بتعليقات
الشيخ ابن عثيمين رحمه الله
* الحديث الرابع والعشرون:
- عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه واله وسلم
فيما يرويه عن ربه عز وجل وهذا الحديث وأشباهه يسمى الحديث القدسي ,
لأنه يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل
قال: ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما )
فبين الله عز وجل في هذا الحديث أنه حرم الظلم على نفسه فلا يظلم
أحداً لا بزيادة سيئة ولا بنقص حسنة كما قال تعالى
: ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ) طه 112.
- ( وجعلته بينكم محرماً ) أي جعلت الظلم بينكم محرماً ,
فيحرم عليكم أن يظلم بعضكم بعضاً , ولهذا قال: ( فلا تظالموا ) والفاء للتفريع على ما سبق.
- ( يا عبادي , كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم )
العباد كلهم ضال في العلم وفي العمل إلا من هداه الله عز وجل
وإذا كان الأمر كذلك فالواجب طلب الهداية من الله ,
ولهذا قال: ( فاستهدوني أهدكم ) أي اطلبوا مني أهدكم ,
والهداية هنا تشمل هداية العلم وهداية التوفيق.
- ( يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ) ,
وهذه كالتي قبلها بين سبحانه وتعالى أن العباد كلهم جياع إلا من أطعمه الله
ثم يطلب من عباده أن يستطعموه ليطعمهم وذلك لأن الذي يخرج الزرع ويدر الضرع
هو سبحانه وتعالى كما قال سبحانه وتعالى:
( أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ* أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ *لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ) الواقعة 63-64-65 ...
ثم المال الذي يحصل به الحرث هو لله عز وجل.
- ( يا عبادي كلكم عار ) أي قد بدت عورته إلا من كساه الله ويسر له الكسوة ,
ولهذا قال: ( إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم ) اطلبوا مني الكسوة أكسكم ,
لأن كسوة بني ادم مما أخرجه الله تعالى من الأرض , ولو شاء الله تعالى لم يتيسر ذلك.
- ( يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم )
وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( كل ابن ادم خطاء وخير الخطائين التوابون )
فالناس يخطئون ليلاً ونهاراً أي يرتكبون الخطأ وهو مخالفة أمر الله ورسوله
بفعل المحذور أو ترك المأمور , ولكن هذا الخطأ , له دواء - ولله الحمد -
وهو قوله: ( فاستغفروني أغفر لكم ) أي اطلبوا مغفرتي أغفر لكم , والمغفرة: ستر الذنب مع التجاوز عنه.
- ( يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي )
لأن الله سبحانه وتعالى غني عن العالمين ولو كفر كل أهل الأرض فلن يضروا الله شيئاً ,
ولو آمن كل أهل الأرض لن ينفعوا الله شيئاً , لأنه غني بذاته عن جميع مخلوقاته.
- ( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنكسم وجنكم كانوا على أتقى قلب
رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ) لأن طاعة الطائع إنما تنفع الطائع نفسه
أما الله عز وجل فلا ينتفع بها لأنه غني عنها ,
فلو كان الناس كلهم على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك ملك الله شيئاً.
- ( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنكسم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل
واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئاً ) وذلك لأن الله غني عنا ,
فلو كان الناس والجن على أفجر قلب رجل ما نقص ذلك من ملك الله شيئاً.
- ( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنكسم وجنكم قاموا على صعيد واحد
فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر )
وذلك لكمال جوده وكرمه وسعة ما عنده , فإنه لو أعطى كل إنسان مسألته لم ينقصه شيئاً ,
وقوله: ( إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر ) وهذا من باب تأكيد عدم النقص ,
لأنه من المعلوم أن المخيط إذا دخل في البحر ثم نزع منه فإنه لا ينقص
البحر شيئاً لأن البلل الذي لحق هذا المخيط ليس بشيء.
