في المدفأة . وأدركت أن أية محاولة للهرب منه إلى خارج الغرفة لن تجدي ذلك أنها علقت في الفخ وعليها أن تتحمل النتيجة . لم يكن الوقت ألان مناسباً لاطلاعه على نوع علاقتها الحقيقة بسيمون إذ سيظنها تحاول بذلك تبرئة نفسها وتريد بذلك تغطية الذكريات المخجلة التي أثارها وجوده وذلك من باب الإغاظة له . وفي اللحظة التي يكون اهتمامه متحولاً إلى العمل ويكون في إمكانها أن تقنعه بشكل ما بأنها قادرة على تنظيم شؤونها بنفسها عند ذلك يوضع وعده برعايتها على الرف كما يقال . لقد كان قربه منها على الدوام سيئ التأثير على توازنها وجلست بحذر بعيدة عنه على الوسائد اللينة وهي تجاهد للسيطرة على نفسها شاعرة بنظراته تتسمر على جانب وجهها المتحجر ..
http://www.liilas.com/vb3
خاطبت نفسها قائلة ، اهدإي و إلا سوف يسحقك بقدميه محاولاً أن ينتزع من بين يديك السيطرة على شؤون العمل ،
ثم قالت له بما أمكنها من منطق : " أنني لا أرى ثمة فائدة في هذا الجدال المستمر ربما إذا وضعت خططي العملية على المائدة يكون في إمكاننا التحدث في شأنها كأناس عقلانيين ." . رد بصوت رقيق : " يالها من فكرة حسنة ." وأدار رأسها أليه وهو يتابع : " عندما تتحدثين معي انظري إلى يا فينيتيا ." والتقت عيناه بعينيها بقوة حبست منها الأنفاس حتى أنها لم تعد تقوى على الحراك . وعندما استطرد يقول بلطف على نحو ساخر : " استمري فأن اهتمامي كله لك ." حاولت بكل جهدها أن تتخلص من ذلك الشعور المحرج وقالت بسرعة في محاولة لاستجماع أفكارها المشوشة : " كنا ، في الماضي قد اشترينا كميات ضخمة مستعملين مختلف أنواع الشحن ولكنني وضعت خطة ... " وسكتت فجأة وقد أخذت بالتعبير الذي بدا على ملامحه فقد كان جفناه الثقيلان متهدلين فوق العينين السوداوين الرائعتين بينما لاحت على شفتيه الصارمين ابتسامة صغيره تلاعوتابعت حديثها بمزيد من الحزم متجنبة عينيه مرة أخرى : " أنني أنوي الشراء من روسي تفضيلاً ذلك آن الطلبات الكبرى تسمح بالتنزيلات في الأسعار مما يسمح لنا بتمرير ذلك إلى زبائننا فيكون في إمكاننا عند ذاك منافسة سلسلة المتاجر الكبرى وهذا أيضاً يتماشى مع مصلحة روسي وهكذا نضرب عصفورين في حجر واحد فمبيعاتكم لنا ستزداد وكذلك أنت ستزداد أرباحك إذا ازدادت أرباحنا وبصفتك شريكاً في شركة روس الإنكليزية . "
" وهل يوافق كيرو على عرضك هذا؟ "
وتساءلت صامتة عما يعني ذكر سيمون أثناء مناقشة هذه المرحلة؟ فالتعامل سيكون بين شركتي روس الإنكليزية وروسي الدولية وعند ذاك إذا حصلت الموافقة على عرضها هذا مبدئياً فسيكون لدى الفريقين المحاسبون والمحامون ليضعوا التفاصيل . أما سيمون فستلقي إليه بالتعليمات ليغير من منهج مشترياته عندما يستقر كل شيء .
أجابت : " أنني لم أتحدث معه في هذا الشأن ." وكانت لهجتها فاترة وتمنت لو أنها فعلت ولكن هذه الفكرة طرأت على ذهنها بعد اقتراحه ببيع أملاكها بعد تصفية ارثها لإنعاش الشركة برأسمال جديد هي في حاجة أليه فهي تحترم آراء سيمون كما كان أبوها يفعل ثم تمعن فيها الفكرة وتقبلها معه من كافة وجوهها قبل أن تتقدم بها رسمياً إلى شركة روسي الدولية . وكانت ستتحدث معه في ذلك عند الغداء هذا النهار ، لو أمكنها ذلك وهاهي ألان قد أرغمت على أخبار كارلو بما كان يدور في ذهنها ولكنه لا بد أن يوافق على هذا .
