كاتب الموضوع :
safsaf313
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
وسألته بصوت بارد : " هل استمتعت بنزهتك ؟ "
ولم تكن تظهر شيئاً سوى الاهتمام المؤدب . فأجاب بإيجاز :
" كثيراً جداً " ولم يظهر عليه ما اذا كان مسروراً برؤيتها أم لا .
وتابع يسألها : " هل والدك هنا ؟ أنني في حاجة إلى الحديث أليه ."
قالت : " أنني لم أره هذا الصباح ."
وتذكرت بشكل مبهم شيئاً قالته بوتي هذا الصباح عن تأخر والدها في غرفته على غير عادته ، ونبذت هذه الفكرة من رأسها على الفور , إذ أن هذا المشهد بأكمله بدا وكأنه يهرب منها بعيداً .
أسرع كارلو خطواته فاضطرت إلى الإسراع في خطواتها لكي تلحق به وبدا وكأن خطتها في طريقها إلى الفشل .
وقالت تسأله : " هل تصنع معي معروفاً ؟ "
وكانت أنفاسها تتلاحق وهي تسأله ذلك وقد تلاشت لهجة الدلال التي كانت تعتزم مخاطبته بها وذلك بإسراعه الخطى نحو المنزل .
عندئذ تجمد في مكانه ، وستدار ببطء لمواجهتها وهو يقول ذاهلاً يطمئنها بلهجة جادة مهذبة :
" هذا طبيعي إذا كان في إمكاني ."
أرغمت نفسها على الثبات في مكانها . وسألها بعدم اكتراث وعلى شفتيه ابتسامة جافة وهو يدس يديه في جيبي بنطاله :
" حسناً ؟ " فقالت : " أنني ... "
وتبخر من ذهنها كل ما أعدته من كلام ولكي تتمالك نفسها ، تنفست بعمق وهي تراقبه شاعرة بالظفر وهي تراه يتأملها .
قالت وهي ترتجف قليلاً :
" حسناً في الواقع أن إحدى صديقاتي ستقيم حفلة هذه الليلة في فندق سافوي وقد وعدتها بالمجيء وأنت تعرف كيف تكون .... "
وهزت كتفيها قليلاً وهي تتابع : " أنني لا أريد أن أخيب أملها وأبي يخشى أن أضيع إذا ذهبت بمفردي فهل يمكن أن تسدي ألي جميلاً بأن تكون مرافقي ."
حبست أنفاسها وهي تتمنى قبوله وأخذت تراقب وجهه وقد اتسعت عيناها متوسلة دون وعي منها . وعضت على طرف لسانها بعصبية وهي تراقب توتر فمه ليقول بعد ذلك ببرودة :
" أنني متأكد من أن الحفلة ستكون بهيجة . على كل حال بما أنني مسافر إلى روما غداً فأن وقتي هذا المساء مشغول جداً ."
نظرت إليه ذاهلة وقد بدا عليها الارتباك ، ثم توترت لهذه الجملة القاسية فهو لم يرفض طلبها فقط ، بل سيترك البلاد غداً .
كيف يمكنها أن تحتمل هذا ؟ لقد كرهت هذا الضعف فيها وكرهته لتسببه في كل هذه الآلام لها .
وسمعته يقول برقة غريبة :
" حاولي أن تعذريني يا فينيتيا بعد فترة قصيرة ، أسابيع قليلة وربما أيام .. ستنسين كل هذا . "
وهز كتفيه وقد رقت ملامحه والتوت ابتسامته بعد أن عثر على الكلمات التي كان يبحث عنها ليقول متابعاً :
" لماذا كل هذا الافتتان ؟ أنني كبير السن بالنسبة إليك وخشن وربما غير مرن انك شابة حلوة ورقيقة . اذهبي إلى حفلتك هذه الليلة واستمتعي بوقتك مع من هم في سنك . انسي أنك طلبت مني الذهاب معك ، وأنا سأفعل ذلك أيضاً قد تكون أكبر غلطة نقع فيها نحن الاثنان .... صدقيني ."
واحمر وجهها ثم شحب وهي تصرخ فيه :
" أنني أكرهك ."