- ( يا عبادي إنما أعمالكم أحصيها لكم ) أي أعدها لكم وتكتب على الإنسان ,
( ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )
ومع هذا فإنه سبحانه يجزي الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى
أضعاف كثيرة ويجزي السيئة بمثلها أو يعفو ويصفح فيما دون الشرك والله أعلم.
وهذا الحديث العظيم قد شرحه شيخ الإسلام رحمه الله في
رسالة جيدة كما شرحه ابن رجب ضمن الأحاديث الأربعين النووية.
* من فوائد هذا الحديث:
- رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه وهو ما يسميه أهل العلم بالحديث القدسي.
- أن الله عز وجل حرم الظلم عل نفسه لكمال عدله جل وعلا ,
فهو قادر على أن يظلم , قادر على أن يبخس المحسن من
حسناته وأن يضيف إلى المسيء أكثر من سيئاته ولكنه لكمال عدله حرم ذلك على نفسه جل وعلا.
- أن الظلم بيننا محرم وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم
أنه يكون في الدماء والأموال والأعراض قال عليه الصلاة والسلام
في يوم مِنى: ( إن دماءكم ، وأموالكم ، وأعراضكم ، بينكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ،
في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ).
- أن الأصل في الإنسان الضلال والجهل بقوله تعالى
: ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ) النحل 78...
وقوله في هذا الحديث: ( يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ).
والأصل فيه أيضاً الغي والظلم.
- وجوب طلب الهداية من الله لقوله تعالى في الحديث: ( استهدوني أهدكم ).
- أن الإنسان بل كل العباد جائعون مضطرون إلى الطعام إلا من أطعمه الله عز وجل ,
ويترتب على هذه الفائدة سؤال الإنسان ربه واستغناؤه بسؤال الله عن سؤال عباد الله ,
ولهذا قال: ( فاستطعموني أطعمكم ).
- أن العباد عراة إلا من كساه الله عز وجل ويسر له الكسوة وسهلها له ,
ولهذا قال: ( فاستكسوني أكسكم ) أي اطلبوا مني الكسوة أكسيكم ,
وإنما ذكر الله عز وجل العري بعد ذكر الطعام , لأن الطعام كسوة الداخل واللباس كسوة الظاهر.
- أن بني ادم خطاء يخطئون كثيراً في الليل والنهار , ولكن هذا الخطأ يقابله مغفرة الله عز وجل لكل ذنب ,
وأن الله يغفر الذنوب جميعاً كما قال تعالى: ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ
لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) الزمر 53 ,
ويترتب على هذا أن الإنسان يعرف قدر نفسه , فكلما أخطأ استغفر الله عز وجل.
- أن الذنوب مهما كثرت فإن الله تعالى يغفرها إذا استغفر الإنسان ربه ,
لقوله تعالى في الحديث القدسي: ( وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم )
وقوله: ( يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني )
وذلك لأن الله سبحانه وتعالى مستغن عن جميع خلقه ,
ومن أسمائه العزيز وهو الذي عز أن يناله ضرر , وكذلك هو الغني الحميد فلا حاجة
إلى أن يسعى أحد لنفعه ولن يبلغ أحد ضرره لكمال غناه جل وعلا.
- ( يا عبادي , لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب
رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً )
وذلك لكمال غناه عز وجل فلو كان الناس كلهم من إنس وجن
على أتقى قلب رجل فأن ذلك لا يزيد من ملك الله شيئاً ً.
- ( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنكسم وجنكم كانوا على أفجر قلب
رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئاً ) وذلك لكمال غناه فلا تنفعه طاعة الطائعين ,
ولا تضره معصية العاصين والمقصود من هاتين الجملتين: الحث على طاعة الله عز وجل والبعد عن معصيته.
- ( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنكسم وجنكم قاموا على صعيد
واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر )
وذلك لكمال غناه جل وعلا وسعته , فيستفاد من هذه الجملة: أن الله سبحانه وتعالى
واسع الغنى والكرم وقوله: ( إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر )
سبق لنا أن المقصود بذلك المبالغة في أن ذلك لا ينقص من الله شيئاً.