قال بلطف : " وهكذا كيرو ما زال في الظل؟ فهمت ." قال ذلك وكأنها أجابت بشكل ما عن سؤال لم ينطق به و تابع قائلاً : " على كل حال ماذا لو لم أوافق أنا؟"
فسألته قائلة : " ولماذا لا توافق ؟ " واكتسحت بأنظارها ملامحه القاسية الوسيمة ولكن هذه الملامح إنما قدت من حجر وتابعت تقول : " أنني أسلم بذلك فأنا لم أفكر في التفاصيل بعد ولكن المبدأ هو بالتأكيد .... "
فقاطعها قائلاً : " إن المبدأ الذي أعارضه بكل قوة هو ما يتعلق بنيتك في زيادة رأس المال الضروري وقد سبق وشرحت لك السبب ."
واتكأ إلى الخلف في زاوية الأريكة وهو يمعن فيها النظر وتوترت شفتا فينيتيا وهي تفكر في أنه يبدو مستعداً لسد الطريق أمام تحركاتها دون أن تعرف السبب وقالت بجفاء : " بصفتك الشريك الثاني في شركتنا ورئيس شركة روسي كنت أظنك ستسر لهذه الفكرة على كل حال فأنا لا أطلب منك أن ترفع رأس المال ."
قال بكسل وقد فترت نظراته : " وهو كذلك ." و أثار تلقيه غير المكترث لمشكلتها غضباً في نفسها لم تتمكن من السيطرة عليه ، فأجابته بحدة : " ربما أمكنني أن أجد شركة أخرى أتعامل معها حيث يبدو أنك تفضل الجلوس والتفرج على بقية الفروع وهي تنهار وعلى الموظفين وهم يخسرون أعمالهم . "
أجاب : " انك تسيئين الحكم علي . " كانت ابتسامته بطيئة ولكنها أذكى من أن تحمل كلامه على محمل الجد . قالت ساخرة وهي ترفع حاجبها : " أهو كذلك؟ " ورأت ابتسامته تزداد اتساعاً بحيث أصبح في إمكانها أن تدير رؤوس كل نساء الأرض .
قال : " من الواضح أن نصيبي في شركتكم هو شيء ضئيل جداً في إمبراطوريتي ولكن كما لابد وأنك تعلمين ألان فأنا لا أتنازل عن شيء ." وأضافت عيناه ولا عن أحد حتى أنتِ . وهزت فينيتيا رأسها لتتخلص مما توحيه إليها مخيلتها .
وتابع هو : " على كل حال فقد عرضت عليكِ خيارين إذا كنت تذكرين . فهل يهمك سماعهما؟ "
أجابت : " طبعاً ." وماذا يمكنها أن تقول غير ذلك؟ ونهضت لأذكاء نار المدفأة متخذة من ذلك ذريعة لتعود فتجلس بعيدة عنه . وخطر لها وهي تضع المزيد من الحطب في نار المدفأة ربما وجد مخرجاً لهذه المشكلة لم تره هي ويمكنها على الأقل أن تستمع أليه ... فهي ليست مرغمة على الموافقة إذا لم تعجبها الفكرة .
قال : " أن نتزوج ثم ندمج شركتك بشركتي ."
واستقامت فينيتيا في وقفتها ببطء وهي تنفض يديها ، كانت ما تزال تدير ظهرها له راجية أن يزول الاحمرار الذي تصاعد إلى وجنتيها . لقد كانت منذ ست سنوات على استعداد لبذل كل ما تملك في سبيل أن تسمع منه عرض الزواج هذا ، ولكن ها هي الآن ترى تلك المشاعر التي كانت قد ظنت أنها دفنت في الأعماق من ذاكرتها ، تراها تعود متأججة إلى الحياة ، فيصدمها هذا البعث العنيف غير المرغوب فيه ومرت ثوان قبل أن تتمالك مشاعرها بما يكفي لان تسأله ببرود : " وما هو الخيار الآخر؟ لعله افضل من الاول؟ "
وتمتم يقول : " أفضل؟ أن هذا يعتمد على وجهة نظرك ." واستدارت هي تواجهه باذلة جهدها لأخفاء انفعالها إزاء عرضه المفاجئ وتابع يقول : " إذا كانت فكرة أن تكوني زوجتي هي بغيضة عليك فنأخذ أذن بالخيار الثاني ، وهو أن شركتي ستتوقف عن التعامل معك وستجدين نفسك محاصرة من أكثر المنافسين لتجارتكم أن لم يكن كلهم . "
همست فينيتيا وهي لا تكاد تصدق ما تسمع : " ليس في إمكانك أن تفعل ذلك ." لكنه أومأ برأسه ببطء وهو يجيب : " بل يمكنني . هل تحبين أن تجربيني؟ " واقشعر جسمها للنبرة الواثقة في صوته .