واغرورقت عيناها بالدموع لتتساقط . بعد ذلك على وجنتيها وأنفها . ولم تهتم لذلك . فهو يعرف شعورها نحوه ولكنه اعتبره مجرد افتتان من تلميذة مدرسة ، مانحاً إياها مشاعر ضحلة أشبه بما يسبغه عليها فيما لو كانت مصابة بالزكام إنها لم تشعر من قبل بمثل هذه المذلة التي شعرت بها الآن !
وعادت تقول ثائرة : " كم أكرهك ."
فقال بابتسامة تحوي مزيجاً من الحنق والسخرية :
" أذن فلا بد أنك شعرت بارتياح لعدم استجابتي لدعوتك أليس كذلك ؟ وأنا متأكد من أن كيرو الشاب يمكنه أن يقبل بمرافقتك إلى الحفلة هذا المساء ، رغم أنك يجب أن تأخذي حذرك منه فهو انتهازي للفرص ولا أظنه موضع ثقة تماماً رغم أن أباك يثق به إلى درجة انه يدفع له مبلغاً جيداً من النقود لكي يرافقك . "
ونظر إليها بعينيه السوداوين النفاذتين وتجمدت هي في مكانها وهي تراه كريهاً إلى هذا الحد .
لقد حاول إذلالها ونجح في ذلك بسهولة كيف أمكنه أن يكذب بهذا الشكل فيقول أن سيمون يأخذ أجرة لقاء مرافقتها ؟ هل يعني أنه ليس ثمة رجل يقبل بالظهور معها إلا بأجرة مدفوعة ؟ ولم تصدقه فهي لم تستطع ذلك ومسحت الدموع عن وجهها بأناملها واندفعت تقول ثائرة وهي تصر على أسنانها :
" لا أدري إذا كنت تعلم مبلغ سفالتك . هل تستمتع دوماً بإيذاء الناس هكذا ؟
وغطى جوابه صوت انسحاق الحصى تحت قدميها وهي تركض عائدة نحو المنزل وكانت من الانفعال وهي تدخل القاعة بحيث لم تلحظ والدها إلا بعد أن سمعت صوته يهتف بها قائلاً :
" فيني .. لا تقلقي يا حبيبتي ولكن هل لك باستدعاء الدكتور فيلدينغ ؟ " .
وقفز قلب فينيتيا وهي ترى أباها فقد كان يقف على اسفل السلم مستنداً إلى الحاجز وهو ما يزال في معطفه المنزلي وقد غطى وجهه الشحوب والعرق .
وهتفت بصوت ممزق وهي تندفع نحوه : " أبي ... ما الذي حدث ؟ "
وأمسكت بيده تضعها على وجنتها وقد ارتسم الفزع في عينيها الواسعتين .
فأجاب : " ربما لا شيء أكثر من وجع المعدة . "
وارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة يطمئنها بها ولكنه لم يفلح في ذلك .
ولأول مرة خلال هذا الأسبوع لم تشعر بوجود كارلو ولم تدرك أنه تبعها إلى المنزل إلا بعد أن سمعت صوته يقول بهدوء :
" اتصلي حالاً بالطبيب يا فينيتيا ."
تركت فينيتيا يد أبيها مرغمة وهي تتراجع إلى الخلف بساقين مرتجفتين محملقة في وجه كارلو الجامد تبحث في ملامح وجهه عما يطمئنها إلى أن كل شيء على ما يرام .
لكنه لم يكن ينظر نحوها فقد يمعن النظر في وجه أبيها قبل أن يحمله دون صعوبة بين ذراعيه وهو يأمرها قائلاً :
" لقد قلت حالاًَ يا فينيتيا . "
وركضت نحو الهاتف شاعرة بذنب ومضت تطلب الرقم بأصابع مرتجفة وهي تنهش زاوية فمها في انتظار الرد من الطرف الآخر .