- ( يا عبادي إنما أعمالكم ... ) فيستفاد منها الحث على العمل الصالح حتى يجد الإنسان الخير.
- أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئاً.
- أن العاصي سوف يلوم نفسه إذا كان في وقت لا ينفعه اللوم
ولا الندم لقوله: ( ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ).
بتعليقات
الشيخ ابن عثيمين رحمه الله
* الحديث الخامس والعشرون أيضاً:
- يعني بالإضافة إلى الحديث القدسي السابق أن أناساً من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ( يا رسول الله - وهؤلاء فقراء -
قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور - يعني أهل الأموال ذهبوا بالأجور ) يعني اختصموا بها.
- ( يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم )
فهم شاركوا الفقراء في الصلاة والصوم وفضولهم في الصدقة.
- قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون ... إلخ ).
- لما اشتكى الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذهب
أهل الدثور بالأجور يصلون كما يصلون ويصومون كما يصومون ويتصدقون بفضول
أموالهم يعني والفقراء لا يتصدقون. بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم
الصدقة التي يطيقونها فقال: ( أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به , إن لكم بكل تسبيحة صدقة )
يعني أن يقول الإنسان سبحان الله صدقة ( وبكل تكبيره صدقة )
يعني إذا قال: الله أكبر فهذه صدقة , ( وكل تكبيرة صدقة ) يعني إذا قال: الله أكبر فهذه صدقة ,
( وكل تحميده صدقة ) يعني إذا قال: الحمد لله فهذه صدقة ,
( وكل تهليلة صدقة ) يعني إذا قال: لا إله إلا الله فهذه صدقة..
- ( وأمر بالمعروف ) يعني إذا أمر شخصاً أن يفعل طاعة فهذه صدقة ,
( ونهياً عن منكر ) يعني إذا نهى شخصاً عن منكر فإن ذلك صدقة ,
( وفي بضع أحدكم صدقة ) يعني إذا أتى الرجل زوجته فإن
ذلك صدقة وكل له فيها أجر ذكروا ذلك لتقرير قوله صلى الله عليه وسلم: ( وفي بضع أحدكم صدقة )
وليس للشك في هذا , لأنهم يعلمون أن ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم
فهو حق لكن أرادوا أن يقرروا ذلك فقالوا: ( يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ ) ,
ونظير ذلك قول زكريا عليه السلام:
( قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ... ) ال عمران 40 ...
أراد أن يقرر ذلك ويثبته مع أنه مصدق به.
- ( أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ؟ ) والجواب: نعم يكون عليه وزر.
قال: ( فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر ) وهذا القياس سمونه قياس العكس يعني
كما أن عليه وزراً في الحرام يكون له أجراً في الحلال
فقال صلى الله عليه وسلم: ( فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ).
* في هذا الحديث من الفوائد:
- حرص الصحابة رضي الله عنهم على السبق إلى الخيرات.
- ينبغي للإنسان إذا ذكر شيئاً أن يذكر وجهه لأن الصحابة رضي الله عنهم
لما قالوا: ( ذهب أهل الدثور بالأجور ) بينوا وجع ذلك فقالوا: ( يصلون كما نصلي ..الخ ).
- أن كل قول يقرب إلى الله تعالى فهو صدقة كالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكله صدقة.
- الترغيب في الإكثار من هذه الأذكار , لأن كل كلمة منه تعتبر صدقة تقرب المرء إلى الله عز وجل.
- أن الاكتفاء بالحلال والحرام يجعل الحلال قربة وصدقة لقوله صلى الله عليه وسلم: ( وفي بضع أحدكم صدقة ).
- جواز الاستثبات في الخبر ولو كان صادراً من صداق لقولهم: ( أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ )
- حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم بإيراد كلامه على سبيل
الاستفهام حتى يقنع المخاطب بذلك ويطمئن قلبه ,
وأن هذا قوله عليه الصلاة والسلام حين سئل عن بيع الرطب
بالتمر: ( أينقص إذا جف ؟ قالوا: نعم ) , فنهى عن ذلك.