وسمعته يقول وكأنه يتكلم من وراء حجاب :" يمكنك بالطبع أن تستمري في تجارتك ولكن بثمن فأن المال الذي ستمدين به الشركة سرعان ما يتلاشى وهذا سيضطرك إلى بيع كل ما يمكنك بيعه لتسندي البقية وهكذا مرة بعد أخرى إلى أن تجدي أنه لم يبق لك سوى القليل الغث وعند ذلك أتقدم أنا لشراء ما تبقى هذا بعد أن تتوسلي إلى أن افعل والخلاصة يا عزيزتي هي أني سأميتك جوعاً ." ومع أن كلامه هذا هزها من الأعماق إلا إنها واجهته بأشد ما أمكنها من الصلابة كانت تطل من عينيه ثقة بالغة ، فقد كان يعني كل كلمة نطق بها وهو سيسحقها دون أدنى وخزة ضمير ، تماماً بقدمه حشرة . أما أن يحطمها و آما أن يتزوجها وبقى هناك سؤال واحد وجهته إليه وهي تسدل أهدابها القاتمة تخفي بها الصدمة التي بدت في عينيها ، فسألته : " لماذا ؟ " وكان الصمت هو جوابه المباشر ، كان صمتاً متوتراً إلى حد شعرت بالرجفة في أوصالها ، وأوصلها إلى حافة الانهيار . وأدركت أن الرجفة هذه لا بد قد ظهرت عليها وعندما رد عليها بهدوء قائلاً : " هذا شيء يختص بي أنا وعليكِ أنتِ أن تكتشفيه ." رمقته بنظرة ذاهلة منفعلة ثم اتجهت نحو الباب لتخرج . كان عليها أن تبتعد عنه عن هذا الكابوس الجنوني . عليها أن تفكر في كل هذه الأمور . ولكنه نهض عن الأريكة بتثاقل مصطنع ليسد عليها طريق الخروج .
وقفت لحظة لا تستطيع التفكير وقد تجمدت أنفاسها ولكنها عندما شعرت بحرارة يديه على كتفيها ابتدأت في المقاومة وذلك بضربه بقبضتها وقدميها باستماتة عند ذلك تساءلت في أعماقها عن السبب الذي يمنعها من أن تطلب مهلة للتفكير في عرض الزواج هذا أو تهدده بتقديم شكوى رسمية ضده بدعوى الابتزاز .
ولكن عرض الزواج المذل هذا قد أيقظ في نفسها مشاعر أصابها التشويه بشكل واسع أثناء دفنه طيلة تلك السنوات ومقاومته كانت هي الطريقة الوحيدة التي تساعدها في مواجهة تلك المشاعر . انه المسؤول عن ذلك وهو الذي يجب آن يعاقب . وبمنتهى الانفعال رفعت قبضتيها لتضربه بكل ما أمكنها من قوة . وكانت تعلم في تلك اللحظة المجنونة أنها لو أمكنها الامر لقتلته حتماً لكونه هو ذلك الرجل الذي أحبته والذي سبب لها من الألم ما يفوق كل احتمال وهو على استعداد الآن ليكرر ذلك مرة أخرى دون أدنى تردد . وسمعته يشتم بصوت خافت ، ثم قال من بين أسنانه بصوت كالفحيح : " تباً لهذا كفي عن ذلك وإلا آذيت نفسك ."
فصرخت فيه : " دعني اذهب آني أكرهك ." وبانت الوحشية في نظراتها وهي تتلوى تحاول تخليص نفسها والهرب منه مستعملة لذلك قبضتيها وركبتيها ومرفقيها ولكنه شدها إليه بيد وأمسك شعرها بأخرى يبعد رأسها عنه مما أرغمها على أن تقابل عينيه الملتهبتين وهو يقول بصوت خشن : " لقد قلت ِ مرة انكِ تحبينني والحب والكراهية يلتقيان في نقطة واحدة . "
وارتجفت وهي تعلم أن ليس لها القدرة على تحدي قوته . لقد عادت الآن . عادت إلى حيث كانت على الدوام والى ما كانت تشعر بوجوده عادت إلى اللحظة التي أدركت فيها أن هذا الرجل هو الذي ستحبه طوال حياتها .