ولا بد أن ما قالته لموظفة العيادة كان مفهوماً لان هذه أخبرتها أن الطبيب هو في طريقة إليهم . واستدارت لترى بوتي واقفه خلفها مباشرة وقد شحب وجهها وامتلأت عيناها بالقلق . وسألتها بسرعة :
" هل هو قادم ؟ "
أومأت فينيتيا برأسها بالإيجاب وقد منعتها غصة في حلقها من الكلام .
قالت مدبرة المنزل وقد بدا عليها الارتياح :
" هذا حسن كل شيء سيكون على ما يرام إذن . "
وكأن كل ما على الطبيب أن يفعل هو أن يلوح بالوصفة ليصبح كل شيء على ما يرام وتمنت لو أنها تملك مثل هذه الثقة العمياء .
ولا بد أن أفكارها هذه قد بدت على وجهها , لان بوتي تقدمت منها تزيح خصلة من شعرها عن جبينها وهي تقول بلطف تطمئنها :
" أن الطبيب لن يتأخر كما أن كارلو معه لقد أخذه إلى المكتبة وطلب مني أن احضر له غطاء فاذهبي أليه الآن وامسكي بيده ... لماذا أنتِ واقفه ؟ "
وحاولت فينيتيا أن تتمالك نفسها بينما ركضت بوتي لتحضر الغطاء أن ظهورها بهذا الشكل المضطرب سيزعج أباها حتماً .
لم تمر بمثل هذا الموقف من قبل ، فقد كانت من حداثة السن وانعدام الخبرة بحيث لم تكن لتصدق إمكان حدوثه .
لقد كان عمرها عدة شهور فقط عندما ماتت أمها بعد أن سقط بها الحصان ساحقاً ذلك الجسد الرشيق لتلك المرأة الشابة ولم تكن فينيتيا واعية لتلك المأساة . وقد بذل أبوها غاية الجهد لكي لا يجعلها تفتقد حنان ألام .
فقد غمرها بما يكفي من الحب والعناية والصبر .
لقد تذكرت ألان , منظر وجهه عندما طلبت منه أن يشتري لها مهراً صغيراً وكانت في الحادية عشرة من عمرها آنذاك ولم تدرك في ذلك الحين أن ذلك التعبير إنما كان خوفاً ..
لم تدرك ذلك إلا بعد سنوات حين جعلتها مهارتها في الفروسية تلجأ إلى المخاطرات .
لتربط في ما بعد بين نظرة الألم في عيني أبيها تلك وبين موت أمها المفجع بقفزة من حصانها فوق البوابة . وهكذا ، كان افتراقها عن حصانها ( بليس ) هو اشد الظروف التي مرت بها إيلاما .
بعد أن ادعت أمام أبيها أن رياضة الفروسية قد ابتدأت تسبب لها الملل ، وتستنفد كل طاقاتها ولكن نظرة الارتياح التي بدت في عيني أبيها كانت تستحق هذه التضحية منها وقد كان هذا أول تصرف غير أناني يصدر عنها داعية ألا يكون الأخير .
و شعرت بذنب وهي تتذكر كيف أنها في السنة التي سبقت تخرجها من المدرسة ، لم تهتم بأن تخطط لتعلم مهنة للمستقبل وضعت جانباً اقتراح أبيها بأن تلتحق بأعمال شركتهما مبتدئة في التدريب في كل أقسام الشركة لتصل إلى القمة .
أما ما كانت تريده وكان يكدره هو أن تمكث في المنزل ستة اشهر على الأقل تتسلى وتنال حظها من البهجة والمرح ، قبل أن تفكر جدياً في أمر مستقبلها فهي تستحق ذلك بعد حياة الدراسة .
كانت تعلم أنها خيبت أمله رغم عدم إظهاره ذلك أمامها و هاهي الآن تشعر بالندم لنظرتها العابثة هذه إلى الحياة اكثر مما كانت تتصور .
قطعت بوتي عليها تأملاتها هذه وهي تعود لتضع بين ذراعيها غطاء وهي تقول :
" خذي له هذا بينما انتظر هنا حضور الطبيب لكي أصحبه إلى حيث أبيك ثم بعد ذلك أجهز الشاي لنا جميعاً . لعلك في حاجة إلى ذلك مثلي أنا ."
|