وعادت تقاوم من جديد ولكن بصورة مختلفة هذه المرة فهي الآن تقاوم في سبيل تحرير حبها له وتمتم هو قائلاً بصوت أجش : " طالما حلمت بكِ ... وبعواطفك المتدفقة تغمرينني . لقد حلمت بترويضك ..." وتجمدت فينيتيا وهي تردد كلامه بصعوبة : " تريد أن تروضني؟ هل هذا كل شيء ؟ " أجابها بصوت أجش : " ليس هذا كل شيء أبداً بكل تأكيد ." ونظر في وجهها بعينين غائمتين وهو يقول :" لقد كنتِ في الثامنة عشر من عمرك عندما جعلتني أصبو إليك . تصوري أنني لأول مرة في حياتي أحترق شوقاً إلى شيء لا أستطيع الوصول إليه فهل ثمة غرابة في أنني لم أعد أستطيع السيطرة على نفسي؟ وفي أنني أخذت أقوم تلك التجربة الجديدة؟ "
وعلى وهج نار المدفأة رأت على شفتيه شبه ابتسامة أسى وكادت أن تفتح فمها لتقول محتجة بأنها لم تكن أبداً صعبة بالنسبة إليه ، ولكنه قال بلكنة هي اكثر وضوحاً من أي وقت آخر : " لقد كنت رجلاً ناضجاً صرعته فتاة لم تكد تخرج من صف المدرسة تصورت نفسها أنها تحبني! وكان واضحاً أنها ما زالت مراهقة وأنها مزقت أيامي وليالي بالأحلام بها ... " وسكت لحظة حانياً رأسه ثم تابع قائلاً : " أنني آسف فأنا لم أقصد التسرع وأن أتصرف معك بلا أخلاق ." ثم تابع ببرود جعلها تحبس أنفاسها قائلاً : " هل فكرة أن تكوني زوجتي بغيضة عليك حقاً؟ "
أجابت بسرعة وهي تقطب حاجبيها قليلاً : " كلا ." ثم استقر رأيها على قبول الخيار الذي أشار أليه ضمناً . بت بمكانت تعلم أن عليها أن تكون حذرة لقد كادت منذ لحظات أن ترحب به كحبيب دونما أية فكرة في ذهنها فقد ضاع المنطق والعقل منها اثر هذا الانقضاض العاطفي منه وتمنت لو كانت تعرف ما كان يفكر فيه من ناحيتها ولكنه حتى منذ ست سنوات كان ماهراً في إخفاء مشاعره ... هذا إذا كان صحيحاً ما أخبرها به منذ لحظات وفي الوقت الذي تصرف فيه نحوها وكأنها مجرد صبية صغيرة تضايقه .
كان الصمت عميقاً لا يخترقه سوى حفيف ثيابها وخفقان قلبها . وفجأة قال : " هل أفهم من ذلك أنك قبلت عرضي الزواج هذا ؟ " .
أجفلت ثم وقفت وقد بدا في عينيها الاضطراب وهي ترى التصميم في عينيه السوداوين وأخذت تحاول تركيز تفكيرها لقد كان هذا العرض مغرياً تماماً مثل كارلو نفسه وكانت تعلم أنه وجدها جذابة ... اذ من غير المعقول أن يزيف مشاعره التي ظهرت منذ لحظات ... ولكن ماذا بالنسبة لحبها له هل في إمكانها أن تطمئن بهذا الشأن؟
وقالت له : " أن هذا الموضوع أهم من أن يتقرر بهذه السهولة فامنحني وقتاً كافياً للتفكير ."
قال ساخراً : " أتريدين وقتاً لتقرري ما إذا كان نجاح شركة أبيك وضمان الاستقرار لكل موظفيها ، يستحق منك التضحية بأن تبقي مخلصة لرجل واحد بقية حياتك ؟ "
و أغمضت عينيها وهي تقاوم الرغبة في البكاء لفكرته هذه عنها ولان عرضه للزواج كان لهدفين . الاول هو استعادة شركتها ودمجها بشركته والثاني الوفاء بوعده لأبيها . عاد يقول : " كوني واثقة يا فينيتيا أنني بصفتي زوجك أطلب منك الإخلاص الكامل إلى آخر لحظة من حياتك ."
لقد كان واثقاً من نفسه تماماً من قدرته على السيطرة عليها . وكان هناك الكثير من القول والأسئلة والكثير من الانطباعات الخاطئة نحوها ولتي ينبغي تصحيحها . لم تكن تعرف كيف تبدأ كما أنها لم تكن متأكدة من أن الامر يستحق هذا المجهود لأنه لن يشعر نحوها أبداً بالاحترام الذي تريده ولا بالحب الذي تستميت للحصول عليه فهو لم يعرض عليها الزواج إلا لأنه يناسب خططه العملية ، كما انه يسمح له بالوفاء بوعده لأبيها .
وهزت رأسها دون وعي رافضة في صمت كل شيء رافضة الاثنين العرضين وها هو يقول بعنف : " لديك فرصة للتوصل إلى قرار حتى الغد فإذا كان هناك زفاف فسأعلن ذلك في اجتماع المديرين الذي سينعقد في الصباح فهذا سيهدئ من شائعات إفلاس الشركة ويطمئن النفوس ." ثم ذهب إلى غرفته .